ص1      الفهرس     21-30

 المهدوية.. الفتنة.. الجهاد.. وإنتاج النخب التقليدية

 

بن محمد قسطاني

 

1 – في أنثروبولوجيا المهدوية:

لقد استطاع الإنسان، في كل مكان، أن يخلق له صورا ذهنية رمزية تكثف له كل ممارساته الحياتية ابتداء بتدبير اليومي حتى الرهانات السلطوية مرورا بالمقدس، الأمر المفسر لجميع أشكال الإبداعات والطقوس والأساطير والملاحم.. وتعتبر المهدوية Messianisme صورة من تلك الصور المليئة بالإيحاءات والقابلة لاستثمارات مختلفة لعل أهمها وأعلاها، الاستثمار نحو القوة. كل ذلك يضفي على المفهوم استقرائية تغري بالتحليل السوسيولوجي والأنثروبولوجي.

من هذا المنطق، نريد أن نوضح هنا عدم اهتمامنا بالبعد الفلسفي الصوفي المعرفي للمفهوم، بقدر ما يهمنا عمقه السوسيولوجي الواقعي كآلية اجتماعية تقليدية ذكية تستطيع المساس بالمصالح الدنيوية دون تعريتها حتى تستساغ وهي مغلفة بالمقدس والديني، ومن ثمة بعدها الرهاني المجالي المتمفصل.

إن المهدوية تكثيف لحضور ماض عبر "غيبة"


[1] الحق الذي يراد استرجاعه في مستقبل "رؤيوي" مأمول، عبر مناضلة حاضرة اسمها الجهاد بمعنييه، جهاد الآخر ومنعه من اجتثاث الذات وجهاد الذات نفسها عبر تغذية مناعتها في الحقل الرمزي الثقافي والسلطوي لدار الإسلام.

وإذا كانت أهداف المهدوية واضحة وجد معلنة أحيانا، تلك الأهداف التي تتكشف وتتمفصل حول السلطة والحكم، فإن مساراتها تتماس مع أشكال تقليدية أخرى للتمنيع والمقاومة، مثل الزاوية خصوصا أو جل أشكال التمرد والثورة والادعاء والانتفاض بل والفتنة واللصوصية أحيانا، بل وحتى الخيانة والتواطؤ مع الأجنبي[2].. ذلك التماس المفضي غالبا إلى التباس وغموض وتعقد يكتنف المهدوية كلها، ليس كمفهوم فحسب، بل وكوقائع وممارسات. ورغم ذلك فإن الملاحظة الأساسية الأولى التي تثير الانتباه بصدد خصائص المهدوية، ارتباطها العضوي بالفعل السياسي. فهي وإن استخدمت آليات المؤسسات الأخرى الآنفة الذكر، مثل الانتماء إلى طريقة والدعوة إليها أو زعامة تمرد أو انتفاض وما يستدعي ذلك من خبرة لوجيستكية وإتقان لعبة المؤامرة والأحلاف والإبتزاز، فهي مشروع جد طموح يتصف بالشمول والكلية وبجرأة تمديد الاتصال نحو الولاءات العليا لتطال الأمة سياسيا ورمزيا. إنها بلغة الثقافة الإسلامية السياسية دعوة. ومن ثمة فهي تجريد وميتافيزيقا استقارئية عبر الحلم والأسرار والانتظار. إن المهدي كما هو الأمر في العقيدة الشيعية، حاضر ومغيب ومنتظر ومن ثمة فهو ليس رجلا، بل فكرة.. إنها فكرة الدور الأبدي والإنسان الكامل[3].

لا تقبل المهدوية الحياد ومن ثمة اختلافها الجذري مع الطريقة، المنطلقة أساسا من هوية الصلاح والإصلاح والتوافق ووظيفة الحكم كضامن للمفاوضة والتراضي. إذ يعتبر البعد الأمني للمزارات، كحرمة لا تنتهك وكثقة مطمئنة، أساسيا بالنسبة للزاوية، على عكس الطابع الحسمي للمهدوية وعدم تداخل الوظائف لديها، عبر وضوح الموقف كبعد تآمري يعتمد على استراتيجية التقنية والسر والمفاجآة.

