ص1     الفهرس    31-40

 

مبادئ العقل وقيمه

(أو دلالات التجاوز النقدي للسنتين العبرانية واليونانية)

 

أبو يعرب المرزوقي

تمهيـد:

كيف نفهم الدور الذي أداه فكر المسلمين ببعديه الكلامي والفلسفي في تحقيق الشروط التي جعلت تجاوز الفكر القديم ببعديه الديني (بحسب التقليد العبراني) والفلسفي (بحسب التقليد اليوناني) أمرا ممكنا؟ يقتضي طلب الجواب أمرين: الأمر الأول هو صياغة الإشكالية الفلسفية والإشكالية الدينية الأساسيتين اللتين كانتا مناط الخلاف بين السنتين المتقدمتين وهذا الفكر. والأمر الثاني هو اختيار منهجية البحث والاستدلال التي تمكن من فهم الصلة بين دور الفكر النقدي وما طرأ على الإشكاليتين من تغير بمقتضى ما حصل فيهما في الحقب اللاحقة.

الأمر الأول: الإشكاليتان الأساسيتان

يقبل هذا المطلب الصياغة الفلسفية في المسألة التالية: إذا كان جوهر إشكاليات الفلسفة القديمة، أعني بعدي ميتافيزيقاها الوجودي والمعرفي، راجعا إلى مبادئ العقل، فهل يمكن الاقتصار على مبادئه الثلاثة المعهودة (الهوية المطبوعة للوجود وعدم التناقض والثالث المرفوع للمعرفة) لفهم ما طرأ في تاريخ النظريات الفلسفية الوسيطة والحديثة ثم في ما نراه يحصل في الفلسفة المعاصرة دون ربط هذه المبادئ بما يماثلها في جوهر إشكاليات الشرع عامة منزلا كان أو وضعيا (الخلقة أو الهوية الموضوعة والترجيح والتحقيق) وما طرأ في نظرية القيم وتاريخ المعتقدات الدينية الوسيطة ثم الحديثة والمعاصرة؟

الأمر الثاني: منهجية البحث والاستدلال:

نسلم سلبا بامتناع ذلك، ونبرهن عليه بصورة غير مباشرة من خلال إثبات الفرض الإيجابي الذي نعتمد عليه. فالتفاعل أو التلاحم الحي بين الفكرين الديني والفلسفي منذ امتزاجهما في المرحلة الهلنستية وكما بدا واضحا في المدرستين العربية واللاتينية يمكن أن يكون السبيل المثلى لفهم هذه الإشكالية فهما يطابق التاريخ الفعلي لاكتشاف مبادئ العقل وقيمه في صلتهما بمبادئ الشرع وقيمه. لذلك فسنطرد هذه الفرضية على ما تأخر عن المدرستين، لكون هذه الخاصية تأكدت في الفلسفة الحديثة (عند ديكارت ولايبنتس خاصة) والمعاصرة (منذ المثالية الألمانية إلى الآن). وسنرى أن هذا الطرد يساعد كثيرا على فهم تاريخ الفكر الفلسفي وخاصة الثابت من إشكالاته في حقبه الأربع (القديمة بمرحلتيها "اليونانية والهلنستية" والوسيطة بمرحلتيها "العربية واللاتينية" والحديثة بمرحلتيها "العصر الكلاسيكي وعصر الأنوار" والمعاصرة بمرحلتيها "من كنط إلى نيتشه ثم من نيتشه إلى الآن")، إذ هو يخلصنا من المقابلة الظاهرية بين الفكر الفلسفي والفكر الديني من حيث الجوهر، رغم عدم نفي تمايزهما بل وتنافيهما في تعينهما الوجودي.

تعليل الخيار المنهجي تاريخيا ومفهوميا:

فلا يمكن أن نفصل بين تاريخ هذين الفكرين فصلا ينافي دلالات وقائعهما العميقة، خاصة وقد أصبحت هذه المقابلة أمرا لا يصدقه أحد ممن يعلم أسس الفكر الحديث والمعاصر في الفلسفة وفي تاريخ الفكر الديني سواء اقتصرنا على الأديان الطبيعية أو ضممنا إليها الأديان المنزلة منذ سيطرة المثالية الألمانية


[1]. فسعي الفكر الفلسفي إلى التعالي على الممارسات النظرية والعملية والجمالية في مستواها الأول (ومعها التقويم الجهوي والشهودي) بحثا وراءها في وحدة مبادئها الأخيرة يحول دونه والطابع الفلسفي الخالص المنافي لما يمكن أن نعتبره ذا مصدر ديني، لكونه لا يمكن أن يبقى منتسبا إلى الفكر العلمي الذريعي مهما أضفى أصحابه على إطلاقه الميتافيزيقي من شكل القول العلمي الخارجي. إنه ينقلب في الحقيقة إلى فكر ديني طبيعي متردد بين الجحود والشهود: وذلك هو جوهر الميتافيزيقا بمعنييها الأفلاطوني والأرسطي ومنذ محاولاتهما إلى الآن[2].

نحاول، انطلاقا من هذه الفرضية التي أثبتنا بعض أسسها في غير هذا الموضع[3] والتي تؤكدها هنا النتائج التي سنصل إليها، فهم إشكالات الفكر الفلسفي الأساسية التي ترجعها إلى مسألة الفلسفة الجامعة أعني مسألة مبادئ العقل النظري وقيمه من خلال صلتها بإشكالات الفكر الديني الجوهرية وإشكالاته التي نرجعها إلى مسألة الشرع الجامعة أعني مسألة مبادئ العقل العملي وقيمه اعتمادا على تجربة علم الكلام العربية مع الفلسفة اليونانية عامة والأرسطية خاصة وما بقي من هذه التجربة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة بتوسط المدرسية اللاتينية وبقاياها في فكر النهضة وفكر العصر الكلاسيكي. وقصدنا من هذه المحاولة تحديد دور الانقلاب الروحي الذي أحدثه الفكر العربي ببعديه الكلامي والفلسفي أو ما سنصطلح على تسمية وحدته التي اكتملت عند ابن سينا والغزالي بفلسفة الحنيفية المحدثة[4] بوصفها تجاوزا فريدا للتقابل بين كلام أسمى الأديان الطبيعية (الميتافيزيقا اليونانية في الأفلاطونية المحدثة) وأسمى كلام الأديان المنزلة (الكلام المسيحي الشرقي في التوراتية المحدثة: العهد الجديد)، إذ اكتملا فتخلصا مما وصفه منها هذا الكلام بالتحريف الجحودي.

تعليل خطة البحث المتبعة:

لما كانت أم المسائل الفلسفية هي مسألة مبادئ العقل والنظر (عدم التناقض والثالث المرفوع والهوية بما هي طبيعة) وأم المسائل الدينية هي مسألة مبادئ الشرع والعمل (الترجيح والتحقيق والهوية بما هي شريعة) وكانت كلتا المسألتين الأم تلتقيان في بؤرة خلافهما الظاهري أعني في نظرية القيم، فإن إثبات التفاعل الحي بين الفكرين الفلسفي والديني والتمازج الفاعل بين التاريخين الفلسفي والكلامي، التفاعل والتمازج اللذين نتسلمهما فرضا في بداية المحاولة سيكونان ثمرتها في الغاية، إذ هما يؤديان إلى فهم المسألتين في ضوء ما حققه فكر الحنيفية المحدثة من تجاوز لإطلاق المقابلة بين أساس مبادئ العقل والنظر، أعني نظرية الطبائع والتحليل، أساسها المستند إلى سببية الضرورة الطبيعية فيها (الفلسفة بما هي دين طبيعي جاحد) وأساس مبادئ الشرع والعمل، أعني نظرية الشرائع والتأويل، أساسها المستند إلى سببية الحرية الخلقية[5] فيها (الدين بما هو دين منزل جاحد)؟

والمعلوم أن مضمون فكر الحنيفية المحدثة الإيجابي يكاد يقتصر دورانه على علاج الإشكاليات التي يطرحها هذا الموقفان الإطلاقيان، موقف الطبائع الضرورية النافية للشرائع وموقف الشرائع الاختيارية النافية للطبائع، في سعيه إلى إدراك الوحدة الجوهرية المتعالية على المقابلات الجحودية بمحاولة التخلص من الرد الاختزالي بين الطبيعي والشريعي. بل إن مدارسه تقبل التصنيف بحسب الانتساب إلى هذا الموقف أو ذاك وبحسب نفي هذا الموقف أو ذاك. لذلك فهذا الفكر قد تميز بصفتين تمثلان علامتين على مطابقة شكل الفكر الديني كما فهمه من الرسالة المحمدية لمضمونها في صياغة خصائصها الجوهرية عند مدارس هذا الكلام والفلسفة بعد استكمال تأصيلها. وهما صفتان لا يمكن أن ينكرهما أحد لكونهما أتتا صريحتين في أهم نصوص الرسالة المحمدية:

الأولى هي الاعتقاد الصريح في التوحيد بين الدين الطبيعي الأسمى (الذي لا يستثني الشرائع) والدين المنزل الأتم (الذي لا يستثني الطبائع) لكونه دين الفطرة كما تحدده آية الميثاق بين الله وأبناء آدم وهم في ظهور آبائهم[6].

الثانية –وتنتج عن الأولى- هي الاعتقاد الصريح في ختم الوحي أو نهاية التنزيل لكون المجرى الطبيعي للخلق يتحد فيه التاريخي والطبيعي اللذان لا يتقابلان إلا من المنطلقين الجحوديين اللذين تستند إلى أولهما الطبيعة النافية للشريعة وإلى آخرهما الشريعة النافية للطبيعة.

وبذلك فإن علاج هذه الإشكالات في ضوء ما قدمناه من فرضيات عمل ومعطيات مبدئية يقتضي فحص المسألتين التاليتين في مقالتين أولاهما تعالج منطق مبادئ العقل والنظر ومنطق مبادئ الشرع والعمل ومراحل اكتشافهما، والثانية تفحص المنبع الوجودي الذي تصدر عنه المشكلات والتوازي الحاصل بين المبادئ بنوعيها والقيم التي يستند إليها القول الفلسفي والديني. ويكتمل إدراك وحدة المسألتين بفصولهما الأربعة في فصل أخير يبين دلالة التداخل بين الإبداع التاريخي السياسي وما يتضمنه من علم نظري وعملي أساسيين للحضارة المادية والإبداع الرمزي الجمالي وما يتضمنه من ذوق روحي وجمالي أساسيين للحضارة الرمزية وصلتهما بظاهرة جديرة بالتنويه تمثلت في اعتماد الإعجاز الفني آية للدين الفطري الخاتم كما تصوره الفكر الحنيفي المحدث. فتكون مسائل المحاولة بذلك قابلة للتصنيف على النحو التالي:

المقالة الأولى: منطق مبادئ العقل والنظر في الفلسفة ومبادئ الشرع والعمل في الكلام وتاريخ اكتشافهما

الفصل الأول:منطق المبادئ

الفصل الثاني: مراحل الاكتشاف

المقالة الثانية: منبع الإشكالين العقلي النظري الغالب على القول الفلسفي والشرعي العملي الغالب على القول الكلامي وتوازي المبادئ والقيم من المنطلقين.

الفصل الثالث: منبع الإشكاليتين

الفصل الرابع: التوازي بين المبادئ والقيم

الفصل الأخير: دلالة التداخل بين الإبداعين وصلته باعتماد الدين الفطري الإعجاز الفني آية ودليلا.المقالة الأولى: منطق مبادئ العقل والنظر في الفلسفة ومبادئ الشرع والعمل في الكلام وتاريخ اكتشافهما

الفصل الأول: منطق إشكاليتي المبادئ

اكتشفت الفلسفة اليونانية في ذروة ميتافيزيقاها[7] مبدأي: عدم التناقض والثالث المرفوع بوصفهما مبدأي عقل ونظر، دون الإشارة الصريحة إلى وظيفتهما الشرعية (بالمعنى العام للشرائع كما هو الشأن في كتاب الشرائع لأفلاطون وليس بمعناها المحدد في الأديان المنزلة فحسب)، رغم استعمالهما في الفلسفة العملية. فهي قد اكتشفتهما من منطلق نظرية الطبائع أعني من اعتبار الذوات ذوات طبائع مقومة حاصلة وثابتة تنبع منها كل قابلياتها الفعلية والانفعالية، دون اعتبار لدورهما في نظرية الشرائع والعمل. وذلك هو مبدأ الهوية في صياغته الأولى بمعنى الطبيعة غير الحادثة وغير الفاسدة لكونها باقية هي هي ومختلفة بالطبع عن المواضعة الشرعية.

وقد ظلت هذه المبادئ محافظة على هذا المعنى إلى أن زعزعتها محاولات الكلام والفلسفة في المرحلة العربية الإسلامية بعد اندماجها فيه عند بلوغهما الذروة في فلسفة ابن سينا وردود الغزالي عليها. وكان أساس هذه المراجعة ما يمكن أن نسميه بنظرية الشرائع والخلقات قبالة نظرية الطبائع والهويات. فالكلام والفلسفة سعيا في اللحظة العربية الإسلامية إلى تحرير العقل من التقابل بين الفلسفة المستندة إلى النظرية الأولى والدين المستند إلى النظرية الثانية تخليصا للأمرين من الإطلاق الذي يجعلهما جحوديين: فناظر القول بالتحريف الديني الذي بنى عليه الإصلاح المحمدي نقد التجربتين اليهودية والمسيحية ما يمكن أن نصطلح على تسميته بالقول بالتحريف الفلسفي الذي بنى عليه الفكر العربي نقد التجربتين الأفلاطونية والأرسطية. ورغم أن هذا الفكر لم يكن، في هذه المحاولات، صريح القصد في انتهاج موقف نظير للموقف النقدي من التجربة الدينية، فإنه قد تمكن من نقد التجربة الفلسفية المتقدمة واكتشف مبدأين يتممان مبدأي عدم التناقض والثالث المرفوع ويعدلان مبدأ الهوية الطبيعي بمبدأ الخلقة الشريعي، هما مبدأ الترجيح والتحقيق من منطلق نظرية الشرائع.

ذلك أن كون الشيء هو ما هو ليس بالضرورة طبيعة، بل يمكن أن يعتبر حكما أو اختيارا أمريا من جنس التكييف الحقوقي المحدد للأمور شرطا في تطبيقها على النوازل الفقهية أو القضائية عند تكييفها بمقتضى الحدود الفقهية أو القانونية، مثل تحديد الجنح أو الجرائم في النص المشرع ووصف الأفعال في القضاء. ولا يستوجب ذلك نفي الطبائع –التي قد يسلم بوجودها وينفي علمها أو الحاجة إليها- لكون الأحكام رغم طابعها الوضعي ليست تحكما، بل يمكن أن نتصور المشرع كاتبا على نفسه احترام المبادئ التي يشرع في ضوئها. فللتشريع درجتان: تشريع للتشريع (كالدستور مثلا) ثم التشريع للأمور الأخرى (كباقي القوانين مثلا). فيكون الترجيح والتحقيق ثابتين ما ثبت تشريع التشريع لكونهما سنة يمكن أن تكون ثابتة فلا نجد لها تبديلا أو تحويلا، كما هو الشأن عندما يكون المشرع كاملا. وبذلك أمكن للفكر العربي التخلص من التنافي بين الشرائع والطبائع بوضعه مفهوما جديدا هو مفهوم الخلقة الأمرية التي تجعل الموجود ضربا جديدا من الهوية يمكن اعتبارها"مؤسسة أو بنية وجودية أصلية" (Ontologische Urstiftug) ذات تاريخ له بداية وغاية وتطور دائم. وينتج عن ذلك نفي كل إطلاق لعلمنا بها، لكون هذا العلم يبقى دائم الانفتاح بقاءها هي دائمة الصيرورة. لا وجود لعلم تام ومطابق إلا عند الباري. وذلك هو أساس الحاجة إلى مؤسسة رئيسية في نظرية المعرفة الناتجة عن هذا التصور أيا كان مجال انطباقها، الطبيعة أو الشريعة، مؤسسة متحررة من العلم العقلي المطلق ومن العلم اللدني المعصوم، مؤسسة بديل من السلطان الروحي سواء استند إلى الميتافيزيقا (الفيلسوف الملك أو الرئيس) أو إلى المعرفة اللدنية (الإمام أو القطب): مؤسسة الاجتهاد الإجماعي.

ذلك هو مبدأ الهوية في مفهومه الجديد: ليس للأشياء من ذاتها طبائع بل لها خلقات أو أحكام. وهذه الأحكام ليست تحكما، بل هي خلقات ذات حياة وتاريخ قصديين حتى وإن كان القصد من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وبين أن مبدأ الهوية لم يصبح مبدأ حيا وحركيا بحق إلا بفضل تخليص التصور الديني منه لئلا يستمد الهوية من الطبائع المظنونة ضرورية وبفضل تخليص التصور الديني منه لئلا يستمدها من الشرائع المظنونة تحكمية. فتتخلص النظرة الفلسفية من الضرورة (من هنا نفي السبيبة في الطبيعة)[8]. وتتخلص النظرة الدينية من التحكم (من هنا نفي القدرية في الأخلاق)[9]. وإذن فبوسعنا أن نقول إن: مبدأ الهوية التام اكتشاف مشترك بين اليونان والمسلمين. فاليونان سعوا إلى التعالي على التحكم الوضعي الشرقي الأول، أعني "المصري-البابلي"، الذي رفع السياسة إلى مقام الدين الطبيعي (إطلاق التحكم الدنيوي ليصير حقيقة دينية تطلق الواقع السياسي فتضفي عليه شرعية مقدسة). وقد استند هذا السعي إلى التعالي عند اليونان إلى نظرية الطبائع وعلمها النظري الذي يخلص الإنسان من تحكم السلطان الزماني. والمسلمون سعوا إلى التعالي على التحكم الشرقي الثاني، أعني "اليهودي-المسيحي"، الذي حط الدين المنزل إلى السياسة الطبيعية (سيادة الدين الذي يطلق التحكم الأخروي ليصير سياسة دنيوية مطلقة أو ليقطع معها لاتصافها بهذه الخاصية، والأمر سيان كما سنرى). وقد استند هذا السعي إلى التعالي عند المسلمين إلى نظرية الخلقات أو الأحكام غير التحكمية وإلى علمها الاجتهادي الذي يتعالى على تحكم السلطان الروحاني، مع تعديل الإصلاح الأول في ضوء الإصلاح الثاني. من هنا كانت وحدة السياسي والديني المتقدمة على التقابل بينها تقابلا يلجأ إلى الرد المتبادل أو إلى التنافي المطلق. وكلاهما من جنس واحد.

