ص1       الفهرس      31-40 

حول بعض آليات تحليل الخطاب

 

عبد اللطيف محفوظ

يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة نقدية لأهم الآليات التي شغلها أحد أبرز منظري تحليل الخطاب، ويتعلق الأمر بمانكونو. وستحاول هذه القراءة أن تلفت الانتباه من جهة إلى الإحراجات التي تجابه كل المقاربات التي حاولت أن تحدد أشكال بناء انسجام النص التخييلي، ومن جهة ثانية إلى نسبية هذه الآليات التي كثيرا ما اعتمدت من قبل بعض الباحثين بنوع من الثقة في علميتها ونجاعتها..

بما أن مانكونو قد انطلق في تحديده للنص ولشكل انسجام خطابه من خلفية ذريعية، فقد وجب استحضارها من أجل التوضيح اللازم للخلفية النظرية الأصلية لبعض الآليات الأساسية التي شكلت محطات هامة في كتابه تحليل الخطاب[1]، ولكي تتحقق الملاءمة بين تحديدها في ذاتها وبين تحديد خلفيتها النظرية، سيتم العمل على توزيع قراءة هذا الكتاب إلى ثلاثة عناصر، تنجز بناء على تراتبية تمضي من العام إلى الخاص: وهي البعد الذريعي، فالتلاحم النصي، فالتطور الموضوعاتي:

1 – البعد الذريعي:

يلاحظ مانكونو في البداية، أن هناك اختلافا حول موضوع الذريعية، ففي الوقت الذي يوجد من يجعلها مكونا من بين أخريات (مثل التركيب والدلالة)، هناك من يعتبرها شاملة، وذلك بناء على تصور كونها محايثة لكل الفضاء اللغوي. ويؤدي هذا التصور إلى القول إن الإرغام الذريعي يتحكم بكل الظواهر اللغوية. ويترتب عن ذلك، اعتبارها ظاهرة تلازم كل تفكير في المعنى، بل تلازم كل عمل إنساني. وذلك ما يجعل منها نظرية عامة للعمل الإنساني نفسه..

ويرى مانكونو أن نظرية الأفعال اللغوية، التي تعود إلى أوستين –الذي انتبه إلى أن معنى ملفوظ ما، لا يكون إلا حالة عالم يعرضها الملفوظ باستقلال عن تلفظه- هي التي وضعت القطيعة ودفعت بالذريعية إلى الأمام. فقد أشار أوستين إلى أن لكل ملفوظ بعدا أسماه الفعل الإنجازي، لكن إذا صدق القول إن معنى كل ملفوظ إلا ويحتوي على بعد إنجازي، فإن هذا الأخير لا يكون إلا مستنتجا، لأنه لا يعرض نفسه بنفس الطريقة التي يعرض بها المحتوى القضوي الذي يهيكله. فإذا استعملنا الأمر لإعطاء أمر ما مثلا، فإننا لا نقول في ملفوظنا، إنه أمر، ولكننا نبني ذلك أثناء التلفظ به(*).

إن الملفوظات، في الإدراك الساذج للغة، شفافة بشكل ما، لأنها تبدو وفق ذلك الإدراك كما لو كانت تنمحي أمام حالة الأشياء التي تمثلها. أما في الإدراك الذريعي، فلا تصل الملفوظات إلى تمثيل حالة أشياء مخالفة لها، إلا إذا بينت أيضا تلفظها الخاص: فقول شيء ما يبدو غير منفصل عن الحركة التي تستوجب تبيان أننا نقوله.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن شروط النجاح يجب أن ترتبط تبعا له بجملة من الشروط والقواعد، من بين أهمها تلك التي أشار عليها سورل، وخاصة مبدأ التعاون، الذي يقتضي بشكل أو بآخر كون المتلفظ مجبرا على افتراض أن المتلفظ المصاحب، يقاسمه مجموعة من الاقتضاءات(+)[2] وأن هذا الأخير بدوره، عليه أن يفترض، بناء على الوقائع المحيطة وعلى شكل بناء التلفظ نفسه، أن المتلفظ يقول شيئا ويعني شيئا آخر. ومعنى هذا، أن الوقائع وشكل بناء التلفظ يشكلان معنى الأفعال اللغوية، وأن هذه الأخيرة تشكل في ذاتها –مثلها مثل أجناس الخطاب- مؤسسة شاسعة تؤمن مقبولية ومعنى كل فعل لغوي من الأفعال اللغوية التي تنسج تجربة الخطاب.

