ص1       فهرس 21-30

 

قضايا الأنس(*)

خالد بلقاسم

"يقول القوم من أنس بالله في الخلوة وفقد ذلك الأنس في الملأ فأنسه كان بالخلوة لا بالله"

 

1 ـ القراءة والأنس: من قراءة الأنس إلى القراءة بوصفها أنسا.

تتحدد القراءة منذ تاريخها البعيد بوصفها أنسا مضاعفا. فهي مصاحبة للمقروء وارتياد لعالمه، فيما هي استدعاء لما به تتم المصاحبة، لأن القراءة فعل لا يتحقق إلا بإشراك القارئ لغيره في هذا الفعل. وهذا الإشراك يصرح به حينا ويتم إضماره حينا آخر. وهو يسمى في القراءة الحديثة بالأساس المعرفي والتصور النظري والإجراء المنهجي، أي مجموع المفاهيم التي تسند القراءة. وقد تنبه الخطاب الواصف، راهنا، إلى أن أهمية القراءة لا تتحدد من موضوعها وإنما تتم به. ولنا في الأمر الأول بالقراءة ما يقوي هذا الرأي، فالقآن يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم "إقرأ باسم ربك الذي خلق". فتم التنصيص، بذلك، على ما به تتم القراءة لا على المقروء. وبهذا المعنى تشكل الفعل القرائي الذي احتكمت إليه المحاورات التي جرت مع وحول دريدا في كتاب لغات، قوميات، تفكيكات. محاورات كان فيها دريدا مقروءا ومشاركا في الفعل القرائي في آن، حتى ليبدو أن البعد عن دريدا في بعض مقالات الكتاب كان شكلا من أشكال الاقتراب منه.

وقد شارك هاشم فودة في هذه المحاورات بمقال عن الأنس    (encomagnie)  قارب فيه هذا الموضوع بآلية تفكيكية مكنته من تجديد الرؤية للأنس وإعداد القارئ لأنس بالأنس. "أنس" ينهض على إبدال موقع القراءة والإنصات لنصوص الأنس بهاجس تحيين أسئلتها وتفكيك الرابطة الاجتماعية في الفكر العربي الإسلامي من خلالها[1].

إن الأنس الذي تخلقه قراءة فودة للمتلقي لا ينهض على الألفة والتلاؤم، وإنما ينبني، كذلك، على التعارض والاختلاف. وبذلك تتغيا هذه القراءة ترسيخ أنس خاص يراهن على رؤية ما لا تراه القراءة العادية. ألا يقابل الأنس بقراءات معينة الاستيحاش بأخرى؟

وهذا الأنس بالاختلاف يصرح به التصدير الذي افتتح فودة به المقال، مستمدا إياه من كتاب l’autre cap لدريدا. وبه يغدو دريدا أنيسا لا بحضوره الفعلي وإنما بحضوره الرمزي، الذي يقترن بفكر الاختلاف وبمفهوم التفكيك وبرهانات إبدال موقع القراءة. وإذا كنا أشرنا في البدء إلى أن القراءة أنس مضاعف فإنها في مقال فودة تغدو أنسا متعددا تتشابك أطرافه، خصوصا أنها تنبني على موضوع الأنس. فقد أتاح الموضوع لفودة أن يقارب العلاقة الاجتماعية أي سؤال الـ مع L’avec. وهو سؤال تنهض عليه القراءة نفسها كما يتبدى من العلاقة التي أقامها فودة مع كتاب l’autre cap، أي "البقاء في جواره أو بتعبير آخر قريبا منه، معه، وخصوصا في جوار ما يقول عن الـ مع"[2]. ومن تم يشتغل الخطاب على موضوع الأنس بآليات هي من صميم التعالق الذي تفتحه تجربة الأنس. فالمصاحبة والجوار والقرب هي مكونات الحقل الدلالي للأنس، فيما هي موجهات الفعل القرائي كذلك. وهذا ما تكشف في تحويل فودة l’autre cap إلى طيف يصاحب القراءة دون أن يشير إليه صراحة[3]. وللطيف حضور قوي في بناء معنى الأنس في الثقافة العربية.

