ص1      الفهرس    المحور   

 

فصل آخر من "حوار المشرق المغرب"

المسألة الثقافية في التسوية السلمية مع إسرائيل

 

ٍمحمد عابد الجابري

ندرج هنا نص التعقيب الذي كلفنا بالقيام به على بحث الأستاذ السيد يسين في الندوة التي نظمها بالقاهرة معهد البحوث والدراسات العربية التابع للجامعة العربية في موضوع "التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي وتأثيرها على الوطن العربي". ونص بحث الأستاذ السيد يسين منشور بكامله في هذا العدد.

كنت أنتظر أن يتناول صديقي الأستاذ السيد يسين الموضوع من موقعه كعالم اجتماع وخبير استراتيجي، فيركز على الجانب الميداني التطبيقي في الموضوع الذي بين أيدينا، موضوع "المسألة الثقافية في التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل"، وحينئذ ستكون مهمتي، بوصفي أحد المنتمين إلى حقل الفلسفة، العمل على التأكيد، أو على الأقل إبراز، الجانب الحضاري العام في المسألة. إن الاختصاص يفرض هذا المنحى، فعلم الاجتماع ينطلق من الجزئيات إلى الكليات، من المشخص إلى المجرد. أما الفلسفة فموضوعها الكليات والمجردات.

لكن الذي حصل هو أن الأستاذ يسين احتل موقعي. وأنا متأكد أنه لم يكن على علم بأني سأكون المعقب على بحثه القيم، ولو علم ذلك لسلك مسلكا آخر في البحث ليترك لي المجال الذي يعرف أني لا أرتاح للكلام إلا فيه بحكم الاختصاص. لقد تناول الأستاذ يسين الموضوع من زاوية الصراع الحضاري فركز على إشكالية الأصالة والمعاصرة وعلاقة السياسي بالديني. وهذه هي الموضوعات التي تمرنت على الكلام فيها. فهل سأكرر ما قاله أم أنه من الضروري أن ألتمس لنفسي طريقا للاختلاف معه.

والحق أني أجد نفسي مضطرا إلى تبادل المواقع مع الصديق الأستاذ يسين، وبالتالي فأنا لن أعقب على بحثه بل سأستفيد منه في احتلال الموقع الذي هو موقعه أصلا: موقع الخبير الإستراتيجي وعالم الاجتماع. وبما أن المجال ليس مجالي فإني أفترض مسبقا أن ما سأقوله يحتاج إلى تعديل وتصحيح ولذلك فأنا أطلب من رئاسة الجلسة أن تعطيه الكلمة بعدي ليتولى التعقيب على ما سأقدمه ليصحح ويعدل ويضيف.

سأستعير من الأستاذ يسين قضيتين: الأولى نظرية، والثانية منهجية.

القضية النظرية هي ما وصفه بـ "الفكرة الرئيسية" في بحثه وهي أن إسرائيل "لا تقدم نموذجا حضاريا يستحق الإقتداء به". وأنا أوافقه على هذه المقدمة، ولكنني لا أرى أنه من الضروري الانتقال مباشرة إلى النتيجة النهائية التي تترتب عنها والتي أبرزها الأستاذ يسين وهي أن المشكلة هي مشكلتنا نحن، مشكلة "أزمة التطور الحضاري العربي"، وأن المهمة المطروحة هي "صياغة استراتيجية حضارية عربية قادرة على التعامل مع المشكلات التي يثيرها عصرنا وتكون هي وسيلتنا في القضاء على التخلف والانطلاق في مجال التقدم". هذه النتيجة صحيحة سواء ربطناها بالمقدمة السابقة أم بغيرها من المقدمات التي تعبر عن الواقع العربي الراهن.