وإذا كانت الآليات المصاحبة للتلفظ متعددة، فإن من بين أهمها السمات الدالة على الشخص، والتي تعكس حقيقة تلفظه في كل تجربة تواصلية. وقد حظيت هذه السمات بعناية خاصة من قبله، فقد أطرها ضمن مصطلح الأمكنة أو المكانة التي تعني مناطق التعاون، التي تشهد سريان فعالية الإنسان المتميزة، وبصفة خاصة الفعالية الحوارية، التي خلالها تبرز سنن المتحاورين، وعلاقاتهم التراتبية (سواء كانت سلطوية أو إدارية أو معرفية أو طبقية..).

ويعبر هذا الاهتمام بطرفي التواصل (الباعث والمتلقي) –من خلال إبراز تصورهما عن نفسيهما وعن بعضهما البعض- عن ذريعية حصرية، تتبأر حول طرفي التواصل من خلال الملفوظ نفسه؛ وذلك نظرا لارتباط مصطلح الأمكنة أو المكانة بخلفية متميزة لنظرية الخطاب. تلك الخلفية التي حددها (باري) بقوله "إن نظرية الخطاب، ليست نظرية للذات قبل أن تتلفظ، ولكنها نظرية درجة التلفظ التي هي في نفس الوقت مفعول التلفظ"[3]. وهي تقريبا نفس الخلفية التي عبر عنها فوكو حين قال إن: "وصف شكلنة ما بوصفها ملفوظا، لا يستوجب تحليل العلاقات بين الكاتب وما قاله (أو ما أراد قوله، أو ما قاله دون أن يريد قوله) ولكنه يستوجب تحديد ما هي الوضعية التي يمكن أن يشغلها كل فرد لكي يكون هو الذات"[4]. وتفترض فكرة المكانة وجود سيرورة تواصلية بين ذاتين (أ) و(ب) وحيث كل ذات ستسند لنفسها وللأخرى الصورة التي تكونها عن مكانتها وعن مكانة الأخرى.

ويرى مانكونو أن "المكانة التي تسند الخطاب، هي مجموعة من السمات الاجتماعية.. لكنها حولت إلى متتالية من التشكيلات التخييلية المعينة للمكانة، حيث (أ) و(ب) (مرسل ومرسل إليه)، يسند كل واحد منهما لنفسه وللآخر الصورة التي يكونها عن مكانته الخاصة ومكانة الآخر"[5].

ويلاحظ (مانكونو)، أن التشكيل التخييلي، يرتبط بداهة بالسمات الاجتماعية، حيث يمكن لكل "تشكيل تخييلي" محدد، أن يترابط مع سؤال ضمني (= المدار) يكشف عن التشكيل المعالق له، ويوضح ذلك انطلاقا مما قدمه (بيشو M.Pecheux)[6]:

 

ص أ (أ)

 

ص أ (ب)

ـ صورة مكانة أ بالنسبة للذات المتموضعة في مكان أ

ـ صورة مكانة ب بالنسبة للذات المتموضعة في مكان أ

= من أكون حتى أكلمه هكذا؟

 

= من يكون حتى أكلمه هكذا؟

ص ب (ب)

 

ص ب (أ)

ـ صورة مكانة ب بالنسبة للذات المتموضعة في مكان ب

ـ صورة مكانة أ بالنسبة للذات المتموضعة في مكان ب

= من أكون حتى يكلمني هكذا؟

= من يكون حتى يكلمني هكذا؟

 

