ص1    الفهرس    المحور

 

إشكال المعنى

من الاستعارة إلى الاستلزام الحواري

 

محمد السيدي

 

يعد مدلول عبارة لغوية ما من الأمور التي عالجتها النظريات اللغوية قديمها وحديثها. فقد اختلفت النظريات في كيفية تحديد المدلول، حيث نجد من يذهب إلى القول إن تحديد المدلول يمكن أن يتم دون الرجوع إلى ما تحيل عليه العبارة في العالم الخارجي، في حين هناك من يذهب إلى القول إن المدلول لا يمكن أن يحدد إلا بالرجوع إلى العالم الخارجي، ويذهب هذا المذهب فلاسفة اللغة العادية خاصة فيتنكشتاين وألستون وكرايس وآخرون ممن يندرجون في إطار الفلسفة التحليلية.

إذا كانت هذه هي أهم مميزات النظريات اللسانية المعاصرة فإن اللغويين العرب، والبلاغيين منهم بصفة خاصة يميزون في استعمال العبارات اللغوية بين ما يسمونه بالاستعمال على وجه الحقيقة والاستعمال على غير وجه الحقيقة.

سنحاور فيما سيأتي الإواليات التي يتم بها تحديد المدلول إن في الفكر اللغوي العربي القديم أو في اللسانيات المعاصرة، وذلك بهدف ضبط التقاطعات التي يمكن أن تقام بين التصورين.

لتحقيق هذه الغاية ومسايرة لما ذهب إليه البلاغيون القدماء ووافقهم فيه بعض فلاسفة اللغة العادية على غير سابق علم، فإننا نرى ضرورة التمييز بين معنيين: معنى حرفي أو صريح ومعنى ضمني أو مستلزم. إن تبنينا لهذا التمييز يعني أننا ننطلق من افتراض مفاده أن الوحدة الدنيا للتواصل هي الجملة.

يميز بين المعنيين الصريح والمستلزم على أساس أن الأول تدل عليه العبارة بلفظها أما الثاني فتدل عليه العبارة باستعمالها في موقف تواصلي معين. لقد أدى تبين هذا الافتراض إلى البحث في طبيعة العلاقة بين المعنيين الصريح والمستلزم، أيهما أصل وأيهما فرع؟ ثم كيف يتم الانتقال من الأصل إلى الفرع؟ وما هي طبيعة القواعد المتحكمة في هذه العملية؟ هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يتفرع عنها هي التي أطرت الآراء اللغوية قديما وحديثا، وهي التي سنحاول انطلاقا من البحث عن أسس إجاباتها الإحاطة بإشكال تحديد المدلول.

1 ـ القدماء ومشكل المعنى:

يعد مشكل المعنى من القضايا التي عالجها الفكر العربي القديم ذلك أن المفكرين القدماء سواء منهم المتكلمون أن الأصوليون أن اللغويون قد عنوا بمشكل المعنى الذي ارتبط عندهم بمشكل الإعجاز القرآني. فقد شكل مبحث المجاز قاسما مشتركا بين هذه المجالات المعرفية على اختلاف اتجاهاتها.

سنركز فيما سيأتي على ما ورد عند البلاغيين خاصة الجرجاني عبد القاهر والسكاكي بوصفهما مؤسسين للبلاغة العربية.

1.1-الجرجاني والمعنى:

يميز الجرجاني في دلائله بين حمل العبارة اللغوية على ظاهرها وحملها على المجاز. أي أن العبارة يمكن أن تدل بلفظها على معناها فيتوصل بها إلى معناها كما يمكن أن تدل على غير معناها اللفظي فيحدد معناها إذن عن طريق التأويل (التفسير). في هذا الصدد يقول الجرجاني معلقا على من فسر كلمة "قلب" الواردة في الآية }إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب{(*) بـ"العقل": "فأما تفسير من يفسره على أنه بمعنى (من كان له عقل) فإنه إنما يصح على أن يكون قد أراد الدلالة على الغرض على الجملة. فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كان القلب إسما للعقل كما يتوهمه أهل الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام فمحال باطل لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية وإلى تحريف الكلام عن صورته وإزالة المعنى عن جهته وذاك أن المراد به الحث على النظر والتقريع على تركه وذم من يخل به ويغفل عنه ولا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدمته وإلا بأن يكون قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكر كأنه ليس بذي قلب كما يجعل كأنه جماد وكأنه ميت لا يشعر ولا يحس وليس سبيل من فسر القلب ههنا على العقل إلا سبيل من فسر عليه العين والسمع في قول الناس هذا بيِّن لمن كانت له عين ولمن كان له سمع،…… وأجرى جميع ذلك على الظاهر فاعرفه".