غير أن صحة هذه النتيجة والمقدمة التي بنيت عليها لا تعني أن المسالة الثقافية في التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل ذائبة في "أزمة التطور الحضاري العربي" وبالتالي أصبحت غير ذات موضوع. ذلك لأن القضية المطروحة في هذا المجال ليست "أزمة التطور الحضاري العربي" بل هي ما يعبر عنه اليوم بـ "التطبيع" مع إسرائيل. والمسألة الثقافية عندما تطرح في إطار مناقشة التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل تتلخص في بند رئيسي واحد هو: "التطبيع الثقافي مع إسرائيل". والمفاوض العربي الذي سيتولى مع المفاوض الإسرائيلي البحث في مسألة "التطبيع الثقافي" في حاجة إلى استراتيجية وإلى أفكار... وأعتقد أن المهمة الأساسية لندوتنا هي صياغة أو على الأقل التفكير فيما يمكن أن نعبر عنه بـ "وجهة النظر العربية" التي يجب أن يتحرك داخلها المفاوض العربي.

ومادام الأمر يتعلق بالتفكير في الموضوع داخل إطار عملي ظرفي هو المفاوضات الجارية مع إسرائيل فإني سأستعير هنا من الأستاذ سيد يسين "النموذج" الذي ذكره منسوبا إلى باحثين أمريكيين كطريقة مقترحة لحل الصراعات القائمة على مصالح، وهو نموذج "نظرية الألعاب". وهذا جزء من القضية المنهجية التي أستعيرها منه. أما الجزء الآخر فسأذكره بعد توظيف هذا النموذج.

إن النماذج التي من هذا النوع هي أصلا قوالب صورية فارغة. وإذا كان الباحثون الأمريكيون قد حاولوا ملء النموذج المذكور بمضامين معينة تضمر انحيازا لإسرائيل فليس من الضروري الأخذ بهذه المضامين إذ من الممكن ملؤها بمضامين أخرى عادلة وغير منحازة. وهذا ما سأحاول فعله.

سأنظر إذن إلى مسألة "التطبيع الثقافي" مع إسرائيل من خلال عملية التسوية السلمية المتفاوض عليها الآن، وسأعالجها هي الأخرى في إطار نموذج "نظرية الألعاب" التي تقوم على أن كل طرف يسعى ليكسب أكثر ما يمكن وليخسر أقل ما يمكن في إطار احترام قواعد اللعب، التي تقضي بأن الوسيلة الوحيدة المشروعة في الكسب أو الخسارة هي المهارة والحجة الدامغة. أما المنطلق فهو المبدأ أو المبادئ المتفق عليها كأساس لـ "اللعب"، أي للتفاوض.

لنبدأ إذن من المبدأ / المنطلق في التسوية السلمية العربية الإسرائيلية: إنه كما نعرف جميعا مبدأ: "الأرض في مقابل السلام". ويقضي هذا المبدأ من جهة باعتراف العرب بإسرائيل في حدودها قبل سنة 1967، ومن جهة أخرى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في العام نفسه. ومفاوضات التسوية السلمية موضوعها الأساسي والرئيسي، إن لم يكن الوحيد، هو الوصول إلى تشخيص هذين الجانبين المتلازمين: الاعتراف العربي والانسحاب الإسرائيلي.

وهنا مسألتان لابد من أخذهما بعين الاعتبار: الأولى إجرائية والثانية مبدئية. أما المسالة الإجرائية فهي أن تحقيق الاعتراف العربي بإسرائيل والانسحاب الإسرائيلي من الأرض التي احتلتها سنة 1967 يتطلب وقتا، وبالتالي يجري على مراحل (لأن الانسحاب لم يأتي نتيجة هزيمة عسكرية كما أن الاعتراف ليس نتيجة تسليم بالهزيمة). وأما المسالة المبدئية فهي أن مبدأ "الأرض في مقابل السلام" يعني، على الأقل في معناه الأولي المباشر، أنه عندما يتم الانسحاب الإسرائيلي والاعتراف العربي بالحدود التي كانت لإسرائيل قبل حرب 1967 يكون السلام الذي هو في مقابل الأرض قد تحقق. فالسلام هو إنهاء الحرب.

نعم، من حق إسرائيل أن تطالب بتوسيع مفهوم السلام ليشمل جميع نواحي الحياة المدنية، ومن حقنا نحن العرب أن نطالب بذلك أيضا: من حق إسرائيل أن تطالب بأن يتجسم السلام، أولا وقبل كل شئ، في الاعتراف الدبلوماسي وتبادل السفراء مع جميع الدول العربية، ومن حقنا نحن العرب أن نطالب بتعميم هذا المطلب نفسه على مجموع الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1967، الشيء الذي يعني اعترافها بالدولة التي يقيمها سكان هذه الأرض لأنفسهم حسب اختيارهم. وهنا فقط سيتحقق الاعتراف المتبادل كاملا بين العرب وإسرائيل، فالعرب دول من بينها دولة فلسطين.

