ص1       الفهرس        31-40

 

ما نفقده هم الأحياء وليس الأموات

أو حب الحياة (1)

مارك أوجي

ترجمة: لحسن حيرا

إن التساؤل عن علاقة الإنسان المعاصر بالموت تحيلنا بشكل ما إلى ملاحظة غالبا ما تم إقرارها؛ وهي أن هذه العلاقة قد تغيرت. إننا نشير هنا إلى كل ما يتعلق بصعوبة الترميز للموت ومعايشته جماعيا من خلال طقوس خاصة. ونعتبر –وهذا نوع من الحقيقة- أنه في المجتمعات الأكثر تقليدية أو في مجتمعنا القديم كان للناس علاقة حميمة مع الموت فقدوها اليوم. إننا نجدهم يموتون في المستشفيات بل هناك بحث عن ما يمكن تسميته بـ"الموت النظيف"، فالجثة نفسها أصبحت تخضع إلى عملية تجميل في محلات خاصة لتظهر  في شكل جميل، كما هو الأمر في الولايات المتحدة. والتساؤل حول العلاقة الحالية مع الموت معناه الإشارة إلى اندثار الطقوس الخاصة بالموت والسبب الأساسي في ذلك هو رفض الموت.

ويبدو لي أن ما يؤسس هذه الملاحظات هو مجموعة من الأحداث ذات طبيعة اجتماعية لا يمكن إنكارها، ومن المهم معرفة ما إذا كانت تصدر فعلا عن ظاهرة "الرفض"؟ ثم ماذا نقصد بمصطلح "الرفض"؟

الموت والطقس:

علينا أن ننطلق من ملاحظات عادية جدا إلى حد ما لكنها ضرورية. ليس من الممكن التعامل مع الموت في المدينة أو في المجتمعات الحضرية المعاصرة كما يتم ذلك في الجماعات محدودة العدد، حيث حياة وموت كل فرد من الجماعة مراقب من طرف الجميع. باعتباري أنثربولوجي مختص في إفريقيا (مستفرق Africaniste) بحثت في قرى حيث يتم ملاحظة أبسط أعراض الموت من طرف الجميع مما يثير تساؤلات. ففي بعض المجتمعات لا مجال للصدفة. عندما يصاب أحد الأفراد بالمرض وبالأخص إن توفي فإن ذلك يفتح المجال واسعا لعديد من التأويلات التي تعتمد على أنسقة رمزية معطاة سلفا ومجموعة من الرموز منسقة جدا. عندما يتم التعرف على أسباب ومسببات الموت فإن ذلك لا يطرح أي إشكال، أما في الحالات القصوى فإنه يتعين تحديد المسؤول عن الموت. وعملية تحديد الجاني تقابل ما نعرفه تحت اسم غير محدد بدقة وهو "الشعوذة". ومهما كان الأمر، فمما لا شك فيه أنه في المجموعات ذات العدد المحدود إن الحدث هو الحدث القريب أو المرض، بل يمكن القول إن الموت يعتبر الحدث بامتياز. وفي العمق لكي نفكر في ما يمثله الموت عندنا يجب التساؤل أكثر عما يعينه الجهاز الطقوسي الذي لا زال يرافقه عند الآخرين وكان يرافقه عندنا إلى عهد قريب. وهنا أيضا الملاحظة جد عادية. إن أغلب الطقوس المرافقة للموت هي طقوس خاصة بالأحياء حتى ولو كانت موجهة بشكل صريح –كما هو الأمر لدى بعض المجتمعات- لإماتة الموتى. ولكي أتكلم بأسلوب الإثنولوجي، يجب وصف الطقوس المرافقة للموت والتي تهدف إلى مساعدة الميت أو المحتضر لاجتياز المراحل الضرورية لاكتمال موته. هذه مسألة تهم في نفس الآن الأحياء؛ لأن الميت الذي مات بطريقة سيئة حسب الاعتقاد، يرجع إليهم ليزعجهم ويتسبب لهم في مشاكل في حياتهم الاجتماعية. وما يتم معالجته بواسطة ما يسمى بـ"الموت الحسن" للأموات هو في الواقع حسن حياة الأحياة. وبشكل عام نعرف جيدا أن كل نشاط طقوسي، يأتي بعد موت أحد الأفراد، له كمفعول وبلا شك كهدف، غير واع، إعادة هيكلة النسيج الاجتماعي. فبشكل من الأشكال، بمناسبة الموت يشد الأحياء عضد بعضهم البعض. إن أنماط حل أزمة الموت تختلف من مجتمع إلى آخر. ففي بعض المجتمعات تكون جد قاسية تصل إلى حد قتل الذي يتهم بقتله الآخرين. والذي يهم دائما هو إعادة بناء العلاقة الحسنة بين الأحياء، والحد من الإحساس بالغيرة والعداوة التي تنتج من جراء الأزمة التي يخلقها موت أحد الأفراد. لا بد للعقدة أن تنحل، وتأخذ العلاقات الاجتماعية مجراها الطبيعي.

