ص1       فهرس 21-30

 

شلـــل الأسمــــاء…

 

قراءة في رواية "شجر الخلاطة" للميلودي شغموم

 

إدريس جبري

 

يقول حميد الحميداني في قراءته لرواية: "شجر الخلاطة" ما يلي:

"هذه القراءة رغم اعتمادها الكلي على عناصر النص لا تخلو من تأويل وهي إذ تقدم هذا التصور، إنما تعتبره أحد التصورات الممكنة وهي بذلك لا تنفي مشروعية تأويل مغاير"([1])

 

- 1 -

قليل هي الحالات التي ينفرد فيها الإنسان بذاته، في خضم هذه الحياة السريعة والمعقدة، وعندما تتاح له فرصة الانفراد، يطرح سيلا من الأسئلة، تبدو هامشية وبسيطة وبديهية، وأحيانا غير ذات معنى…

وقد يتساءل المرء مثلا عن القدر الذي أوجده، وألقاه في هذه الحياة، وقد يخصص سؤاله، ليتساءل عن سبب تواجده أو عمله بمنطقة دون غيرها، وقد يتساءل عن سبب ولادته في هذه الأسرة دون غيرها… أكثر من كل هذا، فالإنسان قد يتساءل أحيانا حتى عن أتفه الأشياء، وأكثرها بداهة. لماذا أنا بهذه القامة دون تلك؟ لماذا بهذا الحجم، وليس بآخر، لماذا شكل هذا الفم، أو حجم هذا الأنف… وحكاية الأديب ابن المقفع، في هذا الصدد، ذات مغزى عميق، فقد كان سفيان بن معاوية ذو أنف كبير. وكان ابن المقفع يستفزه في ظرافة وفكاهة قائلا: "السلام عليكما، فكأنما أنف الرجل لضخامته رجل آخر يصاحبه([2])" فما كان من سفيان بن معاوية نائب الخليفة بالبصرة، أن دس لابن المقفع عند الخليفة المنصور ببغداد، فأذن له بقتله. فكانت القتلة فظيعة ومأساوية. (ومن الأنوف ما قتل؟!).

 

- 2 -

وقد حدث ذات مرة أن سألني أحدهم قائلا: هل ستظل مدرسا طول حياتك؟ واستفزني السؤال، بقدر ما أضحكني. وتابع: وهل قدرك الأبدي هو الطباشير، والسبورة والمقاعد والتلاميذ… تدخل في وقت محدد، وتخرج في وقت محدد، وتتقاضى أجرا محددا…؟ بدأ الحوار بيننا بدون سابق إنذار، فضحكنا، وسخرنا، واستغربنا عن عبثية الحياة والقدر، واستدرت إليه، وبنغمة الهزل والسخرية مردفا. تصور معي أيرضيك أن أكون معالي وزير كل شيء، في كل شيء، وفي أي شيء!؟ لأرضي سخرية فضولك. ربما كان قدري، ونسخر من قدرنا وعبثية وجودنا؟! ومع ذلك لم يخطر ببالنا أن نتساءل عن أسمائنا الشخصية والعائلية، عن دلالات الأسماء التي نحملها، وترمز إلينا وتميزنا، ربما لا يستدعي الأمر ذلك، نظرا لأنها تساؤلات تافهة، وصغيرة وبديهة… ومع ذلك فقد طرحها الروائي الميلودي شغموم في روايته الجديدة "شجر الخلاطة"([3]) وعمق  البحث فيها عبر شخصيتي، مصطفى شيش كباب، والجيلالي الخلطي… وأميل إلى الجزم أن كثيرا من الناس -ولو في لحظات معينة- قد همسوا إلى أنفسهم عن معاني أسمائهم الشخصية والعائلية، وعن أبعاد هذه الأسماء ودورها في حياتهم الخاصة والعامة… كما أميل إلى الاعتقاد، أن كاتب رواية "شجر الخلاطة" قد سبق أن همس إلى نفسه واستفسر عن اسمه ودلالاته.