وعندما يتم هذا الاعتراف الدبلوماسي المتبادل الذي يشمل اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية التي يقيمها الفلسطينيون على جميع الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة1967، بما في ذلك القدس الشرقية، حينئذ يمكن لإسرائيل إن أرادت، وللعرب إن رغبوا في ذلك، طرح مسالة "التطبيع". و "التطبيع" معناه جعل العلاقات بين العرب وإسرائيل علاقات طبيعية، أي إزالة ما هو غير طبيعي من منظور الأعراف والقوانين الدولية الجارية. والسؤال الآن هو التالي: ما هي المعطيات التي لا تدخل في "ما هو طبيعي" في العلاقات بين الدول؟

بإمكان المفاوض الإسرائيلي أن يقول إن ما هو غير طبيعي في العلاقات العربية الإسرائيلية هو أولا المقاطعة الاقتصادية التي يمارسها العرب على إسرائيل وعلى الشركات التي تتعامل معها. وبإمكان المفاوض العربي أن يقول: هذا صحيح، ولكن صحيح أيضا أن ما هو غير طبيعي في العلاقات العربية الإسرائيلية هو وجود المستعمرات الإسرائيلية على أرض الدولة الفلسطينية من جهة وبقاء اللاجئين الفلسطينيين منذ سنة1948 خارج أرضهم وديارهم وتجاهل إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن. وإذن ففي مقابل رفع الحصار العربي الاقتصادي يجب على إسرائيل أن تطبق قرارات الأمم المتحدة بخصوص المستعمرات واللاجئين. والمفاوضات في هذا الشأن يمكن أن تكون طويلة ومرحلية، أو سريعة وشاملة، حسب الطريقة التي تختارها إسرائيل في ممارسة "اللعب".

وعندما يتم تطبيق مبدأ "الأرض في مقابل السلام" باعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 وانسحابها من الجولان انسحابا كاملا، وعندما يتم الاتفاق على مكونات الجانب الاقتصادي في العلاقات العربية الإسرائيلية وهي أساسا سحب المستوطنات وعودة اللاجئين أو تعويضهم ورفع المقاطعة الاقتصادية العربية، حينئذ، وحينئذ فقط ياتي دور الثقافة و "التطبيع الثقافي".

و "التطبيع الثقافي" كـ "التطبيع الاقتصادي" و "التطبيع الدبلوماسي" معناه: "جعل الأمور طبيعية". والسؤال الآن هو: ما هو الوضع أو الأوضاع التي هي "غير طبيعية" في الميدان الثقافي بخصوص العلاقات العربية الإسرائيلية؟

يمكن تلخيص المسألة في القول: إن كلا من إسرائيل والعرب قد كون لنفسه ثقافة خاصة ضد الآخر: إسرائيل أنتجت ثقافة خاصة ضد العرب ومعادية للعرب، والعرب فعلوا مثل ذلك أيضا ولكن مع هذا الفارق: وهو أن الثقافة التي أنتجتها إسرائيل ضد العرب لم تحصرها في دائرة الشعب الإسرائيلي وحده بل عممتها على العالم وخاصة على أوربا وأمريكا. هذا في حين أن الثقافة التي كونها العرب ضد إسرائيل محصورة في الدائرة العربية. هذا من جهة ومن جهة أخرى فالثقافة التي أنتجتها إسرائيل ضد العرب ونشرتها في الغرب خاصة هي ثقافة هجومية بينما بقيت الثقافة التي كونها العرب لأنفسهم عن إسرائيل ثقافة دفاعية، وهي في جملتها مجرد ردود فعل مع تشكيات. وهاذان الجانبان لابد من أخذهما بالاعتبار الكامل عند الحديث عن "التطبيع الثقافي": فعلى إسرائيل أن تسحب الثقافة المعادية للعرب والتي نشرتها في أوربا وأمريكا بنجاح نظرا لتمكن الحركة الصهيونية من التغلغل في وسائل الإعلام الدولية مما أدى إلى تشويه صورة العرب وصورةالإسلام دوليا بالشكل الذي نعرف. أما العرب فليس هناك ما يسحبونه من العالم كمقابل. لأنهم لم يشوهوا صورة إسرائيل في الخارج، بل لم يستطيعوا حتى إقناع الغرب بالتصرف معهم على أساس ما يعرفه، هو أي الغرب حق المعرفة، وهو أنهم، أعني العرب، معتدى عليهم سلبت حقوقهم وشوهت صورتهم.