إذا رجعنا إلى إطار أكثر قربا منا، فنحن نعرف الطريقة التي كانت الأمور تسير عليها في البادية الفرنسية إلى عهد قريب. ففي بروطانيا (Bretagne منطقة في الشمال الغربي لفرنسا) مسقط رأسي مثلا، كان الجيران المباشرون هم الذين يتكلفون بغسل الميت والاستعدادات الأخرى، بما فيها الطبخ في اليوم الأول. وذلك لكي تتفرغ الأسرة لآلامها. إضافة إلى ذلك فإن حضور الجيران يقوم مقام شهادة، أو بحث عمومي إن صح التعبير. فالجيران يحضرون بمجرد مرحلة الاحتضار. وهنا يبقى شيء من السلوكات القديمة؛ ذلك أنه عندما يتم الموت في ظروف خصوصية أو منغلقة أي بدون شهود عيان ففي ذلك ما يدعو إلى الريبة. لقد كانت المسألة إلى حد ما عمومية؛ فالأقرباء المقربين يتركون لألمهم، وتتم مراسيم الجنازة وما بعدها من طرف أفراد آخرين. وهذا مما يسهل بداية عمل الحداد (Travail de deuil).

لقد كان الموت لحظة جد مهمة للتنشئة الاجتماعية. وتختلف أنماط التنشئة من ثقافة إلى أخرى وليس هناك من لحظة أكثر حدة للتنشئة الاجتماعية كموت أحد الأفراد. ولكي نرجع إلى ذكرياتي، أذكر أن الدفن عادة ما ينتهي بإقامة مأدبة. هذه المأدبة لم تكن مناسبة للأكل أو إظهار لفنون الطهي فقط بل كانت وجبة بمعنى الكلمة، يتم فيها تناول الخمرة وتجاذب أطراف الحديث في جو حميمي.

بمعنى ما، يمكن أن أقول بأنني احتفظت بذكرى طيبة عن دفن أشخاص كنت أعزهم لأن ذلك كان مناسبة "لاجتماع عائلي". هناك من يأتي من بعيد ونجتمع ونحس بلذة الالتقاء. وفي هذا النوع من الظروف، نحس بقوة العلاقة الاجتماعية: يمكن ألا نلتقي ببعض الأقرباء منذ مدة طويلة دون أن يثير غيابهم أي اشتياق إليهم (فكل واحد يحيا حياته على انفراد). ولكن هذه "اللقاءات"، كما نقول، يكون لها نوع من الكثافة، إذ يتم أثناءها الإحساس بالبعد العائلي. هذا الشكل من الهوية الجماعية –الذي يدوم مدة هذا اللقاء- يكون مع ذلك مكثفا جدا. ونفهم أن هذا الإحساس يخلق الطمأنينة لأقرباء الميت الذين يحسون بإعادة الحياة إلى شبكة العائلة.

إن كل الطقوس المرافقة للموت، حتى التي يكون هدفها المصرح به هو مساعدة المحتضر على الموت، يكون لها كأثر وكنتيجة جد صريحة في أغلب الأحيان، تسيير حياة الأحياء، بمعنى إعادة هيكلة علاقاتهم، وإعادة اشتراكهم، وإعطائهم مرجعيات جديدة. وفي الواقع إن كل ما له صلة بالعلاقات بين الأحياء ينتمي إلى المجال الرمزي، بالمعنى الذي يكون فيه الرمز هو ما يساعد البعض على التعرف على البعض الآخر. فالأموات هم هذا الرمز، إنهم يساعدون الأحياء على التعرف من جديد على بعضهم وذلك ما يعطيهم في ذكرياتنا وجها مريحا. إذ لا ترتبط صورتهم في أذهاننا بجثتهم بل باجتماع الأحياء.

المعرفة والاعتقاد:

عندما نثير رفض الموت فإلى أي شيء نشير؟ على ما يبدو لي نشير إلى اختفاء واندثار كل أو جزء من هذا الجهاز الرمزي، أو إلى غياب هذه الاحتفالية الاجتماعية وإعادة خلق الرابطة الاجتماعية التي كانت تحيط بالموت من قبل أو ما زالت تحيطه في أمكنة أخرى من العالم. فهل يتعلق الأمر فعلا برفض الموت؟ على كل إن الأمر يتعلق بملاحظة أن الموت كمناسبة لتقوية الروابط بين الأحياء والأموات لم تعد كما كانت عليه. وهل يعني هذا أننا نتهرب من فكرة الموت؟ إن هذا السؤال يمكن طرحه بطرق مختلفة. لا شك أن فكرة الموت – وهناك طبعا اختلافات حسب العصور والأوساط- ليست مهيمنة على مخيلة كل واحد منا. ولا نعيش يوميا مع فكرة أننا كائنات فانية، بل العكس من ذلك تماما. إن فرانسوا ميتيران في إحدى استجواباته منذ سنوات صاغ هذه الجملة الجميلة: "أعرف أن علي أن أموت ولكن لا أعتقد بذلك". هذه الصياغة موفقة لأنها تسلط الضوء على أنفسنا إن كانت هناك حاجة لذلك. فنحن نعرف، كل على حدة، أن علينا أن نموت ولكن بصفة عامة لا نعتقد بذلك. ولهذا يبدو المرض في صورة جد مخيفة؛ لأنه يفرض على الذي يصاب به والذين يحيطون به الانتقال من المعرفة إلى الاعتقاد. يتعلق الأمر هنا بخطوة جبارة. فعادة ما تكون المعرفة إلى حد ما مناقضة للاعتقاد؛ إذ يمكننا معرفة الشيء دون أن يكون ذلك مدعاة للاعتقاد به. وبالعكس، يمكننا على ما يبدو أن نعتقد بأشياء لا نعرف عنها أي شيء. يقول البعض إنهم يؤمنون أو يعتقدون بالله ولكنهم بالتأكيد لا يعرفون عنه الشيء الكثير. إننا أمام مفهومين مستقلين بعضهما عن البعض إلى حد أن فعل "أعتقد" يدل أيضا على: شك، ظن، ارتاب. إن قولنا: "أعتقد" بشيء ما، يعني أننا لسنا واثقين منه. فلا أحد منا يمكن أن يكون مغفلا لكي يفكر أنه لن يموت، وفي الوقت نفسه لا بد أن يكون سليم العقل لكي يعتقد بكونه سيبقى خالدا.