ولا تكتمل خطاطة المكانة النظرية، كما لاحظ مانكونو، إلا بتركيب عناصرها جدليا. وهو التركيب الذي يسفر عن أربع صور أيضا:

ص أ (ص ب (أ)) أي الصورة التي يعتقد أ أن ب يمتلكها عنه (أ)

ص أ (ص ب (ب)) أي الصورة التي يعتقد أ أن ب يمتلكها عن نفسه (ب)

ص ب (ص أ (ب)) أي الصورة التي يعتقد ب أن أ يمتلكها عنه (ب)

ص ب (ص أ (أ)) أي الصورة التي يعتقد أن أ يمتلكها عن نفسه (أ)

إن تملي التحديدات النظرية السابقة يوحي بإمكانية التساؤل حول المستوى الذي تعالج فيه المكانة. خاصة وأن التحديدات التي تجعلها نظرية للذات بعد التلفظ، لتربطها من ثمة بلحظة التلفظ، لا تنسجم إطلاقا مع الخطابات الأدبية التي تعتبر نظريات الخطاب وسائل لدراستها! ذلك أنها إذا كانت تبدو عملية وإنتاجية في الحوارات المباشرة التي تنجز في التجارب الفعلية التي تسمح للمتحاورين أن يجرب كلا منهما الآخر بشكل مباشر، فإنها تفقد معناها الحقيقي حين يتصل الأمر بالنصوص التخييلية، لأن المؤلف، معروفا كان أو مجهولا، لا ينتج حوارا جادا مع متلق متعين.. ولذلك فإنها لا تبدو معقولة في النص الأدبي إلا حين تكون محايثة للحوارات التي ليست سوى أشكال إظهارية، وذلك سواء تعلق الأمر بالنصوص السردية المستندة على صيغة السرد الخالص (الرواية والقصة القصيرة والحكاية الشعبية..) أو على صيغة العرض (المسرح والسينما) ومعنى ذلك أنها تكون متصورة من قبل المنتج (الكاتب) بوصفها قيمة دلالية محايثة للإنتاج وليس بوصفها قيمة اجتماعية فعلية، لأن التواصل الداخلي هو تواصل بين "كائنات ورقية". وبديهي أن هذه الكائنات الورقية وكل ما يتصل بها من أقوال وأفعال وأوصاف ليست سوى حوامل دلالية. وإذن فهي خاضعة للمنتج ومؤسسة قبل الإنتاج ذاته. ويترتب عن هذه الحقيقة كون المستوى الذي حددت وفقه لا ينسجم مع مستوى تفعيلها في النصوص التخييلية.. وهكذا يمكن القول إنها آلية تنوجد في ذهن المنتج قبل تحققها إظهاريا. الشيء الذي يؤكد أنها لكي تتحقق تستوجب جهدا استنتاجيا؛ ذلك أن المنتج وهو يحضر في ذهنه الحوارات والحوارات الداخلية التي سيسندها للذوات الفاعلة، يتصور المكانة، التي هي قاعدة ما فوق تسنينية مؤلفة من القيود الموسوعية والثقافية. ثم بناء على ما يحينه منها ذهنيا، يقوم بإظهاره في شكل أدلة لغوية مؤشرة عليها.

تكشف الملاحظات السابقة إذن أن المكانة لا تنسجم، في العمق، مع الإظهار المادي بقدر ما تنسجم مع مراحل الإنتاج المحايثة، ذلك أن ظهور مؤشراتها في مستوى الإظهار، ليس إلا استنتاجا لها من شكل الإنتاج الذي ينعكس إظهاريا في شكل دليل ضمني يتحول مباشرة إلى مؤشر على المكانة التي جعل المنتج الشخصية(أ) تصدر عنها في إنتاجها لمملفوظها. ولا يحضر ذلك الدليل الضمني في ذهن (ب) إلا عن طريق استنتاجه من الإظهار، وهذا الدليل المستنتج من قبل الشخصية (ب)، هو الذي يفجر رد فعلها الذي يتجسد إظهاريا في ردها على (أ)، وهكذا.. ولذلك فهو دليل ضمني إنتاجي متحكم في شكل الإظهار، ومساهم بفاعلية في منحه الانسجام. فالصورة الأولى مثلا (من أكون حتى أكلمه هكذا؟) لا تحضر في ذهن (أ) أو (ب)، إلا بوصفها دليلا ضمنيا أو دليلا مجردا (سابقا أو لاحقا على الإظهار)، فمعناها لا يعطى أبدا في الإظهار، (تماما كما هو حال الأفعال اللغوية..).

