ص1      الفهرس       21-30المحور

 

القنبلة المعلوماتية(*)

 

بول فيريليو

ترجمة: عادل حدجامي

سعيد توبير

 

بانتهاء القرن العشرين، لا تنتهي الألفية الثانية فقط، ولكن تنتهي الأرض أيضا باعتبارها كوكبا للأحياء. ليست العولمة(…) تكملة لعملية تسريع للتاريخ بقدر ما هي انتهاء، وانغلاق لمجال ممكنات الأفق الأرضي.

صار الكوكب، ومنذ الآن، مقفلا بإحكام بدوريات الأقمار الاصطناعية التي لا تنتهي، وبتنا نصطدم بالحواجز اللامرئية للفضاء الآهل، كما نصطدم بقشرة مادة جسم حي.

لقد أصبح العالم بالنسبة لنا رجال الأرض ونساءها مأزقا، وأصبحت فوبيا المجالات المغلقة (claustrophobie) تشكل تهديدا مقلقا، وتقلصت أكثر بتقلص آمالنا الميتافيزيقية تطلعاتنا لعتق رغباتنا المادية.

لقد تحولت أرض التجمعات البشرية الكبرى إلى مستوطن ممركز للمحنة العظمى، ومجال فضائي مغلق تختلط فيه المدينة بالعالم، لتعود بابل، هل ستكون غير قابلة للدحر هذه المرة؟

على بعد ألف يوم من نهاية قرن مأساوي، نظهر سلسلة من الأحداث والوقائع المختلفة تنبهنا إلى البروز غير المنتظر للنهاية، ولبداية انصرام الأفق الجيوفيزيائي الذي شكل ولحد الآن فضاء للتاريخ.

إن ما يستشف من أحداث مثل انتحار طائفة "باب السماء"، وموت الأميرة ديانا هو البداية الرسمية للقنبلة الجينية المتمثلة في ظهور الإمكانية المذهلة لاستنساخ البشر انطلاقا من التحكم المعلوماتي في خريطتهم الجينية. إذ أنه بفضل المزاوجة بين علوم الحياة والمعلوميات، ظهرت إلى الوجود إمكانية للقيام بتحين سيبرينطيقي للسلالات البشرية، إمكانية لا تدين بأي شيء لسياسات الدول كما كان عليه الشأن في مختبرات مراكز الإبادة، حين تدين، بالمقابل، بكل شيء إلى العلم، العلم التقني الاقتصادي الخاضع للسوق وما يفرضه من معايير للتجارة في المجموعات الحية، ولخوصصة الدخيرة الجينية للبشر.

لقد فرض تكاثر القدرات النووية المعلنة في العالم، من مثل الباكستان والهند، وربما في دول أخرى(…) على الولايات المتحدة، أكبر قوة في العالم، الإسراع في إنجاز "ثورتها العسكرية" المشهورة بتطويرها الاستراتيجية الناشئة المسماة "حرب المعلوميات" والتي تقوم على استثمار الإلكترونيات كتكنولوجية للهيمنة عوضا عن السلاح النووي.

وعلى هذا الاعتبار، لن تصبح القنبلة الذرية سوى ضمانة متجاوزة، متى تمكنت القنبلة المعلومية من إثبات ذاتها ومن تقديم الدليل على كونها نظام التسلح المطلق الجديد.

في هذا السياق من عدم الاستقرار المالي والعسكري(…)، تطرح من جديد مسألة الكارثة الكبرى، ويصل إلى علمنا بمناسبة اجتماع قصة برمنكهام (Birmingham) في ماي 1998 بأن مكتب الاستخبارات المركزي (central intelligence agency) لا يأخذ فقط مأخذ الجد إمكانية حدوث كارثة معلومية معممة سنة 2000، ولكن أيضا قد بدأ يحاول تحديد تاريخ حصولها المفترض في كل دولة على حدة بغرض دفع هذه الدول إلى أخذ الاحتياطات اللازمة تجاهها.

