ص1      الفهرس   المحور 

النزعة الإنسانية

في الثقافات البدائية للقارة الأمريكية(*)

 

ترجمة: محمد التعمرتي

لما دعيت لأتحدث عن الثقافات في أمريكا، وجدتني أمام معضلة ترجمة المفاهيم والتماثلات، أو نقل صورة عالم ثقافي إلى آخر مغاير لأن عملية النقل محاطة بالأخطار ما دام كل واحد ينظر إلى الواقع انطلاقا من رؤيته الخاصة للعالم؛ لهذا يبدو لي من الأنسب التعامل مع ثقافتنا الأصلية (ثقافة المنبع)، لا على أساس أن نكون رأيا أو نصدر أحكاما، بل نخوض فيها لنستوعبها ونفهمها وبناء على هذا الفهم نكون ما يمكن الاتفاق على أنه نقاط عامة أو نقاط للتقارب.

تتمثل مشكلتنا –نحن الذين تربينا وسط الثقافة الغربية- أننا نقيس العالم في بعض الأحيان بنفس المقاييس التي ننتمي إليها فيحصل لدينا الميل إلى الحكم لأننا ندرس لإصدار الأحكام في حين أنه يكون من الأفيد لو ندرس لكي نفهم؛ لأنه لما نفهم نكون أبعد عن مجرد الملاحظة ونستوعب أن الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء ليست بالضرورة الوحيدة أو الشبيهة برؤية الآخرين.

سأحكي لكم بما أننا سنعرض لثقافات المنبع، تجربة حصلت –من سنين- لسياسي بوليفي كان يقوم بحملة انتخابية. وبما أنه قرر زيارة قرية لهنود الأيمارا (Aymara) فإنه بذل مجهودا لترجمة خطابه إلى لغتهم.

اجتمع رجال القبيلة وتكلم السياسي وأتم خطابه ناصحا إياهم بضرورة التخلي عن النظر إلى الخلف حتى يتمكنوا من رؤية المستقبل.

تفاجأ الهنود ولم يستطيعوا فهم ما أراد قوله الرجل الطيب واتفقوا على أن يلتقوا في الليل ليناقشوا ويحللوا معنى عبارة "توقفوا عن النظر إلى الخلف لكي تتمكنوا من رؤية المستقبل"، فهذا المقترح يبدو لهم تافها وشاذا تبعا لصورة العالم في ذهن هنود الأيمارا. قال أحد الشيوخ:

"هل من المعقول أن نعرف المستقبل؟ لا، لا نستطيع رؤيته. ولماذا لا نستطيع رؤيته؟ لأن المستقبل خلفنا في حين نستطيع رؤية الماضي لأنه ماثل أمامنا، هنا أمام أعيننا. هنا ما حصل البارحة وهناك ما حصل قبل البارحة وأكثر بعدا ما حصل الشهر الماضي والعام الماضي (ويشير بيده) وهنا ما سيحصل غدا، الشهر القادم، العام المقبل… هذا يعني أن ذلك الرجل يطلب منا أن نتوقف عن رؤية الخلف (المستقبل) لكي نتقدم نحو المستقبل (الخلف) حقيقة أن الرجل الأبيض لا يفهم أبدا حقيقة الأشياء".

إذا أردت أن أصف هذه الحالة على سبيل المثال سأقول هناك أنا وإلى جانبي روبرطو ثم هناك الصف الأول والثاني فالثالث وهكذا دواليك وأخيرا هناك البيانو ثم حائط العمق، ولكن لو كان هنا في محلي هندي من الأيمارا فإنه سيقول هناك الحائط، ثم البيانو، ثم الصف الأول الذي بالنسبة لنا الأخير وهكذا..، ثم روبرطو وأخيرا أنا. توضح هاتان الطريقتان المختلفتان للترتيب أن هناك اختلافا بينهما لمفهومي الزمن والفضاء أي ال"ماهو" أكثر بعدا في الفضاء وال"ماهو" أكثر بعدا في الزمن. فأنا أمثل الوقت الحاضر مما يعني أني آخر حدث حصل لذلك من الفروض أن أرتب الأخير. لقد ظن هذا السياسي البوليفي أن اللغتين مجرد شكلين مختلفين لقول نفس الشيء بنفس الدلالة وكان يعتقد أنه لمجرد ما يقوم بترجمة خطابه إلى لغة الأيمارا سيصبح مفهوما من طرفهم لأنه تربى على اعتقاد أن هناك صورة واحدة تعكس واقع العالم، فكان بديهيا أن يقتنع أن المستقبل هو الأمام والماضي هو الوراء ولم يتصور أبدا أن هناك من يفكر بشكل مغاير.