ولما كانت المكانة آلية دينامية منتجة، فإنها تساهم بفعالية في إنتاج المؤشرات المجسدة بدقة لسياقات المدارات الناتجة عن النواة الدلالية المجردة للنص، ولذلك فهي دائما ذات أهمية في توجيه المعنى والدلالة، نظرا لتأشيرها القوي على بنيات المجتمع الذهنية، وعلى ما يمكن تسميته بالتراتبية المؤسساتية للتخاطب الاجتماعي..

إن هذا التعارض الذي يسم مستويي تحديد وتوظيف المكانة، ناتج عن طبيعة الذريعية التي أخذت عنده بعدا حصريا لا يراعي إلا خصوصيات التلفظ ومصاحبات الملفوظ التي يؤشر عليها الملفوظ نفسه. ولذلك فإن المعنى لا يمكن أن يدرك إلا بفضل وجود التعاون الذي يترجم فعالية متلق نموذجي، والذي يأخذ بعين الاعتبار، في مستوى الملفوظ، خصوصيات التلفظ والملفوظ؛ ويأخذ، في مستوى النص، إلى جانب ذلك قيود الجنس والخطاب. ومعنى ذلك في نهاية التحليل، أن الأوضاع الخارجية تفترض انطلاقا من حضور مؤشرات محايثة للملفوظ. ولا أدل على ذلك من استشهاده بباختين الذي يرى: "أن الوضعية الخارج لفظية، ليست على أي حال، هي السبب الوحيد الخارجي للملفوظ، إنها لا تفعل من الخارج بوصفها قوة ميكانيكية" ولكنها تدخل في تكوين الملفوظ بوصفها "مكونا ضروريا لبنيته الدلالية"[7].

من الواضح أن اكتشاف الأوضاع الخارجية، وفق ذلك الشكل، لا يتناسب إلا مع وضعية تواصلية، يفترض فيها توفر التعاون بين ذاتين ينجزان التجربة مباشرة؛ لأنه حين يتعلق الأمر بالتواصل غير المباشر، والذي يتم من خلال الرسائل أو النصوص(..)، فإن الإيطوسات والنبر وحركات اليد وقسمات الوجه(..) تختفي كلها. الشيء الذي يجعل شكل الأدلة اللغوية الممثلة للملفوظ، هو الذي يصبح موضوعا لتلك المؤشرات. ويترتب عن ذلك إجحاف في حق النصوص التي لا تنتمي إلى سياق المتلقي التاريخي أو الثقافي(+) لأن سيرورة التعاون النموذجية لإدراك الأدلة كما تقترحها هذه الخلفية الذريعية، لا تنسجم إلا مع الكفاءة اللغوية والكفائة التعرفية (النموذجية) المحاقبة لفعلي الإنتاج والتلقي..