يستفاد مما تقدم أن الجرجاني يفترض أن العبارة اللغوية لا يمكن أن تفهم دائما على الحقيقة، أي أن المعنى الظاهر الذي يدل عليه لفظ العبارة، ليس دائما هو المعنى الوارد. فالآية إذن يراد بها الدعوة إلى إعمال النظر والتقريع على تركه. وهو ما لا يتم التوصل إليه وإدراكه إلا عن طريق استدلال منطقي يفهم مما استدل به الجرجاني من تشبيهه لمن لا قلب له بالجماد أو الميت الذي لا يشعر ولا يحس. هذا الصنف من المعنى أي الذي يتوصل إليه بإعمال النظر هو ما يمكن أن نسميه أو نصفه بالمعنى المستلزم. والجرجاني بتمييزه بين هذين الصنفين من المعنى يجعل المجاز والتمثيل أساس بلاغة العبارة. وهو ما يفهم من قوله "ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض".

واضح إذن أن الجرجاني يفترض في من يريد دراسة معنى العبارة اللغوية أن لا يكون عارفا بدلالة الألفاظ المعجمية، بل عليه أن يكون عارفا آخذا في حسابه حال وصف معنى عبارة ما مدى مطابقتها لمقتضى الحال. غير أن تركيزه على المعنى المستلزم وجعله بؤرة الدلائل لا يعني أنه ينفي أن يكون للعبارة معنى حرفي/ظاهر، بل يعني ذلك أن بلاغة العبارة اللغوية تكمن كذلك في معناها المستلزم. فالمعنى إذن لا تحدده صورة أو وضع العبارة فقط بل هو مرهون كذلك بظروف إنتاجها، ما يبرر ذلك هو ما نجده متناثرا في باب التقدم والتأخير من الدلائل حيث يقول متحدثا عن علاقة التقديم واستعمال همزة الاستفهام: "وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه. ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت: أفعلت؟ فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده. وإذا قلت أأنت فعلت؟ فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو وكان التردد فيه".

فإذا كانت العبارتان:

ـ أفعلت؟

ـ أأنت فعلت؟

تحتويان على نفس الحمل فإن لهما مدلولين مختلفين، ذلك أن حيز الاستفهام يختلف من العبارة الأولى إلى الثانية، ففي العبارة الأولى يشكل الحمل برمته حيازا للاستفهام، أما في العبارة الثانية فإن حيز الاستفهام هو أحد مكونات العبارة (أنت). ما يفسر ذلك هو رائز العقيب:

1 ـ أ ـ أفعلت أم لم تفعل؟

1 ـ ب ـ أفعلت أم غيرك؟

2 ـ أ ـ أأنت فعلت أم غيرك؟

2 ـ ب ـ أأنت فعلت أم لم تفعل؟

حيث يفسر لحن الجملتين (1-أ و2-ب) بعدم تناظر المكونين الذين يشكلان حيز النفي فيهما.

فالمعنى بالنسبة للجرجاني إذن، يمكن أن يؤخذ إما من لفظ العبارة ويكون ذلك حال استعمالها لما وضعت له وإما أن يؤخذ من علاقة العبارة بظروف إنتاجها أي مما يسميه بمقتضى الحال كما يمكن أن يؤخذ عن وضعها التركيبي.

هذا التصور لطرق تحديد معنى عبارة لغوية معينة، يدفعنا إلى الاعتقاد أن الجرجاني يصنف العبارات إلى عبارات غير ملتبسة وهي التي تدل على ما وضعت له أي التي يؤخذ مدلولها من لفظها، وعبارات ملتبسة ويرفع عنها الالتباس إما بالرجوع إلى الموقف التواصلي وإما بسياقها التركيبي.