ما هو الرفض؟ إذا كان الرفض يكمن في عدم التفكير في موتنا الخاص فإنه منتشر ومنذ أمد بعيد. إن فكرة باسكال القائلة بأن الحياة ليست بشيء، كحجة بمقتضاها علينا أن نوجه كل شيء إلى ما بعد هذه الحياة، هي فكرة على النقيض التام مع حدس كل الناس وفي كل المجتمعات. إننا كلنا نعي جيدا أن المهم هو ما نعيشه الآن، وأنه لا يمكننا أن نربط حياتنا بهذا الحدث الذي لا نعتقد به، وإن كنا نعرف أن لا مناص منه. ففي هذا المضمار إن العصر الحالي لم يأت بأي جديد.

 

الأزمة الرمزية:

عندما نتكلم عن رفض الموت في المجتمعات المعاصرة نشير بالخصوص –على ما يبدو لي- إلى اختفاء الجهاز الرمزي الذي كان يرافقه. نريد القول بأن العلاقات بين الأحياء والأموات قد تغيرت. وإذا كان هناك من رفض، فإنه يحيل ليس إلى رفض للموت، بل إلى ملاحظة التغيرات التي طرأت على أشكال الحياة أو العيش داخل المجتمع (Sociabilité) والانفرادية (Individualité) وفي النشاط الطقوسي. إن التغيرات في العلاقة مع الموت تحيل إلى تغيرات أكثر اتساعا في الحياة داخل المجتمع.

وبصفة عامة نلاحظ أن العلاقات بين الناس لم يعد يرمز إليها بنفس الطريقة: هناك "هيئات وسيطة" حسب عبارة دوركهايم أصبحت تفقد إجرائيتها شيئا فشيئا؛ إذ نسمع كثيرا أن النقابات والأحزاب بل حتى الكنائس لم تعد تقوم بدورها. ونلاحظ أن كل فرد أصبحت له علاقة شخصية أكثر فأكثر مع حياته السياسية والاجتماعية وحتى الكوسمولوجية إن صح التعبير. ونقصد بالكوسمولوجيا نظرة منظمة للعالم. فكل كوسمولوجيا كما ندرسها في المجتمعات البعيدة عنا أو المنقرضة أو كما يمكن أن ندرسها عندنا هي الانطلاق من دوغمائية مؤسسة ترتكز على نظرة للعالم تقتضي رؤية للإنسان والعلاقات بين الناس. الكوسمولوجيا خطاب حول كليانية المعنى. فالعلم يؤسس بوضعه قناطر تجاه المجهول. أما الكوسمولوجيات فإنها تنتمي إلى حقل الإيديولوجيات، ما دامت تنطلق من معرفة كلية يفترض أنها مؤسسة، بحيث يكفي لكل واحد أن يأخذ مكانه فيها لكي يتعرف على دوره ومكانته. إن بعض هذه النظرات إلى العالم والإنسان ارتبطت بما نسميه الأديان، وإن كانت النظرة يمكنها أن تتطور مع الدين نفسه. إن كوسمولوجيات مختلفة تطابقت مع مختلف عصور المسيحية مثلا. إلا أن الفكرة الأساسية هي أن كل جماعة من الأفراد –وهذا ما يعطيها وجودها- تشترك بوعي في مرجعيات مشتركة ومرتبطة بفكرة ما عن الكون وعن الفرد في الكون وعن الحياة والموت.