ومع ذلك فلابد من قبول مبدأ التعامل بالمثل وتطبيق نموذج "نظرية الألعاب" في مجال التفاوض بهدف "التطبيع الثقافي"، وهو شئ يمكن أن يتم على مرحلتين:

المرحلة الأولى: تشكيل لجنة مختلطة من الخبراء العرب والإسرائيليين للبحث في طريقة سحب الصورة المشوهة التي نشرتها الدعاية الصهيونية عن العرب في العالم. من ذلك مثلا إحصاء الكتب والمقالات والأفلام وجميع المنشورات المكتوبة والسمعية البصرية، القديمة والحديثة، التي تنال من قريب أو بعيد من صورة العربي وسمعته وسحبها من العالم كله والتدخل لدى الدول والشركات ودور النشر لسحبها والالتزام بعدم نشرها أو إعادة إنتاجها. والشيء نفسه يجري على ما قد يكون هناك في الأسواق العالمية من نصوص عربية أو ذات مصدر عربي تشوه صورة الإنسان الإسرائيلي.

المرحلة الثانية: تشكيل لجنة مختلطة من الخبراء العرب والإسرائيليين تكون مهمتها القيام بعملية استكشاف واسعة للعناصر التي تتكون منها الثقافة المضادة للعرب داخل إسرائيل والمضادة لإسرائيل داخل الأقطار العربية. وهذا الاستكشاف يجب أن يشمل الكتاب الثقافي والفني والتاريخي والكتب المدرسية والبرامج الدراسية والمجلات والصحف وجميع المنشورات المكتوبة والسمعية البصرية.

وعندما تنجز هاتان المرحلتان بنجاح، وعندئذ فقط، تأتي المرحلة الثالثة التي تخص تشييد علاقات ثقافية بناءة بين الطرفين، وذلك عبر تبادل البعثات الثقافية والمنشورات والزيارات كما هو الشأن في العلاقات العادية بين الدول. وأعتقد أن من جملة المهام التي يمكن أن يجعلها معهد البحوث والدراسات العربية، الذي يستضيفنا اليوم، على رأس برامجه المساهمة في إعداد دراسة علمية مفصلة عن الثقافة المضادة التي شيدتها إسرائيل لنفسها وللعالم عن العرب، وتلك مهمة ضرورية ومستعجلة، لأنها ستكون - افتراضا على الأقل - المادة الأساسية في ملف المفاوض العربي في موضوع التطبيع الثقافي مع إسرائيل.

التسوية السلمية مع إسرائيل، أيها السادة، محكومة بمبدأ "الأرض مقابل السلام". وإذن فالسلام مع إسرائيل يجب أن ينطلق من الأرض ليصل إلى السماء وليس العكس. يجب أن ينطلق، أولا، من الأرض المحتلة سنة 1967 التي يجب أن تعود كما كانت، ومن سكانها الذين يجب أن يعودوا إلى ديارهم، لينتقل إلى الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وجميع الدول العربية بما فيها دولة فلسطين، ثم إلى تطبيع العلاقات الاقتصادية وسحب المستوطنات وحل مشكل اللاجئين القدامى، وإلى سحب الصورة المشوهة التي شيدها كل من الطرفين عن الطرف الآخر عالميا ومحليا، وأخيرا، وأخيرا فقط، تبادل البعثات والزيارات والمنشورات. وهذا المسلسل الذي ينطلق من الأرض المحتلة إلى الصورة المشوهة يمكن، بل يجب، أن يطبق فيه نموذج "نظرية الألعاب" لحل الصراعات، الذي ذكره الأستاذ يسين في بحثه.