إننا لا نتعلم بصفة عامة في مدارسنا وجامعاتنا أن الواقع مفهوم ثقافي يتحدد انطلاقا من قاعدة أن: ما هو حقيقي بالنسبة لصورة في عالم ما، لا يمكن أن يكون كذلك بالنسبة لعالم آخر مغاير مادامت كل ثقافة مخصصة بترسيمات أسطورية ودينية على أساسيا تنبني شخصيتها، علومها، عقليتها ومزاجها وفنونها. فلو أدرك السياسي البوليفي هذه الخصائص لكان سيقوم بترجمة خطابه اعتمادا على صورة العالم عند الأيمارا ولا يكون قد قال لهم شيئا يبدو في عيونهم فظيعا. إنه شيء صعب أن نعترف أو نقبل بأن هناك حقائق متعددة وطرقا متنوعة لرؤية وإدراك الأشياء.

أحكي لكم تجربة أخرى. كانت هناك زيارة موجهة لمجموعة من السياح لإحدى الحدائق النباتية، وقفت المجموعة أمام شجرة وأخذ المرافق السياحي يشرح: "تستعمل هذه الشجرة المنتفخة في التزيين ولها استعمالات صناعية" قال السياح: "كم هذا الرحل مثقف"، لكن سائحا من المجموعة علق: "هذه الشجرة تشبه في الشكل امرأة حاملا". ويضيف السياح راضون: "هذا الرجل له إحساس، هذا الرجل شاعر". ومن الصدف أن كان ضمن المجموعة هندي من قبيلة توبا (TOBA) فعلق: "الشاعر على حق. الشجرة حامل، إنها شجرتنا المقدسة وتحمل في بطنها ابن الأرض وترمز إلى أصل الحياة واستمرارها". فكان أن خاف السياح وقالوا: "هذا متوحش ووثني".

بديهي أن يمتدح السياح الشاعر لأنهم يظنون أنه يقول ما ليس مقتنعا به. فالمسألة لا تعدو عن كونها مجازات شعرية جميلة إضافية إلى أنه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة أو كيفية النظر إلى الأشياء. وبما أن الأهم هو تأكيد القاعدة فإن الاستثناءات محبذة ومرغوب فيها، وكيفما كان الحال فإن الناس يمكن أن يضعوا الشعراء المبدعين موضع شك لأنه يكون لدينا جميعا الانطباع أو الإحساس المسبق بأن الاستثناء يدمر القاعدة، ومادام الشاعر غير مقتنع بما يقول فليست هناك مشكلة كبرى، لكن ماذا سيحصل لو أن الشاعر مقتنع بما يقوم؟ في هذه الحالة لن يعود شاعرا وسيعتبر أحمقا يجب التحفظ عليه.

تبدو المشكلة مع الهندي أكثر صعوبة. فهو مقتنع بما يقوله وليس أحمقا، إنه تحول في لحظة وجيزة إلى مخرب، يضع موضع سؤال –انطلاقا من وجوده الخاص- طريقتنا لرؤية العالم ويقيننا الراسخ بأن هناك طريقة واحدة لرؤية العالم.

نستطيع التأكيد بأن هناك معايير للواقع تتمظهر بصيغ ثقافية محددة. فما كان حقيقة علمية للمرافق السياحي كان مجازا شعريا للشاعر وحقيقة أسطورية للهندي وهذه المعايير جميعها معايير للحقيقة.

تتأسس كل ثقافتنا على منطق ثنائي من خلاله الأشياء إما صحيحة أو خاطئة أي ما يعرف بمنطق الثلث المستثنى. أنا شخصيا لما أجد تأويلين متعارضين يكون لدي توجه إلى الشك واعتبارهما معا خاطئين، ولكن بما أن الثقافة الغربية مؤسسة على منطق الثلث المستثنى فذلك يبدو غير ممكن على عكس الثقافات الأصلية لقارتنا التي لها منطق ثلاثي التركيب أو ما يعرف بالثلث المندمج، المنطق الذي بحسبه يمكن للأشياء أن تكون صحيحة ويمكن أن تكون خاطئة كما يمكن أن تكون غير أكيدة، وهذا العنصر للشك ليس فقط معيارا للحقيقة، ولكن أيضا معيارا للجمال. فمثلا الذي ينصت للموسيقى الأهلية يستمع لأصوات غير محددة لا تخضع للمقاييس الموسيقية الغربية، ولكنها أصوات جميلة. إذا أخذت مسطرة وسطرت خطا مستقيما فإنه سيكون خاليا من كل عيب وليس جميلا. أما إذا سطرته بيدي فإنه لن يخلو من العيب وسيكون انعكاسا لعدم الإتقان الشخصي ولكنه قد يكون جميلا لأنه مستقيمي وأنا الذي أبدعته فتفنن الفنان هو إبداعه، فالمستقيم الذي أنجزته جميل ما دام يخلو من الإتقان البارد واللاشخصي الذي تعودنا اعتباره المعيار الوحيد للحقيقة.