في يومنا هذا، هذه المرجعيات لم تعد متقاسمة. وأصبح من العادي جدا أن نسمع أشخاصا يقولون مثلا إنهم "يؤمنون" ويلحون على انتمائهم إلى الكنيسة ويقول أحدهم: "أنا مؤمن وأطبق تعاليم الدين، ولكني أمارسها بطريقتي الخاصة" تماما كما يقول الطباخ عن حذقه الخاص في تهيء بعض الوجبات. هذا يدل على ما يبدو لي، عن ميزة خاصة بعصرنا. وأعتقد أنه إلى عصرنا هذا لم توجد مجموعات بشرية حيث كل عضو يصوغ أو يطالب بكوسمولوجيته الخاصة. إن هذا الاتجاه الذي ظهر هو في الآن نفسه، يثير الإعجاب والخوف معا بالنسبة للإثنولوجي. من البديهي أن هناك ما يدعو إلى التفكير بأن كل الكوسمولوجيات الفريدة والفردية يشبه بعضها البعض ولكنها مع ذلك تقدم نفسها على أنها فردية، وهذا هو المهم. وفي عصرنا الحالي، حتى الذين يعلنون بأنهم يشتركون في مرجعية عامة، يركزون ويلحون على حقهم في تخطيط أو وضع خطاطة خاصة بهم من أجل بناء كوسمولوجيا خاصة بهم أو فلسفة بالمعنى العملي للفلسفة حول طريقة عيشهم وسلوكهم…الخ. وهذه الحركة جزء من تطور يخص الكرة الأرضية أو على الأقل المجتمعات الأكثر تطورا. إن الحياة بصفة عامة هي في طريق الانفرادية. إن الوساطة التي أصبحت اليوم أقل إجرائية (وساطة النقابات، والأحزاب والكنائس) كانت تساعد في الواقع على إنتاج الحياة في المجتمع. ففي النشاط النضالي مثلا كان البعض يقدر انتظامية استعمال الزمن، وجدول الأعمال، واللقاءات والمواعيد، هذه الانتظامية تساعد على الإحساس بالتضامن مع أشخاص آخرين مما يدعم الوعي بالوجود؛ لأننا نوجد دائما عن طريق الآخرين. وهذا هو ما تأثر بفعل الأشكال المعاصرة للحياة. ولكي نوضح أكثر يمكن أن نعبر عن ذلك بأخذنا كرمز للحياة المعاصرة صورة الفرد بمفرده أمام شاشة التلفاز، أي أمام صور عن العالم.

الموت في صور:

ماذا نشاهد في صور العالم؟ شيء من الكل ولكن هذا الكل يمر عبر واسطة؛ هناك صور صريحة ولكنها مؤولة من طرف المعلق-أو الصحفي. إننا نشاهد بالخصوص صورا كثيرا للموتى. لا نرى أناسا يموتون بل جثتا كثيرة من جراء عمليات إجرامية، وحروب وحوادث الخ. فعدسات الكاميرا أصبحت أقل احتشاما، إذ تنقل للمشاهد صورا للدم وهو يسيل وهذا بنوع من الحياد، بحيث أن الانفعال الذي ينتابنا هو إلى حد ما فكري بله مجرد… هذه الجثث كثيرة العدد ويتردد تكرارها بحيث نتعود عليها في النهاية. ويبدو لي أن هذا يدخل في إطار ظاهرة عامة تدفع نحو التجريد في علاقتنا مع الخارج والتي ننساق إليها تدريجيا. فمن خلال الصور يمكننا أن نرى أناسا مختلفين يمثلون مجتمعات إلى حد ما بعيدة، مجتمعات ممزقة ومتأزمة؛ يمثلون معسكرات تتواجه إلى حد الموت في حروب ضروس. فصور الكوارث الخارجية تملأ كل شاشاتنا. يمكننا أيضا أن نشاهد برامج تحاول بالعكس أن تعيد لنا شيئا من الغرابة –العجائبية- وتجعلنا نكتشف روعة وجمال مناظر بعيدة. وفي الأخير نشاهد كل يوم على شاشاتنا كل كبار هذا العالم… وفي العمق تجاه هذا العالم نحن نعتقد دون أن نعرف، نعتقد بوجوده دون أن نعرف ما هو.

إن العلاقة مع الصور المتلفزة ليست بسيطة: إنها صور تأتي غالبا من بعيد ولكنها موجهة إلى كل واحد منا بشكل خاص ومنفرد. والنتيجة التي تحدثها لا علاقة لها مع الإحساس أو الانفعال الذي يمكن أن يحدثه مشهد جماعي مثل المسرح أو حتى السينما. عن طريق هذه الصور يتولد لدينا انخداع ونتوهم بأننا نعرف العالم: نعرف أن هناك ثورات في المكسيك وزلازل في إحدى بقاع العالم ومتطرفين أو أصوليين في إيران… الخ. نعرف كل ذلك ونحتفظ منه على صور ولكن هذه المعرفة مثل نظرتنا تبقى مجردة. إن صور الموت المندرجة في مشهد عام عن العالم هي أيضا صور مجردة تبقى بعيدة لكونها ممثلة على الشاشة. وهكذا يمكن تفسير أن الربط بين موتنا الخاص أو المرتقب وكل هذه الجثث لن يكون بديهيا بالضرورة ولا معيشا ومتصورا أو مدركا بحدة. يمكننا أن نقول لم يسبق –كما هو الحال في عصرنا- لصورة الموت أن كانت أكثر رؤية ومع ذلك تعودنا عليها. وأصبحت المسألة عادية تماما، إلى حد يمكن أن نتعود على ما هو أفظع من ذلك بما فيه صور معتقلات الموت.

إن رفض الموت اليوم ليس رفضا للموت المتعدد لأننا متأكدون من بداهته بالصور. أما رفضنا لموتنا الخاص والفردي فلقد راينا من قبل أنه ليس بجديد. فما لم يعد موجودا أو قل وجوده هو الأشكال الطقوسية التي كانت تفرض نوعا من القرب من الجثة. هذه الأشكال الطقوسية كانت تقوي النسيج الاجتماعي أو التضامن الاجتماعي فيما مضى وبدأت تندثر شيئا فشيئا. والسبب في ذلك، بلا شك، هو أن النسيج الاجتماعي والعلاقات التي هي بحاجة إلى أن تتقوى اليوم، هي من نوع جديد.