ومبدأ الهوية لا يكون تاما إلا إذا نظرنا إليه من مدخليه فاعتبرنا معنييه الطبيعي والشريعي المعدلين هذا التعديل، أعني معنييه المتخلصين من الاستثناء المتبادل. فالهوية ليس طبيعة حاصلة ولا ضرورية خلافا لما يتصورها عليه اليونان لاقتصارهم على ما يخيل إليهم من ثبات في الطبيعة ينفونه بمجرد تصور علمهم إياها مطابقا لها إلا إذا بات هذا العلم ثابتا هو أيضا لا يتطور ولا ينمو، بل هي "مؤسسة" قابلة للتحصيل كما يتبين ذلك من صيرورة الشريعة وصيرورة علمها. لكن التحصيل ليس تحكميا كما يتصوره محرفو الدين المنزل. وإذن فمبدأ الهوية قد كان بحاجة إلى اكتشاف جديد لم يحصل إلا بفضل نقد الفلسفة العربية بطوريها الكلامي الخالص ثم الكلامي الفلسفي للفلسفة اليونانية.

وقد حدث هذا الاكتشاف الجديد على مرحلتين: إحداهما نفت عن الهوية القيام الذاتي دون التحديد الماهوي (القيام بالذات فحسب لإثبات الشيئية حين عدمها)[10] والثانية نفتهما معا (الشيئية والوجود)[11]. وما كان ذلك ليتحقق للحضارة العربية الإسلامية من دون وضع مبدأ الترجيح بدرجتيه: ترجيح هيئة الموجود من بين الهيئات الممكنة اللامتناهية وتلك هي الهوية المتقدمة على الوجود ثم ترجيح الوجود على العدم لتساوي الأمرين عند البارئ. فالقدرة وحدها لا تكفي للأمرين خاصة عندما تكون مطلقة، لكونها تتساوى عندها الأمور. وإذن فلا بد من الإرادة[12] لترجيح أحد المتماثلين بالإضافة إليها، إذ بالنسبة إلى الرب هيئات الموجودات متماثلة ووجودها وعدمها متماثلان في بداية الخلق الممكن. وإذن فترجيح بعض الهيئات التي يكون الموجود عليها دون سواها وإيجادها يحتاجان إلى علة مرجحة تصطفي كيفها الماهوي وتختارها للخلق في أحد العوالم لتوجدها فيه. وقد صاغ لايبنتس هذا المبدأ فيما بعد تحت اسم العلة المرجحة أو العلة الكافية Raison suffisante واعتبره مبدأ واحدا، جمعا بين الوجهين دون تمييز في التسمية رغم تمييزه البعدين في العلاج وتقديمه حسن خيار الإيجاد على حسم خيار الماهية[13].

والمعلوم أن ازدواج مبدأ الترجيح هو الذي يعلل الفصل بين الماهية والوجود. لذلك فلا بد من أن نضيف مبدأ خامسا بمجرد تحليل صياغته التي وضعها الكلام الإسلامي انطلاقا من الجدل المثمر بين الكلام الاعتزالي والكلام الأشعري. ذلك أن هذا المبدأ قد كان ذا صيغتين مختلفتين توجبان تحليله إلى عنصريه وربطه بتصور جديد للهوية. فالترجيح الذي اعتبر مبدأ واحدا هو العلة الكافية لم يختزل هذا الاختزال إلا لأنه اعتبر علة إيجاد تام يجمع بين الماهية والوجود. لكنه قد يكون ترجيحا تاما للماهية أو للكيف الماهوي Die Wascheit غير مصحوب بالإيجاد أو بالإنية Die Dassheit، أعني ترجيحا لتحديد معين للماهية دون إيجاده فلا يتحقق الأمر الذي تم ترجيحه. فهو قد يقتصر على تصور هيئة معنوية ما تكون هوية تصورية ذات موضوعية مادية في القصدية المدركة بالمعنى الديكارتي في ثالثة تأملاته، Objectivité matérielle[14] لا غير. وتلك هي الموضوعية القصدية أو المعنى الذي يتوجه إليه الذهن فيحدد الهوية أو مقومات الذات القائمة بالقصدية قبل مدها بالموضوعية الصورية أو الوجودية Objectivité formelle إذا جاز لنا استعمال المصطلح المدرسي اللاتيني كما عممه ديكارت مرة أخرى أو القيام بالذات الناتج عن حصول الإيجاد الذي يضيف إلى الموضوعية القصدية الموضوعية الذاتية أعني القيام بالذات: وتلك هي المقابلة بين الماهية وجودا بالعناية في معناها السينوي والآنية وجودا بالطبيعة بنفس المعنى[15]. ويمكن أن نصطلح على ترجيح تحديد الماهية باسم القدر. أما ترجيح تحقيق الآنية فهو ما يمكن أن نصطلح عليه باسم القضاء. وليس ضروريا أن يكون الأمران متميزين في الحصول الفعلي، بل المهم أنه يقبلا التمييز المنطقي، كما نوه إلى ذلك ابن سينا عديد المرات. وهذا كاف لتحديد المبادئ.

لذلك فإن إضافة مبدأ خامس تعد أمرا ضروريا: إنه مبدأ التحقيق، أعني المبدأ الذي ينقل الأشياء من القيام المقصور على موضوعية القيام بالقصد Objectivité intentionnelle إلى موضوعية القيام بالذات Objectivité essentielle ou réelle. فتصبح المبادئ بذلك خمسة: 1) الهوية بمعناها المؤسسي أو الحكمي لا الطبيعي، 2) عدم التناقض، 3) الثالث المرفوع، 4) الترجيح أو التحديد القصدي، 5) التحقيق أو التحديد القيامي. والمعلوم أن ازدواج تصور الهوية الجحودي (الطبيعة) والشهودي (المؤسسة) لا يجعلانها مبدأين، إذ أن كل المفهومات تصبح مزدوجة إذا قبلنا بالتنافي بين مبدأي الترجيح والتحقيق من جهة ومبدأي الثالث المرفوع وعدم التناقض من جهة ثانية، لكون المبادئ عندئذ تصبح جميعا قابلة للقراءة إما من أصل اكتشافها الأول أعني من الطبائع فيرد مبدأ الترجيح والتحقيق لمبدأ الثالث المرفوع وعدم التناقض لتكون الهوية طبيعة، أو من أصل اكتشافها الثاني أعني من الشرائع فيرد مبدأ التناقض والثالث المرفوع إلى مبدأي الترجيح والتحقيق لتكون الهوية شريعة.

فالثالث المرفوع وسط ضروري يقبل بإطلاق عند القراءة من الطبائع بداية إلى الشرائع غاية فيقع الوقوف عنده. ويقبل بإضافة عند القراءة من الشرائع بداية إلى الطبائع غاية فلا يقع الوقوف عنده. ذلك أن المرء، عند التصور أو الفعل، يكون ما يتعلق به تصوره أو فعله أمرا يتوجه إليه انتباهه أو عنايته وكل ما عداه أمور لا يتوجه إليها قصده. فإذا وجد أمر ثالث –وهي وضعية ممكنة في حالة التحرر من الجحود بالشهود والانتقال من التردد بين الوجوب والامتناع إلى الإمكان –امتنع على الفاعل أن يعزم على الفعل أو على التصور حقا (بشرط اعتبار أمر الاختيار بين الإرادة والكراهة محسوسا وهو ما يغني عن المبدأين الأخيرين) فيكون عندئذ في وضعية لم يصل فيها بعد إلى بداية العزم على تصور محدد أو على فعل محدد.

وعندئذ يكون الأمر خاضعا لمنطق آخر، هو منطق الاختيار لتحقيق العزم. وتلك هي علة المبدأ الخامس (التحقيق) الذي يحدد معنى المبدأ الرابع (الترجيح) فيصبح شرطا في الاثنين الأولين ولا تكون الهوية هوية-طبيعة إلا إذا استوجبتها حالة خاصة هي حالة الفعل مع اعتبار إشكالية الاختيار أمرا محسوما دون اختيار. وإذن فالعزم على الفعل أو التصور يتقدم عليه شرطان يجعلان الهوية الترجيحية هوية-شريعة: عدم التناقض ليكون العزم متصلا ثم تحديد الهوية ليتعلق العزم بأمر محدد. وينبغي أن يتلوه شرطا وجوده الأول الذي يتكرر إلى ما لا نهاية وضعا ونسخا، لكون الفعل مشروطا دائما بما يشبه التشريع وضعا ونسخا بالتوالي إلى ما لا نهاية. ففي مجال وضع المبادئ نفسها أو العمل بها لا بد من الترجيح. وشرطه تجاوز كل الحدود إلى المطلق ليبقى باب العزم على التصور والفعل مفتوحا بإطلاق، فلا يتحول ما حصل منه إلى نهاية ليس بعدها من تطور: وعندئذ يصبح الكلام متصلا بمستوى تشريع التشريع الذي مثلنا له بوضع الدساتير. فلو تصورنا الدساتير غير قابلة للتغيير لأصبحت الشرائع طبائع.

الفصل الثاني: مراحل الاكتشاف

إن لاكتشاف المبدأين الأخيرين في الحقبة العربية الإسلامية من تاريخ العقل الإنساني المبدأين اللذين غيرا معنى المبادئ الأخرى بتحديد شروط وجودها نفسها مجرى طويلا يساعد على فهم منبع إشكالية ضربي المبادئ "العقلية-النظرية" و"الشرعية-العملية" ووحدتهما الجوهرية في فلسفة تتجاوز التقابل بين الطبيعة والشريعة استنادا إلى تصور روحي لا يفصل بين الشكل الأرقى من الدين الطبيعي والشكل الأسمى من الدين المنزل توحيدا لهما في مفهوم الدين الفطري الخاتم:

1 – الاكتشاف الاعتزالي الفاصل بين الذات والوجود وهو فصل تبنته الفلسفة العربية في صيغتها الأتم، أعني في الصيغة السينوية: ترجيح نقل الذات من الإمكان المحض إلى الوجود أو إبقائها على العدم. فالذات تكون بمقتضى نظرية شيئية المعدوم أو الكيف الماهوي المحدد والمتقدم على الوجود ثابتة في حالة العدم ثبوتها في حالة الوجود. فيقتصر الترجيح عندئذ على ترجيح الوجود أو الإنية على العدم بما هو عزم أو إرادة الانتقال من عدم إيجاد الذوات الثابتة في العدم إلى إيجادها. ولا يتقدم عليه تحديد الماهية بتعيين هيئتها قبل نقلها من الثبوت العدمي إلى الثبوت الوجودي، لكون الماهيات اعتبرت ثابتة في العدم، ما دام الكيف الماهوي غير مخلوق. وإذن فالمعتزلة قد أغفلت وجها أولا من الترجيح يتعلق بتغير يحصل في ذات الفاعل الذي يوجد تصور الموجود أو "يمهيه" في ذاته قبل تحقيقه خارج ذاته في قيام مستقل عنه. الوجه الذي أغفلته المعتزلة يتعلق بأمر استثنته عندما تصورت الذوات قائمة في العدم واقتصرت على التغير الذي ينقلها إلى الوجود متناسية التغير الذي يضفي التعين الماهوي على ما يريد الفاعل إيجاده، أعني حاجة الأمور إلى التمهية سواء ساوق ذلك الإيجاد أو ولاه. وهي مضطرة لذلك بحكم نفيها التمايز بين الذات والصفات: فلو تصورت غير ذلك لكان من الواجب أن تضفي على صفة العلم كثافة وجودية تفصلها عن الذات.

والنقلتان متشارطتان. التمهية شارطة للإيجاد اللاحق (في الوجود الطبيعي) ومشروطة بالإيجاد السابق (في الوجود العنائي). ولا بد إذن للقدرة الخالقة من أمرين: ترجيح الماهية ثم ترجيح الوجود. والعزم الترجيحي التام يضيف إلى الترجيح التصوري في ذات الفاعل الترجيح الفعلي في قيام المفعول قياما مستقلا. وإذن فالأمر يتعلق بالعلم القادر ليس فقط على التحديد التصوري بل وكذلك على التحقيق الفعلي الذي يجعل الشيء ذا قيام ذاتي غير قيامه في القصدية المتصورة. ومن دون ذلك لا يكون العالم إلا قياما تصوريا في العقل الإلهي ويصبح العالم مجرد أفكار إلهية.

2 – الاكتشاف الأشعري الواصل بين الماهية والوجود: لما كانت الأشعرية ترفض شطر الذات إلى ماهية ووجود بات من الواجب أن يكون فعل تحديد هيئة الموجود أو حقيقته هو عينه فعل إيجاده. لكن الثنائية عندئذ تنتقل لتصبح ترجيحا للحقيقة ملازما لترجيح الإيجاد لكونه شارطا إياه (إذ يمكن للشيء أن يكون على هيئات لا حصر لها ولا يحيط بها إلا العلم المحيط الذي يصطفي من اللامتناهي الممكن المتناهي الذي سيحصل في أحد العوالم الممكنة في حين أن الإيجاد متردد بين خليتين لا ثالثة لهما هما الفعل والترك). ترجيح الإيجاد أو التحقيق الفعلي في العالم المناسب ملازم لترجيح الهيئة المعينة التي يتم ترجيح إيجادها. وطبعا فالتلازم الذي نتحدث عنه لا يقتضي نسبة زمانية بين الأمرين. ما يهمنا هو تمييز العناصر المجردة التي يقتضيها ترتيب المعاني المنطقي. ولما كانت الهيئات المختلفة اللامتناهية التي تنتخب منها الهيئات المرجحة معلومة لصاحب الترجيح (لئلا يكون ترجيحه صدفة واتفاقا) بات الترجيح ذا وجهين:

الوجه الأول هو وجه القدرة المطلقة الموجدة للإمكانات اللامتناهية وخلق عوالم لا حصر لها ولا حد من الهيئات الممكنة للتمكن من الترجيح بينها واختيار بعضها دون البعض الآخر لأحد العوالم دون غيره. وذلك هو التقدير المستند إلى علم الله وقدرته اللامحدودين لكونهما مصدر الإبداع المطلق لكل ممكن قد يتقدم على القواعد العامة الضابطة للعوالم بحسب القصد منها. علم الله هو كل معلوماته الممكنة ولما كان علم الله لا متناهيا ومطلقا كانت المعلومات لا متناهية ومطلقة. ومن جنسها عمله.

الوجه الثاني هو وجه التحقيق الفعلي لعوالم منحازة بتناهيها ومتمايزة بتناسباتها لكون كل واحد منها ميسر لأمر قصد به (هو مستواه التشريعي الثاني أعني تشريع الأمر شرطا للتعايش بعد تشريع الخلق شرطا للإيجاد بلغة الحراني)[16] في الخلق اللامتناهي الذي حصل في الأولى، خلق الهيئات المصطفاة لتكون ملائمة لهذا العالم أو ذاك، مثل عالم الإنسان أو عالم الحيوان أو عالم الأفلاك الخ... بعد خلق العناصر اللامتناهية المطلقة. والمعلوم أن العوامل الحاصلة فعلا هي بدورها لا متناهية العدد، إذ خلق الله لا يعلمه إلا هو. وليس العالم الذي نعيش فيه ونعلم منه بعض أبعاده إلا ذرة من هذه العوالم الممكنة والحاصلة التي لا حد لها ولا حصر. في التصور الاعتزالي لا يكون العالم المخلوق إلا واحدا لكون الأشياء المعدومة أو العالم المثالي أو الهويات القائمة في العدم إن صح التعبير واحدة. أما في التصور الأشعري فإن الحصول لا يستنفد الإمكان.

ولو صح لنا أن نقيس ذلك، للتقريب، باللغة الإنسانية مع فارق اللاتناهي في لغة الوجود بالمقابل مع تناهي لغتنا التي نعبر بها عن تجربتنا عنه، لقلنا إن الوجه الأول يماثل خلق منظومة حروف لا متناهية. والثاني يماثل خلق نصوص لا متناهية: كلمات الله[17]. وكل عالم ليس إلا كلمة إلهية أو نصا من بين هذه النصوص اللامتناهية الممكنة. لذلك فإن المفهوم الوحيد الجامع بين الأمرين بما هما رموز هو مفهوم الآية: الآيات البسائط والآيات المؤلفة كلها لا متناهية. والبشر حباهم الله بالقدرة على شهود بعض ذلك دون القدرة على الإحاطة لكون الإنسان لا يدركها إلا بما هي إمكان مطلق بالقياس إلى إمكانه المحدود حتى بالقياس لما هو حاصل في علمه من الإمكان الأول. فالحصول الوجودي والإمكان أمر واحد بالنسبة إلى إرادة حرة لا نستطيع تصورها إلا عالمة بإطلاق وقادرة بإطلاق، دون أن نحكم في علمها وقدرتها ما نطلقه من قيم خلقية وقوانين عقلية إنسانية نسبية. لذلك كان الإمكان العقلي الإنساني دائما دون أدنى الموجودات، لكون كل واحد منها يفترض كل الإمكان الإلهي لكي يكون ما هو، إذ أن كونه ما هو ليس بالصدفة بل بالاختيار القصدي الذي بمقتضاه جعل في العالم المناسب له والذي نفترضه موجودا دون أن يكون لنا معلوما: وذلك هو القصد من نفي الغائية في الكلام الأشعري الذي هو ليس نفي الحكمة الإلهية بل نفي حصرها في ما يعتبره الإنسان حكمة. ومن دون هذه المسلمة لا يكون للإنسان القدرة الفكرية حتى ليجحده، إذ جحده يعني ملاحظة عدم الحصول الفعلي بالقياس إلى الإمكان العقلي: وذلك هو معنى التفاضل بين المثال والواقع.

فما من شيء تصورناه ممكنا إلا وكان ممكنا لكون العالم التصوري الإنساني كله متضمنا في الوجود الإنساني وهو دائما دون ما يقبل التصور بالنسبة إلى العقل الإنساني، فضلا عما هو حاصل فيه بما هو وجود متعين حدده الله بمقتضى علمه بالكل وجعله مناسبا للعالم الذي استخلف فيه الإنسان، مما يجعل الممكن الخيالي مهما جمح دون الممكن الوجودي الذي لا نحيط به علما بأسمى ما لنا من مدارك: وذلك هو القصد بطور ما وراء العقل عند الغزالي[18]. وليست المبادئ بضربيها والقيم التي أشرنا إليها إلا ما يمكننا من ضبط متلاطم المحيط الإمكاني ضبطا يجعل حياتنا ميسورة فيحررنا من إدراك الإمكان إدراكا جحوديا ينقلب الإنسان بمقتضاه إلى صنم يؤله نفسه في الحلولية. لذلك فإن إطلاق المبدأين الثاني والثالث ومبدأ الهوية الناتج عنهما (المبادئ الثلاثة الأولى التي انحصرت فيها الفلسفة قبل الثورة التي حصلت بفضل الاستخلاف) الذي هو أساس الحلولية يميت الحياة ولا ييسرها. فهو يحول دون الأفق المنفتح فيبقي الإنسان في الحلولية المنغلقة التي تحصر الوجود المطلق في الإدراك الإنساني، في حين أن الإدراك الإنساني مهما سما فإنه يبقى دون الوجود الإنساني فضلا عن الوجود المطلق. ذلك أن الإنسان مهما علم لن يعلم إلا القليل من نفسه فضلا عن علم الوجود كله. لذلك فالمبادئ الثلاثة الأولى وحدها لا يمكن أن تكون إلا جحودية لكونها تستند إلى إطلاق الطبائع. وهي لا تصبح شهودية إلا بفضل المبدأين الأخيرين اللذين يغيران معاني الهوية فيجعلان جميع المبادئ ذرائع غير قابلة للإطلاق، فتخلصان الوجود من إطلاق الطبائع وإطلاق الشرائع في أصل عودة إلى أصل متقدم عليهما هو الخلقات الحكمية غير التحكمية. لذلك هذا الأصل غنيا عن التنافي الملجئ إلى التوفيق بالرد المتنادل.