ليست المهدوية سلطة سياسية عادية، بل هي سلطة حرب تضفي عليها صيغة اللحظية والآنية. ومن خلال هذه المواصفات للمهدوية ندرك علائقها بمفاهيم أخرى مثل الفتنة والجهاد.

إن علاقة المهدي بالزاوية معقدة وإشكالية. فبينما تبدو الزاوية متعددة الوظائف والأغراض ابتداء بعلاج المرضى حتى الطمع في السلطة مرورا بتدبير الخلافات القبلية والصلح وغير ذلك، تبقى أهداف المهدوية سلطوية بحتة ومن ثمة العلاقة الصدامية مع السلطة المركزية بل ومع الزوايا نفسها، ما لم تستجب لدعوتها.

أما الشروط المجتمعية المنتجة للمهدوية فهي شروط أزمة غالبا (نهاية العهد المرابطي بالنسبة لمهدي الموحدين.. نهاية السعديين بالنسبة لابن أبي محلي.. نهاية القرن الماضي..).

إن ضعف أو غياب حتى للسلطة المركزية، إذا أضيفت لها الضائقة الاقتصادية المتجلية في القحوط والمجاعات والأوبئة وما يترتب عن ذلك من ظلم وخوف، إن كل ذلك ليغرق البلد في الفوضى والفساد. وليس هناك مصطلح يمكن أن يعبر عن حال المسلمين قبيل الاستعمار أفضل من مصطلح الفتنة. حيث تكثيف الحالة العامة التي يتمثلها المغربي المسلم وفق الشعور بخلل ما عميق في الذات. تلك الذات التي أدارت ظهرها للآخر منذ زمن طويل ولا تحاول فهمه، بل وحتى استحضاره كخصم واقعي في معادلة الأزمة. إن ما حصل شأن داخلي، بل وشيء عادي يبتلي به الله عباده. إن الفتنة، حتى لغويا، اختبار ومحنة. لكنها محنة استفحلت وطال أمدها، والداء الذي لا يشفيه الزمن لا يفعل سوى على تأبيده ومن ثمة الفتك بحامله. الأمر الذي يفسر، ربما، كل آليات تدمير الذات..

ليست الفتنة في التمثل اليومي سلبا كلها، فهي الكير الصاهر لمعادن الناس والذي به يتميز الخبيث من الحسن. وهي ليست اختبارا وامتحانا فحسب، بل إحراق ونفي في المستوى الأعلى ومن هنا خطورتها. وبذلك سمي الشيطان فتانا ومن مقابلاتها: المال والأولاد والكفر واختلاف الناس بالآراء.. والميل والفضيحة والعذاب.. والقتال.. والوسواس[4].

في رحم فوضى الفتنة تتبدى المهدوية خلاصا، ليس لفئة دون أخرى بل بشكل شمولي يتلمس شرعيته الدينية والرمزية في الالتجاء إلى رموز الأمة مثل البيعة والنسب الشريف (سيحاول كل المهديين التوفر على شجرة نسب تربطهم بآل البيت، وتكثف سيرة مهدي الموحدين ذلك، فرغم اتخاذه المصامدة عصبة وولاء فالأمر لا يعدو سوى تكتيكا حربيا وسياسيا..).

إن المهدوية تجاوز للعصبية وللقبيلة، إنها إمارة وولاية، بل إمامة. وما اصطباغها بالتشيع سوى "تطرفا" في أحقية آل البيت بين قريش كلها في الحاكمية، تجاوزا للفرضية السنية وتضمينا لها.. ولعل فيما أوردناه هنا تفسير لحد أدنى من الشيعية، ولو المعتدلة منها في مستواها الرمزي خصوصا، في الممارسة السياسية المغربية كاستثمار أنثروبولوجي موحد ذي مردودية عليا على مستوى العامة. وهو أمر مطمئن وموحي بالاستقرار على عكس "فوضوية" الخوارج ونزعتها السلبية العدمية.