2-1-السكاكي والمعنى:

إذا كان الجرجاني يرى أن تحديد المعنى يتم على النحو الذي بيناه فإن السكاكي الذي يعد امتدادا له من حيث التصور العام، قد أعاد النظر في بعض الجزئيات وذلك بالاعتماد أكثر على التفريع المنطقي للقواعد العامة التي اقترحها الجرجاني.

ينطلق السكاكي في حديثه عن المعنى من افتراض تمييز بين ثلاث مستويات من الدلالة، دلالة بالوضع أو المطابقة ودلالة بالعقل أو التضمن ثم دلالة بالعقل أو الالتزام، غير أنه لا يجب أن يفهم من هذا التمييز أن السكاكي ينفي تعالق هذه المعاني بل إنه يقر بوجود علائق يتم بواسطتها الانتقال من الواحدة إلى الآخرى عن طريق إعمال العقل. والعقل في تصور السكاكي يعادل الاستدلال المنطقي عن طريق إعمال ما يعرف بعلاقة التعدية (transivité) "لا يخفى أن طريق الانتقال من الملزوم إلى اللازم طريق واضح بنفسه ووضوح طريق الانتقال من اللازم إلى الملزوم إنما هو بالغير وهو العلم بكون اللازم مساويا للملزوم أو أخص منه".

إن تصور السكاكي يشبه إلى حد ما تصور المناطقة حين حديثهم عن الاقتضاءات (présupositions). غير أن هذا لا يجب أن يفهم منه أن تمة تطابقا أو ترادفا تاما بين تصور السكاكي وتصور المناطقة، بل غاية الأمر أن السكاكي الذي اعتمد المنطق الأصولي القائم على اختلافات المذاهب الكلامية كان أقرب إلى ما يتم من عمليات صورية في مجال التمثيل الدلالي. يتضح ذلك بصفة بارزة حين دراسة ما ورد في المفتاح متعلقا بثنائية خبر/إنشاء أو طلب. ذلك أن السكاكي ينطلق من اعتقاد مفاده أن العبارة يمكن أن تفيد ما وضعت له (الحقيقة) كما يمكن أن تفيد غير ما وضعت له (المجاز/الكناية)، والعلاقة بينهما هي علاقة لازم بملزوم أو ملزوم بلازم.

لعل المثال النموذج الذي يفسر تصور السكاكي لتحديد المعنى يتمثل في:

ـ كثير رماد القدر

فواضح أن المعنى الحرفي لهذه العبارة ليس هو المقصود بل إن معناها هو:

ـ رجل كريم

لتفسير كيف يتم الانتقال من: كثير رماد القدر

إلى: رجل كريم

يعتمد السكاكي سلسلة من الاستدلالات (الملزومات)

ـ كثرة الرماد --< كثرة إحراق الحطب

ـ كثرة إحراق الحطب --< كثرة ما يطبخ

ـ كثرة ما يطبخ --< كثرة الأكلة.

ـ كثرة الأكلة --< كثرة الضيوف

ـ كثرة الضيوف --< إنه مضياف

ـ إنه مضياف --< إنه كريم

نلاحظ أن الانتقال من دلالة الوضع (المعنى الحقيقي/الحرفي) إلى دلالة الملزوم (بالعقل/المعنى المستلزم) يتم بواسطة استدلالات ذات طبيعة غير لغوية. فهي تتم بواسطة ما يعرف عند بعض المناطقة المعاصرين بالخلفية الثقافية الاجتماعية.

وهكذا نلاحظ أن تصور البلاغيين العرب القدماء، نعني المؤسسين، يقوم على التمييز بين صنفين من المعنى، المعنى الحقيقي والمعنى اللازم أو ما يسمونه بالمعنى ومعنى المعنى.

2 ـ الاقتضاء والاستلزام:

الاقتضاء مفهوم منطقي بينما الاستلزام مفهوم لساني تداولي، ذلك أن الاقتضاء يمتاز بكونه لا يتغير بتغير ظروف استعمال العبارة فهو ملازم لها في جميع الحالات والأحوال، أما الاستلزام فإنه يتغير بتغير ظروف إنتاجالعبارةاللغوية.