المقالة الثانية: منبع الإشكالين العقلي النظري الغالب على القول الفلسفي والشرعي العملي الغالب على القول الكلامي وتوازي المبادئ والقيم من المنطلقين

الفصل الثالث: منبع الإشكاليتين

حددنا مبادئ العقل والنظر ومبادئ الشرع والعمل ومنطق اكتشافهما وتاريخه بصورة جملية. فلنحاول الآن استقراء ذلك لإثبات التطابق بينهما بوصفهما شروط الأفعال الإنسانية الفردية والجماعية ومعاييرها. وسيكون هذا الإثبات سبيلنا لبيان وحدة تاريخ الفكرين الفلسفي والديني واكتمال هذه الوحدة في فكر الحنيفية المحدثة الذي فحصنا علاجه لإشكالية الهوية الطبيعية والهوية الشريعية. فالمعلوم أن مبادئ العقل والنظر ومبادئ الشرع والعمل هي، في الحقيقة، شرط كل تقويم، أيا كان مداه سواء نسبنا إليه الإطلاق الجحودي فاعبترناه ذاتيا للأشياء كما يقول بذلك مثبتو التحسين والتقبيح العقليين من المعتزلة تحكميا لمبادئ العقل الإنساني ولمبدأ الغائية في الفعل الإلهي، أو نفينا عنه ذلك فاقتصرنا على التنسيب الشهودي واعتبرناه شرعيا كما يقول بذلك نفاة التحسين والتقبيح من الأشاعرة، رفضا لهذا التحكيم. ولا يعني ذلك نفي العقل بل نفي إطلاقه وجعله معيارا للوجود. ذلك أن التقويم يمكن أن ينتسب إلى موقف يطلق العلم والعمل الإنسانيين في الميتافيزيقا فيصح وصفه بالموقف الجحودي. ويمكن أن ينتسب إلى موقف لا يطلقهما فيها فيصح وصفه بالموقف الشهودي. وهذا الموقف بخلاف ذاك شارط للتعالي الذي يجعل المبادئ بضربيها العقلي والشرعي مواضعات ضرورية للاجتهاد الإجماعي الذي يحرر البشر من الإطلاق والصراع حول موضوعات القيم ومن ثنائية التحكم السلطاني فينتهي إلى ما اصطلح عليه ابن خلدون باسم عدم التأثيم في النظر والعمل[19]: للتخلص من التحكم الروحي المستند إلى الحيلة والخديعة والتحكم الزماني المستند إلى العنف والفساد.

ومن اليسير أن نثبت أن مبادئ العقل بوصفها شروط النظر بالقصد الأول وشروط العمل بالقصد الثاني ومبادئ الشرع بوصفها شروط العمل بالقصد الأول وشروط النظر بالقصد الثاني ليست إلا قواعد الفعل والتعايش الإنسانيين. فهي أدوات تحقق الأفعال أيا كان مجالها وهي شرط تحقيق العيش السوي المستند إلى الاجتهاد الإجماعي أعني المؤسسة الفريدة التي ينبني عليها الشرع في غياب القول بالوحي المتصل أو بالسلطان الروحي المعصوم البديل منه في مجال علم الشريعة العملي وفي مجال علم الطبيعة النظري في غياب القول بالعلم العقلي المطلق. ذلك أن العلم النظري لا يمكن أن يكون أكثر من كونه تشريعا وضعيا في علم الطبيعة لا يقتصر استناده إلى مبادئ العقل الثلاثة المعهودة وحدها. بل هو يحتاج إلى مبدأين آخرين يجعلان المبادئ من جنس أحكام الفعل، إذ النظر لا يختلف في شيء عن كونه اجتهادا إجماعيا يتواضع عليه علماء الطبيعة مثله مثل التشريعات الأخرى. فعلم الشريعة -وهو أسمى من علم الطبيعة عند المتكلمين- لا يتجاوز هذه المنزلة، ومن باب أولى أن يكون الأمر كذلك في علم الطبيعة.

فيكون النظر والعمل بهذه "المبادئ-الأحكام" تشريعا مستندا إلى سلم قيم أرحب وأكثر طواعية ويكون ذا شرعية من نوع فريد. فهو يستند إلى ختم الإطلاق الميتافيزيقي (=عدم اعتبار مبادئ العقل والنظر مبادئ الطبيعة في ذاتها) ظرفا عاما لمبادئ العقل والنظر وإلى ختم الإطلاق الميتا تاريخي (=عدم اعتبار مبادئ الشرع والعمل مبادئ الشريعة في ذاتها) ظرفا عاما لمبادئ الشرع والعمل. وذلك هو التأويل الممكن لفهم ختم الوحي المصحوب بنفي السلطان الروحي المعصوم وفهم ما لازمه من تجاوز للتنافي بين الأديان الطبيعية التي تستنتج الشرائع من الطبائع (مثلما هو الشأن في الجمهورية والنواميس وآراء أهل المدينة الفاضلة) والأديان المنزلة التي تستنتج الطبائع من الشرائع توحيدا لمعايير النزر (مبادئ العقل) ومعايير العمل (مبادئ الشرع) بما هما تشريع من طبيعة واحدة يبقى علم الإنسان فيهما نسبيا دائما. فالتشريع المطلق لا يكون إلا جاحدا في النظر والطبيعة وفي العمل والشريعة. ومن ثم فهو وهمي الإطلاق مما يجعله مقصورا على المبادئ الثلاثة المعهودة (الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع). أما التشريع النسبي فيكون فيهما شاهدا ويعتمد على الأحكام الخمسة كما نرى لاحقا (الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع التي يعدلها ثلاثتها مبدأ الترجيح والتحقيق).

إن الخلاف الأساسي حول القيم وصلتها بالوجود في حدود ما يهمنا منه لفهم دور فكر الحنيفية المحدثة علته رد مبادئ العقل والنظر ومبادئ الشرع والعمل إلى فهمين متنافيين حصلا مرتين وبصورتين متماثلتين في المعرفة المستندة إلى الإطلاق الوهمي لثمرات التجربة "العلمية-الفلسفية" في التقليد العقلي اليوناني قبل محاولات التحرر منه في الفلسفة الأفلوطينية وفي المعرفة المستندة إلى الإطلاق الوهمي لثمرات التجربة "الصوفية-الدينية" في التقليد الشرعي العبري قبل محاولات التحرر منها في الكلام المسيحي، هما:

1 – الفهم الفلسفي الجحودي: وهو الفهم الذي ينطلق من بداية مجردة يطلقها هي الطبائع ليرد إليها غاية مجردة يطلقها كذلك هي الشرائع فتصبحان متنافيتين وأن بدرجتين مختلفتين أقصاها عند أفلاطون (المثل المفارقة) لجعله الطبائع المثالية المجردة أساسا تلغى بمقتضاه الطبائع الحاصلة في الطبيعة والتاريخ لكونها تعتبر "شرائع" من تحكم الوهم والخيال يستعاض عنها بشرائع من علم العقل بتلك المثل[20]، وأدناها عند أرسطو (الصور المحايثة) لحده من إطلاق المقابلة والإلغاء الناتج عنه[21]. وقد بقي هذا الموقف جحوديا لكونه وقف دون ما سعى إليه سقراط[22]، رغم محاولات أفلوطين التوفيقية للتخلص من الثنائية الأفلاطونية الأرسطية التي لم يكن بالوسع فهم سرها من دون تجاوز الثنائية الموالية.

2 – الفهم الديني الجحودي: وهذا الفهم يناظر ذاك الفهم بالسلب. إنه الموقف الذي ينطلق من بداية مجردة يطلقها هي الشرائع ليرد إليها غاية مجردة يطلقها كذلك هي الطبائع فتصبحان متنافيتين وإن بدرجتين مختلفتين أقصاها عند موسى[23] وأدناها عند عيسى[24]. ورغم أن ترتيب الحديث الأقصى والأدنى في الجحود الديني مماثل لما هو عليه في الجحود الفلسفي، فإن التقابل بين الحاصل والمثال من الوجود أصبح مطلقا عند عيسى وكذلك النفي الناتج عنه مثلما هو الشأن عند أفلاطون، رغم أن المنفي العيسوي هو ظاهر الشرائع والمنفي الأفلاطوني هو ظاهر الطبائع: وتلك هي علة التطابق الظاهري لاحقا بين الفكرين الأفلاطوني والإنجيلي وبين الفكرين الأرسطي والتوراتي. فأدى هذا التماثل في نفي الظاهرين إلى ما يشبه تعاكس الترتيب بين مرحلتي الجحود الفلسفي الأساسيتين ومرحلتي الجحود الديني الأساسيتين. وحصل الجحود الثاني بعد الأول.

وقد اقتضي ذلك ألا يتم التخلص من الجحود الأول حقا إلا بالتخلص من الجحود الثاني، لذلك كانت تجربة نقد السنة الدينية العبرانية متقدمة على تجربة نقد السنة الفلسفية اليونانية وشارطة لها في فكر الحنيفية المحدثة. فمحاولة أفلوطين التغلب على الجحود في الفلسفة بمحاولة تجاوز التقابل بين أفلاطون وأرسطو لتحقيق ما يمكن أن نعتبر سقراط قد دعا إليه، لم تخلص موقف الفكر الديني وما فيه من ضمني فلسفي من الطابع الجحودي لكون الفكر الديني كان بحاجة إلى التغلب على الجحود في الدين بمحاولة تجاوز التقابل بين موسى وعيسى لتحقيق ما يمكن أن نعتبر إبراهيم قد دعا إليه[25]. وذلك ما فهمه علم الكلام من الرسالة الإسلامية التي حققت في الموقف الأعم (الدين المنزل بما هو طبيعي) ما شرعت فيه الفلسفة في الموقف الأخص (الفلسفة بما هي دين طبيعة). كان لا بد من تجاوز الثنائية الموسوية العيسوية التي تتضمن بشمولها الثنائية الأفلاطونية الأرسطية. وتلك هي على إحاطة حديها بحديها من حيث الزمان والمعنى. ويؤكد فكر الحنيفية المحدثة على رفع التقابل الجحودي بين الفلسفة (إذ يكثر القرآن من الاستدلال بنظامي الطبيعة والتاريخ) والدين (إذ يكثر القرآن من نقد تاريخ الأديان المنزلة التي يعتبرها قد حرفت الإسلام الأصلي) وعلى إرجاعه إياهما إلى الأصل الواحد الذي هو الموقف الشهودي من آيات الباري، الموقف الذي يتعين في الإدراك الجمالي لآيات الخلق والأمر اللذين يعد الاعتبار بهما أهم تعينات الشعر المطلق اشرئبابا إلى فهم الإعجاز[26]. فليس أساس هذا الموقف إلا اعتبار مضمون القرآن الأساسي تجاوزا للتقابل بين تعين الطبائع (الطبيعة والنفس) وتعين الشرائع (التاريخ والأخلاق) إلى أصلهما الواحد في آية الآيات أعني القرآن نفسه، تجاوزا يغني عن الحاجة إلى الردين المستحيلين في الفلسفة الجحودية (رد الشرائع إلى الطبائع) وفي الدين الجحودي (رد الطبائع إلى الشرائع)، لكون الفصل بينهما من أساسه نفيا للأصل الواحد المحرر من التنافي والرد المتبادل.

الفصل الرابع: التوازي بين المبادئ والقيم

بنية الأفعال الإنسانية كلها لا يستثنى منها الفعل النظري هي بنية التشريع والتقويم المتجدد دائما، إذا قصرناها على ما يتعلق منها بمصنوعات الإنسان النظرية والعملية ولم نطلقها فنحصر الوجود فيها. لا وجود لقبليات مطلقة تخص ما هو إضافي إلى الإنسان إلا ما انتسب منها إلى المعتقد. فلا يكون عندئذ من العلم في شيء. إنما القبليات أدوات إضافية وموضوعات إنشائية من جنس معايير القيس والقانون أو من جنس فرضيات العمل المؤقتة. ولا وجود لبعديات مطلقة من جنسها، بل البعديات نتائج مؤقتة بالإضافة إلى تلك المقاييس والفرضيات. فبحسب وحدة قيس وفرضيات معينة تكون الأشياء متماثلة من حيث الكم أو من حيث الصورة أو من حيث المعنى أو من حيث المقصد ليكون ما بالإضافة إليه تتم المقارنة.

وأهم السلالم التي ترتب بها الأشياء هي ضروب القيم. لذلك فالمقياس الذي يسيطر على أفعال الإنسان صاحب الموقف الجحودي هو الإنسان نفسه عندما يطلق ذاته معيارا لكل ما عداه فيجحد الإلهي وينفي الإسلام لإرادته. وذلك هو أساس المبدأ السوفسطائي الذي أطلقته الفلسفة عندما اعتبرت المبادئ الثلاثة الأولى التي أشرنا إليها مبادئ الوجود، فأطلقت ما هو مجرد وحدات قيس إنسانية ضرورية ذريعيا لتيسير الوجود الإنساني لا غير. إنما العلم تشريع مؤقت. إنه حالة خاصة من التقويم. لذلك فاعتبار جهات الوجود ضربا من التقويم هو الشرط الضروري والكافي لفهم هذا التصور. لكن ذلك ممتنع على من لم يتجاوز الموقف الجحودي تجاوزا يحرره من اعتبار جهات الوجود صفات للمطلق، ما دام معناها إضافيا إلى موقفين هما شهود المطلق الذي يجعلها مجرد معايير تقويمية إنسانية أو جحوده الذي يجعلها محددات للوجود ذاته. فالجهات (الواجب بغيره والممكن المرجح وجوده بغيره والممكن المرجح عدمه بغيره والممتنع بغيره) لا ترد إلى المطلق الذي يتعالى على أجناسها بوصف فعله يجري في الدهر المتعالي على الزمان، إذ هو مقصور على الحضور الخالد أو القدم، أعني إلا إذا كان الأمر متعلقا بأفعال الذات الإلهية المتعالية. أما الزمان الإنساني فهو ذو أبعاد خمسة هي: 1) الحاضر بما هو اللحظة التي لا تقبل التحليل لتطابق الحدث والمعنى فيها فكانت لذلك ممثلة لأفضل تعين من الخلود ثم الماضي ببعديه أعني، 2) الحدث المتقدم والمحدود، 3) والمعنى اللاحق واللامحدود، ثم المستقبل ببعديه أعني، 4) المعنى المتقدم والمحدود، 5) والحدث اللاحق واللامحدود.

وإذن فزمان الإنسان كما يتعين في تاريخه بما هو ثمرة فعليه النظري والعملي ليس طبيعيا مثلثا ولا دهريا موحدا بل هو تاريخي مخمس الأبعاد. والفلسفة الجحودية التي تؤله الإنسان بـالوصولية تتصوره –على الأقل في نظرها- ذا دهر ثابت أو حضور خالد أزلي وأبدي، إذ هي تنسب إليه علما بطبائع دهرية تفترضها موجودة ظنا منها أن الطبيعة حدث بلا معنى أو وحيدة المعنى ومعلومته، لكأنها اللحظة الحاضرة دهريا. وحتى الزمان الطبيعي المثلث فإنه مجرد وهم نفسي يقيس الحركة بالعدد. والدين الجحودي الذي يؤله الإنسان بالحلولية يتصوره –على الأقل في عمله- ذا دهر سيال ينساب انسيابا خالدا أزلا وأبدا، إذ ينسب إليه عملا بشرائع تشترط الحضور الدهري للمشرع إما باتصال الوحي أو بنيابة  مؤسسة معصومة عنه مؤسسة دهرية يفترضها موجودة ظنا منه أن الشريعة معنى بلا حدث أو وحيدة الحدث ومعمولته لكأنها اللحظة السيالة دهريا.

أغفلت الفلسفة الجحودية والدين الجحودي أبعاد الزمان الإنساني، أعني طبيعة التاريخ الذي هو "شريعة-طبيعة" في الوقت نفسه، أعني الفطرة كما حددها الإسلام. فالماضي الذي يعتبر حدثا خالصا ينفى عنه لا تناهي المعنى اللاحق ليس إلا الهوية بمعناها الطبيعي الوهمي. والمستقبل الذي يعتبر معنى خالصا ينفى عنه لا تناهي الحدث اللاحق ليس إلا الهوية بمعناها الشريعي الوهمي. والحاضر عندما لا نتصوره وحدة جوهرية حية فنعتبره جمعا تأليفيا بين هذين العنصرين المتنافرين والمتقدمين عليه بالذات، لا يكون إلا جحوديا. فيكون التاريخ الإنساني من منظار الفلسفة والدين الجحوديين صراعا بين الطبيعة المردودة إلى المادة والمنافية للحرية والشريعة المردودة إلى الروح والمنافية للضرورة أو بين المادي عديم المعنى والروحي عديم الحدث. أما في مدلوله الاستخلافي فهو ليس إلا الهوية الحية التي تتحقق تاريخيا. إنه وحدة البعدين اللذين لم يسبقهما فصل يقتضي التنافي والتوحيد المستحيل بالنفي المتبادل كما تتعين في جدل التاريخ المزعوم.

أما التكامل والوحدة الأصلية بين الحدث والمعنى (= أو بين الدال والمدلول، لكون الماضي يشبه نصا مكتوبا داله المحدد متقدم على مدلوله اللامحدد (صلة قراءة) عندنا والمستقبل يشبه نصا سيكتب مدلوله المحدد متقدم على داله اللامحدد عندنا (صلة كتابة) أو بين الطبيعة والشريعة أو بين المادة والروح ورفض تصورهما أمرين مجردين قابلين للفصل الجحودي أو التحريفي بلغة القرآن الكريم)، أما التكامل والوحدة فهما شرط بقاء الحدث حيا متواصلا في معناه وتعدد فهومه اللامتناهية، أعني شرط بقاء الماضي حيا وفاعلا فعلا واعيا في الحاضر. وهو أيضا شرط صيرورة المعنى موجودا، أعني شرط استباق المستقبل وصيرورته وجودا فاعلا فعلا واعيا في الحاضر بفضل بدار حدثه وتعدد مجاريه اللامتناهية. والإبقاء اللامحدود الممكن على حياة الماضي هو الذي يكذب الفصل بين الطبيعي والشريعي فيصبح تأويل الماضي ممكنا لكون التحليلي (الحدث السابق) يكون في الغاية تأويليا (المعنى اللاحق). والاستباق اللامحدود الممكن لحياة المستقبل هو الذي يكذب الفصل بين الشريعي والطبيعي فيصبح تحليل المستقبل ممكنا لكون التأويلي (المعنى السابق) يكون في الغاية تحليليا (الحدث اللاحق): وبذلك يكون الحدث محددا بالنسبة إلى الماضي ولا محددا بالنسبة إلى المستقبل. يكون المعنى بعكسه أي لا محددا بالنسبة إلى الماضي ومحددا بالنسبة إلى المستقبل.