حرص فودة في بناء مقاربته لموضوع الأنس على الاستناد إلى متن متعدد شمل أبياتا شعرية ونصوصا سردية واقوال بعض الصوفية وأمثالا مأثورة. واللافت في هذه الأمثال أن الأنس فيها لا يتحقق بالإنسان وإنما بالنار والحمى والطيف[4]. ولنا أن نتأمل سؤال الطيف في صلته بالفعل القرائي. فالقراءة تنهض على الطيف، تشتغل به وعليه. أليست عوالم المقروء أطيافا يصاحبها القارئ ويستدعي لها أطياف من نقرأ بهم لتجلية التباس الطيف؟ لا يستطيع المرء أن يجالس من يريد، وبذلك قد يستشعر وحشة مع الشخص وأنسا بالطيف. والقراءة تمكن الفرد من الأنس بالأموات والأحياء، بالقصي والقريب. ولا غرابة في ذلك فالقراءة تجربة خيالية تنهض على المعاني، وتعيد بناء الواقعي وفق احتمالات لا نهائية. تستدعي القراءة طيف كاتب المقروء وكتاب إحالاته وأطياف النقاد الذين انشغلوا بقضايا هذا المقروء. وكثيرا ما تتم القراءة، في أوج الخلوة، بصوت عال يقتضيه الأنس بمعانيها. وكثيرا، أيضا، ما يتوقف القارئ ليطرح سؤاله وينتظر من طيف أنيسه أن يجيب. وإذا تعذر الجواب فإنه يفكر في البحث عنه في مقروء آخر ضمن أنس مؤجل.

إن ما يقوي اشتغال الطيف في قراءة فودة هو عدم إشارته، في ثنايا مقاله، لكتاب دريدا. فبعد تصريح التقديم يختفي كتاب l’autre cap ليحضر طيفه عبر استدعاء تختلف درجاته بحسب ما تقتضيه موجهات تأويل فودة، فيما تختلف درجات إدراك هذا الاستدعاء لدى قراء المقال كذلك، مما يجعل مقاربة فودة تكثيفا للطيف. وهو أمر يعيه فودة، فقد أنهى المقال باعتبار دريدا أنيس المحاورات[5]. أنس التبس فيه الحضور بالغياب والشخص بالطيف.

إن ملامسة العلاقة بين القراءة والطيف تندرج في التوسيع الذي يمكن أن يخضع له مفهوم الأنس وهو ما يستتبع توسيعا للقراءة، سيما إذا استحضرنا آليات اشتغال التجربتين ونهوضهما على مفهوم الـ مع والتعالق مع الآخر. ولا نتغيا، هنا، رصد هذا التوسيع ومصاحبة أسئلته، لأن ما يوجهنا هو مساءلة منطلقات قراءة فودة للأنس والاحتمالات التي فتحتها وهي تقارب موضوعا منسيا في قديم الثقافة العربية وحديثها.

2 ـ فرضيات القراءة ومنطلقاتها:

إن إبدال موقع القراءة في مساءلة فودة للأنس لا يتكشف من استراتيجية التفكيك التي وجهت تحليله فحسب، وإنما يتكشف كذلك من اختيار هذا الموضوع لمقاربة العلاقة الاجتماعية في الفكر العربي الإسلامي. إنه اختيار يتيح الإنصات للتعالق مع الآخر، ومصاحبة التخييل الذي أسهم في بنائه، فيما يتيح توليد أسئلة لها أن تفكك التصورات والرؤى. فتجربة الأنس تحبل بقضايا معقدة، لأنها تضمر تصورا للخلوة وللتعالق مع الآخر ولأشكال التعامل مع الآخر.

وأول صعوبة استشعرها فودة في مقاربة موضوعه هو شساعة المتن الذي شغل معجم الأنس. فمختلف أنماط الخطاب تستدعي هذا المعجم[6]. ومن ثم توجب على الباحث تسييج متن المقاربة انطلاقا من فرضية تمكنه من تأطير الموضوع منهجيا. والفرضية، في الغالب، هي المدخل الذي يتيح الاقتراب من المنطلقات النظرية التي يراهن عليها واضعها، وخصوصا عندما تحتكم الفرضية إلى تصنيف قبلي تسنده مرتكزات تأويلية كما هو الشأن بالنسبة لقراءة فودة.