ما معنى الميلودي؟ وما معنى شغموم؟ وما طبيعة العلاقة بين الميلودي وشغموم؟ قد نجد مرجعية محددة وواضحة لاسم الميلودي وإن كان يتلفظ به في بعض المناطق الأخرى، -بالمولودي- وهي مرجعية دينية ومقدسة، تحيل إلى المولد النبوي، وتتيمن ببركاته، لكن عبثا -في اعتقادي- البحث عن مدلول  ما لاسم. شغموم؟! الشين والغين، والميم والواو ثم الميم، ولعل اسم شغموم -بحياد- بدوره من الأسماء التي استوقفت كاتب الرواية، وأثارت انتباهه وفضوله. وربما لهذا السبب -أقول ربما- نحت الميلودي شغموم، على لسان ما أسماه الجيلالي الخلطي بأسماء الإعاقة([4]). وذلك ما سيعمقه مصطفى شيش كباب، في إطار ما أطلق عليه بـ"نظرية الأسماء"، لما للاسم من أهمية، وخطورة في حياة الإنسان "فالأسماء كما تعلم يا سيدي، قوى خفية كالعفاريت، ولا يمكن لمدينة أن تختار اسما سواء في السر أو العلن، لا تكون له انعكاسات على مصيرها… مثلها في ذلك مثل الأفراد. إن الاسم يؤدي إلى حدوث ما تتطلبه كمياؤه"([5]).

 

- 3 -

عندما يولد مولود في أسرة ما، يشتد الخلاف والنزاع، والشجار بين أفراد الأسرة فتختلط الآراء وتمتزج بين الجد والجدة، أو بين العم والعمة، أو الخال والخالة… وبدرجة أقوى بين الأم والأب، في اختيار اسما للمولود وربما لذلك سميت الرواية (إعلانا عن ولادتها) بـ"شجر الخلاطة" "وشجر بينهم الأمر شجر شجرا، تنازعوا فيه، وشجر القوم، وتشاجروا أي تنازعوا([6])"، في تحديد الاسم المناسب للمولود، واختلطت عليهم الأسماء، وكثرت الاقتراحات، كل من أفراد الأسرة، يريد أن يمنح اسما للمولود، اسما يحبه، أو يذكره، أو يحيله على… اسم علق بذاكرته في مشاهدة فيلم ما، أو قراءة كتاب أو مجلة ما… ويشتد الخصام والسجال([7])، والتشابك بين أفراد الأسرة، ويتم الحسم في اختيار الاسم، إما بمعونة القرعة، أو بالتراضي، أو بتدخل سلطة ما. ويمنح  الاسم، ومنح الاسم هو منح للوجود. وتتم مصداقية منح الاسم وقدسيته بذبح الأضحية([8])، أي بإراقة الدماء. ولتلك العملية طقوس خاصة، عيد المولود الجديد وللعيد قدسية([9]) استثنائية في حياة الإنسان عموما.

عبر الحوار، وتوليد الحوار، وعبر الثرثرة والهذيان، ثرثرة وهذيان كل من مصطفى شيش كباب، والجيلالي الخلطي، يتنامى الحوار في رواية "شجر الخلاطة"، ويشتد الهذيان بين الشخصيتين، وتنمو الرواية على شكل هلوستهما، فيتعذر حتى الحديث عن أحداث للرواية، كما هو الحال، في الرواية التقليدية، فحكايات الرواية حكاية الاسم حكاية الشلل، حكاية المعطي الكمنجة، حكاية الهوندا… حكايات تتنامى بواسطة الحوار، حوار يتم بين شخصيتين محوريتين، في مواضيع مبتذلة، وفي أسمائهما المبتذلة وواقعهما المبتذل…