ويعني ذلك أن الحدث والمعنى تحققا ووجودا والتأويلي والتحليلي تصورا وعلاجا كلها حدود لا وجود لها إلا بوصفها بدايات وغايات تتبادل هذا الدور. فالماضي بما هو وجود قد حصل وانقضى يبدو فيه الحدث متقدما على المعنى فيكون تحليليا بحدثه لا يدرك إلا تأويليا بمعناه كالنص الذي كتب فيبدو داله المحدد بداية ومدلوله اللامحدد غاية. ذلك أن الحدث بعد حدوثه يكون خاضعا لمبدأي الثالث المرفوع وعدم التناقض النافيين لمبدأي الترجيح والتحقيق بالمعنى الطبيعي المظنون ثابتا بحكم إطلاق المقابلة بين الطبيعي والشريعي. لكنه لا يدرك حتى بعد حدوثه إلا تأويليا لأن المعنى ليس خاضعا لمبدأي الترجيح والتحقيق النافيين لمبدأي الثالث المرفوع وعدم التناقض بالمعنى الشريعي المظنون سيالا بحكم نفس الإطلاق. والمستقبل بما هو وجود سيحصل يبدو فيه المعنى متقدما على الحدث فيقتضي حدوثه فعلا تأويليا رغم كون معناه تأويليا لا يتحقق إلا تحليليا: كالنص الذي سيكتب، فيبدو وكأن مدلوله المحدد مبتدانا وداله اللامحدد منتهانا. والنسبة بين الحدث والمعنى أو بين المادة والروح وجوديا وبين التحليل والتأويل أو بين التحليل والتركيب علاجيا هي عينها النسبة بين هذين الحديث اللذين نحتاج إليهما ذريعيا لفهم التاريخ الإنساني بما هو علم وعمل موضوعه الطبيعة التي خلصتها الحنيفية المحدثة من التنافي مع الشريعة والشريعة التي خلصتها من التنافي مع الطبيعة. لذلك فلا معنى للمقابلة بين النظر والعمل. فكلاهما من طبيعة واحدة ولا يختلفان إلا بالترتيب بين البداية والغاية كما هو الشأن في أبعاد الزمان حيث رأينا الحدث والمعنى يتواليان فيكون في نفس الوقت بالتناوب تحليليين وتأويليين وبحسب التأخر والتقدم. وإذن فكلاهما يحتاج إلى ما يتعالى عليه ليبقى مفتوحا إلى الأبد ولا يحصل فيه الجحود الذي يوحد بين الإدراك والوجود، بلغة الفيلسوف المغربي[27].

لذلك فنحن نعتبر الإصلاح الكنطي الذي يقابل بين النظر والعمل من حيث الأسس الميتافيزيقية عودة للتحريف الديني (الجحود في مجال العمل والقيم بادعاء العمل الإنساني محيطا بالقيم) الذي سرعان ما أعاد التحريف الفلسفي في المثالية الألمانية (الجحود في مجال النظر بادعاء النظر الإنساني محيطا بالوجود). فقلب العلاقة بين الذات والموضوع[28] ليس كافيا لحل معضلة التنافي الظاهري بين العقل والشرع والتخلص من الجحود، خاصة وقد أصبح هذا الجحود صريحا عند كنط في استعمال العقل العملي. فلا يمكن أن نسلم معه بتعالي موضوع النظر على العقل النظري وبتداني موضوع العمل دون العقل العملي. لا يمكن القول مثله إن معلوم علم الشرائع هو الشيء في ذاته الذي يوجد وراءه ويتعالى عليه بزعم الاستعمال العملي ليس ظاهراتيا، وأن معلوم علم الطبائع غير الشيء في ذاته الذي يوجد وراءه لكون الاستعمال النظري ظاهراتيا وقاصرا دون إدراكه.

فما أدخله الإصلاح الكنطي، رغم التواضع الذي يبدو غالبا عليه، ليس إلا صياغة صريحة انطلقت من الموقف الجحودي في الدين أعني من إطلاق العمل مع زعمها نفي الموقف الجحودي في الفلسفة أعني تنسيب العلم. لذلك فهي قد انتهت في غايتها إلى الجمع بين الجحودين الديني والفلسفي، عودة إلى الوحدة بين الموقفين في النظر والعمل: إما بحط العمل إلى مستوى النظر بالمعنى الكنطي فيصبحان إضافيين إلى علم الإنسان معا وذلك هو جوهر الموقف الوضعي أو بإعلاء النظر إلى رتبة العمل بالمعنى الكنطي فيصبحان مطلقين معا وذلك هو جوهر الموقف الهيجلي. وفي الحقيقة فإن الجمع بين الوجهين هو جوهر المثالية الألمانية أو الأفلاطونية التوراتية المحدثة الجرمانية. فما ينفيه الإصلاح الكنطي في النظر يزعمه حاصلا في العمل. لذلك فسرعان ما انتهت المثالية الألمانية إلى نفي الاحتراز النظري الكنطي جاعلة من فاعلية الذات إما مطلقا يصيرها معيارا للموضوع في النظر كذلك أعني موضوع التجربة الممكنة بداية ثم الموضوع بإطلاق غاية. فبات الجحود النظري الذي أطلق الطبائع والضرورة في الفلسفة كما نجد منه أفضل صورة في وحدة الوجود عند سبينوزا[29] متمما للجحود العملي الذي أطلق الشرائع والحرية في الدين كما نجد منه أفضل صورة في وحدة الوجود الروحية عند شيلنج[30].

أما الحل الذي قدمه فكر الحنيفية المحدثة كما استنتجناه من وضعها المبدأين الجديدين وما أنجر عن وجوب فصل الماهية والوجود، فإنه يستند إلى إضافة قيمتين جديدتين إلى القيم الثلاث المعهودة: قيمة التوجيه وقيمة الشهود (شرطي التحرر من الضرورة والقول بالاستخلاف، أعني نفي تأليه الإنسان، الشارطين للقيم الثلاث المعهودة). وهذه الإضافة تساعد على فهم الصلة بين الإشكاليتين النظرية والعملية بإرجاعهما إلى إشكاليتين أعمق منهما هما إشكاليتا التوجيه الذي يجعل الماهيات ممكنات لا واجبات والشهود الذي يجعل المعلومات نسبيات لا مطلقات لشهود ما يتعالى عليها أعني موضوعها الآية، الإشكاليتان اللتان تمكنان من فهم هذا الحل استنادا إلى تحليل أفعال العقل وقيمها (الذوق والعلم والعمل والتوجيه والشهود) ومن فهم مكوناتها البسيطة والمركبة لصلة ذلك بجهات الوجود التي تصبح قيما في ضوء شهوده.

الفصل الأخير: دلالة كون آية الدين الفطري كانت الإعجاز الفني أو في أن الإبداع التام هو الإيمان المبدع

لن نستطيع أن نفهم كيف آلت التجربة الروحية في شكلها الجامع بين الدين الطبيعي والدين المنزل إلى مفهوم دين الفطرة ذي الآيةالفنية والإعجاز الإبداعي (في معتقد أصحابه، وذلك هو الدال) إلا إذا حددنا وحدة الموقف والغايات بين الإيمان الفاعل في تاريخ الفعالية الدينية السياسية والإبداع الفاعل في تاريخ المخيال الفني الجمالي والتلاحم الجوهري بينهما معتمدين على دليلين:

الأول: مستمد من وحدة الماهية بين الإيمان والإبداع رغم التناظر العكسي بين ظاهرهما والباطن في الوجود.

الثاني: مستمد من اختلاف الوجود بينهما رغم ميل التجربتين الدينية والفنية إلى الوحدة في تاريخهما المعلوم.

دليل الماهية: ظاهر الإيمان والإبداع وباطنهما.

سنحلل علاقات الإيمان والإبداع ظاهرهما وباطنهما استنادا إلى ما سبق علاجه لنبين أن ظاهر الإيمان أو بعد المؤمن المنفعلي ليس هو إلا باطن الإبداع أو بعده المؤمن الفاعلي وأن باطن الإيمان أو بعده المنفعلي ليس هو إلا ظاهر الإبداع أو بعده الفاعلي. فيكون الإيمان والإبداع بذلك متضمنين لنفس الأبعاد ماهية رغم تناظرهما العكسي وجودا، إذ يتعاكس الظاهر منهما والباطن المنفعلي والفاعلي. فمن لم يفهم أن الإيمان والإبداع في حقيقتهما الحية من طبيعة واحدة وأنهما يعبران أرقى تعبير –فعلا وانفعالا- عن ضروب الحيرة الوجودية في ذروتي الدين المنزل (الوحي) والدين الطبيعي (العقل) وإنهما لا يتعارضان إلا عند موتهما وانحطاطهما بفعل توظيفهما توظيفا يحولهما إلى مجرد أداة، من لم يفهم ذلك لا يدرك الصلة المتينة بين الفكرين الديني والفلسفي فلا يستحق أن يعبأ بصوته في أمور الوجدان الإنساني الجوهرية. فالإيمان إبداع لأسس الأمل ومصارعة لليأس يغلب عليه الانفعال في الظاهر لكنه في جوهره حقيقة الفعل الجامع بين الوجهين. والإبداع إيمان بهذه الأسس والمصارعة يغلب عليه الفعل في الظاهر لكنه في جوهره حقيقة الانفعال الجامع بين الوجهين.

أليس ظاهر الإيمان هو الإسلام القلبي، أعني موقفا يبدو المؤمن فيه شبه مستسلم للقضاء والقدر يؤمن بوجودهما ويعلل بهما ما يجعله يتعالى على صروف الدهر فيتخلص من سلطانها مما يجعل هذا الموقف متضمنا لوعي متدرج الشفيف بالعناية التي يفترضها وراء هذا القضاء والقدر اللامفهوم؟ ثم أليس باطن الإبداع هو الإسلام الذوقي لإدراك البديع في المدركات والمدارك بموقف شبه مستسلم لأثرها الساحر الذي يخلص من الدمامة العادية للإدراك النفعي مما يجعل هذا الموقف متضمنا لوعي متدرج الشفيف كذلك بالعناية التي يفترضها وراء هذه الدمامة اللامفهومة؟ باطن الموقف الجمالي إسلام ذوقي وظاهر الموقف الإيماني إسلام قلبي وهما إذن موقفان منفعليان في الظاهر يبدو فيهما المتذوق والمؤمن مستسلمين لعناية روحية وجمالية تتجاوز مجرى الأحداث إلى معانيها السامية التي تمكن من إبداع شروط التحرر منها للسلطان عليها سلطانا اعتبر ابن خلدون علامته أو الاستيلاء العقلي بإدراك النظام السببي دالة على مفهوم الاستخلاف: "واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره. وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى }إني جاعل في الأرض خليفة{. فهذا الكفر هو الخاصية البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته"[31].

أليس باطن الإيمان هو إدراك هذا التناقض بين الكمال المثالي ونقائص الحصول الطبيعي والتاريخي إدراكا حادا، إدراكا يقفز عليه الإيمان في ظاهره الاستلامي لكونه يصبح مجرد ممارسة طقسية جماعية لا تصل إلى الإدراك الشخصي إلا عندما تتحرر من السلطان الروحاني الخارجي فتصبح شبه تجربة صوفية يدرك فيها المرء هذا الباطن؟ ثم أليس ظاهر الإبداع هو إدراك هذا التناقض بين الجمال المثالي والبشاعة الحصولية إدراكا حادا، إدراكا يقفز عليه الإبداع في باطنه الاستسلامي لكونه يصبح ممارسة شخصية لا تصل إلى الإدراك الموضوعي إلا عندما تتخلص من أحوال النفس الذاتية وتقلباتها المزاجية فتصبح شبه تجربة تاريخية يدرك فيها المرء هذا الظاهر الذي يظهر آيات تحققه؟

وإذن فكل ما في الأمر هو أن ما ينتهي إليه الدين والإيمان ينطلق منه الفن والإبداع (صدى الوجود وقيمه في أعماق النفس المدركة للتفاضل بين المثال والواقع) وإن ما ينتهي إليه الفن والإبداع ينطلق منه الدين والفن وإن الدين التام ظاهرا وباطنا والفن التام باطنا وظاهرا شيء واحد. لذلك كان لا بد أن يستند خاتم الأديان إلى الإعجاز الفني دلالة إبداعية هي العبارة إدراك عن شهود الوجود والإعجاز التاريخي دلالة إيمانية هي الإشارة إلى تحقيق شهود الوجود فيجمع بين الوجهين جمعا يجعل الدين المنزل الأسمى عين الدين الطبيعي الأسمى. وذلك هو معنى دين الفطرة المحرر من كل سلطان عدا سلطان الإبداع الفني والتاريخي حيث يكون الشعور الديني الأسمى شعريا والشعور الفني الأسمى روحيا.

دليل الوجود: تاريخ التجربتين الدينية والفنية.

ذلك ما يخول لنا القول إن الإبداع الحقيقي والإيمان الحقيقي متلازمان في تحقيق التوالج بين عمل الإنسان الرمزي المبدع لظرفه المخيالي وعمله الفعلي المبدع لظرفه التاريخي وبين المثالي والواقعي في الإبداعين الفني والتاريخي. فلا يكون المبدع بحق إلا أحد شخصين: سالكا وجد ضالته فاطمأن وسكن أو سالكا لم يجدها فتحير واضطرب. ولا يكون المؤمن بحق إلا مبدعا إيجابيا وتفاؤليا عند وجود الضالة أو الشهود أو مبدعا سلبيا وتشاؤميا عند فقدانها أو الجحود، إذ أن كبار الأدباء من أمثال دستيوفسكي أو جوته وغيرهما كثير يجمعون الخصلتين حتى عندما يعبرون عن أشد المواقف الكفرية، لكونهم يعبرون عنها بإدراك ما يشبه للوعي الحائر من تناقض بين إطلاق صفات الفاعل ونقائص المفعول: كيف نفهم التعجب والإعجاب وكيف لا نفهمهما إذ يتساوى فيهما الكفر والإيمان عقلا ليتمايزا عقدا في الدين الحي؟ فالتعجب من وجود الشر والظلم، مثله مثل الإعجاب بوجود الخير والعدل، يصبح غير مفهوم إذا لم يصحبه في الباطن الشعور الحاد بالتناقض بين كمال الفاعل (الله) ونقص المفعول (العالم)، صحبه الثاني بالشعور بالتناغم بينهما: لا يمكن للضمير أن يثور من دون أن يحترق صاحبه بتناقض الشعور.

فالفن الأرقى لا يكون إلا من جنس العبارة عن الإعجاب بالعدل الإلهي تنزيها له من الشر والظلم Théodicée بالإيجاب (تنعما بشهوده  حتى في حالة عدم حصوله) أو من جنس العبارة عن التعجب من "الظلم الإلهي" بالسلب (طوقا إلى شهود العدل المفقود يعبر عنه الشعور الحاد بإدراك عدم حصوله). ولعل غلبة الضرب الثاني أقرب إلى طبيعة الآداب الثورية وأكثر تحديدا لصلتها بالضرب الأول. لكنها في كلتا الحالتين فن راق إذا صدقت وخلصت من التوظيف سواء عبرت عن يقين الإيمان أو عن حيرة الكفران، لكون الأول ليس إلا غاية الثانية والثانية ليس إلا بداية الأول. ذلك أنه ليس من اليسير الوصول إلى حيرة الكفر الصادق، إذ هو السبيل المثلى إلى يقين الإيمان حتى عند ذوي العزم من الأنبياء، فضلا عن كبار الأدباء والشعراء[32]. والتمثيل من الإبداع الفني لا يغني عن الإشارة إلى تجارب الإبداع التاريخي والحيرة الدينية بما هي سبيل إلى الإيمان ليست إلا جوهر القص القرآني ترجمة لتجربة الأنبياء الروحية بما في ذلك تجربة خاتمهم ومصطفاهم الذي تضمن القرآن الكريم العديد من مواقفه الحائرة مثله مثل كل ذوي العزم من الرسل.

كيف نفهم الإبداع المؤمن السلبي أو الجحود الذي يستسلم تشاؤميا للتنافي الظاهر بين المثال والواقع للتسليم اللاواعي بالجحودين، أعني إطلاق الطبائع المنافية للشرائع وإطلاق الشرائع المنافية للطبائع، بفضل العزم الصادق المقصور على إبداع الشروط الرمزية لتحقيق هذا التناغم في المخيال فحسب؟ وكيف نفهم الإبداع المؤمن الإيجابي أو الشهود الذي يسلم تفاؤليا بالتناغم الباطن بين المثال والواقع للتسليم الواعي بالشهودين، أعني تنسيب الطبائع والشرائع بفضل العزم الصادق الساعي إلى إبداع الشروط الفعلية لتحقيق هذا التناغم في الواقع التاريخي وليس في التصور المخيالي فحسب؟ والمعلوم أن الأمرين متلازمان بل ومتشارطان وما يبدو دون الآخر فاعلية هو الأفعل لكون المخيال هو المحرك للوجدان.

إن جواب هذين السؤالين يصبح ممكنا بمجرد فهم ما حصل خلال النقلة من التجربة الدينية المتقدمة إلى الإسلام في نظرية الشرائع وقيم العقل العملي ومن الفلسفة المتقدمة إلى الفلسفة العربية في نظرية الطبائع ومبادئ العقل النظري كما أسلفنا. وحتى لا نكرر ما قدمنا ولئلا نطيل القول في المسألة نكتفي بلمحات سريعة تذكر بنتائج التحليل السابق فتستكمل للعلاج. فالتنافي بين المثال والواقع سبيلا إلى التشاؤم أو الكفر الصادق الذي يمثل أولى الخطوات إلى التحرر من الإيمان الزائف، له إحدى العلتين التاليتين بحسب الجحودين. فعلته الأساسية يمكن أن تكون الوقوف عند تحكيم المبادئ التقليدية في مجرى الوجود وحصر نظرية العقل في العقل التحليلي بمبدئه الرئيس، أعني الهوية التي تخضع لما يشترطه المبدآن الآخران، مبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع. ويمكن أن تكون كذلك الوقوف عند تحكيم القيم التقليدية في مجرى التاريخ وحصر نظرية الشرع في الشرع التأويلي بمبدئه الرئيس أو الخير الذي يخضع لما تشترطه القيمتان الأخريان أعني قيمة الحق وقيمة الجمال. وإذن فللإبداع السالب المعبر عن التبرم بمظاهر الظلم والقبح مصدران: الجحود الفلسفي والجحود الديني. وكلاهما عند الصدق والإخلاص ممهد للشهود الحقيقي، مثلما يكون الشهود الفلسفي والديني عند الكذب والنفاق ممهدا للجحود الحقيقي.