هناك النموذج الثاني لحل الصراعات، ، و يعبر عنه بـ "صراع الفهم" ، وهو الجزء الثاني من القضية المنهجية التي أستعيرها من الأستاذ يسين، لقد استبعده لكون أصحابه صاغوه بصورة منحازة لإسرائيل. سأستعير هذا النموذج أيضا كقالب فارغ وسأملأه بمضمون من عندي وأقترح توظيفه في القضية الأساسية التي ركز عليها الأستاذ يسين بحثه، قضية بناء استراتيجية حضارية لإعادة بناء الذات العربية بالصورة التي تمكنها من مواجهة التحديات الراهنة، بما في ذلك التسوية السلمية الجارية الآن مع إسرائيل، والاختراق الثقافي الذي يمارسه الغرب.

وهنا سأركز كما فعل الأستاذ يسين على القضية التي اعتبرها مسألة المسائل في الظرف الراهن، وهي العلاقة مابين السياسي والديني في مجتمعاتنا العربية. إن نموذج "صراع الفهم" يصلح للتطبيق هنا لأن المسالة، مسألة السياسي والديني في مجتمعاتنا، هي أولا وقبل كل شيء مسألة فهم وتفاهم، ولأن تحقيق الفهم والتفاهم يحتاج فعلا إلى ما أسماه مقترحو هذا النموذج بـ "الأفكار الوسيطة".

لنبدأ أولا بالجانب الذي يتعلق ب "الفهم" لنعود بعد ذلك إلى الجانب الذي يخص "التفاهم".

لقد عبر الأستاذ يسين عن موضوع الصراع، كما يراه، تعبيرا واضحا صريحا حين سماه بـ "الصراع بين العلمانية والمفهوم الديني للمجتمع" وحين أكد ذلك بقوله: "والحقيقة أن عدم حسم الصراع بين المفهوم العلماني للمجتمع والمفهوم الديني ليس من شأنه سوى مد أجل أزمة التطور الحضاري التي نعيشها الآن"، ثم أضاف قائلا: "إن تردد النظام السياسي في مصر في حسم هذه القضية لا يعدله سوى تردد المثقفين العرب في حسم قضية الأصالة والمعاصرة".

وقبل أن أدلي برأيي في الطريقة التي أقترحها لتوظيف نموذج "صراع الفهم" بهدف تجاوز هذا الصراع أحب أن أسجل اختلافي مع الأستاذ سيد يسين في مسألتين، هو يعلم منذ وقت طويل أن رأيي فيهما يختلف عن الطريقة التي عبر بها عنهما. المسألة الأولى هي أنني أرى - وهذا قلته منذ سنوات - أن مصطلح "العلمانية" مصطلح لا يساعد على التفاهم حين يستعمل في وضعية كوضعيتنا في العالم العربي. ذلك لأن هذا المصطلح يفقد قسما كبيرا من مضمونه إذا استعمل في مجتمع لا كنيسة فيه: وبالتحديد الكنيسة الكاثوليكية كما كانت قبل لجوء الأنظمة الأوربية إلى العلمانية. إن العلمانية التي تعني في الزمان والمكان اللذين استعملت فيهما أعني، أوربا القرن التاسع عشر، تعني ما يلي منقولا عن معجم روبير الفرنسي: "العلمانية هي المبدأ الذي يقضي بالفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني وذلك بأن تكف الدولة عن ممارسة أية سلطة دينية وأن تكف الكنائس عن ممارسة أية سلطة سياسية". ويستشهد المعجم المذكور بالفيلسوف العلماني الفرنسي المشهور، إرنست رينان، الذي قال: "العلمانية، أي الدولة التي تلتزم الحياد إزاء الأديان". ومعلوم أن مفهوم "العلمانية" عند الفرنسيين هو أقوى وأكثر جذرية منه عند الدول الأوربية الأخرى مثل إنجلترا وألمانيا وهولندا الخ... وذلك لأسباب تاريخية ترجع إلى اختلاف الكنيسة الكاثوليكية عن المذهب البروتستانتي.