2 ـ تلاحم النص:

انطلق مانكونو، في تحديده لتلاحم النص من القول بوجود اتجاهين، قدما تصورين مختلفين عن الآخر. فقد حاول الأول –بتأثير من الخلفية الفكرية لشومسكي- تكوين "نحو للنص"، نحو ينبني أساسا على مفهوم الكفاءة. ومن ثمة، تم افتراض وجود كفاءة نصية تتيح تحديد ما إذا كانت متتالية الجمل تشكل نصا أو لا تشكله. وقد نتج عن هذا الاتجاه بناء نموذج من القواعد التي [تدخلن ] الذات لكي تقرر نحوية النصوص. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه فان ديك، الذي أدرك النص بوصفه بناء نظريا "تحتيا" مجردا لما يدعى عادة خطابا[8]. أما بالنسبة للنص السردي خاصة، فيمكن استنتاج أن هذا الاتجاه قد حدد مفهومه عنه انطلاقا من إدراك مادته الأساسية (السردية) بوصفها إحدى الملكات المعرفية.

وإذا كانت هذه الأبحاث قد هدفت إلى خلق قواعد مرتبطة بملكات بشرية، تمكن من وصف النحوية. فإنه قد بدأت شيئا فشيئا، تتضح صعوبة وضع الفوارق بين النصوص النحوية واللانحوية، ومن ذلك أن بعض النصوص التي أدركت كما لو لم تكن منسجمة أصبحت تبدو منسجمة. وقد أدى ذلك إلى جعل البحث عوض أن ينشغل بقواعد الكفاية النصية، اتجه إلى الانشغال بآليات الذكاء الاصطناعي، وبالإجراءات التي تعود إليها الذوات، لكي تجعل متتالية من الجمل متلاحمة. الشيء الذي أسفر عن عدم التماثل بين إنتاج وتأويل النصوص.

أما الاتجاه الثاني، فأكثر ارتباطا باللسانيات، لأنه يهتم بدراسة الترابطات عبر الجملية (الروابط والإحالات الضمائرية وظواهر التطور الموضوعاتي وتسلسل السمات الزمنية..). وبما أنه لا يوجد بعد لساني محض للتلاحم النصي، فلا بد من إعطاء مكان هام للبنيات الأكثر شمولية، التي يفترض أنها متحكمة في التلاحم اللغوي نفسه، لأن تأسيس التلاحم يقتضي تحريك كمية من المعارف حول العالم.

وهكذا يخلص مانكونو، إلى أننا نكون أمام عدد متنوع من المقاربات. ففي الوقت الذي فضل فيه البعض الانطلاق من معارف خارج خطابية مع تحديد إجراءات إعادة البناء التي تشغلها الذوات، فضل البعض الآخر الانطلاق من الإرغامات اللسانية للبنينة. وإذا كان الاتجاه الأول أدى إلى جعل النص يرتمي في سياق مفتوح، فإن الاتجاه الثاني، جعله يبدو كما لو كان منطويا على عملياته الخاصة.

والواقع أنهما معا، يتجاهلان حقيقة كون التلاحم ليس كامنا في النص أو في العالم الشارط لإنتاجه؛ بل كامن في فعالية تصهرهما، وهي فعالية شارح يستند على المعارف اللغوية، الداخل خطابية والموسوعية.

وبما أن مكونات هذه الفعالية متشعبة، وسانحة لوجود العديد من الإمكانات، فقد اكتفى ببعضها وهي: البنية الكبرى والبنية الصغرى ثم الإرغامات الشاملة والمحلية(§).

3 ـ التطور الموضوعاتي:

يدفع تأمل تحديده للتطور الموضوعاتي، إلى إبداء ثلاث ملاحظات أساسية. تتمثل الأولى في كونه يقدم انطلاقا من إظهار متمثل، وليس مجسدا. أما الملاحظة الثانية الناتجة عن الأولى، فتتصل بكونه لا ينسجم إلا مع خطابات منظمة وفق قيود محددة[**][9]. وذلك واضح من خلال تشعب أي موضوعة بناء على تصور حضورها في ذهن منتج متصف بخاصية "التحليل الممارسي". وينتج عن الملاحظتين السابقتين أن تحديده لا ينسجم بشكل دقيق لا مع وجهة النظر الإنتاجية ولا مع وجهة النظر التلقياتية، وذلك لأنه انطلق من فرضية تلقياتية مجسدة في خطاطة ما وراء-نصية ومجردة ولا تبرح مستوى الإظهار.