وليس ذلك في الحالتين إلا لعدم اكتشاف مبدأي الترجيح والتحقيق اللذين غيرا مفهوم الهوية اليوناني وقيمتي التوجيه والشهود اللتين غيرتا مفهوم الخير الكتابي، أعني ما أضافته الحنيفية المحدثة لمبادئ العقل ولمبادئ الشرع. وبفضل هاتين الإضافتين أصبح بوسع العقل الإنساني أن يخرج من الصراع المزدوج ذي الأطراف الأربعة التي سادت التاريخ القديم والوسيط، الصراع حول العلاقة بين المثال والواقع عقلا والقيمة والوجود شرعا: الصراع بين التفاؤل الأرسطي والتشاؤم الأفلاطوني في التقليد اليوناني والصراع بين التشاؤم الإنجيلي والتفاؤل التوراتي في التقليد الكتابي ثم الصراع الجامع بين الصراعين في الأفلاطونية المحدثة الهلنستية. ذلك أن الخروج من هذا الصراع ذي الأطراف الأربعة هو الذي غير مفهوم الإبداع العقلي والجمالي ومفهوم الإيمان العقلي والخلقي بمقتضى تغييره مفهوم الدين والعمل ومفهوم الفن والعلم وذلك من خلال تغيير طبيعة العلاقة بين المثال والواقع والشرائع والطبائع تغييرا لعل أفضل ممثل له نظريتان هما: 1) نظرية الزمان حيزا لفعلي الإبداع المؤمن (في الخلق الفني) والإيمان المبدع (في الفعل التاريخي)، 2) نظرية الترجمان صياغة فنية لهذين الإبداعين.

إن إضافة مبدأي الترجيح والتحقيق وقيمتي الجهة والشهود هي التي جعلت الفكر الإنساني يكتمل بالتعالي من الجحود إلى الشهود ومن التشاؤم الوجودي أو الإبداع السلبي إلى التفاؤل الوجودي أو الإبداع الإيجابي: فتخلص الإنسان من الخطيئة الموروثة دينيا وفلسفيا وأصبح التقابل بين المثال والواقع أو الأخرى والدنيا مرغبا في الفعل التاريخي والإبداع لا مرغبا عنهما. ذلك أن الإيمان المبدع والإبداع المؤمن هما في الحقيقة عين هذا التعالي الذي لا يكون ذا معنى إلا إذا تضمن النقلة المحصلة للتعالي فتضمن حتما حديها، أعني الكفر الصادق المنفعلي الناتج عن عدم شهود التناغم والإيمان الصادق الفاعلي الناتج عن شهود هذا التناغم بإبداعه من خلال تحقيق القيم الخمس رمزيا في الإبداع الفني وفعليا في الإبداع التاريخي. ولم يكن ذلك ممكنا من دون التخلص من التقابل الوهمي بين الطبائع ممثلة للواقع والشرائع ممثلة للمثال وذلك من خلال إعادة النظر في مفهومي الهوية والقيمة.

الهوية بين الطبيعة والشريعة:

فاليونان كما أسلفنا وأرسطو على وجه الخصوص قد اعتبروا الهوية جوهرا صوريا ثابتا ثبات الأنواع والأجناس في التاريخ الطبيعي وحصنوها بمبدأي عدم التناقض والثالث المرفوع حفاظا على ثباتها الدهري. وكان منطلق هذا الموقف الحسم الذي غلب نظرية الطبائع الأرسطية المتفائلة على نظرية الطبائع الأفلاطونية المتشائمة. لكن المسلمين، والغزالي على وجه الخصوص، استكمالا نقديا لمحاولة ابن سينا، اعتبروها خلقة حكمية متغيرة تغير الإرادة الإلهية المشرعة بحسب القصود والعناية وأسسوها على مبدأي الترجيح والتحقيق. وكان منطلق هذا الموقف تعديل الحسم الأرسطي ضد أفلاطون (علاقة المثال بالواقع في مستوى الطبائع) بفضل تعديل القرآن الكريم للحسم العيسوي ضد موسى (علاقة المثال بالواقع في مستوى الشرائع) حسمه الذي غلب نظرية الشرائع العيسوية المتشائمة على نظرية الشرائع الموسوية المتفائلة.

وبذلك اجتمع التعديلان، لتجاوز التفاؤل اليوناني الذي سيطر منذ غلبة الأرسطية على الأفلاطونية ولتجاوز التشاؤم العبري الذي سيطر منذ غلبة الأرسطية على الأفلاطونية ولتجاوز التشاؤم العبري الذي سيطر منذ غلبة العيسوية على الموسوية في تعال من نوع جديد وحد بين الطبيعي والشريعي في دين الفطرة. وكلتا السيطرتين الأرسطية والعيسوية جحودية لعدم تعديلهما الواحدة بالأخرى ولتنافيهما ومن ثم لخلوهما من شروط تحقيق التعالي الذي هو الإبداع المؤمن أو المعجزة الفنية والمعجزة التاريخية الدالتان على الدين الخاتم جمعا منه بين التاريخ الفني والتاريخ الديني والذي هو كذلك الإيمان المبدع أو المعجزة التاريخية الدالة على الدين الخاتم لجمعه بين التاريخ السياسي والتاريخ الديني: فالإعجاز الفني يتجاوز ضرورة الطبائع وتحكم الشرائع إلى الفعل التاريخي الحي الذي هو مادي ورمزي معا ويمثله التطابق بين تجربة الدين الطبيعي والدين المنزل في الغاية. وإذن فليس هذان الجمعان إلا التوحيد بين الدين الطبيعي والدين المنزل في مفهوم الفطرة التي لا يتنافى فيها القانون الطبيعي والقانون الخلقي بل يتكاملان من خلال الاعتراف بوحدة الكائن البشري روحا وجسدا وبوحدة الفعل البشري في الزمان التاريخي إبداعا رمزيا وتحقيقا فعليا، رفضا للتنافي بين البعدين الأول والاستثناء المتبادل بين البعدين الأخيرين.

وقد ظن البعض الحل الذي غلب في التقليد اليوناني أساسا وشرطا لنظرية العلم والحقيقة لكونه حسب زعمهم قد حقق القطع مع سلطان الرمز الأسطوري والمثال (الفلسفة اليونانية) والحل الثاني الذي غلب على التقليد العبري أساسا وشرطا لنظرية العمل والمعنى لكونه حسب زعمهم قد حقق القطع مع المعرفة العقلية والواقع (التصوف المسيحي)، بحيث تكون العلوم والتقنيات مستندة إلى الهوية بالمعنى الأرسطي في عالم طبيعي يخلو من المتعاليات وتكون الأخلاق والفنون مستندة إلى الخير بالمعنى العيسوي في عالم روحي يخلو من المتدانيات. لكن الإنسان يصبح عندئذ وفي الحالتين مصابا بالفصام: العلم والتقنيات والعقل للدنيويات التي يمثلها السلطان الزماني أو الدولة بما هي سلطة مادية قبالة الأخلاق والفنون والرمز للأخرويات التي يمثلها السلطان الروحاني أو الكنيسة بما هي سلطة روحية.

ولم تفهم هذه الثورة على السلطانين الناتجين عن هذا الفصام، الثورة التي نحاول تحديد معالمها إلا بعد أن بلغ هذا فصام العالمين والسلطانين ذروته في التاريخ الفعلي وبعد أن حصل تطور في فهم هذا التاريخ الفعلي فتطورت نظرية العلوم والفنون لتلتقي بها في تصور الصلة بين الأمرين واعتبار الفصل بينهما تجريد مدقع للوجود والحياة. فنظرية العلوم قد أدركت أنها لا يمكن أن تستقيم إلا بالإبداع الرمزي أي بالفنون شرطه. ونظرية الفنون قد أدركت أنها لا يمكن أن تكتمل إلا بالإبداع التقني أي بالعلوم شرطه. وأدرك الجميع أن الأولى والثانية ليستا، عند الفصل بينهما، إلا أمرين مجردين لا معنى لهما وإنهما ليستا في الحقيقة إلا مرحلتين غير مكتملتين من التجربة الإنسانية في مجال الإدراك النظري وتصور موضوع النظر أو عالم الطبائع وفي مجال الإدراك العملي وتصور موضوع العمل أو عالم الشرائع.

فنظرية العلم المعاصرة تبين أن النظرة التحليلية القائلة بعلية الضرورة لا تكفي للنظر المبدع وأن التأويل ضروري لفهم شروط النظر الصورية وتطبيقها بما في ذلك شروط العلم الطبيعي فضلا عن العلم الإنساني لعدم خلو النظر من التقويم. ونظرية الفن المعاصرة تبين أن النظرة التأويلية القائلة بعلية الحرية لا تكفي للعمل المبدع وأن التحليل ضروري لفهم شروط الإبداع المادية وتنظيرها، بما في ذلك شروط الإبداع الأدبي فضلا عن الإبداع التشكيلي. فكان الجامع بين الأمرين ثورتان أوصلت الإنسانية إلى الوحدة بين الإبداع المؤمن والإيمان المبدع في مجالات القيم بأصنافها: قيم الذوق (جميل/ذميم) والعمل (خير/شر) والنظر (صادق/كاذب) والتوجيه (حر/مضطر) والشهود (شاهد/جاحد)، وأولى هاتين الثورتين تخص إدراك الزمان ومفهومه الذي تخلص من التثليث الأرسطي الناتج عن الجحود الفلسفي فصار مخمس الإبعاد والثانية تخص وجدان الترجمان ومفهومه الذي تخلص من التثليث العيسوي الناتج عن الجحود الديني فصار متمثلا في عملية التوحيد بين مجالي الخبر الأساسيين (علم الطبيعة والتاريخ) ومجالي الإنشاء الأساسيين (القانون والفن) لتحقيق التناغم بين الواقع والمثال.

إدراك الزمان بما هو حيز الإيمان المبدع:

ليس الزمان أو إدراكه مثلث الأبعاد إلا بمقتضى التصور الأرسطي الذي يعتبر الهوية طبيعة ثابتة لا خلقة تاريخية ماهيتها غير متقدمة على وجودها. فهو عندئذ يكون حاضرا وماضيا ومستقبلا. وثلاثتها أبعاد ميتة ثابتة لكون ما مضى فات. وما حضر عديم التحديد، إذ هو الحد الآني الذي لا يكاد يتجاوز غليان ما هو آت. وما هو آت ماض رغم كونه لم يحصل بعد، لكونه، بحكم الضرورة الطبيعية، حصيلة حتمية للحاصل. فيكون التاريخ عندئذ من الأوهام وتكون الطبيعة كوابيس الأحلام التي يرد فيها الإنسان إلى قشة تتقاذفها هموم الأسقام، فلا تفهم عندئذ طبيعة الرابطة الواصلة بين هذه النقاط الوهمية التي حصر فيها إدراك الزمان ومفهومه. أما عندما تتخلص الهوية من الثبات الطبيعي لتتصف بالصيرورة الشريعية فإن الزمان يعود له بعد المعنى الذي فقده بفقدان حيز الفعل الإنساني للكثافة الوجودية التي تضفي القدسية على التاريخ. عندئذ يصبح الزمان الفسحة التي يتمازج فيها الفعل التاريخي والفعل الإبداعي حيث يكون الرمز والواقع متلاحمين ويصبح الوجود عينه إبداعا بمعنيين: إبداعا للتاريخ الحر متخلصا من الواقعية المبتذلة وإبداعا للمخيال الحر متخلصا من النقد الإيديولوجي الغفل.

ذلك أن الماضي ليس بعدا زمانيا واحدا ولا كيانا بسيطا وإلا لكان حدثا بلا معنى وواقعا بلا مثال. كما أن المستقبل ليس بعدا زمانيا واحدا ولا كيانا بسيطا وإلا لكان معنى بلا حدث ومثالا بلا واقع. كلاهما، بخلاف الحاضر، ليس لحظة واحدة بسيطة لا تقبل التحليل. فأولهما فسحة ممتدة بين حدث ماض وآن حاضر يصل بينهما تأويل المعنى:وتلكما هما بعدا الماضي الذي هو مقدار متصل وليس نقطة بسيطة. وثانيهما فسحة ممتدة بين معنى مستقبل وآن حاضر يصل بينهما تحقيق الحدث: وتلكما هما بعدا المستقبل الذي هو مقدار متصل وليس نقطة بسيطة. فالماضي حدث متناه ومتقدم لا يقبل الرجع Irréversible إذا فصل عن المعنى المتأخر اللامتناهي والقابل للرجع Réversible. لولا تأويل المعنى اللامتناهي والقابل للرجع لكان الماضي حدثا ميتا لا صلة له بالحاضر إلا صلة الطبائع ذات العلية الضرورية. والمستقبل معنى متناه مشدود إلى حدث لا متناه. والمعنى المتقدم هنا متناه ولا يقبل الرجع إذا لم يربط بالحدث اللاحق اللامتناهي والقابل للرجع. ولولا تحقيق الحدث اللامتناهي والقابل للرجع لكان المستقبل معنى ميتا لا صلة له بحياة الحاضر بما هي اشرئباب مشروعي. وبذلك يتبين أن الزمان ذو أبعاد خمسة: 1) حاضر لحظي بسيط لا ينفصل فيه المعنى والحدث لكون حدثه هو عين معناه ومعناه هو عين حدثه، رغم كونه يدرك تنورا فائرا يتجاذبه الاتصال بالماضي شادا إياه للمعنى الذي لا يتناهى تأويله والاتصال بالمستقبل شادا إياه للحدوث الذي لا يتناهى تحليله، ثم ماض يتقدم فيه، 2) الحدث الذي صار شبه طبيعة عن، 3) المعنى الذي يبقى شبه شريعة ثم مستقبل يتقدم فيه، 4) المعنى الذي صار شبه طبيعة عن، 5) الحدث الذي صار شبه شريعة. ولا غرابة في ذلك فلولا اتصال تأويل المعنى ولا تناهيه بالنسبة إلى الحدث الماضي لكان التاريخ بأحداثه الميتة طبائع خالصة لا دخل لفعل الإنسان التأويلي فيها. ولولا اتصال تحقيق الحدث ولا تناهيه بالنسبة إلى المعنى المستقبل لكان التاريخ شرائع خالصة بمعانيه السيالة لا دخل لفعل الإنسان التحليلي فيها.

ترجمان الوجدان بما هو صورة الإبداع:

إن صلة تأويل المعنى اللاحق بالحدث السابق، هذه الصلة التي هي جوهر الماضي الحي، أعني المتصل بالحاضر اتصالا غير مقصور على الطبائع، هي عينها الفسحة التي يقطعها فعل القص سواء كان أسطوريا أو دينيا وبصورة عامة الإبداع الأدبي ترجمانا لفعل الوجود الحقيقي المتقدم على الفعل الروائي إذا تصورنا التاريخ قابلا للرجع رغم حصوله. فليست الرواية إلا هذا الرجع اللامتناهي للحاصل الفعلي الذي يصبح أحد فروع الحاصل الإمكاني كما يمثله أفضل تمثيل القص القرآني للماضي الحاصل وللمستقبل الذي سيحصل ولتأويلاتهما اللامتناهية بما فيها التأويلات الأخروية التي تقصه قص الأمر الحاصل في الماضي رغم كونها تنسبه إلى المستقبل: Réalité virtuelle.

وصلة تحقيق الحدث اللاحق بالمعنى السابق التي هي جوهر المستقبل الحي أعني المتصل بالحاضر اتصالا غير مقصور على مجرد التمني هي عينها المساحة التي يقطعها الفعل النظري أداتيا وفعل القص الروائي غائيا ترجمانا متقدما لفعل التحقيق التاريخي. ذلك هو التغير الذي جعل القص أو الإبداع الروائي مثله مثل التوقع العلمي الأداتي شرطا في الإبداع التاريخي. فيكون الإبداع الأدبي مخيال صنع المستقبل بشرط تصوره قابلا للوقوع الإمكاني Réalité virtuelle المتلاحم مع الوقوع الحصولي Réalité effective. الأدب بما هو إبداع مؤمن أو موقف متفائل يعد من أكثر أفعال الإنسان فاعلية تاريخية، لكونه الترجمان الأمين عن الجمع بين هذين الوقوعين الإمكاني والحصولي. فيكون هو عينه الوجدان الإنساني الديني والفني معا، بما كان ذلك ترجمان الوجود. ومن ثم فهو عين الحرية أو الأمانة بالمعنى الديني العميق.

وهكذا يتبين أن فعل التاريخ ممثلا للتحقق الوجودي وفعل القص ممثلا للتحقق الرمزي متشارطان.. ولما كان لا أحد منهما بمتقدم على الآخر باتا متساوقين لا تساوق أمرين مختلفين بل تساوق بعدين، من أمر واحد ذي وجهين هما وجها الترجمان الوجداني بما هو وعي يحصل وحصول يعي وذلك هو جوهر التاريخ الحي. فالأول شرط مادي للثاني إذا مكن من السيطرة على سيلان المعنى بتحقيق الحدث. إذا سال الحدث بالتأويل اقترب من المعنى فأسال الطبائع التي تقترب عندئذ من الشرائع ليتناغم الواقع مع المثال. وإذا تكثف المعنى بالتحقيق اقترب من الحدث فكثف الشرائع التي تقترب عندئذ من الطبائع ليتناغم المثال مع الواقع. عندئذ يلتقي الأمران في فعل التحقق الذاتي رمزيا وتاريخيا فيكون فعل الوجود ترميزا يتحقق وذلك هو الترجمان الحي. ويكون فعل القص تحققا يترمز وذلك هو الوجدان الحي. ويعود للإبداع بمعنييه اللذين ذكرنا ما يجعله عين الإيمان المبدع ويعود للتاريخ بمعنييه اللذين ذكرنا ما يجعله عين الإبداع المؤمن. فالإبداع الوجودي يتحد فيه فعل الوجود محقق الحدث بفعل القص مؤول المعنى. ويتحد الأمران في خاصية الإنسان الذاتية بمدلوليها الديني والفلسفي، عنيت فعل التسمية المبدع الذي بمقتضاه كان الاستخلاف، رغم الاحتجاج بالإفساد وسفك الدماء[33].

وتكون نسبة الإنسان مبدع ذاته مخيالا وتاريخا إلى الماضي نسبة المتلقي إلى النص ينطلق من الحدث ليتأوله معنى. وتكون نسبته إلى المستقبل نسبة الباث إلى النص ينطلق من المعنى ليحققه حدثا. والنسبة الأولى هي أساس التأويل اللامتناهي الذي يحرر الإنسان من تحدد الماضي وحتميته. وذلك هو المنبع الذي لا ينضب للإبداع الأدبي الذي يدخل الرجع على الحدث فيجعله مادة للإمكان بعد أن كان مادة للوجوب والامتناع فيؤسس قيمة الجهة التي أشرنا إليها. والنسبة الثانية هي أساس التحليل المتناهي الذي يحرره من لا تحدد المستقبل وفوضاه. وذلك هو المنبع الذي لا ينضب للإبداع الوجودي الذي يدخل الرجع على المعنى لنفس الغاية. ويجتمع البعدان في بؤرة الزمان الجوهرية أي بعده الأوسط بين الأبعاد الأربعة، أو الزمن الحاضر بما هو فعل الوجود الخاضع لقيمة الشهود فيكون حوارا ونجوى مع المطلق من خلال الصلة الإبداية بآياته الوجودية.