وشخصيتا مصطفى شيش كباب، والجيلالي الخلطي، شخصيتان بلا ملامح محددة، وبهوية مزيفة، فحتى وصف ملامحها وسماتها الخارجية، لم يتم في الرواية، وهذا ما يؤكده تصميم غلاف الرواية، وقد توفق الفنان كمال التومي في التعبير عن ذلك فالشخوص المرسومة على الغلاف عبارة عن أشباح، وظلال منخورة من الداخل وضبابية من الخارج. طبعا، الشخصيتان لمثقفتين، مصطفى شيش كباب، حاصل على الإجازة في الأدب العربي، ولكن عاطل وسائق للهوندا. أما الجيلالي الخلطي. فحاصل على دكتورة في الفلسفة بباريس، ومع ذلك، توصل بخطاب من إحدى الكليات "كأستاذ مساعد في شعبة الدراسات الإسلامية". الرواية ص 39 بمعنى، من أستاذ في الفلسفة، إلى أستاذ في الدراسات الإسلامية، وفي ذلك نوع من الإهانة للجيلالي الخلطي، وتمييع لتخصصه الفلسفي، وعبثية في التوظيف والتشغيل، والاستخفاف به، وبمؤهلاته الفكرية، من هنا جاءت إصابته بالشلل الحقيقي. يخاطبه مصطفى شيش كباب في هذا الصدد قائلا "يأتيك خبر سعيد كهذا فتصاب بالشلل" (الرواية ص 40). وكان بديهيا والحال هذا، الاستنجاد بسقراط، وا سقراطاه([10]) (الرواية ص 40)، وبالتالي الاحتماء بالفلسفة من عبثية الواقع. وعلى هذا الأساس، رفض الجيلالي الخلطي، الاستسلام لهذا الاستفزاز والعنف الرمزي، لأن قبول أستاذ مساعد في شعبة الدراسات الإسلامية، هو قبول "للهزيمة، والعجز والشلل" الرواية ص 40 من هذه الزاوية، فشلل الجيلالي الخلطي ليس شللا فيزيولوجيا في العمق، بقدر ما هو شلل رمزي يحيل على شلل الواقع، وشلل في الشغل المناسب في المكان المناسب، ولا غرابة في الأمر ما دام الأطباء أنفسهم "لا يفهمون في مثل هذه الأشياء" (الرواية ص 36).

أما مصطفى شيش كباب، فينحدر من عائلة عريقة في الفقر والتهميش، كافح في طفولته، حتى "حصل على إجازة حقيرة في الأدب الحقير" (ص 83 من الرواية). وليقاوم حقارة الشهادة، وهزيمة الواقع، وشلل النفس، والوقت البطيء، قرر أن يعمل سائقا للهوندا، دون خجل أو إحراج، فمصطفى شيش كباب، واع بدرجة الأزمة، وواع بالتالي بحقارة شهادته، وقدرة "الإرادة الخارجية" على مسخ طموحاته وشل أحلامه. هكذا إذن، لم يستطع كل من الجيلالي الخلطي، ولا مصطفى كباب  المثقفان المتعلمان أن يحققا أحلامهما المشروعة في العمل المناسب لمؤهلاتهما المعرفية والأكاديمية، فرغم أنهما يحملان رقما واسما في البطاقة الوطنية، إلا أنهما لا يملكان "اسما في الواقع"([11]) (ص 7 من الرواية)، يضمن لهما إنسانيتهما، وكرامتهما، ووطنيتهما بالذات. وما حوارهما الطويل داخل الهوندا، إلا نوع من اللعب، والحلم، والهذيان والسخرية علما بأن هذه الوسائل هي مجرد أدوات للمقاومة ضد العنف الرمزي الذي يمارسه الواقع والحياة معا، والشخصيتان واعيتان بهذا اللعب والحلم تمام الوعي، يقول مصطفى شيش كباب، مخاطبا الجيلالي الخلطي…"نحن نلعب لنتعلم، لنجعل من الحياة شيئا يطاق شيئا أرقى… أجمل… أخف" (ص 86 من الرواية) وهو اللعب الذي يخفي الأزمة الحقيقية ومأساة الواقع، واقع الفقر والبطالة، واقع التهميش والمسخ… وهو نفس الواقع، ونفس المأساة التي سبق أن عانى منها المهدي السلوكي والطاهر المعزة في رواية سابقة للميلودي شغموم نفسه، ونقصد بها رواية "عين الفرس" نقرأ في ص 14 قول المهدي السلوكي، مخاطبا الطاهر المعزة قائلا: "اخرس أيها الملحد أولا لعنة الله على الفقر الذي يجعل المرء يكذب أو يصدق الكذب ليخدع معدته… ثانيا لعنة الله على الجفاف الذي يخلق الشعور بالفقر ليضاعفه… ثالثا لعنة الله على البطالة وقلة الشغل التي تدفع المرء إلى احترام شطارة وهمية وتغذيتها بالسخرية أو من الآخرين متخيلا بأنه بذلك يحقق أروع البطولات وأخلدها"([12]).