وفي نفس الإطار، أقدم مجلس الشيوخ الأمريكي على إنشاء لجنة لتقدير نتائج هذه الكارثة الإلكترونية، وهو الأمر الذي دفع ببنك التدبير الدولي (Bri) في نيويورك إلى أن يحدو حدوه، ويشكل بدوره لجنة عليا لمحاولة الحد من هذا الإفلاس المعلومي (crash informatique) والذي يعتقد أن بمقدوره أن يكرر الخسائر الاقتصادية التي نتجت عن الانهيار الاقتصادي السابق للقارة الآسيوية(…).

إننا نشهد هنا معالم لإطلاق لوجيستيكا جديدة، وهي تقوم بأول مناورة شاملة لها في حرب المعلوميات. لوجيستيكا تقوم في التحكم السبرنطيقي في المعارف الاقتصادية-السياسية منها على الخصوص حيث يعري السوق الواحد Marché unique على بعده العسكري الاستراتيجي في مجال "نقل المعلومات" إلى حد أن الخطر الشامل، والمتمثل في إفلاسات الأسواق المالية، والذي طالما أخفي أثناء إصدار الأنترنيت، هو ومنذ الآن معترف به رسميا مبينا بذلك بأن هذا الخطر الكبير يمكن أن يستعمل كذلك لأجل الضغط على الأمم التي تقاوم مذهب التبادل الحر (Libre échange) المراد تعميمه.

وكما كنت قد أشرت إلى ذلك منذ مدة: إذا كان التفاعل الحواري بالنسبة للإعلام بمثابة الإشعاع بالنسبة للطاقة، فإننا الآن أمام الظهور المخيف "لكارثة الكوارث"، كارثة لم تعد بالمحلية ولا بالمتحكم فيها بل باتت شاملة وعامة. بتعبير آخر، إننا أمام ظاهرة ينتظر أن تحدث في كل مكان وفي الوقت نفسه. لكن ما يمكن أن أضيفه الآن هو أن هذه المخاطرة الشاملة هي رهان للتفوق الاستراتيجي "لنظم التسلح المستقبلية في حرب المعلوميات" info war. هذه الحرب الإلكترونية الاقتصادية التي باتت الولايات المتحدة تعلن عنها في العالم. ويمكن أيضا أن نضيف بأن هذه الكارثة تشكل، وأكثر من الفيروسات والمتفجرات البرمجية التي يطلقها القراصنة في حبك حواسنا الإعلامية (Logiciels)، المفجر الحقيقي للقنبلة المعلومية (Bombe informatique) والمانح لقدرتها المستقبلية على تهديد الاستقلال السياسي للدول، وباعتباره الشكل النهائي للاحتكار، فإن العالم السبرنيطقي (Le cybermonde)، ليس إلا الشكل الأكثر توسعا لتجسيد الهيمنة السبرينطيقية.

إن الوصل عبر الإنترنيت ينبئ بقرب إطلاق القنبلة السبرنيطيقية –أي الطرق المعلومية المستقبلية السيارة- والإعداد، ودائما بزعامة الولايات المتحدة، ليس فقط لتوسيع حلف الشمال الأطلسي، ولكن أيضا لتأسيس نظام دفاعي جديد(…) على شاكلة ما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة، ليحتل بذلك التهديد بتجميد النظم المعلومية مكان التهديد النووي.

في 12 ماي 1998، أعلن الرئيس الأمريكي أثناء قمة زعماء الدول ببير منكهام في تقريره حول "استراتيجية محاربة الجريمة السبرنطيقية" عن الحاجة الملحة لسن قوانين ضد هذا النوع من الجرائم المقترف من طرف عصابات المافيا المتوسلة بالتكنولوجيا الرابطة télé technologie وأيضا ضد الخطر المحذق بالعملة الرقمية (monnaie numérique) المتحررة من الرقابة الاقتصادية، حين يبدأ في تداولها.

"سيكون بمقدور مجرمي المجال "السيبري" cybérique استعمال حواسيبهم للهجوم على أبناكنا، ونهب أموالنا عن طريق التهديد بإطلاق "فيروسات معلومية"". هذا ما قاله بيل كلينتون، موضحا لقادة الدول الحاضرين بأن الولايات المتحدة ستكون أول من يحارب ذلك، لكن، يضيف كلينتون "الجريمة السبرنطيقية الدولية تتطلب مجهودا دوليا كذلك للوقوف ضدها، فأمريكا مستعدة للمقاومة وحيدة إذا استلزم الأمر، لكن ما هو مؤكد هو أنه ليس بمقدور أي دولة لوحدها أن تسيطر على هذا النوع من الجرائم". إنه أمر لا يصدق، فرئيس الدولة المسؤولة على أكبر خلل اقتصادي مس التاريخ، يقدم نفسه على أنه أول من يقدم على إعلان الحرب، وعلى قيادة الحملة العالمية لأجل تفادي حصول دمار شامل (chaos) كان هو أصلا، رفقة نائبه(…) من تسبب في حدوثه.