ومهما يكن فإن مصطلح "العلمانية" هو في نظري مصطلح غير إجرائي ومثار كثير من اللبس والخلط عندما يستعمل في الطرف المقابل للإسلام. ذلك لأنه مهما كان دور الفقهاء وعلماء الدين في الإسلام قديما وحديثا فإنهم لا يشكلون مؤسسة دينية، وإذا كان بعضهم يمارس تأثيره في وقت من الأوقات بمثل قوة المؤسسة الدينية، فإن ذلك ليس من الإسلام في شيء. ومن هنا ذلك اللبس الذي تثيره العبارة التي يعبر بها عن مضمون العلمانية، أعني: "فصل الدين عن الدولة". ذلك لأن الدعوة إلى "فصل الدين عن الدولة" في مجتمع لا كنيسة فيه تعمل كمؤسسة دينية تحدد قواعد الإيمان وتحتكر التعليم بوصفه يتعلق بالروح لا بالبدن، وهي صاحبة السلطة على الروح، وأكثر من ذلك تتدخل في شؤون الحكم والسياسة بدعوى أن سلطة الحاكم من ذات نفسه أو من البشر الذين معه في حين أن سلطة الكنيسة هي من الله خالق البشر الخ... إن غياب الكنيسة بهذا المعنى يجعل مضمون عبارة "فصل الدين عن الدولة" ينصرف إلى شيء واحد غير مقصود، وهو فصل الدين عن المجتمع، اي تجريد الناس من الدين، وهو ما يسمى باللادينية. وهذا ليس من معاني العلمانية إطلاقا. وتجنبا لهذا اللبس اقترحت منذ عقد من السنين الاستغناء عن مصطلح "العلمانية" وتعويضه بـ شعاري: العقلانية والديمقراطية. ذلك لأن "العلمانية" في مضمونها الواسع تعني ثلاثة أشياء: الفصل بين الدولة والكنيسة، والروح النقدية العقلانية، والممارسة الديمقراطية في كافة مجالات الحياة. والعقلانية والديمقراطية مفهومان لا يدخلان في "فصل الدين عن الدولة"، خصوصا عندما يكون الدين هو الإسلام الذي يعلي من شأن العقل ويتخذ من الاجتهاد مصدرا للتشريع، كما يعلي من شأن الشورى وهي، بالكيفية التي مورست بها زمن الخلفاء الراشدين، الديمقراطية نفسها كما كان من الممكن تطبيقها في ذلك العصر، ولاشيء يمنع من تطبيق الشورى اليوم بالصورة التي تستجيب لظروف عصرنا، أعني صورة الديمقراطية الحديثة.

هذا عن المسألة الأولى التي أختلف فيها مع الأستاذ سيد يسين. والاختلاف بيننا هنا هو في حده الأدنى اختلاف في التعبير، وفي حده الأقصى اختلاف في إستراتيجية الخطاب، وهو في جميع الأحوال ليس بالاختلاف الذي يستعصي على التفاهم.

أما المسألة الثانية التي أختلف معه فيها فهي مدلول قوله: "إن تردد النظام السياسي المصري في حسم هذه القضية..."، قضية ما عبر عنه بـ "الصراع بين المفهوم العلماني للمجتمع والمفهوم الديني". وربما يرجع اختلافي معه في هذه المسألة إلى كوني من بلد ينتمي فيه المثقفون دائما منذ الاستقلال وقبله إلى اليوم إلى صف المعارضة. فنحن في المغرب لا ننتظر من الدولة، حتى ولو كنا على وفاق معها، أن تحسم في هذه القضية، لأن التجربة علمتنا أن ننظر إلى الدولة من منظور أنها تقف دائما موقفا براغماتيا في الصراعات التي تنشب في المجتمع. إنها لا تحسم الصراعات التي من هذا النوع لأنه ليس من مصلحتها ذلك، وهي مع مصلحتها تميل معها حيث مالت. هذا جانب، أما الجانب الآخر فيتعلق بأمثلة تقدمها لنا دول تبنت العلمانية ولكنها لم تستطع ان تحقق "الحسم" في القضية التي أثارها الأستاذ سيد يسين. فـ "النظام السياسي" في تركيا تبنى صراحة وبعنف العلمانية منذ سبعين سنة، وأكثر من ذلك عمد إلى تبني الحروف اللاتينية، ليس فقط لكونها "سهلة" و "عالمية"، كما يقال، بل أيضا لعزل النص الديني الإسلامي المقدس عن لغة الشعب... ومع ذلك كله فحضور الإسلام في المجتمع التركي، بما في ذلك الحركات الإسلامية المتطرفة، هو على ما نرى ونشاهد. وكذلك الشأن في إسرائيل حيث يتبنى نظامها السياسي العلمانية ومع ذلك فالدين والتطرف الديني حاضر في مجتمعها بالصورة التي نعرف. وقل مثل ذلك في روسيا وبولونيا والدول الأخرى التي كان النظام السياسي فيها شيوعيا يعتقد أنه "حسم" في المسألة موضوع حديثنا. غير أن المظاهر كانت على غير ما كانت عليه حقيقة المجتمعات هناك.