ينطلق مانكونو في تحديده للتطور الموضوعاتي، من الثنائية الشكلانية (موضوعة/خبر[+]) والتي أعطاها بعدا ديناميا بفضل استحضار علاقتها بما تسميه نصيا، وبذلك أصبح تناوبها ممكنا، أي أصبح من الممكن أن تتحول الموضوعة إلى خبر، ثم أن يتحول الخبر إلى موضوعة، وهكذا.. وبفضل هذا التناوب أصبح بإمكان تلك الثنائية وصف شكل إمكانات التطور والتشعب النصي.

وقد استعار شكل تفعيلها من فيبراس ودان، وخاصة من شكل مفصلة دان لإبدالات تناوباتها الثلاثة التي تشكل النماذج الكبرى للتطور الموضوعاتي وهي:

1 ـ التطور التناوبي: وهو تطور ينبني على التحول المستمر للخبر إلى موضوعة جديدة، تتطلب بدورها خبرا جديدا. وهذا الخبر الجديد يتحول بدوره إلى موضوعة جديدة، وهكذا دواليك..

2 ـ تطور الموضوعة الثابتة: يرتبط هذا الشكل من التنامي التطوري، بديمومة وجود نفس الموضوعة التي تسند لها العديد من المحمولات..

3 ـ تطور الموضوعة الانتشارية: ويرتبط هذا الشكل بما فوق الموضوعة، التي لكي تعالج تتطلب أن تنشطر إلى موضوعات مختلفة مشتقة من أبعادها،وذلك انطلاقا من علاقات الاستلزام المرجعي. فمحاولة وصف ما فوق الموضوعة (المغرب) مثلا، يمكن أن تهيمن عليها بعض الموضوعات من مثل (الاقتصاد أو الثقافة أو الدفاع..).

إن تملي هذا البعد يفيد أيضا أن هذه الأشكال غير قادرة على وصف العديد من أشكال تلاحم الخطاب ونموه وتناسله في النصوص التخييلية، ومن بينها الترابطات التي تتم عن طريق العلاقات المادية للأدلة مثل انتقال تفكير شخصية روائية من رؤية ثوب أحمر، مثلا، إلى حادثة مرتبطة بالطفولة ترتبط بشيء آخر لونه أحمر، حيث يكون المرور هنا من لحظة إلى أخرى بعيدة عن طريق دليل نوعي (الحمرة هنا).. وهكذا فإن كل التداعيات الذهنية التي يقودها منطق اللاشعور تبدو مستعصية على الضبط من خلال آليات تحليل الخطاب.. الشيء الذي يؤكد أن بناء النموذج خاضع لتصور نوع مخصوص من النصوص وحسب.

وإذا كان مانكونو يخلص إلى أن تلاحم النص وانسجامه ماثل في التناوب المتوازن بين التطور والتكرار –علما أن التكرار قد يكون ناتجا عن توارد عناصر ذات إحالية أو انطلاقا من استنتاجات مستخلصة من قضايا معطاة من قبل السياق السابق- فإن الآليات المقدمة من قبله غير كافية سواء لوصف مختلف أشكال التطور والتكرار. ثم إذا كان يربط هذه السيرورة الإظهارية بالسيرورة التأويلية للشارح، عن طريق جعلها تخضع تطوريا لتعالق المعرفة اللغوية بالمعرفة بالعالم، فإنه لم يحدد بدقة لا كيف تستوعب الواحدة الأخرى، ولا كيف تنجز الواحدة داخل ومن خلال الأخرى.. وبالتالي فإنه على الرغم من كونه قد استنتج –تحت إرغام مسلمة كون المعرفة بالعالم تظل دائما نسبية، لأنها دائما نتاج معرفة مكتسبة- أن السيرورة التأويلية للشارح ليست موضوعية وخارجية بشكل مطلق، ولكنها في واقع الأمر ذاتية، فنبه نتيجة ذلك إلى أن الاعتماد على المعرفة بالعالم، والتي غالبا ما تفرض إدماج مقدمات إضافية، قد يجعل تأويل بعض النصوص غير مقبول من قبل متلقين آخرين، وخاصة من تكون معرفتهم بالعالم مخالفة لمعرفة المنتج به، فإنه لم يوضح بشكل كاف آليات ذلك الاختلاف (الثقافية والزمنية) التي من شأنها أن تجعل فئات من المتلقين الذين ابتعدوا عن زمن الإنتاج وثقافة عصر ومجتمع المنتج، قد يذهبون إلى حد اعتبار ما كان نصا منسجما نصا غير منسجم..n