الارتجال الطقوسي:

نعرف جميعا أمثلة عن حالات الدفن أو الحرق حيث تتم محاولات للقيام ببعض الطقوس لملء اللحظات الفارغة –إلقاء كلمة حول الشخص المتوفى، ورمي وردة على القبر- هذه اللحظات، تضع الحاضرين في موقف حرج. وإذا كان هناك من حرج وإحساس بالتكلف، فلغياب أي شيء يمكن تأكيده أو تقويته بشكل جماعي. وبنوع من التناقض العميق نحاول إلقاء كلمات وكأن بإمكانها أن تؤسس علاقة ما مع الشخص المفقود، وهذا من طبيعة الحال مجرد وهم. فالطقس يأخذ كل معناه عندما يؤكد وجود جماعة ما. فمثلا الطقس العسكري ينجح إلى حد ما في ذلك لأن هناك عنصرا جماعيا ما، يتم تأكيده عن طريق تقديم التحية الأخيرة للموتى. فبمجرد أن يكون الاحتفاء بالميت لا يؤكد أية رابطة بين الأحياء فإن الحرج يفرض ذاته. ويمكن أن نسوق مثالا آخر: إن كل الذين التحقوا بعفوية بالموكب الجنائزي لسارتر إلى مقبرة "مونبارناس"، في اعتقادي لديهم إحساس صادق أو أصيل وإن كان ثمة فقدان تام لأي روح دينية. وما يتم تأكيده هنا يحمل أسماء عدة: عهد أو فترة مفقودة، تضامن جيل، احتفاء بفكر لا زال حيا. وأولئك الذين كانوا يرغبون في أن يوجدوا هناك كانوا في حاجة إلى أن يلتقوا مع غيرهم وألا يبقوا منفردين. يتعلق الأمر إذن هنا بطقس؛ طقس باعتباره تضامنا متبادلا.

يبدو لي أنه في عصور الارتجال الطقوسي أو الطقوس المرتجلة كالتي نعيشها اليوم ليس الطقس هو الذي يخلق الاجتماعي، بل الرابطة الاجتماعية –إن وجدت- هي التي تساعد على العودة من جديد إلى الطقس. ولقد استحدثت طقوس جديدة مثلا مع ظهور وباء السيدا. وبصفة عامة أرى أن أي مجموعة أو جماعة عندما تفقد شخصا يكتسي أهمية كبرى بالنسبة لها فإن الطقس يخلق ذاته تلقائيا. والعلاقة بين الناس توجد دائما وإن كانت تحت أشكال خافتة، لأنه بدون ذلك تستحيل الحياة. وعندما تكشفها الأحداث يأخذ التعبير عن الحداد والعلاقة مع الموت قوة خاصة أو متميزة.

ما نفقده في نهاية المطاف هم الأحياء وليس الاموات. من طبيعة الحال من المجازفة التعبير بهذه الكيفية لأن التاريخ لا ينتهي أبدا وأن العلاقة لا يمكنها أن تندثر. لا يمكننا أن نفكر في وجودنا الخاص إلا عن طريق البعد الرمزي أي عبر علاقتنا بالآخرين. إلا أن هذه العلاقة يمكن أن تتغير بشكل كبير ونحن اليوم بلا شك في عصر تحولات عميقة من هذه الناحية؛ إننا في عصر الأزمة. إنها أزمة هوية؛ لأننا بحاجة إلى الآخرين لنوجد، وأزمة مغايرة (Altérité) بما أن العلاقات مع الآخرين أصبحت أقل رمزية، غير مفكر فيها وأقل تأسيسا. وعندما نتكلم عن أزمة العائلة وإعادة هيكلة العائلة فهذا ما نقصده. من المؤكد أن إعادة هيكلة الرمزي والاجتماعي أمر ضروري إذ بدون ذلك لا مجال لمختلف أشكال الإنسانية. ولكن أثناء بعض الفترات يتم الانسلاخ من الأشكال السائدة وإعادة أنماط وأشكال جديدة بشكل قاس وواضح. ويبدو لي أنه عندما نتحدث عن العلاقة مع الموت فإننا نتكلم بشكل غير مباشر عن هذه الأزمة.

ثلاثة أنواع من الموت:

عندما نثير العلاقة مع الموت ونقول إنها مختلفة عما كانت عليه بالأمس أو ما هي عليه عند الآخرين فإننا في الواقع نتكلم عن عدة أشياء في الوقت نفسه:

1 – العلاقة الفريدة التي لنا أو يمكن أن تكون لنا مع موتنا الخاص.

2 - العلاقة الفريدة التي لنا أو يمكن أن تكون لنا مع موت أحد أحب أقربائنا.

3 – الأشكال الطبية الجديدة والمحيط الحضري الذي يفرض انتزاع المريض من محيطه العائلي والزج به في مستشفيات حيث يمكن الاعتناء به أحسن وحيث سيموت وحيدا.