إن الانفجارات التاريخية الثلاثة، النووي والمعلوماتي، والديموغرافي، التي كان ألبرت إنشطاين قد ذكرها في بداية الستينيات تظهر من الآن أنها ستشمل القرن المقبل، الأولى، عن طريق انتشار السلاح النووي، كما هو الحال في قضية التجارب النووية للهند والباكستان المعلن عنها؛ والثانية عن طريق التهديد بتحكم سبرينطيقي في سياسات الدول بدعوى مواجهة الخطر غير المباشر لكارثة عامة، كما ذكرنا فيما سبق؛ أما بخصوص الثالثة، أي الانفجار الديمغرافي، فكيف لا ندرك هنا أيضا بأنه، إذا كان استعمال الحاسوب ضروريا للتحكم في السلاح الذري، فإنه ضروري أيضا في فك الشفرة الجينية (décrypatage)، وبالتالي في الأبحاث التي تسعى لإنشاء خطاطة وراثية بشرية، فاتحة بذلك الطريق لمحاولة جديدة لتحسين النسل ولتشجيع التقنية العرقية التي لم تعد طبيعية، بل اصطناعية؟ وبالفعل، فإننا لا يمكن إلا أن نعتقد، وأمام التزايد الكبير لديمغرافية كوكبنا في القرن المقبل، بأن التجارب الخاصة بتصنيع الأحياء (industrialisation des vivants)، لن تكتفي بالبحث في معالجة المرض أو تمكين المعانين من العقم على النسل، بل ستنكب عما قريب على البحث في سبل تحقيق خرافة "الإنسان الجديد" القديمة، ذلك الذي سيستحق أن يعيش، في حين يكون فيه الإنسان الذي لا يحمل أي امتياز –الإنسان البدائي للعصور الحديثة (primate)- مجبرا على الانقراض على الطريقة ذاتها التي انقرض بها سلفه "المتوحش"، لكي لا يملأ بأعداده الكبيرة الكوكب الصغير، تاركا بذلك مكانه إلى آخر نموذج بشري، الإنسان الأرقى (trans humain) الذي سينتج على شاكلة تلك الخضر المنقاة نوعيا (transgénique) والمتكيفة مع محيطها أحسن من الخضر الطبيعية.

ولأجل التأكد من ذلك، يكفي أن نسمع مثلا التصريحات الأخيرة لرتشارد سيد (Richard Seed)، حول محاولته لتحقيق استنساخ بشري، أو لأحاديث أولئك الذين لا يتورفون، علانية، على امتداح إنتاج الخرافات الحية (chimères vivantes)، التي من الممكن أن تسرع بقدوم كائنات فوق إنسانية (extra humaines)(…).

فضلا عن ذلك يمكن أن نتساءل: هل "مشروع الأشكال الجينية البشرية" والممول بما يقارب ثلاثة مليارات من الدولارات من طرف مصلحة الطاقة (département of Energy) والمعهد الوطني للصحة (National institue of Health)، والذي يسعى إلى فك شفرة الأ.د.ن (A.D.N ) يمثل شيئا آخر غير السباق لأجل الوصول إلى تحكم معلوماتي في الحياة، كما كانت تفعل الولايات المتحدة في وقت سابق بتمويلها للإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA) من أجل الوصول إلى القمر؟

التسابق، دائما التسابق! أو لم يقم عالم الأبحاث الوراثية كريك فانتر بتأسيس شركة خاصة، وبالموازاة مع مشروع الدولة العام، من أجل الكشف عن مجموع العناصر المكونة للنظام الوراثي في ثلاث سنوات فقط، بالتشارك مع فرع المجمع الصيدلي بيركينغ إيلمر (Perking elmer) والمتخصص في إنتاج آلات فرز الأ.د.ن، وذلك باستثمار قيمة مائتي مليون دولار(…).