إن المهدوية، بكل ما أسلف ذكره, ثورة مستديمة بالقوة، تتحين الفرص لتملأ الدنيا عدلا بعدما ملئت ظلما وجورا وذلك بالجهاد كسنم الإسلام.

إن الفتنة والمهدوية مفاهيم تنتعش في لحظات السيبا، التي لا يجب خلطها بهما، فهي ليست سوى أزمة سلطة ومرحلة انتقال الحكم وما يستدعي ذلك من بروز أطماع عند تخلي الدولة عن مهامها التدبيرية من جلب الضرائب وضرب السكة وضبط أثمان السلع والأسواق والأمن.. وتستمثر المهدوية كمشروع سلطوي بديل مثل هذه اللحظات.

ليست المهدوية إذا عصبية، كما أنها ليست فتنة وسيبا وفوضى آنوية. كما أنها ليست في الوقت نفسه تهافت الذات كطبيعة ثقافية وحضارية أو كتجزؤ مرضي لا يدع القبائل تطمح إلى مستوى أعلى يتجاوزها هو الدولة. كما أنها ليست نمط إنتاج، لأنها وببساطة مشروع ودعوة وطوبى. إنها بنية فوقية لحالة اليتم السياسي والتاريخي. وما أن يتحقق المشروع حتى يصبح حكما وسلطة سياسية واقعية كأية سياسة تلعب لعبة الرهانات وموازين القوى. إن المهدوية كارزمية أمل ورؤيا و"نبوة" وإيمان وتسليم وإصلاح وتطهير وعدل ومساومة وحماس واحتفال وطاعة الأب[5].

 

2 ـ المسار الممكن للمهدي:

انزوت القبيلة المغربية قبل الاستعمار منكفئة على نفسها محاولة في ذلك أن تؤسس لها نخبا تدير شؤونها اليومية مثل "لجماعت" والأمغار" و"أمور".. أو تدبير عبقريتها الحربية مع "أمغار نوفلا". ولا تتجاوز النخب القبلية المستويين إلا استنجادا بنخب فوق القبيلة تتجاوز التنفيذية الرائعة للمناورة نحو الزعامة الاستراتيجية والإيديولوجية المستبصرة. الأمر الذي يحيل مباشرة إلى الزاوية أو إلى المهدوية أو هما معا كمجالين ثقافيين رمزيين أحدهما مطمئن عبر السلوك البسيط والإحيائي للأولياء الذين يتقنون وبدهاء لعبة الظاهر والباطن[6] نظرا لاتساع مجال مناورتهم واختراقها حتى للخصومات والخلافات بل ولامتدادهم في المكان[7]، ونظرا للمعرفة الدينية والدنيوية التي تحصل عبر ذاكرة التلمذة التي هي المنطلق الضروري لكل ولاية، بل هي أيضا منطلق المهدوية، (من لا شيخ له لا علم له..).

تعتبر التلمذة إذا المحطة الأولى في سيرة المهدي. وما التلمذة في العرف الديداكتيكي التقليدي سوى الطاعة العمياء ومن ثمة علاقتها بالجندية والقابلية لامتصاص التعاليم والتعليمات بسلبية لا يفسرها سوى رد الفعل الذي ينتج عند تجاوز المرحلة وحصول التشبع استعدادا للإيجاب والفعل بحثا عن ذوات أخرى قابلة لغرس وزرع نفس التعاليم بشكل دائري تنفيذي جد ممهد للاستنفار والانقضاض. وإذا أضفنا لخصائص التلمذة تلك خاصية التبعية الشبه المطلقة والهامشية في الغالب من منبت فقد عصبيته، كما أنه في الغالب أصغر الفتيان الذين تدفعهم الأسر كهدايا للمسجد كفائض من السواعد وربما كأضعف بنية جسدية. إنه الوحيد الذي يهاجر البنية المورفولوجية بل والسكنية، فيسكن غرفة جد متواضعة بمسجد تجود عليه الساكنة.