أظن أنه ستصادفنا نفس المعضلة لما نكون مواجهين بفرد من شعوبنا الأصلية وتنبع الصعوبة من أننا على يقين تام بأن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة (2 + 2 = 4) شريطة أن نقتنع أن ليس هناك أربعة في العالم الواقعي. إذا قلت هناك في الصف الثالث "أربعة رجال" فإنكم لا تحصلون على أي معلومة تسمح لكم بتكوين فكرة ولو بسيطة عن هؤلاء الرجال (من هم؟ كيف هم؟ اين هم؟ وبدرجة أقل كيف يفكرون؟ بماذا يشعرون؟). يجب أن أجرد كل واحد منهم وأحجمه لأقول "هاهم أربعة"، فهذا التجريد للحقيقة جد هام وله مقاصد تطبيقية، ولكن يظهر المشكل لما نعتقد أن تجريد الحقيقة هو الحقيقة نفسها فنصادف مجموعة من السوسيولوجيين لا وجود للفرد بالنسبة لهم، فهو مختزل في رقم على جذاذة وجزء من إحصائيات في بنك للمعطيات.. هناك أربعة أفراد يربحون أكثر من 300 دولار، يزن كل واحد أكثر من 100 كيلو، ولكن الأشخاص، الأفراد لا وجود لهم.

لقد خلط العلم الحديث في الغرب بين تجريد الحقيقة والحقيقة نفسها وتكون على هذا الأساس الفكر التجريدي في حين ظل تفكير ثقافاتنا الأصلية تفكيرا ماديا ملموسا وهو ليس الوحيد.

هناك في اللغة التيبتية 80000 كلمة لتعريف 80000 انفعال مختلف. ليس هناك في قاموسها اللغوي كلمة "انفعال" (Emotion). الانفعال لا وجود له بما أن هناك 80000 انفعال مختلف. إذا أراد أن يقول شخص في اللغة الصينية "قامة" كسافيي مسكان متر وثمانون، فإنه لا يسطيع ترجمتها حرفيا لأن كلمة قامة (Taille) لا وجود لها في اللغة الصينية، فسيقول "كسافيي مسكان من الأعلى إلى الأسفل متر وثمانون" لأن صورة العالم عند الصيني تنطلق من المقارنة بين قياسين ماديين الأعلى والأسفل وليس هناك تجريد يسمى "قامة"، ولا ينعكس هذا الشكل من التفكير في اللغة فحسب، بل أيضا في التنظيم الاجتماعي، فمفهوم العدالة في الصين التقليدية مختلف عن المفهوم الذي نستعمله، إننا نقبل بأن يكون القانون علما بينما الصيني يعتبره فنا. والاختلاف أن القاضي الغربي يمارس العدالة على مجموعة من الأشخاص المتساوين أمام القانون (على الأقل عندما تكون هناك ديموقراطية)، أما القاضي الصيني التقليدي فمهمته فتنحصر في كيف يقرر تطبيق القانون على كل فرد يحاكمه؟ إذا ارتكبت جنحة ونفس الجنحة ارتكبها جاري وبما أني أنا هو أنا وجاري هو المغاير لي والجنحة التي ارتكبتها تخضع لظروف محددة مختلفة لتلك الخاصة بجنحة جاري وضحايا جنحتي يختلفون عن ضحايا جاري فسيكون من الظلم بالنسبة للقاضي الصيني أن يصدر نفس العقاب الذي أصدره في حق جاري، إذن فن العدالة هو تحديد ما يناسب وينطبق على كل شخص. فما يهم هو الفرد وليس العدالة بمفهومها التجريدي. وتتمظهر هذه الطريقة من التفكير المادي أيضا في لغات شعوبنا الأصلية. ففي لغة المابيش (Mapuche) إذا أردت أن أقول "جون يدخل المنزل" التي أترجمها إلى Jeau Konui ruca meu (دخل) تساوي Konui، ولكن المابيش لن يستوعب هذه الجملة مادام أساسيا بالنسبة له أن يعلم هل المتكلم يوجد داخل المنزل أو خارجه… لأن الأفعال في لغته تدل على الحركة والاتجاه.