إنها علامات عديدة تؤشر على قرب تجاوز "البرانية" (exotisme) الماكروفيزيائية للجوانية (endotisme) الميكروفيزيائية، وعلى الانقضاء المحتمل للبحث للتحكم في الفضاء البعيد، من أجل الانكفاء في البحث في الداخل، الذي لن يكون غير "فضاء" المادة الحية نفسها، التي أضحت تمثل حدودا جديدة لإرادة قوة العلوم التقنية.

"الإنسان هو غاية ما أبدع الله"، هذا ما كتبه هيدغارد دوبينفن، معبرا بذلك عن الواقع المقنع من طرف المركزية الأنتروبولوجية للأصول "Anthopocentrisme des origines". بعبارة أخرى قالتها امرأة ولدت سنة 1098: "إن الإنسان لن يكون مركز العالم، بل نهايته"، عبارة تتعارض وأسطورة التقنية الوراثية، بتوضيحها، وبتفرد، أصول العدمية الجديدة، أي، القدرة الكبرى العاجزة La toute puissance de l'impuissance للعلوم، والتي تظهر حالما تحاول أن تغير الأصول الثابتة للحياة(…).

إن هذا المشروع (بعد الصناعي)، وبعيدا عن أن يكون بحثا، يستعمل طاقة اليأس لمحاولة الانفلات من الحياة، للوصول بذلك إلى الفناء (chaos)، بعبارة أخرى، من أجل الارتداد إلى حدود الشروط الأولى التي يظن بأنها كانت قبل الحياة.

جينات أرقى (transgénique)، إنسان أرقى (transhumain)، كلمات عدة لا تعني غير محاولة مجموعة سياسية أرقى (transpénique) لعلماء لا يهتمون إلا بعرض نتائج أبحاث بهلوانية شبيهة بتلك العروض التي كانت تقدم في ق XIX من طرف من كانوا يعتقدون أنفسهم رياضيين سحرة (Mathémagicien).

أخيرا، إن هذه الفترة المسماة ما بعد الحديثة (postmoderne) ليست فترة لتجاوز الحداثة الصناعية بقدر ما هي محاولة للتصنيع المفاجئ للنهاية والشوملة (globalisation) العامة لكل نتائج التقدم السلبية.

إن محاولة كهاته لتصنيع الكائن الحي عن طريق البيولوجيا التكنولوجية كما هو عليه الحال مع مشروع إعادة الإنتاج المعياري (Standard) للأفراد، هي محاولة لجعل الفناء "مشروعا" وورثة بروميثية.

في سياق هاجس الرعب بين الغرب والشرق، استطاعت عقدة الصناعة الحربية أن تجعل البحث العلمي رهن إشارة الحرب من أجل ضمان كفاءات الهدم المتبادل. كما أنه بواسطة تطور المعلوماتية والبيوتقنية استطاعت علوم الحياة في نفس الآن أن تهدد النوع البشري، ليس كما كان بواسطة الإشعاع الذري وإنما عن طريق التلقيح السياسي. وعليه فإن مراقبة وضبط مصادر الحياة هي أصل بقاء الفرد. ولذلك فإننا نفهم الآن أن الحرب الكلية التي نشبت بعيد الصراع العالمي الأول في التهديد العالمي (هيروشيما، أوزويتش) والتي لم تهدد العدو فحسب بل النوع البشري في رمته. وبالتالي فإن الحرب الكلية التي تعلمنا الاعمال الكبرى في مجال المعلوميات التي تستند على تجذير علمي يتسم بتهديد أقل من الإبادة الشاملة.