حصر فودة متن الأنس بالتمييز بين تجربتين مختلفتين:

أ ـ الأنس مع الإنسان أو ما يسمى مجلس الأنس (مجلس المنادمة، مجلس الشرب)، الذي يجمع أصدقاء وأخلاء بغية الاستمتاع بالسمر والخمر والموسيقى والغناء[7]. ويتحدد الأنس، هنا، بوصفه اتصالا ينبني على الحضور.

ب ـ الأنس مع الله ويتم بالانفصال عن الإنسان أي بالخلوة وقهر الذات[8]. وهو بذلك ينهض على الغياب.

وقد قام فودة بتعداد أربعة أسباب تدفع إلى التفكير بأنه يتعين اتخاذ الأنس مع الإنسان، بوصفه الأنس الحقيقي، منطلقا لفهم الأنس مع الله. ويمكن أن نجمل هذه الأسباب فيما يلي:

أ ـ يتحدد الأنس في التجربة اليومية بسمتين: الكينونة –مع L’être-avec (مخالطة، ألفة…) وما ينجم عنها من شعور (طمأنينة، مرح، راحة…)[9]. وهو بذلك ضد الوحشة.

ب ـ لا يتحقق الأنس إلا مع آخر يماثلني Un autre comme moi. ويتعين على الأنيس أن يمتلك القدرة على شد جليسه إليه. يترتب عن هذا أن الأنس وقف على الإنسان، أما عندما نتحدث عن الأنس بالشيء، فإن كلمة الأنس تستعمل، في هذا السياق، بمعنى استعاري[10].

ج ـ يقتضي الأنس الظهور والرؤية. فآنس تعني رأى وأبصر. ومن سمات الإنس الظهور بخلاف الجن الذي حجب عن النظر. والخفاء والستر من معاني "جن" في اللغة العربية. وما دامت قداسة الله تمنع ظهوره فإن ذلك يدعم الاستنتاج السابق وهو أن الأنس لا يتم إلا مع الإنسان[11].

د ـ ينبني الأنس على الدلال أو الإدلال. وهو نوع من الجرأة التي يبديها الأنيس تجاه جليسه. وقد أشار الغزالي إلى إمكان التباس الدلال مع الله بالكفر وحذر من الاجتراء على الله وخول ذلك لمن يبلغ مقام الأنس[12].

وقبل مقاربة فودة للأنس مع غير الإنسان أي مع الشيء ومع الله خص ثلاثة أمثال قديمة بتأمل اتخذه معبرا لمساءلة الأنس مع الله. وهذه الأمثل هي "آنس من النار"، "آنس من الحمى"، "آنس من الطيف". وقد هيأه هذا التأمل لإعادة بناء الاستنتاج الذي انتهى فيه إلى أن الحديث عن الأنس مع غير الإنسان هو تعبير استعاري، حيث اعتبر أن درجة التجربة هي المحدد النهائي لما يستأنس به، إذ يمكن للتجربة أن تبلغ حدا تساوي فيه بين الإنسان والشيء أو بين الإنسان وغير الكائن[13].

مكنت الأمثال الثلاثة الباحث من توسيع مفهوم الأنس فيما مكنه معنى الطيف من ملامسة التباس الحضور بالغياب في الأنس. غير أن مقاربته ظلت وفية لفرضية الانطلاق، وهي فرضية وجهها تصور مبني على الفصل بين التجربتين: الأنس مع الإنسان والأنس مع الله. فالأنس مع الله، في نظر فودة، "يمنح الشيء ذاته الذي نبحث عنه في صحبة الناس. ولكنه يمنحه بوصفه يضع حدا لصحبة الناس"[14].