لذلك كان القص القرآني ذا وظيفتين: الأولى تتمثل في تعميق الوعي الروحي وتثبيت الإيمان الفاعل في التاريخ والثانية تتمثل في تقديم نموذج للاعتبار يحدد كيفية إبداع التقريب اللامتناهي بين المثال والواقع في المجالين الفعلي والرمزي أعني النظري العملي في المجال السياسي والنظري الجمالي في المجال الفني. ولعل الجمع الصوفي بين الرباط والإبداع الشعري محاولة أولى لتحقيق مثل هذا النموذج. وهي محاولة لم تفلح في إدراك دلالاته لكونها كانت سلبية دفاعية فاقتصرت على التوظيف المباشر للإيمان والإبداع مثلها مثل نزعة التحزب النفعي في السياسة والالتزام الواقعي في الإبداع[34].

الخاتمة:

وليكن تحديد مبادئ العقل والنظر ومبادئ الشرع والعمل في صيغتهما التامة بعد حصول التكامل بين الفلسفتين اليونانية والعربية خاتمة هذه المحاولة نلخصها بصورة موجزة تساعد على إدراك ما طرأ في الفكر الإنساني بفضل النقدين الديني والفلسفي اللذين حدثا في فكر الحنيفية المحدثة. فهذه المبادئ والقيم يمكن أن تصاغ على النحو التالي مع ربط ما يتأسس عليها من قيم بها ربطا يحدد العلة العميقة للترابط بين الفكرين الفلسفي العلمي والديني الصوفي:

1 – مبدأ الهوية بعد تعديله بالمبدأين الجديدين ومنه تنبع القيم الجمالية، إذ غايته تحقيق الوحدة الحية الأتم، طبيعية كانت أو وضعية، عندما يفهم الفهم الذي يقتضيه اكتشاف المبدأين الأخيرين. فليس هو إلا مبدأ جرده الذهن من الوحدة الحية، إذ هو يفترض أن يبقى الشيء هو هو رغم تعدده (تعدد الصفات) وتغيره (تعدد الأطوار والمراحل في حياة الفرد الواحد)، وذلك بحكم تطوره في حدود بقائه واحدا. لذلك كان لمبدأ الهوية نفس الأبعاد التي لا بد منها في كل وحدة حية بالمعنى الذي ذكرنا. فكل ذات لها فعالية حية واحدة بين حدي ذاتها تتصف بالأبعاد التالية: 1) فهي الذات الواحدة بما هي، 2) فاعلة في ما عداها وفي ذاتها وبما هي، 3) منفعلة بذاتها بغيرها، ثم علاقة الفعل بالحدين في اتجاهي الفعل والانفعال، أعني اتجاه، 4) الفاعلية واتجاه، 5) الانفعالية. وما وحدة الذات إلا كون هذه الأبعاد تمثل وحدة تجعلها كالوسط المستقل ولا متميز عن غيره من الأوساط التي لها مثل هذه الخاصيات. فتكون الذات بذلك مؤسسة وجودية حية تتحقق فيها وبها المبادئ والقيم.

2 - مبدأ عدم التناقض بمفهومه المعدل كذلك ومنه تنبع القيم الخلقية، إذ غايته تحقيق شروط التعامل التعاقدي بين هذه المؤسسات الوجودية عامة وبين البشر خاصة وأساسها ثبات الالتزامات والحقوق وتكافؤها وعدم تناقضها. فبقاء الشيء هو هو يمثله في النقلة من حال إلى حال عدم تناقض الأحوال بمعنى عدم خروجها عن حدود الحفاظ على الوحدة بمعناها الذي حددنا في المبدأ الأول. وهو ما يبقي على انفصال الوحدات التي تتصل بعضها بالبعض في العلاقة الخلقية، وفي أساسها أعني التعامل التبادلي في المعاملات بين البشر. وحتى العبادات فهي تقبل نفس الرد إلى قواعد التعامل التبادلي أعني مبدأ العدل بين الأخذ والعطاء أو مبدأ التعاوض كما يتبين من القول بالوزن لتحديد التعاوض بين الحسنات والسيئات يوم الحساب.

3 – مبدأ الثالث المرفوع بالمعنى المعدل كذلك ومنه تنبع القيم المعرفية، إذ غايته تحقيق شروط الفصل بين الآراء بالمقابلة بين المطابق للمقياس وما عداه، أعني غير المطابق للمقياس الذي يقاس به ما تراد المطابقة معه. فإذا وجدت حالة وسطى بين تخارج الرأيين في علاقتهما بالمقياس الذي يمكن من تحديد التطابق وعدم التطابق مع الشيء المقيس امتنع التمييز بين الآراء أو الذوات فلا يمكن تجاوز الصراع. من هنا يقتضي عدم التناقض، قبل الرفع، وضع معيار يكون ثالثا بين الرأيين يقاس به الرابع المطلوب، فيكون ما يعتبر ثالثا مرفوعا خامسا في الحقيقة، أعني ما يخالف الرأيين والمقياس والمطلوب. فتطابق رأي إحدى الذاتين مع المقياس أو الثالث الموضوع مقياسا للرابع المطلوب نفيا لرأي خامس مرفوعا في الجملة. وهو ليس ثالثا مرفوعا إلا بالقياس إلى الرأيين المطابق وغير المطابق للمقياس: رأيان للتقويم + مقياس موضوع + وجود مطلوب هو القصد الذي يصبح أحد الرأيين المعروضين للتقويم مطابقا له فيكون إياه + رأي مرفوع يكون غير الرأيين المعروضين للتقويم وغير المقياس وغير المطلوب.

وبذلك يتم حسم الخيار بين الرأيين بنفي الثالث الذي هو في الحقيقة خامس لئلا يكون الخيار بين الموقفين بالمقارنة مع المقياس الموضوع تحكميا باعتباره مقياسا للحقيقة المطلوبة: مثل ذلك وحدات القيس التي توضع ثالثا حكما بين التقديرين المختلفين للإرادتين المتقابلتين الخاصتين بالأمر المنشود. الاحتكام إلى وحدة القيس يجعل رأيا آخر غير الرأيين مرفوعا إذا صح أحدهما فطابق المقياس فسد الآخر بالإضافة إلى علاقة وحدة القيس بالمقيس الذي يمثل القاضي أو الكم بين المتقاضيين المفروضين نزيهين يقبلان بحصيلة الاحتكام إلى القيس الذي قبلاه حكما. ومن ثم كان الميزان والكيل –في الدنيا والآخرة حسب التصور القرآني- من أهم المعايير التي ينبغي الاحتكام إليها: قيس التماثل من حيث الوزن أو الحجم. وكل وحدات القيس هي ما لا يكون مطابقا لها من الآراء غير الرأيين المعروضين للقيس. أما الرابع فهو المطلوب الذي يؤدي القيس إلى الحكم بمطابقة أحد الرأيين له إذا اعتبر مصيبا.

4 – مبدأ الترجيح المعدل للمبادئ السابقة كذلك ومنه تنبع القيم الجهوية، إذ غايته هي الإمكان الأول للشروع في الأمر أو بقاء الإمكان مفتوحا لاستئناف الفعل العقلي من جديد لئلا يتوقف تطور المقاييس والالتزامات والوحدات. وبذلك يبقى الحاصل في إطار الممكن ولا ينقلب إلى واجب يوقف التغير والتطور: وضعية البداية المطلقة أو عودة مبدأ التضايف شرطا للاختيار مع التحكم المؤقت لكون التخلص منه في المبدأ الثالث لم يكن إلا بسبب الحاجة إلى معايير موضوعية لا معنى لها عند صراع الإرادات في أمر لا وجود فيه للمقاييس أو في ما يكون الخلاف فيه حول وضع المقاييس نفسها حتى توضع. وليست الشرائع إلا مضمون هذا الصراع وحصيلته المتدرجة: وبفضله تكون الموجودات شرائع اختيارية لا طبائع ضرورية دون أن تكون تحكمية.

5 – مبدأ التحقيق المعدل للمبادئ الثلاثة الأولى ومنه تنبع القيم الوجودية، إذ غايته التمييز بين شهود المطلق وجحوده، لكون كل الحدود السابقة إضافية إلى الإنسان ومن ثم فإطلاقها إطلاق للإنسان وتأليه له. وهو إذن قتل للإنسان بحصره في تعيناته كمن يريد لجيل أن يثبت في نفي تجدد الحياة بآلية توالي الأجيال: الوحدة الحية التامة التي توحد الإرادات بوضعها في الحالة المثلى حيث يكون الأمر محسوما بالعلم المحيط المنفي على الإنسان والموضوع معيارا حدا يوقف كل إطلاق يؤدي إلى تأليه الإنسان وذلك هو في الحقيقة المقصود بالاستخلاف. ذلك أن العلم المطلق الذي يمكن أن يمد الإنسان بمنزلة فوق منزلة الاستخلاف الوجودية لا يكون ممكنا إلا بتطابق صفات الإنسانية مع الصفات الإلهية: الحياة، القدرة، والعلم، والإرادة والوجود[35]. وذلك ممتنع بالطبع، عند سليم العقول[36]g



[1][1] - انظر على سبيل المثال لفهم علاقة المثالية الألمانية بالفكر الديني عامة وبالفكر الصوفي على وجه الخصوص دلتهاي في كتابه:

Die Jugendgeschichte Hegels, und andere ab hand lungen zur Geschichte des deutschen Idealismus, IV, Band Leipzig und  Berlin 1921.

[2] - انظر في ذلك التمييز الهيجلي الوارد في مدخل تاريخه للفلسفة تحديدا للعلاقة بين الدين والفلسفة،

G.W.F.Hegel, Vorlesungen über die Geschichte der Philosophie, I., Werke 18 stw. 3 Aufl. 1996, ss.81-113 : Verh?ltis der Philosophie zur Religion.

رغم أهمية هذا التمييز الهيجلي بين الفلسفة والدين فإننا نؤكد على محدوديته، لكونه يتحدث عن الدين عامة دون تمييز بينه وبين الفكر الديني الذي من درجة القوة الثانية والذي تدرج ليصبح من جنس القول الفلسفي في بعض الأديان أو في مراحل فكر بعضها، وخاصة الأديان المنزلة الثلاثة. لذلك فنحن نعدل من التمييز الهيجلي للعلتين التاليتين:] أولا: لأن الفكر الفلسفي ليس في قطيعة مع الميثولوجيا ولكل عصر ميثولوجياه التي يكون الفكر الفلسفي بل وحتى العلمي له بها صلة واعية أحيانا وغير واعية في غالب الأحيان. وحتى لم سلمنا بأن العلم يمكن له تحقيق القطيعة مع الفكر الأسطوري (وهو ما لا نسمله إلا جدلا) فإننا ننفي جدية ما يحاول الفلاسفة إضفاءه على القول الفلسفي من علمية لا يغتر بها إلا ساذج. ذلك أن طبيعة الإشكاليات الفلسفية نفسها تستثني كل علاج علمي وضعي ونسبي جدي. وإذن فاستعمال المناهج العلمية في الفكر الفلسفي ليس إلا للتقريب والتبليغ لا غير. البرهان في الفلسفة مجرد وهم لكونه في العلم فرضي استنتاجي دائما. ومن ثم فهو لا يفيد في الفلسفة كما يؤكد ذلك ديكارت في محاولته صياغة تأملاته صياغة تبديهية. فعندما ينطبق العلم على موضوع وجودي معين فإنه يصبح محكوما بمعيار إضافي هو المقدار الإحصائي للقرب من الكمال الصوري للمعرفة الرياضية التي يحاول الصياغة بها وللقرب التجريبي من الموضوع الذي يحاول صياغته. ثانيا: التوجه إلى الشكل الأسمى من الفلسفة يتضمن صياغة دينية دائما وهو يسعى إلى الدين الأسمى. والتوجه إلى الشكل الأسمى من الدين يتضمن صياغة فلسفية دائما وهو يسعى إلى الفلسفة الأسمى. ولعل أفضل تمثيل لهذه المساعي ما حدث في الشرق الأدنى حيث التقت أسمى الأديان المنزلة عند اليهود والمسيحيين والمسلمين بأسمى الأديان الطبيعية عند هؤلاء القوم أنفسهم فضلا عن التراث اليوناني. وذلك ما حصل في الأفلاطونية المحدثة بإشكالها الأربعة المعروفة (الهلنستية والعربية واللاتينية والجرمانية) والتوراتية المحدثة بأشكالها الأربعة: الشرقية بمرحلتيها اليهودية والمسيحية والغربية بمرحلتيها اللاتينية والجرمانية (الإصلاح). وليست المحمدية وفكرها أو الحنيفية المحدثة إلا ذروة هذين المسعيين في غاية تمامهما اشرئبابا إلى التخلص من الجحود كما تعين ذلك في نقد القرآن للتجربة الدينية المتقدمة عليه ونقد فكر الحنيفية المحدثة الكلامي والفلسفي للتجربة المفلسفية المتقدمة عليها. فختم الوحي ونفي السلطان الروحي المعصوم يجعل الدين منزلا وطبيعيا في نفس الوقت. ومن ثم فهو ينفي التقابل بين جوهر الفكر الفلسفي وجوهر الفكر الديني. فتقابلهما كان مفهوما في البدايات وخلال مراحل الجحود. لكنه يصبح لاغيا بمجرد الوصول إلى نظرية ختم الوحي المصحوب بنظرية نفي السلطان الروحي المعصوم استعاضة عنهما بسلطان الاجتهاد الإجماعي المستند إلى الاستخلاف العام: كل إنسان أصبح مسهما في السلطان الاجتماعي الإجماعي بمجرد قوله بالشهود ونفي الجحود أعني الإسلام للإرادة الإلهية واعتبار آياتها في الوجود الطبيعي والشريعي وفي وحدتهما الشخصية (الفرد الإنساني) والكلية (التاريخ الإنساني).

[3] - انظر أبو يعرب المرزوقي، منزلة الكلي في الفلسفة العربية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس 1994، القسم الأخير من المقدمة خاصة.

[4] - نقصد بالحنيفية المحدثة الإصلاح المحمدي للأديان السماوية ونقدها في القرآن الكريم نقدا أوصل إلى التوحيد بين الدين المنزل الأسمى والدين الطبيعي الأسمى تحت اسم واحد هو الفطرة الإسلامية. واصطلاحا هي حنيفية محدثة باعتبارها تحديدا جديدا يحيي الحنيفية الإبراهيمية. ونقصد بفكر الحنيفية المحدثة الفلسفي والكلامي محاولات فهم هذا الإصلاح من خلال فهم الحكمة والشريعة اللتين جمع بينهما النص القرآني نفسه (في الآية المحددة لطبيعة الدعوة "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعضة الحسنة" وفي الآية المحددة لطبيعة النبوة "ما كان لبشر أن يؤتيه الله والكتاب والحكمة والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وتدرسون") لإدراك الأساس الواحد الذي يمكن من تجاوز التقابل الظاهر بين الطبائع والشرائع. وهذا هو المبدأ الأساسي في الإسلام باعتباره دين الفطرة الذي يبني استدلالاته على اعتبار الطبيعة والتاريخ بوصفهما آيتين دالتين على شروط معقولية الطبيعة وشروط مشروعية الشريعة ومن ثم على قابليتهما للعلم الدال على أصلهما غير الاتفاقي. فالإنسان لا يدرك منزلته الوجودية إلا حيث تلتقي الشرائع أساسا للحرية والطبائع أساسا للضرورة فيتعالى إلى مبدأ يسمو عليهما هو هذا الاعتبار المضاعف أو الإسلام للإرادة الإلهية بما هي حكمة (علم الطبيعة) وعناية (علم الشريعة). ذلك أنه من دون هذا الإسلام لا يكون النظر ولا من باب أولى العمل ممكنين: فكلاهما يستند إلى الإيمان بمعقولية الوجود وبمشروعية القيم. ومن دون هذين الإيمانيين لا يمكن أن يعلم الإنسان ولا أن يعمل. وإذا خلصت النية وصدق القصد كان ذلك أساسا كافيا لبراءة الاجتهاد الذي يغني عن السلطان الروحي الخارجي لكونه يصبح مبدأ كافيا لتأسيس المعرفة والعمل إذا صاحبه شرط ضامن لعدم الإفراط والتفريط الذاتيين عند النظر أو العمل الفردي، أعني الإجماع، إجماع ذوي الأهلية في مجال النظر أو العمل.

[5] - انظر حول نوعي العلية الخاضع منهما للضرورة الطبيعية والخاضع للحرية الخلقية عند كنط مثلا:

Kant, Kritik der  reinen Verunft, stw. 55, 1. Auflage, Frankfurt am Main, 1974, ss.498-499.

[6] - انظر الأعراف، آية 172.

[7] - انظر الميتافيزيقا مقالة الجيم، حيث صاغ أرسطو مبادئ العقل ودلل عليها بالسلب من خلال بيان عدم إمكان القول والثبات من دونها واستنتج من ثم أنها ليست فقط شرطا في القول والعلم بل هي كذلذ شرط في الوجود. فصارت مبادئ العقل من ثم ذات وجهين: معرفي ووجودي.

[8] - انظر الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، ط4، القاهرة، المسألة السابعة عشر.

[9] - انظر ابن فورك، مجرد مقالات الأشعري، تحقيق دانيال جيماري، دار المشرق، بيروت، 1987، فصل (في إيضاح باب القدر والقول بخلق الأعمال وذكر ما يتصل بذلك من فروعه المبينة على مذاهبه وقواعدها)، ص90 وما بعدها.

[10] - انظر خاصة:

Frank, R.M., Beings and their Attributs, The teaching of the Basrian School of the Mu’tazila in the classical Period, N.Y.Uni.Press, Albanu, 1978.

وكذلك مقاله الأساسي بعنوان:

(Al Ma’dum wal-Mawjud, the non-existent, the existent and the possible in the teaching of Abu Hachim and his Followers), Mideo n°14, 1980, pp.185-210.

وانظر تعليقنا على هذا المقال خاصة في منزلة الكلي المحال عليه سابقا: الهامش 29 ص198.

[11] - انظر ابن فورك، مجرد مقالات الأشعري، المحال عليه سابق، ص246-247.

[12] - انظر الغزالي، تهافت الفلاسفة، المحال عليه سابقا. ص102: "قلنا إنما وجد العالم حيث وجد وعلى الوصف الذي وجد وفي المكان الذي وجد بالإرادة. والإرادة صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله. ولولا إن هذا شأنها لوقع الاكتفاء بالقدرة. ولكن لما تساوت نسبة القدرة إلى الضدين لم يكن بد من مخصص الشيء عن مثله فقيل للقديم وراء القدرة صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله".