4 – وأخيرا وبشكل عام أزمة الكوسمولوجيات وأزمة الاجتماعي بشكل أوسع.

كل هذه العناصر تتضافر وتتفاعل لكي تعطي الإحساس بأن الموت لم يعد كما كان بالنسبة للأحياء.

بدون أن نعود إلى ما سبق قوله حول الموضوع نقف عند الأنواع الثلاثة من الموت التي نحن بصددها:

ـ موت الأنا،

ـ موت الغير أو الآخر،

ـ موت الآخرين.

فيما يتعلق بموت الآخرين، سبق أن ذكرنا الصور التي تقدمها لنا عنه المؤسسات الإعلامية. فنحن –إزاء ذلك- وإلى حد ما في الحالة الذهنية لربابنة الطائرة الذين يرسلون قنابلهم من علو عشرة آلاف متر. لا بد من مجهود لكي يتم الإحساس بشكل ملموس بموت الآخرين أو تحققه أي إعطاء صيغة واقعية للحدث مقابل ما هو عليه الأمر بالنسبة للصور حيث اللاتحقيق (Déréalisation). فصعوبة الإحساس بشكل ملموس بموت الآخرين يفترض في نفس الآن صعوبة الإحساس بوجودهم. لقد سبق لنا أن شاهدنا غبطة وفرح متبارين في مسابقة تلفزية للفوز بإقامة في المغرب في "فندق بأربعة أنجم"، وربما بين هؤلاء  من لا يتحمل حتى فكرة مجاورة مغاربيين. فنحن أمام نوعين من الواقعمختلفين: مغرب الألعاب المتلفزة ليس إلا واقعا استيهاميا ومجردا، ورفض أثر اللاتحقيق معناه أن نتعلم العيش مع الآخرين والاعتقاد بحياتهم حتى يتم أخذ موتهم بجدية.

نحن في عصر السياحة، فالسواح لا يشاهدون بالأساس إلى الصور، فهم يكتفون بأخذ الصور والأفلام، إنهم يضعون العالم في صور. إنهم يعيشون في عالم متصور انطلاقا من صور. ذلك في حين أنه لكي نطور ونحسن فكرتنا عن الآخرين علينا أولا أن نعي أنهم يوجدون. إن هناك مشكلا حقيقيا مرتبطا أساسا بوسائلنا التقنية وبأشكال مجتمعنا. فالعيش من خلال الصورة هو تحرير لكل استيهاماتنا. والذين يتكلمون عن العنف وعن الإجرام ليسوا بالضرورة ضحايا له. والذين يتكلمون عن الآخرين لا يعرفون عنهم شيئا.

إن كون الناس يموتون بكثرة في بقاع العالم يجب أن يقض مضجعنا ويقلقنا. إننا نعيش عصرا غريبا: لا نوقف الحروب ولكن نقدم الأغذية للذين نجوا من الموت. إنها المساعدة الاجتماعية للذين هم بصدد القتال. بل في بعض الأحيان لا نقوم بأي شيء يذكر. لقد قتلنا الكثير في قرننا هذا، فالحروب العالمية من ابتكارات القرن العشرين، ولقد توسعت وكبرت وسائل التقتيل وأصبحت أكثر إجرائية. لقد حصدنا ملايين الأرواح في أنشطة المجتمعات الأكثر تقدما على الأرض، والتي تدعي اليوم أن بإمكانها أن تنظم أو تسير موت الآخرين. يجب علينا ألا نتعود على فكرة العيش أو التعايش مع هذا الموت. إن هذا موضوع ضخم يتعلق بالتزامنا الإيديولوجي والسياسي والشخصي والذي من طبيعة الحال غير قابل للقياس مع قوى كل فرد مأخوذ على حدة. من هذه الزاوية أعتقد أن ما يجب علينا القيام به هو أن نعيش ونحب الحياة لكي نعي تعودنا المفرط على صور موت الآخرين.

إن بداهة الجثة أمر مختلف تماما إنها تجربة موت القريب. هذه التجربة تفسر الوقع الخاص لبعض الأمراض. ولقد لعب مرض السرطان دورا مهما وموحيا في هذا الصدد، والسيدا يرمز إلى هذا الدور بشكل أكثر وضوحا. إنه مرض قد اختزل المسافة بين المعرفة والاعتقاد؛ وبالأخص لأنه موت له وجه. وفضيلته الوحيدة –والفضيلة هنا بمعنى القوة- تكمن في كونه نتيجة أو أثرا لإعادة التحقيق (Re-réalisation ). وعلى أي فإن التلفزة غالبا ما تقدم عددا قليلا من المرضى في مراحل متأخرة من المرض –ولها العذر في ذلك نظرا لاحترام حرمة الأشخاص- ونصاب دائما بنوع من الذهول عندما يعلن أحدهم، وإن كان على الشاشة: "أنا مصاب بالسيدا"، أو "حامل لفيروس السيدا". فذلك يأتي من كوننا نشاهد وجها يقول لنا: "أعرف وأعتقد بأنني سأموت". إن السيدا على ما يبدو لي مرض أكثر قوة من صورته، وبهذا المعنى له نوع من الفضيلة. وربما لأنه يعلمنا أيضا أن هناك أشكالا من العلاقات الاجتماعية التي تعيد تشكلها أمام بداهة هذا الموت. وما يثير الانتباه هو أن الإقصاء والقدح الاجتماعي لم يعلب دوره في نهاية المطاف بل نشهد نوعا من التجنيد لمحاولة التفكير في ما يمكن للمريض أن يقوم به إزاء مرضه وحياته ذلك لأن الحياة مستمرة، الحياة مع معرفة الألم. والطريقة التي يجب مواجهة السيدا بها في نظري ذات طابع تشخيصي عرضي: إنها خلق الحياة المجتمعية، وبالتالي الطقس –ولعل المثال المعبر على ذلك هو طقس الباتشوروك (Patchwork)(2).