وإذا نحن اتفقنا على هذا النوع من الفهم الذي يستبعد مصطلح "العلمانية" ويتمسك بدلا عنها بالعقلانية والديمقراطية من جهة، وصرفنا النظر من جهة أخرى عن دور "النظام السياسي" أي الدولة في هذه المسألة، سهل علينا "التفاهم"، وصار البحث عن "أفكار وسيطة" أمرا ممكنا. إن المسألة كما حددها الأستاذ يسين بحق هي مظهر من مظاهر إشكالية الأصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة. وهذه مسالة تخص المثقفين أولا وأخيرا. إنها قضية النخبة المثقفة. إن المشكلة من الوجهة السوسيولوجية والإيديولوجية هي انقسام النخبة المثقفة العربية عموديا إلى شطرين لكل منهما مرجعيته و رؤيته ونموذجه: الحداثيون والتراثيون.

فمن الناحية السوسيولوجية يرجع هذا الانشطار إلى تعاقب النخب تعاقبا سريعا في وطننا العربي مع وصول المجالات التي تستوعب النخب الجديدة كمجال للعيش إلى حالة الإشباع والانغلاق. وإذا نحن نظرنا إلى هذا التعاقب في النخب من زاوية أنه يعكس حراكا اجتماعيا غير منضبط ولا ناضج، قوامه الهجرة من البادية والأرياف إلى المدن بسبب غياب تنمية متكاملة، وبسبب الظروف الاقتصادية والفوارق الاجتماعية التي نعرف... أمكننا أن نرى في الظاهرة أساسها الاقتصادي الاجتماعي الذي لايجوز إغفاله والذي لابد من معالجته إذا أردنا لأية تنمية على المستوى الثقافي أن يضمن لها النجاح والاستمرار.

هذا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية. أما من الناحية الثقافية فالانشطار الذي نتحدث عنه يرجع في قسم كبير منه إلى عدم وجود مرجعية واحدة مشتركة بين المثقفين العرب المعاصرين. هناك مرجعيتان اثنتان يرتبط بهما المثقفون والمؤسسات التعليمية في مجتمعاتنا : المرجعية التراثية العربية الإسلامية، والمرجعية الأوربية الحداثية. والصراع هنا هو في قسم كبير منه صراع بين مرجعيات. والصراع بين المرجعيات هو غير الصراع الإيديولوجي. ذلك لإن الاختلاف في الرؤى والإيديولوجيات يكون أيضا داخل المرجعية الثقافية الواحدة كما هو في الأقطار الأوربية، وذلك ما يسهل التفاهم ويجعل الاختلاف محصورا في المصالح وبالتالي يجعل الصراع قابلا للمعالجة بواسطة نموذج "نظرية الألعاب".

أما عندما يكون الصراع صراعا بين مرجعيات فضلا عن كونه يرتبط بمصالح مختلفة فإن نموذج "صراع الفهم" يبدو إجرائيا في هذا المجال.