إن مصطفى شيش كباب، والجيلالي الخلطي شاهدان ناطقان على ضياعهما أو شللهما… فهما يعيشان مأساة كمثقفين بلا عمل، بلا هوية بلا اسم يناقشان ويتحاوران، ويهذيان ويثرثران مازجين بين الجدل والهزل بين المأساة والسخرية بين الواقع واللاواقع، بين الصدق والكذب بين الأمل والفشل، بين الصمت والكلام… وفي اعتقادي أن توظيف الميلودي شغموم في روايته "شجر الخلاطة" ، لمصطفى شيش كباب والجيلالي الخلطي، توظيف رمزي لا يختلف في عمق المأساة وعبثية الواقع عن التوظيف المسرحي العالمي صمويل بيكيت لشخصيتي فلادمير واستراجون في مسرحيته الشهيرة "في انتظار الخلاطة" "تمسرح بنيتها من البداية إلى النهاية([13])" فالرواية بذلك، رواية ممسرحة تعتمد الحوار دون إثبات للإرشادات المسرحية ودون أن يكون الصراع بدوره قائما بوضوح كما هو الحال في المسرح خاصة.

وعليه فرغم الهمس المسرحي للرواية، فستظل "شجر الخلاطة" نمطا جديدا من الكتابة أي كتابة، كتابة تستفز المتلقي التقليدي المتشبع بقيم الرواية التقليدية، وقد تشبع رغبات متلقي المغامرة والغرابة والتجريب.

 

- 4 -

إذا حاولنا أن نداعب "نظرية الأسماء" للدكتور مصطفى شيش كباب، نجدها في العمق لا تختلف عن "نظرية الشلل" عند الدكتور الجيلالي الخلطي كما جاء في رواية "شجر الخلاطة ويمكن أن نؤكد ذلك عبر ما يلي:

أ - الاسم بين السخرية والعبث:

تبدأ رواية "شجر الخلاطة" للميلودي شغموم بسؤال استفهامي يوجهه مصطفى شيش كباب للجيلالي الخلطي قائلا: "ما اسمك؟ قل لي هل لك اسم؟ هل تعرف اسمك؟" (الرواية ص 7)، وتبدو هذه الأسئلة استفزازية، إذ ما معنى أن تسأل أحدا عن اسمه وبالأخص إذا كان له اسم يعرفه؟، كأن هذه الأسئلة بديهية لا تحتاج للاستفسار. فمصطفى شيش كباب يسأل، والجيلالي الخلطي يجيب، وعبر السؤال والجواب، تتنامى الرواية وتتطور حكاياتها.

إن مشكلة مصطفى شيش كباب -نظريا على الأقل- هي مشكلة الأسماء وعبثية الأسماء، وسخرية الأسماء، ولعنة الأسماء… لماذا مصطفى.؟ ولماذا كباب؟ ما معنى الجيلالي، وما علاقته بالخلطي؟ يمكن تصنيف أسماء المغاربة عموما، إلى صنفين هما: "أسماء محفزة… وأخرى انتقاصية" (ص 31 الرواية).