تعتبر الثقافة التي لها نظرة منسجمة للأشياء ووضعها في العالم، ثقافة سليمة بالرغم من أننا في بعض الأحيان نخلط بين السليم والمقدس (Sain et Saint)، وإذا كان لا بد من إعطاء مثال من ثقافاتنا الأصلية لدلالة القانون المتناسق أي قانون الحياة فأحسن مثال سيكون ما تعودنا على تسميته بقانون الغاب (La lois de la jungle) الذي نمارسه سواء كنا نؤمن بديانة أم لا ونعتبره قانون القوي في حين أنه قانون التوازن، وإلا لكانت الأسود تعيش لوحدها بحكم القوة، ثم تنفق من الجوع لانعدام التوازن.

تعودنا تطبيق قانون الغاب ولكن من دون أن يتطابق الانشطار الانفصامي المحصل عليه مع مكونات هذا القانون. إن الغابة مجموع له تنظيم ذاتي بحيث كل عنصر وكل فرد جزء من هذا التنظيم ويحاول إثبات ذاته إلى أقصى حد، فوجود النزعة الفردية حيوي وضروري لاشتغال وانتظام المجموع والنزاع موجود وباستمرار وهو حيوي لأن الغابة لا تعكس إلا قانون الحياة ومن ثمة فالنزاع هو محرك التناسق. والنتيجة أن القانون التناسقي هو موجه ثقافاتنا الأصلية، ومن ثمة فشعوبنا لا تفهم لما نتكلم لها عن حقوق الإنسان ولا تفهم أيضا لما نتكلم لها عن حقوق الأهليين، فالحق عندها حق طبيعي وحق معتاد، الحق في التصرف بتوافق مع القانون التناسقي للطبيعة واتباع عادات الأجداد. إنه الحق الوحيد الذي تنتظم المجتمعات على أساسه.. هذه هي طريقة تفكير مجتمعاتنا الأصلية.

لا يمكنني القول من حيث المبدأ أن هذا التفكير أفضل، أو أسوأ، أو مساوي لنمط التفكير الغربي، أقول فقط بأنه شيء آخر.

لما ينشأ هنود السيو (Sioux) قراهم، يجعلون خيامهم على شكل دائري. وحدث أن سئل ذات يوم زعيم لهم "لماذا الطيور تصنع أعشاشها بشكل دائري؟". أجاب بتلقائية طبيعية: لأن لها نفس جيانتنا. يتعلق الأمر هنا بنظرة تناسقية وانسجامية للكون.

أنا أرجنتيني من أصل يهودي ويبقى لي الحق في أن أعتنق المسيحية أو الإسلام أو أي ديانة أفضل. أنتقل غدا إلى بوليفيا أو الصين أو فرنسا وأتجنس بالجنسية التي أختار. أذهب إلى بلد عربي وأعتنق الإسلام ويرحب بي. ولكن إذا ذهبت إلى قرية غورانية (Guarani) وقلت لهم لقد قررت أن أومن بـ "نامندي" (Namandu)، سيقولون لي: "لا، لست مؤمنا بنامندي، لأنه لكي تؤمن بنامندي يجب أن تكون غورانيا. ولأن كل المؤمنين بنامندي غورانيون، فالذي ليس غورانيا لا يؤمن بنامندي". هكذا فثقافاتنا الأصلية لها وعي متناسق على عكسنا نحن الذين لنا وعي مجزأ بذواتنا وبالواقع بحيث ليست هناك إمكانيات للتفريق بين الشخصية (الفرد) والديانة (الإحساس). فالكل يمثل وحدة مما يثبت معادلة: أن تؤمن بنامندي معناه أن تكون غورانيا. أما في لغة المابيش (Mapuche) فكلمة ثقافة لا وجود لها، أقرب كلمة لمفهومها Admogeken وتعني قول شيء ما مثل وجه المابيش وهذا يعني أن المابيش من لهم وجه المابيش.

تؤدي هذه الهوية، هذا التلاحم بين كل العناصر المكونة للإنسان وثقافته إلى حصول بعض المواقف. فقد انعقد هنا في أمريكا في سنة 1989 المؤتمر الدولي للأهليين الأمريكيين، فطلب المنظمون من هنود الأيمارا من بوليفيا بعث الأطباء السحرة والكهان لإقامة طقوس الأرض. إلا أن الهنود رفضوا بحجة أن سلطة الياتري YATIRIS (الأطباء السحرة) تحد في فضاء طائفتهم، وخارجها الطبيب الساحر شخصية عامة مثل أي فرد. فهو ياتري ما دام في فضائه الأسطوري والثقافي.