في العمق إن الإنسانية لا يمكنها أن تعي نفسها إلا انطلاقا من تجارب أو محن من هذا النوع، مهما كانت قسوتها. إن التيمات الكبرى التي يمكنها أن تجند الجميع لكي نصل إلى وعي، اجتماعي وفعلي، على مستوى قاري هي تلك التي تتطابق مع الظواهر والأخطار العامة. والوباء أحد هذه التيمات التي يمكنها أن تعطي هذه النتيجة، إلى جانب تلوث البيئة أو الخطر النووي. إن السيدا وطبقة الأوزون يمكنهما أن يبعثا عوامل الحياة المجتمعية من خلال عدد من التناقضات. فالأخطار القارية يمكنها بمفردها أن تجعل من العالم مجتمعا وتفرض فيه فكرة التضامن القاري.

إن رفض موتنا الخاص يمارسه كل واحد منا باستمرار. يتعلق الأمر هنا برفض صيغته: "أعرفه، ولكن لا أعتقد به" وهذا الاعتقاد أعتبره سليما. وإذا كان من اللازم علي أن أجيب عن سؤال: "كيف يجب علينا أن نعيش بمعية الموت؟"، فسأقول: "لا يجب العيش معه أصلا". فالصيغة التالية: "تذكر الموت… (memento mori)" هي شعار الذين غادروا الحياة الدنيوية. هناك حكمة في نسيان فكرة أن علينا أن نموت. إلا أنه مع ذلك فالموت هنا، أو سيكون هنا في يوم ما. فعلى الفرد أن يتعلم العيش بدون عكاكيز؛ بمعنى آخر ليس بوسعه إلا أن يتعلم من جديد دروس الرواقين والأبيقوريين. ولقد قال سينيك في رسالة لأحد أصدقائه: "لا أفهم لماذا تغتم بما ستصبح عليه بعد موتك في حين أنك لم تقلق أبدا لما كنت عليه قبل ولادتك". ربما يجب التعود على فكرة أن الموت ليس بشيء يذكر وتقبل فكرة الفرد. إن الفرد كائن محدود ونهائي له بداية ونهاية. إن الولادة لا تطرح بالنسبة لنا أي مشكل نظرا لوهم النسب والاسم والإرث. هذه المفاهيم لا زالت تحتفظ بقوتها: نحن نمنح الحياة ونسلمها. إلا أن ما يطرح إشكالية هنا هو هذا الـ"نحن"(On)، لأنه عندما نمنح الحياة فهذا "النحن" لم يكن قد وجد بعد، في حين أنه عندما نسلمها يمكن لـ"النحن" أن يستمر في الوجود، غير أنه يمكن تسليمها بعد أن ينتهي وجودنا، إذ بإمكاننا اليوم الاحتفاظ بالحيوانات المنوية والأجنة المصبرة بالبرودة. هذا "النحن" الذي ليس إلا نقطة العبور بين السابق واللاحق هو ما نسميه: الفرد. فالأغلبية الساحقة من الكوسمولوجيات عبر العالم قد استطاعت أن تتحكم في هذه الفكرة: فالفرد فيها يعتبر كتجميع طارئ عرضي لعناصر تتشتت مع الموت ويعاد جمعها مرة ثانية مع عناصر أخرى لتكوين آخرين. لا يتعلق الأمر هنا بتناسخ الأرواح، بل بتصور للتعدد المكون لكل فرد.

إن قبول فكرة الفرد معناه محبة الحياة على اعتبار أنها الواقع الوحيد. إلا أن هذا يتطلب نوعا من الشجاعة، وللحكمة القديمة بلا شك أيام مشرقة أمامها… إن إنسان اليوم يواجه نوعين من المتطلبات المفارقة: من جهة عليه أن يكون واعيا بضرورة إعادة تكوين الرابطة الاجتماعية، وجعل تضامن ملايير البشر على وجه الكرة الأرضية ممكنا. ومن جهة أخرى عليه قبول الطابع الحميمي والعلائقي لوجوده الخاص وفي نفس الآن محدوديته.

إن الفرد لا يوجد إلا بوجوده الخاص. لا يوجد إلا وهو حي. أما الأموات فهم يوجدون عن طريق الذاكرة. وفي الذاكرة يتم اعتبارهم آلهة، وأجدادا أو صورا. يوجدون لأنهم يساعدون الأفراد الأحياء على الحياة. على الأفراد الأحياء أن يؤمنوا بموت الأموات دون أن يعتقدوا بموتهم هم أنفسهم. فالميت يوجد بالنسبة للآخرين أي الأحياء، مما يعود بنا إلى مشكل الطقس. إن الفرد ليس كائنا للموت بل بالعكس إن الموت هو للأحياء.