[13] - انظر:

Thurot, M.F., Oeuvres de Locke et Leibnitz, Paris, 1879, Appendice au Discours sur l’Entendement humain, p470. Principe 7 : « Jusqu’ici nous n’avons parlé qu’en simples physiciens : maintenant il faut s’élever à la métaphysique, en nous servant du grand principe, peut employer communément, qui porte que rien ne se fait sans raison suffisante ; c’est-à-dire, que rien s’arrive sans qu’il soit possible à celui qui connaîtrait assez les choses, de rendre une raison qui suffise pour déterminer pourquoi il en est ainsi, et non pas autrement. Ce principe posé, la première question qu’on a droit de faire, sera : Pourquoi il y a plutôt quelque chose que rien ? Car le rien est plus simple et plus facile que quelque chose. De plus, supposé que des choses doivent exister, il faut qu’on puisse rendre raison pourquoi elles doivent exister ainsi, et non autrement ».

وحتى نفهم تقديم الآنية على الماهية في المبدأ اللاينتسي علينا أن ندرك كذلك عندما ننطلق من الذات الفاعلة: فهي تعزم على الإيجاد بترجيحه على العدم ثم تحدد ما ستوجد بتعيينه من بين إمكانات لا نهاية لها. والمعلوم أن لايبنتس بخلاف ديكارت يعتبر تعيين الحاصل من الممكن ليس تحكما بل هو خاضع لمبدأ الأبدعية. الله لا يمكن أن يختار إلا الأبدع. أما ديكارت فهو يعتبر التقويم لاحقا والإرادة الإلهية مطلقة ولا تخضع حتى لمبادئ العقل التي هي بدورها ليست إلا سنة إلهية. انظر لمزيد مقالنا:

(Métaphysique ou Méta-éthique), in Descartes et le Rationalisme, Actes du Colloques de Tunis 2-3 Décembre 1996.

[14] - انظر بخصوص معاني الفكرة: الفكرة الموضوعية (= التصور في الذهن) والفكرة الصورية (= الحقيقة في الواقع الموضوعي) والفكرة الفائقة (= عظم الفكرة في الشيء الذي تتعلق به الفكرة بحيث يلزم عن تصورها من باب أولى وجوده الفعلي)

Descartes, Oeuvres philosophiques, Ed. de F.Alquié, Garnier, Paris 1967, t.II, Méditations troisième, p441 «Mais enfin que conclurai-je de tout cela ? C’est à savoir que, si la réalité/objectivité de quelqu’une de mes idées est telle, que je connaisse clairement qu’elle n’est point en moi, ni formellement, ni éminemment, et que par conséquent je ne puis pas mois-même en être la cause, il suit de là nécessairement que je ne suis seul dans le monde, mais qu’il y a encore quelque autre chose qui existe, et qui est la cause de cette idée… ».

انظر خاصة التعريفين الثالث والرابع من الصياغة التبديهية التي حاولها ديكارت لعرض مضمون التأملات، ص587.

[15] - انظر ابن سينا، الشفاء والإلهيات، تحقيق قنواتي وزائد، القاهرة، 1960، ص204-205، "فالحيوان، مأخوذا بعوارضه، هو الشيء الطبيعي. والمأخوذ بذاته هو الطبيعة التي يقال إن وجودها أقدم من الوجود الطبيعي لتقدم البسيط على المركب وهو الذي يخص وجوده بأنه الوجود الإلهي لأن سبب وجوده بما هو حيوان هو عناية الله تعالى. وإما كونه مع مادة وعوارض وهذا الشخص وإن كان بعناية الله تعالى فهو بسبب الطبيعة الجزئية".

[16] - انظر حول العلاقة بين الخلق والأمر أو بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية وتشارطهما أو عدمه، ابن تيمية الحراني، مجموع فتاوي..، الرباط مكتبة المعارف، غ,م,ص، 411.

[17] - انظر القرآن الكريم: مثلا سورة الكهف 109 أو سورة لقمان 27.

[18] - مفهوم طور ما وراء العقل الذي وضعه الغزالي في المنقذ من الضلال مفهوما حدا ليشكك في كفاية العقل قياسا لنسبة هذا المفهوم إلى العقل بنسبة العقل إلى الحواس لم يبق مجرد فرضية حدية سلبية. فقد صار فيما بعد أداة لرفض موقف الاستبعاد والاستحسان الفلسفيين تعميما سلبيا وإيجابيا للمعرفة العقلية التجريبية إلى معرفة مطلقة يتصورونها ممكنة في المجال الذي يتجاوز التجربة. والغزالي لا يطلق هذا المفهوم إطلاقا ينفي العقل لكونه يحصر مجاله في مطلق الإمكان أعني في المجال الذي لا ينفي العقل إمكانه لكونه لا يستطيع إثبات وجوب نقيضه. ومعنى ذلك أن الغزالي لم يذهب بهذا المفهوم إلى حد نفي المبادئ العقلية لكونه قد قال في المنقذ حال برئه من الشك بالنور الذي قذفه الله في قلبه أي بالحدس إن الثقة بالأوليات (وأهمها مبادئ العقل) قد عادت: "فعادت الثقة بالأوليات بنور قذفه الله في القلب".

[19] - ابن خلدون، المقدمة، دار الكتاب اللبناني، ط3، بيروت 1967. الباب الثالث، فصل ولاية العهد، ص344-378: "فاعلم أن الاجتهاد في الأمور الدينية ينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة. والمجتهدون إذا اختلفوا: فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع. فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ. والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعا. وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتأثيم".

[20] - انظر أفلاطون، المقالة العاشرة من كتاب الشرائع، ص408.

Platon’s S?mtliche Dialoge (Platons Gesetze, Zehntes Buch) Otto Appelt, in Verbingung mit Kurt Hildebrandt, Costantin Ritter und Gustav Scheneider, Verlag Vo Felix Meiner Leipzig 1916.

إذ يقول الاثيني ممثلا لرأي أفلاطون دفاعا عن العقائد الثلاث التي يعاقب من لا يؤمن بها عند أفلاطون (الإيمان بوجود الآلهة وبعنايتها وبنزاهتها) بالإشارة إلى تقدم الفن العقلي على الطبيعة التي لا تتقدم إلا على الفن المنحط المحاكي لها:

Meinungen also und Euntwürfe, Vernunft, Kunst und Gesetz müssen ursprünglicher sein als Hartes und Weiches, Schweres und Leichtes. Also nicht nur das Geringfügige, sodern auch das Grosse und Ursrprüngliche sind Werke und Leistungen der Kunst und sid das Erste, W?hrend das, was man f?lschlich als Natursch ?pfungen und als Natur selbst bezeichet, erst et was sp?teres, unter Leitung der Kunst und Vernunft Enstandenes ist.

[21] - تنسيب أرسطو لتعالي المثال لا يحتاج إلى تعليق لكون ذلك يمثل جوهر قطيعته مع أفلاطون ومضمون الجدال الذي لا تكاد تخلو منه أي مقالة من مقالات مصنفاته وخاصة كتب ما بعد الطبيعة والأخلاق والسياسة والطبيعة والنفس. فأرسطو لم يبق إلا على مثال واحد مفارق بحق هو المحرك الأول. وهو ليس مثالا في الحقيقة لكونه عديم الممثول: ليس هو صورة مفارقة من موجود دونه يكون هو مثالا له اللهم بمعنى كونه الغاية التي تصبو إلى تمامها كل الصور الطبيعية المشتاقة إلى محاكاته وهو معنى المحرك الأول الذي يحرك غائيا ولا يتحرك.

[22] - المعلوم أن سقراط ينسب إليه نقل الاهتمام الفلسفي من الانشغال بالمسألة الطبيعية إلى الانشغال بالمسألة الخلقية. وهذا غير مفيد إذا أخذ على عمومه ودون تدقيق لكون الانشغال بالهم الخلقي والسياسي متقدم على سقراط، إذ هو ملازم لتاريخ الفكر السفسطائي. ما يفيد وجوديا ومعرفيا في نسبة هذا الانقلاب إلى سقراط هو ما أشار إليه أرسطو في الفصل السادس من مقالة الألف الكبرى عند محاولته تحديد المؤثرات الأساسية في تكوين الفكر الأفلاطوني، حيث بين أن سقراط هو الذي حاول تطبيق المنهج التعريفي الرياضي على الخلقيات كما صار متعارفا عند أفلاطون فيما بعد وبوصفه شرط التخلص من النفعية والذريعية السوفسطائية: أعني تحديد الماهيات أو المعاني الصورية واستنتاج ما يتلو عنها من نتائج تعتبر المقتضيات الخلقية التي لا بد من تطبيقها ليكون القانون خلقيا. فيكون سقراط قد استبق كنط عندما حدد مفهوم الأخلاق بالصورية والكلية العقلية المشرعة لو وقفنا عند حد الفهم الأفلاطوني لمنهجه: القواعد الكلية. لكننا نتصور سقراط متجاوزا لهذا المنهج الذي لم يكن عنده إلا أداة للتخلص من الذريعية السوفسطائية. ذلك أنه لو صح التأويل الأفلاطوني قديما والتأويل الكنطي حديثا لكانت غاية الأمر الوصول إلى النتائج السلبية في الحوارات الأفلاطونية السلبية وللأخلاق السلبية في صورية الأمر القطعي عند كنط. لذلك فنحن نفترض القصد السقراطي مماثلا للقصد الإبراهيمي حتى وإن لم نجد من بين الفلاسفة تعميقا لهذا القصد رغم محاولات أفلوطين الساعية إلى تجاوز الثنائية المبدئية عند وريثي سقراط: أفلاطون وأرسطو.

[23] - ما يمكن أن ننسبه إلى موسى هو التصور الفقهي للوجود الاجتماعي والتاريخي للأمم. فالفقه أمر موضوعي مفروض من الخارج. وهذا الطابع الخارجي والموضوعي ترمز إليه الألواح والطقوس الجماعية لكأن الضمير الخلقي والشخص شبه مغيبين. والدين ينظر إليه بوصفه مصيرا جماعيا لجماعة مصطفاة وليس ظاهرة كونية تهم الإنسان بما هو إنسان أو الوجود عامة. وهذا الطابع الخارجي ينتهي إلى شبه نفي تام للبعد الخلقي الذاتي من السلوك للإبقاء على البعد الفقهي الموضوعي. وهو ما يعلل المقابلة اللاحقة مع الروحية الإنجيلية والنصية التوراتية.

[24] - تنسيب عيسى لنصية التشريعات لا يحتاج إلى تعليق طويل لكون ذلك يمثل جوهر المقابلة بين النص والروح في الأدبيات المسيحية. لكن ما يحتاج إلى توضيح هو كون التنسيب الأرسطي للمفارقة الأفلاطونية يقبل التأويل تبرئة للحياة الدنيا. والتنسيب العيسوي للنصية الموسوية قد يؤول تجريما لها. أحدهما يؤسس للبراءة الأصلية برفض نظرية الخطيئة الأفلاطونية ونفي نظريته القائلة بأن المادة شر محض ومعنى لقيط. والثاني يؤسس لعنة الدنيا بتقديم مثال سلبي يجعل التحرر منها غاية العبادة ويجعل حياته نموذج التضحية من أجل البشرية باعتبار دنياها ممثلة للخطيئة. فيكون هذا المثال في الوقت نفسه أساسا للرهبانية وللوثنية المطلقة، إذ أن تضحية المسيح قد تفهم على أنها صك غفران للجميع ما دام المسيح قد تحمل ورز البشرية كلها، وخاصة منذ أن تصورت بعض الكنائس نفسها نائبة عنه في تقديم هذا الصك!

[25] - دلالة آيات الأفول وتدبرها يبينان أمرين: الأول هو ما يشبه المحاولة السقراطية لنقل الاهتمام من الطبعية إلى الشريعة لكون إبراهيم عليه السلام يبحث في ما وراء أسمى موضوعات علم الطبعية في عصره، أعني الفلك، عن مبدأ يتعالى عليه. والثاني والأهم، هو عدم اعتبار نقل الاهتمام استثناء للمبدل منه: فاعتبار الآية الفلكية يبقى المرقاة إلى تجاوزها ومن ثم فإن الاستدلال بالآية العالمية جزء من الاستدلال بالآيات الأخرى والتي من أهمها الآية التاريخية التي يضيفها القرآن. والمعلوم أن الأولى تنقسم إلى آيتين: العالم والنفس والثانية تنقسم إلى آيتين كذلك: التاريخ عامة وتاريخ التجربة الدينية خاصة. ويضيف إليها القرآن آية الآيات أعني الإعجاز الفني الذي يمثل القرآن أسمى تعيناته على الأقل في تصور المؤمنين به.

[26] - انظر: أبو يعرب المرزوقي، في العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني، دار الطليعة، بيروت 2000.

[27] - انظر ابن خلدون، المقدمة، الباب السادس فصلي التوحيد وإبطال الفلسفة وفساد منتحليها، حيث يشير ابن خلدون إلى هذا الأساس الإرجاعي الذي يرد الوجود إلى الإدراك ويعتبره سبب كل الأخطاء الفلسفية القائلة بنظرية المطابقة بين العلم والوجود. فرضيتان لنفي التأثيم: وحدة الحق في المسائل الاجتهادية مع تعذر التعيين. وتعدد الحق فيها. في الحالة الأولى يكون عدم تحديد المصيب والمخطئ أساسا لعدم التأثيم. وفي الحالة الثانية يكون تعدد الحق في المسائل الاجتهادية أساسا له. والحالة الثانية يكون فيها عدم التأثيم من باب أولى. وهذا المبدأ بمعنييه هو النتيجة الحتمية لنفي السلطان الروحاني المعصوم والدليل القاطع على استبداله بسلطة الاجتهاد الإجماعي. وما يصح في مجال الشرائع والعمل يصح من باب أولى في مجال الطبائع والنظر. لكن تعميم هذا المبدأ على نظرية المعرفة بمجاليها لم يحصل لعدم إيلاء المفكرين أهمية للعلوم الدنيوية ولظنهم أنها يمكن أن تنطبق فيها مزاعم نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بين العلم والمعلوم في الميتافيزيقا اليونانية التي سادت.

[28] - انظر حول ما يسمى بالانقلاب الكوبرنيكي عند كانط لتأسيس ميتافيزيقاه النقدية:

I.Kant, Kritik der reinen Vernunft, stw.55, F./M., 1, Auflage 1974, Vorrede zur zweite Auflage, s.25. «Man versuche es daher einmal, obwir nicht in den Aufgaben der Metaphysik damit besser fortkommen, dass wir annehmen, die Gegenst?de Müssen sich nach unserm Erkenntnis richten, welches so schon besser mit der verlangten M?glichkeit einer Erkenntnis derselben apriorizusammenstimmt, die über Gegenst?de, ehe sie uns gegeben werden, et was festsetze, soll. Es ist hiemit eben so, als mit den ersten Gedanken des Kopernikus bewandt, der, nachdem es mit der Erkl?rug der Himmelsbewegungen nicht gut fort wollte, wenn er annahm, das ganze Sternheer drehe sich um den Zuschauer sich drehen, und dagegen die Sterne in Ruhe liesse »

[29] - لعل أهم ما يمكن أن ينسب إلى سبينوزا هو جحود التعالي لعدم الفصل بين الذات الالهية والعالم. انظر: Spinoza, Oeuvres complètes, Pléiade, Gallimard, Paris, 1954. الباب الأول من كتاب الأخلاق والخاص بالرب، ص309-354 وتحديدا الضميمة، ص346-354، لتأكيدها على الحتمية والآلية الطبيعية الناتجة عن هذه المحايثة المطلقة التي هي جوهر وحدة الوجود المادية. لكن المحايثة رغم كونها جحودية يمكن أن تكون منطلقا للشهود لقبولها الفهم بحط الأعلى إلى الأدنى فيكون العالم عين الذات الإلهية أو من الأدنى إلى الأسمى فيكون العالم مجرد ظاهر الذات الإلهية. وتلك هي بالذات خصوصية التشابه الذي يتصف به القول بوحدة الوجود. ولعل أفضل تحليل لهذه الخاصية نجده في التمييز الخلدوني بين ضربي وجده الوجود: المطلقة وذات المجالي، انظر فصل التصوف من الباب السادس من المقدمة وكذلك كتابه شفاء السائل، تحقيق ابن تاويت الطنجي، إستنبول، 1958.

[30] - لفهم نظرية الحرية المطلقة بالمعنى المسيحي للكلمة وصلتها بالشر والخطيئة الموروثة انظر مصنف شيلنج حول جوهر الحرية. وهذا المفهوم نجد صياغته الفلسفية الأتم في مصنف شلينج هذا. وقد حاول كنط صياغته من قبل في كتابه حول الدين بحسب العقل مجردا (أي دون الوحي) Die Rerligion innerhalb die Grenzen der blossen Vernunft. انظر مصنف شيلنج في إحدى أحدث طبعاته مصحوبة بتقديم وتعليقات مفيدة جدا في:

Schelling Sull’Essenza della Libertà, (testo tedesco a fronte) F.W.J.Schelling, Philosophische Untersuchungen über das Wesen der Menschlichen Freiheit und die damit zusammenh?genden Gegenst?nde, A cura di Giuseppina Strummiello, Ruscoi Libri, Prima edizione, Milano, 1996.

[31] - الشعر العربي ظل بعد الثورة المحمدية دون الوعي الوجودي والفني الإسلامي لكونه بقي لسوء الحظ في مستوى سطحية الشعر الجاهلي المقصور على أحوال النفس الذاتية للشاعر الغفل الذي لا يتجاوز الترجمة الذاتية وهموم الدنيا. ويمكن أن نصف هذا الشعر من منطلق ذات الشاعر وصفا يستوفي كل أغراضه على النحو التالي:

المستوى الأول: ذات الشاعر تحددها علاقته بشعره 1) الشعر، 2) الفخر.

المستوى الثاني: ذات الشاعر تحددها علاقته  بمتبوعه المعنوي: 1) النسيب الاستفتاحي، 2) الغزل الفعلي.

المستوى الثالث: ذات الشاعر تحددها علاقته بالملاهي، 1) العبثيات (كاللغزيات والطرديات والولدانيات الخ..)، 2) الخمريات.

المستوى الرابع: ذات الشاعر تحددها علاقته بمنزلته في المجتمع والوجود.1) حكم في أحوال الآخرة، 2) حكم في أحوال الدنيا.

المستوى الأخير: ذات الشاعر تحددها علاقته بمتبوعه المادي: 1) المدح، 2) الهجاء.