إن الطالب في المدرسة العتيقة هامش مثله مثل المرأة والطفل ومن ثمة قصوره وحاجته إلى وال يتكفله ويرعاه، يضمنه ويسترشد به، يتبع خطاه. إنه بكلمة واحدة مريد. وغالبا ما يكون مريدا فعليا في طريقة صوفية وقلما اختلفت طريقته عن طريقة سيده (يقال للفقية سيدي).

بعد التلمذة إما تذوب الذات في الهامش طمعا في استقرار "مذل" عبر "الشرط" ووظائف القيم على المساجد القروية، إماما في أحسن الحالات أو مؤذنا أو مقرئا في المناسبات السعيدة والحزينة. وإما تصعد إلى مستوى أعلى في مسيرة المهدوية بحثا عن تجارب الآخرين في الآفاق الأخرى، وتلك مرحلة السياحة والطواف نحو بؤر أكثر ملحمية في أغلب الأحيان. وهي لحظة تمنيع الذات وتدريبها استعدادا للاستنفار الأعلى الذي هو الجهاد. إلا أنه بين الجهاد والسياحة لحظة تأمل باطني لا يتم إلا بالعزلة والتوحد استعدادا إما للكرامات كطريق صوفي أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كطريق سني عضوي يتبدى في الوعظ المجازف عبر عمليات انتحارية أو شبه انتحارية (مناظرة وعاظ رسميين أو شبه رسميين أو إفتاء معارض.. نموذج مهدي الموحدين).

في الأخير يتوج المسار بإعلان المهدية وإدعاء السلطة بحثا عن بيعة تأسيسية ورموز تثير الانتباه. وعند حصول البيعة يصبح المهدي سلطانا فينشئ ديوانا ويستوزر ويوظف قضاة وعدولا ومفتين رسميين. ثم جيشا منظما وضباطا. فيبدأ بإرسال رسائل مختومة لنشر الدعوة في الآفاق التي لم تعقد بيعتها عليه بعد أو ينظم حركات تجاه خصومه. إنه "مخزن" بديل "يملك" المشروعية الأساسية المبنية على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تلك بعض ملامح مسار المهدوية نجدها عند كل المهديين وقائع بتعديلات طفيفة ونسبية تلائم الأوضاع المتغيرة. ولنا أن نسجل هنا أننا جد واعين بانتماء المهدوية إلى البنيات التقليدية ومن ثمة عدم ربطها بآية دعوة سلفية، كما أنها لا تشتغل غالبا إلا في المجال القروي ومن ثمة بعدها عن أية تربية دينية مدنية[8].

 

 



[1]  - Corbi, Henry – Histoire de  la philosophie Islamique, Gallimard, 1994, p96.

[2]  - Laroui, Abdellah – Les origines sociales et culturelles du Nationalisme Marocain. (1830-1912), Maspero, 1980, p411.

[3]  - Corbin, Henry – Histoire de la philosophie Islamique, Gallimard, 1964, p92.

[4] - ابن منظور، لسان العرب، مجلد 15, مطبعة دار الفكر، دار صادر، بيروت، ص317-318.

[5]  - Claval, Paul – Espace et Pouvoir, PUF, 1978, p30.

[6]  - Laroui, Abdellah – Esquisses historiques, Centre Culturel arabe, 1992, p41.

[7]  - Micheaux Bellaire E, (Notes sur les Amhouchs et les Ahnçales), In Archives Bèrbères, T2, 1917, p217.

[8] - تلك بعض الأفكار استقريناها من مهديين فعليين برزوا قبيل الاستعمار في تافلالت وهم، امبارك التوزيني المدعو بمولاي امحمد السملالي وبلقاسم النكادي ومساعده باعلي. ولنا عودة إلى الموضوع.