فإذا كان هذا التهديد لا يهم مجموعة بشرية بعينها وإنما النوع البشري برمته عندما يتعرض للقنبلة الحرارية النووية، فإذا كان هذا المبدأ يهدد كل حياة فردية فإن القنبلة الحيوية أو المعلوماتية لا تشكل إلا شيئا واحدا –نسق الحروب- ومع ذلك فإن المعلومة أصبحت تشكل البعد الثالث للمادة وبعد الكتلة والطاقة، ما دام كل زمن تاريخي يصور في مرحلته عناصر اكتشافاته: لذلك ظلت حرب الكتل من أهم الاحتياجات قديما فيما يخص الحرب حتى مرحلة تنظيم قوة النار بالنسبة للجيوش الأوروبية إبان الأزمنة الحديثة. أي أنها كانت حرب الطاقة بواسطة المدفع الرشاش ولا سيما المتفجرات النووية في انتظار أشعة القوة، وفي النهاية كما في الغد الحرب المعلوماتية التي ستعمم ما دشنه منذ الحرب الباردة آليات التجسس والمراقبة البوليسية والتي لم تفصح عن نفسها من حيث الاستفادة إلا مؤخرا تحت تأثير التسارع المطلق لهاته (المعلوماتية الشمولية).

كل من يعرف كل شيء لا يخاف شيئا. هذا ما عبر عنه جوزيف كوبل. لأن المسألة اليوم لا تتعلق بالخوف في حد ذاته وإنما بفعل التخويف والرعب الدائمين تحت تأثير خطر عدم مراقبة كل حرب نووية مدمرة. وهذا الأمر هو الذي توجهه المعلوميات انطلاقا من العودة إلى البعد الثالث للمادة المنظمة: سرعة الاستقبال والإرسال أو سرعة الحساب. وعليه فإن المعلومة المتأخرة غير ذات كرامة في هذا السياق ولكن مجرد ضجيج في العمق وهذا ما يحد معناه عند أحد الصحفيين المعاصرين عند إنشاء قناة GNN – أخبار بطيئة، ليست هناك أخبار.

إن السرعة الحدية للموجات هي التي تحرك الإرساليات والصور. إنها المعلومة نفسها مستقلة عن المضمون وهذا ما تؤكده صحيفة مارشال ماك ليمان- وهذا ما يحسن مراجعته.

إن السرعة الحدية تعمل على رصد –حائط الزمن- في انتظار مستقبلي للحاسوب الفوتوني من أجل الحساب في تزامن كامل بواسطة ثابت سرعة الضوء التي تسهل الاتصالات بشكل عفوي. كما أن الحرب المعلوماتية تعتمد بطبيعة الحال على التفاعلية الشمولية مثل الطاقة الذرية التي تستند على الإشعاع المحلي. وهذا ما يجعل من المستحيل التمييز بين الفعل الإرادي ورد الفعل اللاإرادي مثل حادثة أو هجوم. –وهذا ما تعبر حادثة وقعت سنة 1988 في تزامن مع قمة برنغهام عندما فاجأ القمر الصناعي –كلاكسي- بانقطاع لمجموعات بث تلفزية خصوصا أحد المسلسلات الأمريكية التي تحظى باهتمام الجمهور الأمريكي. والحال أن العطب ناتج عن انزياح حاسوب القيادة ليغير موقع القمر الصناعي مما أثار زوبعة حول هشاشة الموقف الأمريكي اتجاه هذا الاختلال التكنولوجي الضروري بالنسبة لحياة البلد. مما جعل الأنترنيت، كما أشرنا إلى ذلك، يسمح بإرسال الروابط بين بعض القطاعات العامة الأمريكية، مثل قناة الإذاعة NPR التي تشرك شبكة الشبكات من أجل التنسيق مع بعض المحطات المحلية. هذا دون أن ننسى أن النسق السيبيري (Web) الذي أنشئ منذ عشرين سنة لإعداد المضاعفات الإلكترومغناطيسية لكل انفجار ذري في العلو. كذلك يعمل على إبعاد كل حادثة عامة لوسائل الاتصال الاستراتيجية. وعليه فإذا كانت الحرب في أي وقت لا تعني إلا إنتاج أنواع جديدة من الهدم لتطوير سلسلة من الحوادث الإرادية، فإن منطق الآلة الحربية ما هو إلا نقيض آلة الإنتاج. أما الحرب الإعلامية (المعلوماتية) التي هي في تطور وتنامي لا تعني إلا الحادثة: الحادثة الشمولية وليست المحلية كما كانت البارحة إذ يمكن أن تنهي الحياة بأكملها. والحال أنه عندما لا تتكرر أكثر من مرة فيمكن أن تهدد أنظمة الحاسوب في أفق 2000.