إذا كنا نتحمل فكرة الوحدة المطلقة أو العدم، فلأننا كائنات جد واعية بهويتها، أي نعي أيضا علاقتنا بالآخرين. إن الوحدة المطلقة لا يمكن أن يفكر فيها تماما كالفردانية المطلقة أو الموت باعتباره قمة الوحدة والتفردية. فعن طريق الموت نتحكم أو نسير ما لا يمكن التفكير فيه. والشيء الوحيد الذي يمكن التفكير فيه هو تلك الحاجة التي توجد لدى الأحياء لتأكيد تضامنهم عندما يستطيعون وعندما يوجد هذا التضامن. فموت أحد الأفراد قد يؤدي خدمة في صالح أقربائه لأنهم يستطيعون الالتقاء والحديث عنه؛ لأن المفقود هو الدليل على العلاقة التي توحدهم. فمن ناحية تأكيد الحياة الحق إن ما يمكن ملاحظته هو بالضبط تلك العلاقة. لأن الحياة ليست هي الفردية. إنها الفرد الحي، الفرد في علاقته مع الآخرين. فقبل التأسف على الحياة يجب أن يتم عيشها وألا يتم استباق الموت بواسطة الوحدة.

ولكن كيف يمكن التعايش مع موت الآخر-القريب؟ أو موت الشخص القريب أو القريبة الذي يؤثر على وجودنا الخاص؟ ها هنا المشكل الحقيقي –وكان بودي أن أقول المشكل الوحيد- للموت. إن موت الكائن المحبوب يحيلنا إلى وحدتنا ويجثتنا عن بعد أساسي من هويتنا. هناك أنانية في الألم الذي يسببه لنا هذا الفراغ أو الجرح، وهناك أسف عن الحياة التي تبدو فجأة وكأنها مستحيلة. فالشخص الذي فقدناه لا نتحمل أن تكون صورته مجرد صورة فوتوغرافية إلى اليوم الذي تخبو فيه هذه الصورة حتى في أحلامنا، ونجد لذة مبهمة في استعادة وتذكر الأيام الماضية. إن موت الآخر-القريب يطرح دائما نفس المشكل ونفس السؤال للأحياء المتبقين: كيف يمكن البقاء بعده؟ إن هذا الموت لا نتقبله وإن كنا مع الوقت ننتهي بالاستسلام له، وكما قال فيكتور هوغو: "قلبي استسلم ولكنه لم يخضع". ومرة أخرى ليس هناك أمام المخرج المحتوم للحياة الفردية إلا منفذ واحد: حب الحياة، تلك التي عشناها –وإذا كنا محظوظين- تلك التي بقي أن نعيشها. وكل تعاطفنا يجب أن يوجه إلى أولئك الذين ليس لديهم لسبب أو لآخر –دائما بارتباط مع قساوة اللامبالاة- أي إمكانية من هذا النوع من المنفذ.

 



(1) العنوان الهامشي من عندي، والنص ترجمة لمقالة تحت عنوان:

« Ce que nous avons perdu, ce sont les vivants, pas les morts », Marc AUGE, in : La mort et moi et nous. Collection le Penser-vivre, Textuel, 1995.

إن الغاية من ترجمة هذا النص هي الوقوف على رأي إثنولوجي غربي حول الموت في المجتمع الغربي المعاصر، وفي رؤيته النقدية هذه يتكلم أساسا عن المجتمع الغربي وذلك اعتمادا على تجربته في المجتمعات الإفريقية.

التعريف بصاحب المقالة:

مارك أوجي: Marc Augé مدير الدراسات في مركز أنثربولوجيا العوالم المعاصرة Centre de l'anthropologie des mondes contemporaines بالمدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية E.H.E.S.S. بباريس، ترأس هذه المدرسة من يونيو 1985 إلى 1995. وهو إثنولوجي فرنسي درس المجتمعات الإفريقية بالخصوص قبل أن يهتم بأنثربولوجيا الحياة اليومية بالغرب وفيما يلي بعض مؤلفاته:

في المرحلة الأولى: ـ نظرية السلط والإيديولوجيا، دراسة حالة الكوت-ديفوار، هيرمان 1975.

                  ـ سلط الحياة وسلط الموت، مدخل إلى أنثربولوجية القمع، فلماريون 1977.

                  ـ عبقرية الوثنية، كاليمار 1986.

في المرحلة الثانية: ـ إثنولوجي في الميترو، هاشيت 1986.

                   ـ في معنى الألم، أنثربولوجيا التاريخ وسوسيولوجيا المرض، بمشاركة كلودين هرزليخ، منشورات الوثائق المعاصرة 1983.

(2) الباتشوورك Patchwork هي جمع رقع من الثوب من مختلف الأشكال والألوان وخياطتها لصنع قطعة ثوب كبير ومزركش، ولقد استلهمت هذه الطريقة من طرف الممارسين للجنسية المثلية كأسلوب لتخليد ذكرى موتاهم الذين ماتوا بداء السيدا.