وقد لامس دريدا هذا الفصل في تعليقه على مقاربة فودة واعتبر أن اجتماع الأخلاء وانقطاع الزاهد لهما الغاية نفسها. وهذا يعني أننا لسنا أمام مشهدين، بل أمام التجربة عينها موجهة بالقانون نفسه واللذة ذاتها. وبناء عليه تساءل دريدا عن إمكان التمييز بين الإنسي والإلاهي في الأنس، أي بين الاجتماع الإنساني والعلاقة مع الله. وقد رجح الجواب عن تساؤله بالسلب ملمحا إلى تعذر هذا التمييز[15]. ومن ثم فتح دريدا وجهة أخرى لمقاربة الأنس كان الخطاب الصوفي خبرها من موقعه الخاص، وجهة أرخت، منذ زمن بعيد، للتعالق الخاص الذي أقامه الصوفي بين الإنسي والإلاهي وهو يرسم أفقا خصبا لإشكالية الآخر أو بتعبير العارفين لإشكالية الهو.

خضع الفصل الذي وجه فودة في ضبط آليات اشتغال الأنس، في التجربة الإنسانية وفي العلاقة مع الله، للتقويض والهدم في التصور الصوفي. ويمكن أن نعتبر الشيخ محيي الدين بن عربي أهم من نهض بذلك في الثقافة العربية القديمة ساعيا إلى استنبات نظرية الوصل، نظرية اشتغلت بشكل سري في تحديد المفاهيم المركزية لديه كالخيال والبرزخ والوجود والله والإنسان وغيرها من المفاهيم التي حكمت في تأويله لقضايا عديدة. وقد خص ابن عربي هذه النظرية بكتاب مستقل كما قيد ذلك في الفهرس الذي جمع فيه عناوين مؤلفاته[16]. وإذا كان المقام لا يسمح بعرض تشعب وتشابك منطلقات هذه النظرية، فإن ذلك لا يمنع من ملامسة تجسدها في العلاقة التي نسجها الصوفية، عموما، وابن عربي، خصوصا، بين الإنسي والإلاهي بما يمكن من رؤية الأنس من موقع آخر يشرك الصوفية في تأمل القضايا الراهنة ويحين افتراضاتهم.

3 ـ من الفصل إلى الوصل: التباس الإنسي بالإلاهي:

3. 1-قلب أول أو البحث عن أنطولوجيا الأنس

اقترن لفظ الأنس في النص القرآني بمعنى الرؤية والإبصار[17]. واللافت في هذه الرؤية أنها ارتبطت بالنار التي سماها العرب المأنوسة، "لأن الإنسان إذا آنسها ليلا أنس بها وسكن إليها وزالت عنه الوحشة وإن كان بالأرض القفر"[18]. كما أن النار في التقليد الجاهلي كانت تسهل الرؤية وتدل التائه على الاجتماع. وعموما فإن معنى الرؤية الذي ينبني عليه مفهوم الأنس يقتضي الآخر ويستدعيه، أي أنه يستلزم موضوعا به تتم الرؤية. فهل الأنس رؤية للآخر أم أنه رؤية للذات بآخر يكون مرآة لها؟ وما هي سمات هذا الآخر الذي به أو فيه ترى الذات نفسها؟ وهل الأنس الحقيقي هو الأنس مع الإنسان؟

إن هذه الأسئلة تدفع إلى قلب الافتراض الذي انطلق منه هاشم فودة. فالبعد الأونطولوجي للأنس يجعل منه تجربة إلاهية مع العالم ومع الإنسان قبل أن يكون تجربة إنسانية. ولعل هذا ما يتكشف من الحديث القدسي الذي جاء فيه "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أرى نفسي فخلقت العالم". وبغض النظر عما قيل عن هذا الحديث، من حيث صحته أو ضعفه، فإن ابن عربي يعول عليه كثيرا في تفسير علاقة الإنسي بالإلاهي، ويجيب، اعتمادا عليه، عن الأسئلة التي طرحناها أعلاه. فالشيء، في تصور ابن عربي، لا يرى نفسه في نفسه وإنما يرى نفسه في غيره بنفسه[19]. وهذا الغير الذي رأى الله نفسه فيه هو العالم أي الإنسان لأن التماهي بينهما محقق لدى العارفين[20]. فالأنس الأول يؤكد، إذن، أن الأنس الحقيقي لا يكون إلا مع الإنسان ولكن ليس بالمعنى الذي انطلق منه فودة، وإنما من اعتبار الإنسان تجليا. والإنسان هو أسمى تجل إلاهي وبه يعرف الله. وهذه المكانة التي حظي بها في العرفان الصوفي يمكن أن تعزى، من بين ما تعزى إليه، إلى ما يلي:

أ ـ الإنسان جامع للعالم، لذلك سماه العارفون بالعالم الأصغر في مقابل العالم الأكبر. وقد خص ابن عربي كتاب التدبيرات الإلاهية في إصلاح المملكة الإنسانية لتتتبع أسرار وحكم ولطائف الإنسان التي وجدها بأعيانها في العالم المحيط الأكبر، فلم يزل يقابل "حرفا بحرف ومعنى بمعنى" حتى ألفاه "كأنه هو"[21].

ب ـ الإنسان مخلوق على صورة الله. فقد راهن ابن عربي، كثيرا، على الحديث النبوي الصحيح و"خلق الله آدم على صورته" في بناء تصورات عديدة، من بينها أن الإنسان يماثل الله. ولا تنبني هذه المثلية، لديه، على التطابق وإنما على الاختلاف. اختلاف يقاربه الشيخ الأكبر، بطريقته الخاصة، من خلال الآية الكريمة "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"[22].

ومن ثم فإن الأنس الحقيقي هو أنس الله بالإنسان وأنس الإنسان بالله، أما المجازي في الأنس فهو أنس الإنسان بالإنسان، أي أنس الصورة بالصورة. فما دافع عنه فودة يبدو مقلوبا لدى الصوفي. والمسألة، هنا، لا تنحصر في موضوع الأنس، بل لها جذور وخلفيات في تصور الصوفية للوجود بوصفه خيالا. وهو ما يفتح إشكالية صلة الحقيقي بالخيالي على أسئلة متشعبة، كان الخطاب الصوفي طرحها دون أن تلتفت الشعرية العربية القديمة للإمكانات التي فتحتها هذه الأسئلة. وصلة الحقيقي بالخيالي، في المنظور الصوفي، لا تعد بقلب بلاغي أو شعري فحسب، وإنما بقلب أنطولوجي كذلك، ليس هذا مقام الاستئناس به.

3. 2-قلب ثان أو الافتراض المنسي:

ظل الخطاب الصوفي محتشما في مقاربة فودة، التي لم تنفتح على أسماء لها سلطة معرفية في تاريخ التصوف. وحتى استدعاؤه بعضها بقي سجين التصدير. كما أن الحدود بين الزهد والتصوف لم تكن واضحة في المقاربة. فقد تماهى الزهد، في سياق الحديث عن الأنس مع الله، بالتصوف على الرغم من الاختلاف القائم بينهما. وهذا التماهي مهدد لا باختزال التصوف في قهر الذات وعزلها عن غيرها فحسب، وإنما بحجب المواطن التي أرسى التصوف من خلالها التذاذا خاصا بالوجود وأخرج بها الدين من دائرة الرسوم إلى أفق تخييلي لم تفد منه التجربة الدينية الحديثة وهي تعيد ترسيخ الرسوم.