ففي مجال الحرب المعلوماتية كل شيء افتراضي. وبنفس الطريقة يمكن للمعلومة المتوفرة أو غير المتوفرة ألا تكون سرية ما دام كل هجوم أو حادثة متساوية من حيث الوقوع ولذلك أصبحت الإرسالية غير مشوشة كما كانت في حالة الإجراءات المضادة أثناء الحرب الإلكترونية بل أصبحت سيبيرية، بمعنى أن المعلومة أصبحت أقل اهتماما بالمضمون الظاهر في مقابل سرعة ترددها. وكذلك فالتفاعلية الأنية والحضور في مجموعة أمكنت في الآن نفسه إذن فهي الإرسالية الحقة فيما يخص الإرسال والاستقبال في الوقت الواقعي.

إن الصور والإرساليات الرقمية تستورد أقل ما تنشره بطريقة عفوية، كما أن الحذر خوفا من تأثير الصدمة والمفاجأة جعلته يأخذ بعين الاعتبار دائما المضمون الإعلامي كما أن الخاصية الرقمية المتسمة بالغموض هي التي تجعل فعل الهجوم والاختلال التقني غير مرئي. وعليه فإن مبدأ اللاتحدد امتد من الوسط الكوانطي إلى الاستراتيجية الإعلامية أو المعلوماتية الشبه مستقلة تماما عن شروط الجيوفيزيائي الذي تمارس فيه تأثيرها على الأقل. فبواسطة هذا العمل يمهد لهاته التفاعلية التي تمتد على مجموع كوكبنا والتي تجعل الحرب المعلوماتية تهيئ إلى الحرب الأولى للزمن العالمي أي الزمن الواقعي للتبادل بين الشبكات المترابطة.

ومن تم فإن من السهولة بمكان أن نجد العولمة الراهنة للسوق تتضمن على الأقل ثلاثة أبعاد أساسية: جيوفيزيائية، تقنوعلمية وإيديولوجية ومن هنا يأتي التقرب بين إرادة الولايات المتحدة الأمريكية لتعميم التبادل الحر الشمولي في أفق 2020-2010 وتهييء الحرب الإعلامية بيد أن من المستحيل التمييز بشكل واضح بين الحرب الاقتصادية والمعلوماتية عندما يتعلق الأمر بأنواع الهيمنة والتلهف على الاستغلال السريع خصوصا من تفعيل التبادلات التجارية والعسكرية. وعليه فإن المجهودات المتتالية لمنظمة التجارة العالمية من أجل زعزعة كل السيادات الوطنية وهو الشيء نفسه الذي تقوم به AMI: الاتفاق المتعدد حول الاستثمار كذلك وMTM السوق الجديدة للتبادل الأطلسي. ومن تم فإننا نستطيع أن نفهم طابع الاختلال واللاتوازن النسقي الذي يصيب اقتصاد السوق، وبالتالي لا يمكن أن نعاقب أو نطعن في النسقية المتعلقة بالمعلوماتية الاستراتيجية.

فإذا كان الهدف هو إحالة التبادلات المحيطية والحربية إلى السيبرنتيقا، فإن ذلك هو الهدف الواضح لكل هاته التجديدات المعاصرة لهاته الألفية الأخيرة وعليه فإن هاته المسألة لا تهم أوربا لوحدها ولكن تهم كل كائن في هذا الكوكب الذي يجب تقريبه واختزاله في الكائن الصناعي. فإذا حاولنا تلخيص الحرب الشمولية إذن، فإن طابعها النوعي سيقودها تحت تأثير أهمية ما هو جيوفيزيائي وديمغرافي بواسطة القنبلة المعلوماتية ليس كحرب خاصة بحفر الموت ولكن بحرب خالصة تبدأ بحفر الولادة لبعض الأنواع المنقرضة لتنوع الكائن البيولوجي.

كما أن الحرب المقبلة ستبدأ من المكاتب ولكن بمختبرات مفتوحة حول المستقبل الإشعاعي للأنواع الحية (transgénétique) موجهة نحو التكيف مع التلوث في بيئة ضيقة وذلك بتعليق الاتصال والتواصل على حافة الأثير n

 

 



(*) منشورات كاليلي، شتنبر 1998، النص المقدم هنا هو ترجمة كاملة للفصل الرابع عشر.