 

 



[1] - D.Maingueneau, Analyse du discours, édition Hachette, Paris, 1991.

(*) من الواضح أن الأفعال اللغوية ليست إلا أشكالا نوعية من المؤشرات على الموضوع الدينامي بالمعنى الذي يحدده به بورس، ذلك أن النبر المصاحب لتلفظ أمر ما، مثلا، لكي يبدو أمرا وليس طلبا أو التماسا، يصبح هو نفسه موضوعا ديناميا، ويتمثل هذا الأخير عادة في العلاقة التراتبية التي تسمح للمتلفظ أن يأمر مخاطبه بشكل غير مباشر. غير أن هذه المؤشرات التي تصاحب المادة الصوتية المجسدة لإظهار الدليل أثناء الحوارات المباشرة، لا تتحقق وفق نفس الشكل إذا كان الدليل مكتوبا، فهو يحتاج إلى تعويض ذلك بالوصف المواكب للملفوظ، أو بأدلة ترقينية مثل الإكثار من نقط الحذف وترك فراغات بين حروف الكلمة الواحدة.. ولهذا فإن تحيين نظرية الأفعال اللغوية في إنتاج وتلقي النص، تقتضي تمثلا مضاعفا.

(+) أما مصطلح المتلفظ المصاحب فترجمة لـ(Co-énonciateur) وأما بالنسبة للاقتضاءات، فمن المفيد العودة من أجل التدقيق، إلى فصل خاص بها ضمن كتاب إيكو عن حدود التأويل(2).

[2]-U.Eco, Les limites de linterprétation, traduit de litalien par M.Bouzaher, Grasset, Paris, 1992, Chapitre (IV.4).

[3] D.Maingueneau, Analyse du discours, op.cit., p15.

[4] – Ibid.

[5]   Ibid, 175-176.

[6]   Ibid.

[7]   Ibid, p165.

(+) لقد انتبه هو نفسه إلى هذا الإحراج، حين أخذ في تحليل النص انطلاقا من تضافر المعرفة اللغوية والمعرفة بالعالم.

[8] – محمد الخطابي، لسانيات النص، المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، 1991، ص29.

(§) تترادف البنية الكبرى عند ديك، مثلما تتماثل تقريبا مع المحفزات عند الشكلانيين الروس، أو القضايا الأولية التي تتجمع داخل وحدات أكثر  اتساعا لتشكل في النهاية قضية كبرى. ومثال القضايا السردية الكبرى هي الخطاطة الممثلة لكفاءة الذات القادرة علىتلخيص النصوص السردية كما قدمها Labov مثلا، وهي التوجيه -< التعقيد -< العمل -< الحل -< الوضعية الختامية. أما الإرغامات الشاملة فهي البنيات المعرفية المتصلة بالموسوعة، والتي تحضر بفضل مؤشرات تعطي من قبل البنيات اللغوية. وذلك مناظر لمفعول المقومات التابعة واللازمة عند راستيي، أو القاموس والموسوعة عند إيكو.

[**] انظر المقصود بالخطاب هنا عند راستيي(9).

[9] F.Rastier, Sens et textualité, p39.

[+] إن المقصود بهذه الثنائية الشكلانية هو ثنائية: Thème/Rhème ويمكن أن تترجم وفق المصطلحات المنطقية: موضوع/محمول.