رأينا فيما تقدم أن الأنس لا يتحقق، حسب استنتاج فودة، إلا مع آخر يماثلني، ولنا أن نعيد صوغ تعبير فودة اعتمادا على التصور الصوفي فنقول إن الأنس لا يتحقق إلا بآخر أماثله. وهذا الذي أماثله هو الله. والمماثلة هي ما يقصده ابن عربي بمصطلح المناسبة. فحقيقة الأنس "إنما تكون بالمناسب. فمن يقول بالمناسبة يقول بالأنس بالله"[23]. ومفهوم المناسبة المبني على الصورة يدفعنا إلى بناء الافتراض الوسيط أو الافتراض البرزخي في الأنس، أي الأنس مع الله بالإنسان. وهو أنس يبلغه العارف بعد اختبار الخلوة ثم تركها. وفيه تتلاشى الأضداد والثنائيات وتدرك الأشياء في برزخيتها. وفيه، أيضا، يتم التواصل مع الإنسان بوصفه تجليات لله. فالخلوة في الطريق الصوفي ليست غاية لذاتها  وإنما يتوسل بها السالك للخروج من أسر الطبيعة بغية تحقيق البقاء بالله ولكن ليس بمعزل عن خلقه. وقد نص الصوفية على رجوع العارف من خلوته إلى الخلوة وهو ما سموه بعودة الواصل. يقول الشيخ أبو مدين "من علامات صدق المريد في إرادته فراره عن الخلق، ومن علامات صدق فراره عن الخلق وجوده للحق، ومن علامات صدق وجوده للحق رجوعه إلى الخلق"[24]. وهذه العودة تتم بما أسفر عنه سفر الصوفي، مما يخول له التواصل مع الناس ومع العالم بناء على المعاني التي تحصلت له. وهي معاني الالتباس وسقوط الأضداد، فينعقد له الفهم بأن الأنس بالإنسان هو عين الأنس بالله. يقول ابن عربي "فالعالم كله ذو أنس بالله ولكن بعضه لا يشعر أن الأنس الذي هو عليه هو الله، لأنه لا بد أن يجد أنسا بأمر ما بطريق الدوام أو بطريق الانتقال بأنس يجده بأمر آخر وليس لغير الله في الأكوان حكم. فأنسه لم يكن إلا بالله وإن كان لا يعلم، والذي ينظر فيه أنه أنس به فذلك صورة من صور تجليه"[25]. فالأنس بالإنسان هو أنس باسم من أسماء الله أو بتعبير الحديث النبوي الصحيح هو أنس بصورة الله.

وتلاشي الأضداد التي أشرنا إليها تجعل الصوفي على صورة الله. فإذا كان الأنس لدى الصوفية هو "ما تقع به المباسطة من الحق للعبد"[26] فإن ابن عربي قد كشف، في تحديده للبسط، أن تلاشي الأضداد لدى الصوفي يجعله على صورة الله. وهو مقام "لا يكون إلا للعارفين. فهم مقبوضون في حال بسطهم. ولا يصح لعارف قط أن يكون مقبوضا في غير بسط ولا مبسوطا في غير قبض. وما سوى العارف إذا كان في حال قبض لا يكون له حال بسط وإذا كان في حال بسط لا يكون له  حال قبض. فالعارف لا يعرف إلا بجمعه بين الضدين"[27]. والجمع بين الضدين هو حقيقة الذات الإلاهية. فقد قيل لأبي سعيد الخراز بم عرفت الله فقال بجمعه بين الأضداد، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن.

وهذا الالتباس الذي تحصل للصوفي في تجربته الوجودية قد غدا آلية تأويلية مكنته من تقويض الأضداد والتقاط الجمع بينها من عين الموقع الواحد. فالضدية لا تدرك اعتمادا على إبدال زوايا الإدراك وإنما من داخل الزاوية نفسها، حيث يبدو المدرك (بفتح الراء) هو ولا هو في آن. ويتبدى عمق التفكيك الصوفي في مساءلة العلاقات الضدية وتفجير صفاء الهوية وفي سعي الصوفية إلى إبراز هشاشة التصور الثنائي وإن اشتغلوا به إجرائيا لضرورة تواصلية فقط. والتنصيص على آلية التفكيك التي نهضت عليها التجربة الصوفية وشغلها خطابها لا ينطلق من دعوى سبق الصوفية إلى مفهوم التفكيك، كما لا يتغيا الإعلاء من شأن القدماء وإعادة استهلاك وهم السبق للتعالي عن أعطاب الحاضر، وإنما يوجهه هاجس تحيين أسئلة الصوفية في ضوء القضايا الثقافية والوجودية الراهنة، دون إغفال الفروق بين الأطر النظرية التي تسند التأويل القديم والحديث.