كيف نفهم العلاقة بين هذه المستويات؟ وكيف يمكن أن نستنتج منها خصائص الشعر العربي من منطلق دورانه حول ذات الشاعر في هذه الأبعاد الخمسة التي ذكرنا؟ فالمستوى الأول والأخير هما الغالبان على هذا الشعر وهما أساس التأويل النسقي لفهم خصائصه. والمستوى الثاني والرابع من جنس الأول والأخير. وهما يساعدان على فهمهما انطلاقا من ذات الشاعر باطنا إلى طبيعة الشعر ظاهرا. والمستوى الثالث الذي هو القلب والأكثر دلالة لكونه يبين طبيعة العلة التي تفسر كل الخصائص والتي توحد بين مرحلتي الشعر العربي الكلاسيكي والحديث. فهو يحدد طبيعة العلاقة بين ظاهر سطحي يستدعي الهروب من جد الحياة في التلهية العبثية وباطن مستلب يستدعي الهروب من الوجود في الغيبوبة الخمرية: وتلك هي الصفة التي لأجلها ذم الشعر العربي الذي من هذا الجنس في القرآن الكريم، لكونه قولا خاليا من الصدق الفني والوجودي وهو مدلول القول بلا عمل إيمانا أو كفرا. بل إن الخطاب السياسي العربي الحالي في أفواه النخب الخادمة هو أكثر الأقوال تمثيلا لأهم خصوصيات هذا الشعر: التنافس في الكذب بالمبالغة في البديع البلاغي الشكلي الأجوف. ويكفي لنعلم تصور الشعر العربي عند الشعراء أنفسهم أن ننظر إلى الفرع الأول من كل مستوى من المستويات الخمسة. أما إذا أردنا أن نعلم تصور الشاعر لذاته فلننظر إلى الفرع الثاني منها. فالفروع الخمسة الأولى (الشعر والنسيب والعبثيات وأحوال الآخرة والمدح) تبين الطابع الكاذب والمتكلف للشعر: أعني كونه مجرد صناعة مهنية لم تبلغ درجة الصناعة الفنية لكونها لم تتجاوز القول الواصف لأحوال نفس الشاعر إلى العمل القادر على وصف التعينات الإمكانية للكلي الجمالي والجليلي. لذلك فهي لا تعبر عن مواقف صادقة لا ذاتية تتعين في ذات الشاعر نفسه ولا موضوعية تتعين في غيره فتكون شخوصا ونماذج فنية. والفروع الخمسة الثانية (الفخر والغزل والخمريات وأحوال الدنيا والهجاء) تبين مجال تحقق الذات الوحيد الذي يؤمن به الشاعر  أنه المجال المقصور على أحوال النفس السطحية التي لم تتجاوز أحوال نفسها إلى الجمال والجلال في الوجود، ولم تعل على أحوال نفسها إلى الكلي من المشاعر والعواطف والأفعال الإبداعية الروحية والرمزية كما سيصبح عليه الأمر في النموذج الذي يقدمه القرآن للترجمان الأدبي الحقيقي. فكل هذه العواطف سطحية وهي تدل على استلاب الذات استلابها الذي يمثله الطابع التافه والكاذب للفروع الممثلة للشعر الذي صار صناعة. ولا يشذ عن ذلك الشعر المتعالم الذي من جنس شعر المعري ولا الشعر المزعوم عرفانيا الذي من جنس شعر ابن عربي الذي هو نظم سخيف لمعان ابتذلت بتسطيح أصولها الموجودة إما في القرآن أو في الفلسفة ولا ترى لصاحبها أدنى غوص فعلي في أعماق الوجود والنفس، فضلا عن المعرفة الزائفة لخزعبلات ذوي الكرامات والسحر وأسرار الحروف والطلسمات. والسؤال الملح هو: هل الشعر العربي الحالي تجاوز هذه الأغراض أعني ما تفيده في العمق أم أنه لم يغير إلا المظاهر وأدوات التعبير عن نفس الأغراض التافهة، بجميع مستوياتها وخاصة مستواها الأوسط كما أسلفنا؟ والجواب بالإيجاب: الشعر الحالي لا يختلف عن الشعر التقليدي رغم الفروق الظاهرية، إذ لا يكفي أن تغير طبيعة الممدوح والمهجو  لكي يتغير هذا الغرض السرطاني في الشعر العربي. والعلة هي عدم فهم الثورة القرآنية في الصلة بين الصدق والشعر وبين الشعر والوجدان الوجودي في ضربي تعينيه أعني ترجمان التجارب الإدراكية بوصف غير ذات الشاعر بل بالتمثيل الدرامي الشعري في مخيال يتجاوز الفصل بين واقع ميت قبالة مثال أجوف يطلقان أعني في واقع إمكاني يكون المخيال والمثال والحقيقة والواقع فيه ثمرة الإبداع نفسه ببعديه الرمزي الفني والديني السياسي. ما يزال الشعر العربي جاهلي الشعور وسطحي الوعي مقتصرا على ذات الشاعر المرضية. ومثله الأدب الروائي الذي لم يتجاوز الترجمة الذاتية الساذجة. وليس معنى ذلك أننا ننكر وصف الشعر للذاتية. ما ننكره هو اقتصاره على ذلك. فلو كان الشعر العربي يصور الذاتية المرضية في شكل درامي لتكون أحد المناحي السلوكية أو أحد ضروب الشخصيات لكان ذلك أمرا لا غبار عليه. إما أن يقتصر على ذلك أو يكاد فهذا لعمري من الأمراض الحضارية والروحية التي عمت كل وجوه الترجمات المعبرة عن الوجدان في الحضارة العربية الإسلامية. مرض تضخم الذوات السطحية والعينية ألغى كل تجاوز برفع العقل والوجدان إلى إدراك الكليات في جميع مجالات النظر والعمل والذوق والتوجيه والشهود. فصارت السياسة نزوات الحاكم. وصار الفن نزوات الفنان. وصار العلم سخافات المفكر. وصار العمل تحكمات العامل. وصار التوجيه تخبطات المشرع. وصار الشهود مجرد الانغماس في الدنيا البهيمية. وأكاد أجزم أن تدريس الأدب العربي الكلاسيكي ووصف منزلة الإبداع والمبدعين في تذللهم وركوعهم لأهل البلاط وشبه التأليه المرضي لذوي الجاه أيا كان مأتاه أصبح خطرا على أخلاق الشباب وروحانية الأمة. فلكأن الأدباء أنفسهم أول من يسلم بتفاهة الأدب والإبداع الفني لمجرد كونهم يجعلونه مجرد وسيلة للتكسب وإرضاء ذاتية الحاكم والمرضية. ولا يهم من هو الحاكم: الملوك والخلفاء وسيطا والأحزاب والشعوب حديثا. لقد فقد في هذا الإبداع المزعوم كل قدرة على التجرد الذي يجعل الأديب الحقيقي قادرا على الخروج من كهف ذاته وأبعادها وعلاقاتها التي وصفنا ليعبر عن الذوات البشرية عامة، بمن فيها الذوات المرضية لبعض الشعراء وغيرهم. والمعلوم أن هذا التجرد هو الشرط الضروري والكافي لرؤية ما يتعالى على نزوات الذوات الفردية. فلا يبدأ الفن أو العلم أو التوجيه أو الشهود لا بعد حصوله حصولا متمكنا يجعل المرء قادرا على وصف غير الذات وكأنه عين الذات لفرط العلم الدقيق بخفايا الأمور. فالشاعر الدرامي الذي يصف شخوص التراجيديا مثلا يصورها وكأنه في باطن كل منها دون أن يكون أي منها ذاته. ومن دون هذا التجرد الذي يمكن من علم غير الذات لا يكون العلم بالذات نفسها ممكنا لكونها تكون محجوبة عن ذاتها بنزواتها فلا ترى منها إلا سطحيات الأحوال النفسية القلب فتقتصر على القشور دون الألباب.

ويمكن أن نختار نماذج ممثلة من الشعر الكلاسيكي ونكتفي بمجرد نفي تجاوز الشعر العربي الحديث له دون إثبات لكون ذلك ليس موضوعنا الأول. ويمكن أن نثبت ذلك لاحقا في إبانه ومكانه. فالفروع الخمسة الأوائل يمكن الاستغناء عن التمثيل لها لكونها توجد عند كل شاعر اعترف بشاعريته في المنظومة الأدبية العربية. نكتفي إذن بالتمثيل للفروع الخمسة الثواني لكونها هي التي يتعين فيها صفات الذات الشاعرة ومن ثم أخص خصائص الشعر الذي لم يتجاوز هذه الذاتية. فالصنف الأول يمثل فرعه الثاني المتنبي، حيث تتضخم الذات المرضية لتصبح الغرض الأول والأخير من فعل الشعر الذي يصبح مقيتا. وما إعجاب المثقفين العرب بشعره إلا لكونه يصور أصدق تصوير مرض ذواتهم  وخنوعها لذوي السلطان. فليت شعري أي عزة نفس وإيمان بالإبداع يمكن أن يستند إليهما توظيفه للحصول على ولاية قديما وإدارة أو سفارة حديثا؟ والصنف الثاني يمثل فرعه الثاني ابن أبي ربيعة حيث تتضخم الذات المرضية لتجعل ألعاب حبها الماجن الغرض الأول والأخير من فعل الشعر. وما إعجاب النقاد بمثل هذا الغزل إلا لعدم تقدير الحب حق قدره. والصنف الثالث الذي هو القلب يمثل فرعه الثاني أبو نواس حيث تتضخم ذات الشاعر المرضية لتجعل من فقدان الوعي بالخمرة الغرض الأول والأخير من الشعر. وهذا هو الجوهر في كل الشعر العربي الكلاسيكي لكون أغلب الشعراء ليسوا إلا مجرد منتشين بملكة لم تهذب تهذيبا يجعلها قادرة على تجاوز الذات للوصول إلى الإبداع الفني الحقيقي الذي لا يبلغ هذه الدرجة من دون أن يكون تصويرا صادقا لمواقف الإيمان السلبي (إدراك القبح والظلم الخ.. وتصويرهما تصويرا يكون مقفزا لإبداع شروط السكن إلى الوجود بما يضفيه عليه الإبداع من جمال يصنعه الإنسان الذي أدرك فقدانه) ومواقف الإيمان الإيجابي الذي ليس هو إلا الإسهام الفعلي في تحقيق ما أدرك الإبداع السلبي فقدانه. من دون الشعور بفقدان الجمال والجلال لا يكون الإبداع ممكنا سلبيا وهو لا يكون ممكنا إيجابيا من دون حال تشعر بوجوده. وهو لا يكون تاما إلا إذا جمع الوجهين بوصفه توترا دائما بين الموقفين. والمعلوم أن هذين الوجهين يقتدم على أولهما الغفلة  الشعورية العامة عند الناسين ويتأخر على ثانيهما الغرق اللامبالي في التبليد الذاتي بكل المخدرات الممكنة عودة إلى الغفلة الشعوبية البدائية. ويتوسط هذه الحدود الأربعة أصلها جميعا أعني الوعي-الوجود الاستخلافي الذي يتأرجح بين هذه الأشكال الأربعة بوصفه ومضة لا تتعين إلا فيها دون أن تكون إياها لكونه المنبع الوجداني الخالص الذي لا يرد إلى أي تعين ترجماني. والصنف الرابع يمثل فرعه الثاني المعري حيث تتضخم ذات الشاعر المرضية لتجعل من ذم الدنيا والآخرة الغرض الأول والأخير من فعل الشعر. ولو كان ذم الدنيا والآخرة متجاوزا للتبرم الشخصي لكأن ذلك إبداعا. ما أن يقتصر المرء عن التعبير عن ضيقه بحاله فليس ذلك في أدبه أحد شخوص شعره لا شخصه الوحيد. والصنف الأخير يمثل فرعه الثاني الحطيئة حيث تتضخم ذات الشاعر المرضية لتجعل من الهجاء الغرض الأول والأخير من فعل الشعر. وليس الهجاء إلا الفخر معكوسا. وكذلك المدح. فهو هجاء لغير الممدوح ما دام يرفع فوق الجميع بفعل المدح ولا يمدح بخصال ذاتية لا يستثنى منه غيره, ولعل الحطيئة قد بين أن الهجاء والفخر والمدح أمر واحد فهجا نفسه مفاخرا بهجائه مادحا قدراته. فالفخر عند الشعراء ليس إلا هجاء للشعراء الآخرين بمدح قدراته الشعرية وهجاء قدرات الآخرين: كلهم يحقق ذاته بنفي غيره. لذلك فما تراه حاليا في المقاهي والنوادي وملاحق الصحف الثقافية ليس إلا الصورة الحقيقية لمرض الذات الذي نصف في الحقبتين الوسيطة والحالية: لكأن الشعراء مقصور همهم على معركة ديكة في حضيرة دجاج يتفرج عليه البلاط قديما والشعب حاليا. البلاط وحده اتسع: صار المقاهي والصحف وصار المتفرجون عامة من يقرأ. وقد شاع هذا الداء فعم الذات العربية حتى صار القول فيها كذبا في كذب، أعني بلغة النقاد العرب القدامى أجمل الشعر لكونه أكذب القول: ولعل الصحافة الأجيرة والمهرجانات الحقيرة وسلوكيات الشعوب المريرة في الانتخابات المزيفة ومواكب دفن الزعماء المكيفة الدكتاتوريين الذين لم يجرم أحد مثلهم في حقهم وفي حق القيم أفضل ممثل لهذه الأمراض التي تعينت في أكاذيب مقززة. سوق من المزايدات اللفظية والتنويعات البلاغية والمجاملات والنفاق والكذب. ذلك هو أصدق وصف لما يسمى بالإبداع الذي لم يعد ترجمانا للوجدان بل مجرد برقع للكذب وللبهتان. وقد يقل إعجاب المرء من هذا الرأي إذا علم أننا نذهب إلى أن كبار المبدعين في العصور الحديثة من غير المسلمين وخاصة من كان منهم في قطيعة مع الأدب الرهباني أقرب إلى مفهوم الإبداع الذي حددته الثورة المحمدية كما حاولنا وصفها هنا وفي كتاب الشعر المطلق من جميع المزعومين مبدعين من بين العرب: فالعرب أقل شعوب الإسلام وعيا بأبعاد الرسالة التي أتت بلسانهم وأقل الأمم خروجا من سذاجة الوعي الجاهلي السطحي الذي لا يتجاوز قشور الأعماق النفسية الفردية فضلا عن الأعماق الجماعية. ويكفي مثالان ليسا من العرب (الذين لا نستثني من مبدعيهم إلا الجاحظ وبديع الزماني بدايات لإبداع يتجاوز ذات المبدع لو تطور عملهما فتجاوز مجرد المجون عند الأول ومجرد اليأس الساخر عند الثاني) نذكرهما باعتبارهما أكبر مبدعين على الإطلاق. فالإبداع الراقي يتجاوز كل الفروق العقدية والحضارية. شكسبير مصورا لشواذ البشر في مجال الانفعالات المحركة للنفس البشرية تحريكا يماس الجلال كما شخصها في أعماله الدرامية وجوته مصورا للمواقف الوجودية القصوى من فاوست إلى الديوان الغربي الشرقي تصويرا بلغ ذروة الجمال. إنهما يمثلان الشعر التام الذي يجمع بين بعدي الإبداع المتميز فيصف التوتر الدائم بينهما وصفا ليس لذات الشاعر فيه المقام الأول ولا الأخير، وإلا لبقي العمل في مستوى قشور الأحوال النفسية الساذجة، كما هو الشأن في جل الأعمال الشعرية عندنا، ولعل رأي المازني في أمير الشعراء من مؤيدات هذا الموقف مؤيداته ذات الدلالة المفيدة لكونه اعتمد فيه على معيار أساسي يتمثل في محك الكونية الذي يظهر على الترجمة: فكل أدب لا يكون مؤثرا وجميلا إلا في لغته الأصلية ليس من الأدب في شيء لكونه مجرد أصباغ ومؤثرات سطحية لا تتجاوز الخصوصي من اللغوي (انظر أخبار الأدب، عدد 38 بتاريخ 4 يونيو 2000 نقلا عن مجلة الرسالة الأسبوعية بتاريخ 30 أفريل 1927).

[32] - قرآن كريم، البقرة، 30.

[33] - ابن خلدون، المقدمة، الباب السادس، الفصل الحادي عشر، ص839-840، الاستخلاف.

[34] - وذلك هو منبع كل الأصوليات. ومن جنسها الأصوليتان اللتان تتقاسمان تعفين الحياة الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي: الأصولية الدينية والأصولية العلمانية. فالثانية لم تدرك أن تقدم المعنى على الحدث هو الذي يجعل المستقبل حيزا للفعل التحقيقي اللامتناهي في المجالين الرمزي والتاريخي. والأولى لم تدرك أن تقدم الحدث على المعنى هو الذي يجعل الماضي حيزا للفعل التأويلي اللامتناهي في المجالين الرمزي والتاريخي. وبذلك يصبح زمان الأمم حيا فيكون لها تاريخ يتلاحم فيه الميخال والوجود. الأصولية الدينية تسعى إلى رد الماضي إلى بعد واحد بحصر المعنى اللامتناهي في فهم واحد تعتبره مطابقا لما تعتبره أصالة وجوهر الحدث (ما تطلق عليه اسم الصدر الإسلامي) فتقتل الحدث والمعنى معا. والأصولية العلمانية تسعى إلى رد المستقبل إلى بعد واحد يحصر الحدث اللامتناهي في إنجاز واحد تعتبره مطابقا لم تتصوره حداثة وجوهر المعنى (ما تطلق عليه اسم الحداثة الغربية وهي مثل الصدر ماض تجاوزه أصحابه) فتقتل المعنى والحدث معا. لذلك فلا يمكن أن يكون الأولون مؤمنين ولا يمكن أن يكون الثانون مبدعين بل هما كلاهما محروم من الإيمان والإبداع فيلجؤون لتوظيف نسخ ممسوخة من الدين والفن في المجال الذي يعنيهم قبل أي شيء آخر: الصراع السياسي الأدنى على المصالح العاجلة والمنافع القريبة. هذا فضلا عن كونهما كلاهما مقلد أصحاب: الأصولية الدينية للماضي الأهلي، وأصحاب الأصولية العلمانية للماضي الأجنبي. فكلاهما يتصور تحصيل المثال إعادة لتحصيل حاصل وليس إبداعا فيه كثير من المكابدة والمغامرة والتصدي للمجهول.

[35] - انظر حول كيفية استحقاق الرب للصفات الخمس، القاضي عبد الجبار، الأصول الخمسة، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، مطبعة وهبة، القاهرة، 1965، أصل التوحيد وخاصة ص182-183.

[36] - اعتبار الصفات التامة مجرد تعويض وهمي عن النقائص الإنسانية تأليه للإنسان لا يختلف عن هذه النظرة حتى وإن كانت ملحدة. فالإله يفسر بعامل نفسي إنساني مبدع للمطلقات التي يتعالى بها على العالم فيكون بذلك رغم نقائصه ربا للعالم الذي يتعالى عليه. وتلك هي غاية الحلولية، أعني حلول الكمال في الإنسان وتأليهه ذاته سواء آمن بوجود الإله كما في التصور الحلولي المسيحي الرسمي أو لم يؤمن به كما في الحلولية القائلة بوحدة الوجود في الإنسان الكامل، حتى بما هو مجرد فكرة في الإنسان الناقص. وليس أساس بحث كنط في الدين بمجرد العقل إلا هذه الفكرة. وبفضلها أمكنه التوحيد بين هذا الدين والمسيحية.