إذا سقطت مريضا وذهبت عند طبيب فإنه سيفحصني ويصف لي دواء. ولكن قد يحصل أني مكتئب فأقول له: "اسمع أنا لا أريد دواء". ويصر الطبيب: "يجب أن تأخذه لأن صحتك…"، ولكني لا أريد، لا أريد ولن أتناوله. سيصر الطبيب مرتين أو ثلاثة وسيقول: "إذن عزيزي افعل ما يحلو لك بصحتك، إذا لم تأخذ الدواء فأنت من سيخسر…". هنا يكمن الفرق الأساسي والجوهري بين الطبيب الغربي والطبيب الكاهن عند الأهليين. إذا سقط فرد من طائفة أهلية مريضا فالطائفة تشعر بحصول انشطار انفصامي هو مصدر المرض، إذن سيقوم الطبيب العراف في المقام الأول بإقامة شعائره في بيت الآلهة ليحصل على الحكمة والعلم، ثم بعد ذلك سيقيم طقسا ثانيا لاستحضار الرغبة لدى المريض في الشفاء وعندما يتم هذا يبدأ العلاج المادي، إن الطقس الثاني جوهري انطلاقا من واقع أن الشخص إذا لم تكن له الرغبة في الشفاء فإنه لن يشفى. لكن الذين لهم نظرة تناسقية للكون يرون أن ليس للمريض الحق في أن يرفض الشفاء لأن فعله هذا خرق للقانون ولا يضر به نفسه ولكن كل المحيطين به من عائلته وطائفته مما يستوجب إقامة طقوس دينية كبيرة لقبول الرغبة في الشفاء. ومن المنطقي أن يكون المظهر الأكثر أهمية في العلاج بالقوى الخفية هو ترميم التناسق أو الانسجام المهدم، ترميم إرادة الشفاء التي إن حصلت فمن الممكن أن يتم شفاء المريض… وهذه قصة أخرى.

أن يكون المريض في توافق مع القانون؛ هذا هو المهم. وأنا لا أحيل على قانون الطائفة ولكن على قانون الحياة الذي هو منبع كل إدراك وعدالة بالنسبة لأولئك الذين لهم نظرة تناسقية للأشياء، فالمريض لما يجد لديه الرغبة في الشفاء، فالتناسق قد رمم ويصبح المريض حرا مادام قد تخلص من قوة الرفض ويمكنه ابتداء من هذه اللحظة أن يعيش أو يموت حرا. الأساسي أنه استعاد حريته، الحرية في أن يكون مسؤولا أمام ذاته، وعائلته، وطائفته، الحرية في أن يؤدي دوره كاملا ككائن إنساني في مجموع متناسق للكون. هذا هو مفهوم الحرية في ثقافاتنا الأصلية. إنها الحرية في أن نكون ما يجب أن نكون عليه.

كيف تفكر ثقافة ما، في تصورات جاراتها المختلفة عنها؟

لا يوجد مفهوم للخيانة، أو الكفر بالمعنى الديني في أي لغة من لغاتنا الأصلية بالقارة، وذلك لسبب بسيط وهو ألا أحد يمكن أن يكون خائنا ليس لأن أحدا يحرم عليه ذلك، ولكن فقط لأن هذا غير موجود، ولأنه كذلك فلا جدوى من إصدار الأحكام. أنت لا تنتمي إلى هذه الثقافة، لك اعتقادات وقناعات تلائمك، شيء جيد فأنا لي أيضا اعتقاداتي الخاصة بي. وبما أنهم لا يصدرون أحكاما ويحافظون بشكل متشدد على مفهوم الحرية في أن يكونوا ما يجب أن يكونوا عليه فقد عاشوا 500 سنة من الاضطهاد المادي والروحي من قبل الثقافة الغربية، قبل أن نكون في مستوى معرفة بعض الأشياء ونتعلم كيف نتوقف عن إصدار الأحكام لنساهم في تطور مجموعاتنا الإنسانية في توافق مع القانون التناسقي للحياةn

 

(*) «L’humanisme dans les cultures américaines » par Xavier MASKIN, in l’Humanisme dans différentes culutres. Pub. Centre mondial d’études humanistes, Editions, Références, Paris, 1997.