يقوم هذا النموذج، كما شرح ذلك الأستاذ يسين، على تنظيم حوار يهدف إلى التقريب بين الطرفين المتنازعين وذلك بتوظيف أفكار وسيطة تجعل من الحوار حوارا متناميا إلى أن يصبح كل طرف اختصاصيا في مرجعية الآخر، معرفية كانت أو إيديولوجية. وهذا النوع من الحوار يمكن أن يجرى على مستويات متعددة: على صعيد الجامعة والمنشورات المكتوبة والسمعية البصرية كما على مستوى منظمات المجتمع المدني.

إن المجال لا يسمح هنا بتفصيل القول في هذا الموضوع، ولذلك سأقتصر على الإشارة إلى ما سبق أن ناديت به من قبل وهو ضرورة قيام كتلة تاريخية بين جميع القوى والفصائل الفاعلة في المجتمع، انطلاقا مما أكدته التجربة من أنه لم يعد من الممكن قط لأي حزب أو فصيل أو حركة أو تيار في أي قطر عربي أن يقوم بمفرده بحل المشاكل المطروحة. إن تجاوز وضعية الأزمة الخطيرة القائمة حاليا يتطلب قيام كتلة تاريخية انطلاقا من إجماع ثقافي على القضايا الوطنية والقومية التي تشكل القاسم المشترك بين الجميع: قضية التنمية، قضية الفوارق بين الأرياف والمدن واستفحال الفوارق الطبقية، قضية الديمقراطية، قضية التسوية السلمية مع إسرائيل، قضية التعاون العربي والتضامن الإسلامي الخ... هذه الموضوعات وأمثالها يمكن أن يجري الحوار حولها والوصول إلى أفكار وسيطة تسمح بالتخفيف من الصراع، فضلا عن أن الحوار في هذه الموضوعات قد يفسح المجال لنوع جديد وعميق من الفهم والتفاهم قوامهما فهم كل طرف للطرف الآخر من داخل مرجعيته وصولا إلى بناء مرجعية مشتركة.

ويمكن في هذا المجال استلهام طريقة ابن رشد الفيلسوف الفقيه في معالجة القضية الأساسية في عصره، قضية العلاقة بين الدين والفلسفة، وهي قضية تتشابه مع قضيتنا نحن، قضية التراث والحداثة. لم يَدْعُ ابن رشد، خلافا لما هو شائع، إلى التوفيق بين قضايا الدين وقضايا الفلسفة، وإنما نادى بضرورة النظر إلى كل منهما داخل بنائه الخاص مع الأخذ بالاعتبار أصوله ومنطلقاته الخاصة. وإذا فعلنا ذلك أمكننا، ليس فقط أن نفهم كلا منهما فهما صحيحا، بل وأن نتفهم وجهة نظر كل منهما ونكتشف بالتالي أن هناك توافقا بينهما، وأنهما يرضعان من منبع واحد هو الحق، ويسعيان نحو غاية واحدة هي الفضيلة. أنا هنا لا أدعو إلى التطبيق الحرفي لما يقوله ابن رشد، ولكني أعتقد أننا هنا أمام "نموذج" آخر يمكن استلهامه والاستفادة منه في القضية التي نحن بصددها.

000

إن معالجة المسألة الثقافية تحت ضغط التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل تفرض علينا، أيها السادة، العمل في واجهتين: واجهة التفاوض مع الآخر الإسرائيلي، وتحتاج إلى التسلح بثقافة التسوية.. وواجهة بناء الذات العربية لمواجهة التحديات المختلفة، وهذه لابد فيها من التسوية الثقافية التي قوامها إجماع ثقافي، داخل كل قطر عربي كما على مستوى الوطن العربي ككل، حول القضايا الأساسية الوطنية والقومية التي تؤكد التجربة كل يوم أنها قضايا لا يمكن لأي فريق أن يضطلع بها بمفرده لأنها قضايا منعطف تاريخي لابد لاجتيازه من كتلة تاريخية تجمع بين جميع الفعاليات والقوى، وتحقق نوعا من السلم الثقافي والاجتماعي والهدنة الإيديولوجية خدمة للمصلحة العامة، مصلحة النهضة العربية التي هي مطالبة اليوم باستئناف المسيرة وفق متطلبات وتحديات القرن الواحد والعشرين.

شكرا على استماعكم ·