واسمي الممثلين PROTAGONISTES، من صنف "أسماء الانتقاصة"، وما تحتويه من أسماء اللعنة، وأسماء الإعاقة، والأسماء المستلبة، والأسماء اللقيطة، والأسماء اليتيمة… مثل الميلودي، المعطي، محراش، بوقرن… قرزز، قبو، البهلول… والملاحظ أن رواية "شجر الخلاطة"، قد اعتمدت فقط على معالجة هذا النوع من الأسماء المحفزة، أما أسماء الفأل الحسن، لغويا، ونفسيا وحضاريا… فلم تتعرض إليها الرواية حتى على سبيل المقارنة، إلا في حالات جد نادرة.

ب - الاسم بين المسخ والطبقية:

بعد استقلال المغرب، وبعد ما قررت الإدارة المغربية، تسجيل أسماء المواطنين في دفتر الحالة المدنية، استلزم الأمر، منح الأسماء والألقاب خاصة، وذلك بمزيد من السرعة، وفي أحيان كثيرة بمزيد من العبثية والاعتباطية، والسخرية والمسخ… فأحيانا يمنح الاسم العائلي، بوجه خاص، حسب الانتماء القبلي. وتارة يمنح باعتبار كنية مشهورة. وقد تتم العملية انطلاقا من لائحة الأسماء الشرقية -أي القادمة من الشرق الإسلامي- المقترحة من طرف الإدارة.

وقد يمنح الإسم تماشيا مع رغبة الموظف الوحش "ماسخ الأفراد والعائلات، والقبائل والمجتمعات حسب هواه" (ص 19 الرواية). فعوض أن يسمى مصطفى بالدلائلي، سماه موظف بشيش كباب، وسمى عمه من لحمه ودمه، بو قرن، على أي أساس؟ مزاج الموظف. فتفرقت العائلة بذلك. ومسخت أسماء أفرادها بكثير من العبثية والسخرية. فما معنى شيش كباب؟ وما معنى بو قرن؟ ولماذا يحملان دلالات تحيل على الخلاعة والبلادة…؟ عادة ما قد يكون الاسم الشخصي محمدا، أو مصطفى، أو الجيلالي، أو إبراهيم أو علي… وكلها أسماء ذات مرجعية دينية مقدسة. أما الاسم العائلي، وخصوصا، بالنسبة لعامة الناس، فعادة ما يكون من طبيعة مدنسة أي لقيطة، أو ممسوخة أو لعينة… أو من طبيعة عنصرية، تعكس التمايز الطبقي والحضاري. فمثلا الأسماء مثل بن جلون، بن كيران، برادة، بنيس… من الأسماء المحفزة أو من "أسماء الامتياز" الثقافي والاجتماعي والسياسي. ومقابل ذلك، فشيش كباب، والخلطي، وبو قرن، والكمنجة… من أسماء الشلل الثقافي والاجتماعي والطبقي، والحضاري والنفسي. فهذا النوع من الأسماء، عادة ما يترك وراءه عقدا، وشللا نفسيا، وأوهاما… ولعل من بعض مظاهر ذلك، بحث الجيلالي الخلطي، عن شخصية وهمية، لا وجود لها، إلا في أوهامه وتحيلاته. شخصية الشيخ المعطي الكمنجة.

ج - الاسم بين المقدس والمدنس:

لقد وجد مصطفى شيش كباب اسم الشيخ المعطي الكمنجة اسما مناسبا لتعميق نظريته في الأسماء وقد أطلق على هذا النوع "أسماء المقاومة السرية"([14]). وشخصية الشيخ المعطي الكمنجة هي شخصية وهمية موجودة فقط في وهم الجيلالي الخلطي، وهي بذلك شخصية لا تختلف كثيرا عن شخصية جودو GODOT في مسرحية صمويل بيكيت "في انتظار كودو"، واسم الشيخ المعطي الكمنجة اسم يحمل دلالات متناقضة ومفارقات كثيرة فالشيخ بالمعنى الدارج هو الفنان، القائد لفرقة شعبية وعادة ما ترتبط بجماعة مدنسة أي "الشيخات" وما يرتبط بهن من غناء ورقص وأشياء أخرى. وتعتبر آلة الكمنجة الأداة الموسيقية المرتبطة بالشيخ أيضا ولذلك جاء اسمه مسندا للكمنجة، واسم الشيخ نفسه قد يحمل معنى مقدسا كأن نقول شيخ الأزهر، وشيخ في القرويين أو شيخ لجماعة دينية ما بل ويحمل اسم الشيخ أيضا مضمونا سياسيا، وإداريا، فالشيخ هو أحد أعوان السلطة والوسيط بينها وبين المواطنين، وهو القادر على تأكيد الاسم، والهوية والقادر أيضا على مسخها.

بذلك فإن شخصية الشيخ المعطي الكمنجة هي رمز للوهم الذي عشش في عقل الجيلالي الخلطي وظل يبحث عنه خارج ذاته ويحاربه في ذلك -عبر الحوار- مصطفى شيش كباب، بهذا المعنى فالجيلالي الخلطي، ومصطفى شيش كباب يعانيان من ازدواجية الشخصية ويواجهان ويحاربان ويبحثان… عن أوهام وسراب، لذلك فقد أصيبا معا بما يسمى "بمرض الخلاطة"([15]) وحادثة الهوندا -واصطدامها بالحافلة كانت بمثابة صدمة نفسية، مفيدة لمصطفى شيش كباب، وللجيلالي الخلطي بدوره، للاستفاقة من وهم المعرفة والثقافة والشهادات ووهم ذاته فلزم عليهما بذلك أن يبحثا عن الطريق الصحيح، والواقعي للحياة/الهوندا.

-"أنت متأكد من أن الطريق هذه المرة تؤدي مباشرة إلى الهوندا؟

-متأكد… هناك منعرج واحد فقط‍!

-أي منعرج؟

-تجمع للجامعيين العاطلين!

-نأخذه!

-نأخذه!" (انظر ص 126 من الرواية).

إلى أين؟ إلى الهوندا، إلى الحياة، إلى المجهول….

 

 

 

 

 



[1] - حميد الحميداني "قراءة في رواية شجر الخلاطة" مجلة علامات، العدد 5 عام 1996، ص 11.

[2] - زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، دار الشروق، ط.6 عام 1980، ص 35-36.

[3] - الميلودي شغموم: شجر الخلاطة، مطبعة فضالة، ماي 1995.

[4] - شجر الخلاطة، نفس المعطيات، ص 19.

[5] - الميلودي شعموم: عين الفرس، دار الأمان الرباط، ط.1، عام 1988، ص 40.

[6] - ابن منظور: لسان العرب، دار الفكر، مادة شجر.

[7] - شجر الخلاطة، نفس المعطيات، ص 53.

  8 -MIRCIA ELIADE "LE SACRE ET LE PROFANE". COLL, IDEES EDT  GALLIMARD 1965, p. 30.

[9] - فالعيد يضمن استقرار الطقوس، والطقوس ترسخ الأعياد انظر تركي علي الربيعو العنف والمقدس والجنس في الميثولوجياا لإسلامية المركز الثقافي العربي، ط.1، 1994، ص 45.

[10]  - وتبدو هذه الصرخة إدانة واضحة، للوضع المأساوي والهامشي الذي أصبحت تعاني منه الفلسفة والفكر المتفتح على حساب استحداث "شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب في بداية الثمانينات، وذلك لتقويض مفعول الفلسفة، ومحاصرة الفكر الحر…

[11] - "من لا عمل له لا وطن له" كما يقال.

[12]- الميلودي شغموم: "عين الفرس" دار الأمان. الرباط عام 1988، ص 14.

[13] - حميد الحميداني، نفس المعطيات، ص 7.

[14] - انظر الرواية نفس المعطيات، ص 65.

[15]  - انظر الرواية، ص 58، وكذلك في ص 101-113.