يذهب الدارسون إلى تصنيف الاقتضاءات إلى:

ـ اقتضاءات الوجود: وهي ما كان موضع اهتمام خاص من المناطقة لارتباطه بمفهوم الإحالة، إذ من شروطها أن تدل على شخص موجود في الواقع

ـ اقتضاءات معجمية: وتعني مجموع الشروط (قيود الانتقاء) التي تقتضيها المحمولات في الوحدات التي تواردها نفس السياق. مثال ذلك:

تنبه عمرو إلى أن زيدا يقدره.

فالمحمول (تنبه) يقتضي صدق مفعوله، فيكون اقتضاء الجملة هو: زيد يقدر عمرا.

ـ اقتضاءات خاصة واقتضاءات عامة: يراد بالاقتضاءات الخاصة الاقتضاءات التي تخص وحدة لغوية دون سواها، أما العامة فهي التي تخص المجموعات الكبرى التي تنتمي إليها الوحدات اللغوية. فإذا أخذنا مثلا الجمل التالية:

1 ـ ينتظر زيد مجيئ خالد

2 ـ يتمنى زيد مجيئ خالد

3 ـ يخشى زيد مجيئ خالد

حيث نلاحظ أن هذه الوحدات تتقاسم اقتضاء مشتركا يمثله قيد الانتقاء الذي تفرضه المحمولات (ينتظر، يتمنى، يخشى) على فاعلها [+ إنسان ]، كما نلاحظ أن الجملتين (2 و3) تتضمنان اقتضاء إضافيا يمكن صوغه على الشكل التالي:

ـ يتمنى (س، ص) --< إحساس ((س) حُسْنَ (ص))

ـ يخشى (س،ص) --< إحساس ((س) قُبْحَ (ص))

وتجب الإشارة إلى كون مفهوم الاقتضاء، يطرح مجموعة من المشاكل ذات الصلة ببناء النحو، بصفة عامة، أهمها مفهوم الاستقلال، فهو يدعونا إذن إلى إعادة النظر في تصور النظرية اللسانية العامة. ويمكن رد ذلك إلى كون اعتماد مفهوم الاقتضاء يستدعي ضرورة بناء نظرية للموقف التواصلي، لارتباط الاقتضاءات بالجانب التداولي.

إذا كانت الاقتضاءات تمثل مسلمات تعد ملازمة للقول لا تتغير بتغير بنيته التركيبية (إثبات، نفي أو استفهام)، فإن الاستلزام عكس ذلك يتغير بتغير المواقف التواصلية.

تعد أعمال كرايس المصدر الأساس الذي انطلقت منه دراسة الاستلزام الحواري، حيث يذهب كرايس إلى القول إن العملية التواصلية قائمة أساسا على مبدإ عام سماه بمبدإ التعاون. إذ يعد توافر هذا القيد أساس نجاح العملية التواصلية، ويؤدي اختلاله إلى فشل الفعل اللغوي.

لقد نتج عن اهتمام الدارسين فيما بعد بربط مفهوم الاستلتزام الحواري بمفهوم القوة الإنجازية، أن كان ذلك مدخلا اعتمدته الفرضية الإنجازية لاقتراح كيفية التمثيل للقوة الإنجازية بواسطة الإجراءات التوليدية.

بالرجوع إلى ما ورد عند البلاغيين العرب القدماء وما نجد في الدراسات اللسانية ذات النزعة التداولية بصفة عامة، يمكن القول إن مفهوم اللزوم (اللازم والملزوم) كما هو وارد عند السكاكي بصفة خاصة، يماثل إلى حد ما تصور التداوليين المناطقة لمفهوم الاقتضاء.

وهكذا نلاحظ أن الانتقال من المعنى الحرفي/الصريح أو الحقيقة إلى المعنى المستلزم أو المستعار يتم وصفه بنفس الإجراءات التي يمكن أن تصاغ على شكل قاعدة عامة نجدها في الرياضيات وهي ما يعرف بقاعدة التعدية: إذا كانت أ تقتضي ب و ب تقتضي ج فإن أ تقتضي ج.

إن هذا التماثل في طرق التحليل الذي افترضنا قيامه بين منهج البلاغيين العرب القدماء والتداوليين لا يعني بالضرورة وجود تطابق تام وكلي بين التصور العربي القديم للظاهرة اللغوية وتصور الدراسات اللغوية المعاصرة لنفس الظاهرةn