3. 3-قلب ثالث أو العين الصوفية:

تبدى مما تقدم أن الأنس يقوم على الرؤية. يؤكد ذلك الحقل الدلالي للفظين: آنس والإنس. وهو ما استند إليه فودة في دعم افتراضه بأن الأنس الحقيقي هو الأنس مع الإنسان، لأن الله لا يرى. غير أن صلاحية هذا الافتراض قد تتراجع إن نحن استحضرنا القلب الذي أحدثه الصوفية في الحواس. قلب نجم عن تصوراتهم للوجود ولعلاقة الله بالإنسان، التي ألمحنا لبعض إشكالاتها. فقد نبه الصوفية على حجب الحواس المقيدة بسعيهم إلى عدم حصرها في الوظائف التي اختزلت فيها بفعل التداول اليومي. وابن عربي يميز في "رسالة لا يعول عليه" بين السماع المقيد والسماع المطلق، معتبرا أن السماع الذي يعول عليه هو ما تم بكل شيء وفي كل شيء ومن كل شيء. وهكذا لا يبقى السماع وقفا على الصوت وإنما يتجاوزه، كما تكف الأذن عن أن تكون العضو الوحيد المكلف بالسماع. والواقع  أن تمزيق حجب السماع مرتبطة بتصور ابن عربي للكلام وللصمت وبقضايا متشعبة[28]. وما يهمنا، هنا، هو أن الخطاب الصوفي كشف، في سياق الحديث عن الحواس، عما تحصل للعارفين من تجربتهم الوجودية التي مكنتهم من التعويل على حواسهم بعد إخراجها من الرتابة التي جعلتها حجابا لا كاشفا. وما أشرنا إليه بشأن السماع قد مس باقي الحواس ومنها الرؤية. وفي هذا السياق يتحدث ابن عربي عن عين ثالثة هي عين القلب، التي يتعين فهمها ضمن الجدل الذي عرفه المشهد الثقافي العربي القديم حول أدوات الإدراك، وتفرد ابن عربي، فيه، بنظرية الوصل. وعلى كل فإن القول بامتناع الرؤية في تجربة الأنس مع الله هو استنتاج ينبني على الرؤية بمعناها المألوف قبل التوسيع الذي أخضعها الصوفية له.

ثم ما حدا بفودة إلى اعتبار الرؤية ملغاة من الأنس مع الله هو حصره الأنس الصوفي في الخلوة واستبعاده لتحقق هذا الأنس في الجلوة، وهي التي عول عليها الشيخ الأكبر في الأنس. يقول "فمن رزق الفهم عن الله استوت عنده الخلوة والجلوة، بل ربما تكون الجلوة أتم في حقه وأعظم فائدة فإنهفي كل لحظة يزيد علوما بالله لم تكن عنده[29]". وقد نص ابن عربي بعد تمجيده للخلوة على تركها واعتبرها حجابا. فأهل الكشف لا تصح لهم خلوة أبدا[30]. وبذلك فإن إدراك الصوفي للناس ولأشياء العالم بوصفها تجليا إلاهيا يجعله في رؤية دائمة لله. فالله "صورة كل شيء في نفس الأمر. فمن علمه وكشفه بهذا النور كان من أهل الاختصاص، فهو يرى الأشياء أعيانا بصورة حقية"[31]. والعلم والرؤية في قول ابن عربي هما من مكونات الحقل الدلالي للفظ الأنس كما جاء في لسان العرب. والحال أن التجلي تجربة مبنية على الرؤية، ولكن بعين خبرت الظاهر والباطن من المرئي وألمت بلعبة الصورة المبنية على التباس الهوية. ولنا أن نتساءل، في هذا السياق، عن حقيقة أنس ابن عربي بالنظام بنت مكين الدين رستم عندما رآها بمكة، أكان أنسا بالنظام أم بالله متجليا فيها[32]؟ سؤال كان الفقهاء طرحوه من داخل رسومهم فكلف ابن عربي كتابة تفسير لديوانه ترجمان الأشواق سماه ذخائر الأعلاق، راهن فيه على تفكيك الرسوم.

إن المسالك التي فتحتها التجربة الصوفية لتأمل التعالق مع الآخر تغري بمصاحبة تعج بالسؤال وتعد بقلب تصورات عديدة، فيما تعد بتوسيع مفهوم الأنس سيما إذا عول الخطاب الواصف في رصده لهذا المفهوم على اشتغال معانيه في مصطلحات أخرى. فالأنس في الخطاب الصوفي لا ينحصر في النصوص التي اعتمدت لفظ الأنس ومشتقاته، بل تسري معانيه في ألفاظ أخرى يتعذر فهم دلالات الأنس مفصولا عنها. فقد سئل إبراهيم المارستاني عن الأنس فقال "هو فرح القلب بالمحبوب"[33]، وعرفه ابن عربي بقوله هو "حال القلب من تجلي الجمال"[34]. وإن نحن فتحنا الأنس على تجربة الحب الصوفي فإننا سننقاد إلى متاهات مكثفة بتلك الأسئلة التي تباغثنا من حيث لا نحتسب.

ولنا أن نعلن أنه ما كان للأنس أن يولد القضايا التي ألمحنا إليها لولا عمق مقاربة هاشم فودة ودفئ الأنس الذي ميز مقاربات الندوة التي استأنست بدريدا حضورا وطيفا. وما كان للأنس أن يظل منحصرا في أسئلة المقاربات بعد أن تحولت مداخلات الندوة إلى كتاب وانفتحت على القارئ بوصفه أنيسا مفترضاn

 



(*)  قراءة في مقال (En compagnie) لهاشم فودة، شارك به في لقاء الرباط مع جاك دريدا. وقد نشرت مداخلات هذا اللقاء في كتاب بعنوان Idiomes, nationalités, déconstructions، الذي تواقت ظهوره بصدور ترجمته العربية، أنجزها عبد الكبير الشرقاوي. ونقل محاورات الكتاب من إطار المحصور الذي تمت فيه، أي الحلقة الدراسية التي أقيمت في شهر أبريل 1996 بحضور دريدا، إلى إطار موسع بنشرها في كتاب هو توسيع للنقاش وإغراء بمتابعة مفهوم التفكيك الدريدي، الذي شغلته مقالات الكتاب بشكل سري.

[1] Rencontre de Rabat avec Jacques Derrida, Idiomes, nationalités, déconstructions, Toubkal, Casablanca, 1998, p16.

[2] Ibid, p15

[3] Ibid, p15

[4] Ibid, p24-25.

[5] Ibid, p38

[6] Ibid, p16

[7] Ibid, p16

[8] Ibid, p16-17

[9] Ibid, p17-18

[10] Ibid, p18-19

[11]- Ibid, p20

[12]- Ibid, p21-22

[13]- Ibid, p27

-[14] Ibid, p31

[15]- Ibid, p225-226.

[16]- محيي الدين بن عربي، التدبيرات الإلاهية في إصلاح المملكة الإنسانية، تحقيق وتقديم حسن عاصي، دار المنال، بيروت، ط1 – 1993، ص23.

[17] ـ قال تعالى:

ـ "فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا…" الآية 29، سورة القصص.

ـ "إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى" الآية 9، سورة طه.

ـ "إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر…" الآية 7، سورة النمل.

[18]- ابن منظور، لسان العرب.

[19]-  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، دار الفكر، الجزء الأول، ص739.

[20]-  يقول الصوفية إن العالم خرج على صورة الحق في جميع أحكامه، المرجع السابق، ج1، ص740.

[21]- التدبيرات الإلاهية في إصلاح المملكة الإنسانية، ص80.

[22]- الفتوحات المكية، ج1، ص220-290.

[23]- المرجع السابق، ج2، ص541.

[24]- المرجع السابق، ج2، ص 22. ومعنى الواصل في عبارة الصوفية يفيد بلوغ الشيء ورتق ما يبدو منفصلا في آن.

[25]- المرجع السابق، ج2، ص541.

[26] المرجع السابق، ج2، ص540.

[27]- المرجع السابق، ج2، ص512.

[28]- انظر تصور ابن عربي للكلام الوجودي في الفتوحات المكية، ج1، ص463 وج2، ص77 –78.

[29]- الفتوحات المكية، ج2، ص448.

[30] -المرجع السابق، ج2، ص151.

[31]- المرجع السابق، ج2، ص487.

[32]- وقد اعتمد ابن عربي في توصيف لقائه بالنظام على لفظ الأنس كما شغل معانيه. ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، تحقيق ودراسة نقدية محمد علم الدين الشقيري، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، مصر، ط1، 1995، ص174 و175.

[33]- محمد بن إسحاق الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوف، ضبط وتعليق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993، ص125.

[34]-  الفتوحات المكية، ج2، ص540.