ص1     الفهرس  21-30   

 

في مفهوم "النخبة".. ودور الوسيط أو المصادر الثقافي

 

سعيد شبار

إن الحديث عن "النخبة" تستدعيه ضرورات مرجعية ومنهجية يمكن من خلالها الوقوف على مظاهر عديدة من أزمة الفكر العربي والإسلامي المعاصر، والكشف عن مواطن من الخلل صاحبت مسيرته التاريخية ولا تزال. "النخبة" بما هي "فئة" أو "طبقة" تقوم بدور الوسيط في عملية التكوين والتفكير، وتنوب عن الباقين في ذلك، بل والتي بلغ بها "الجشع" أحيانا إلى حد مصادرة حقهم الثقافي والمعرفي في مختلف مجالات وأنشطة الحياة.

ففكر "النخبة" القائم على أساس تعميق الهوة بين "عوام ومثقفين"، المتعالي عن واقعه ومشكلاته، المتجرد عنهما، أيا كان نزوع هذا الفكر تغريبيا أو قوميا أو تراثيا.. لا يمكنه إطلاقا أن يسهم في إخراج الأمة القارئة المسؤولة، المستوعبة لتاريخها وتراثها، المتفهمة لواقعها ومتطلباته، والمساهمة في أعمال المشاريع التحريرية والنهوضية التي بقيت هي الأخرى بسبب تعاليها وتجردها مشاريع نخبوية معزولة، مورس عليها نوع من التحييد المقابل، فلم تثمر شيئا ولم تسفر عن نتائج تذكر، بل على العكس من ذلك، فسلسة الانهيار مستمرة وحلقات الهزائم والنكسات وأشكال الإلحاق والتبعية فيها متواصلة.. هذا ما عبر ويعبر عنه رواد كثيرون من تلك النخب بعد ما يناهز قرنا من الزمان من العمل والمراجعة والتنظير لمثل هذه المشاريع.

وإنه ليمكننا أن نقرر في مطلع هذه المقالة، أن كثيرا من النخب في فكرنا العربي والإسلامي على اختلاف مشاربها، يحكمها وإلى الآن –بالرغم من محاولات المراجعة والتصحيح- منطق واحد يمكن تسميته بـ "غرور امتلاك الحقيقة والصواب" الذي يضخم "الأنا" في الإنسان فيصم أذنيه عن سماع أو قبول الرأي الآخر الناقد والمخالف. يصح هذا على الثقافة الإسلامية حيث هيمن منطق "النخبة" على كثير من فروعها بعد الصدر الإسلامي الأول بقرونه الثلاثة الأولى الخيرة، عصر الأئمة المؤسسين من الصحابة والتابعين وأتباعهم. ويكفي أن تعطيل الاجتهاد بما هو آلة للتربية والتكوين والتأهيل، وسيادة التقليد بما هو نيابة في استعمال العقل وخلود هذا الأخير إلى الراحة، إنما يعبر وبوضوح عن المعنى المتقدم. ويصح أيضا وبنسبة أكبر على "نخب" من الفكر العربي بتوجهاته القومية والعلمانية واليسارية، تلك التي جعلت من الغرب قبلة لها. فلا ترى نمطا من أنماط التغيير أو شكلا من أشكال الحداثة.. إلا ما هو كائن هناك ولو أدى ذلك إلى التنكر أو الالتفاف على دين وتاريخ وحضارة، هي من أخص مقومات الذات. مع مفارقة أن الغرب المقلد وهو يلد نفسه من جديد إنما شاد فلسفة إعادة البناء على أصوله التاريخية، الثقافية، والحضارية مستلهما في ذلك إنجاز الحضارات الأخرى، حسب الحاجة إليها ودرجة النفع فيها، وعلى رأسها طبعا الحضارة الإسلامية في عالميتها الأولى.

ثم لا يفوت هنا التذكير بأن نقد "النخبة" ليس إلغاء لها. بقدر ما هو نقد للتوجهات السلبية التي احتلت الحيز الأكبر فيها، ونقد لنسب الجهل والأمية، البسيطة والمركبة، في بلداننا عندما تضرب منذرة في أفق السبعين والثمانين بالمائة.

 

1 ـ في تعريف المصطلح والمفهوم:

لنحاول أولا أن نقف على المصطلح والمفهوم في البيئة الغربية. حيث نجده يرتبط باسم فلفريدو باريتو Vilfredo Pareto، عالم الاجتماع الإيطالي، لينطلق المفهوم بعد ذلك في استعمالات عديدة تتراوح بين الخصوص والعموم، والقوة والضعف.. من حيث تعدد "النخب" بتعدد مجالات المعرفة، أو خصوصيتها ببعض المجالات، ومن حيث هيمنة "النخبة" وسيادتها أو قيادتها وتأثيرها، في مقابل ضعف وتأثر المكونات الأخرى. "إن وجود النخب بالنسبة لباريتو أمر لا يقبل المناقشة، ففي تأويله لملاحظاته الخاصة خلال قراءته المتسرعة نسبيا لميكيافيلي (الذي يعجب به)، ووجهات النظر الأحادية والنظمية حول روسو (الذي يحتقره)، يؤكد باريتو الجوهر التراتبي لكل مجتمع. والتراتبية هي بعد كل شيء تعني شكلا فارغا يمكن أن ندخل فيها كل شيء وأي شيء: "مفهوم أو مؤدى هذه التراتبية رهين بالمميزات أو الخصائص التي نبحث عنها داخلها"، يمكن أن توجد هناك أرستقراطية من القديسين، كما يمكن أن توجد أرستقراطية قطاع الطرق وأرستقراطية العلماء وأرستقراطية اللصوص… الخ، إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه المجموعة من الخصائص التي تساعد على ازدهار وهيمنة طبقة ما في المجتمع، سنكون أمام ما يمكن أن نسميه بكل بساطة النخبة"


[1]. ودائما "بالنسبة لعالم الاجتماع الإيطالي الكبير، يوجد في نفس الآن نخبة مسيرة بالمعنى المفرد، ونخب غير مسيرة (Elites non dirigeantes) بالمعنى الجمعي أو المتعدد. كتاب آخرون يفضلون كتابة الكلمة بالمعنى المفرد فقط والكلام عن نخبة مسيرة (أو موجهة) مثل بوتومور Bottomore، أو عن نخبة ذات سلطة ونفوذ مثل ج.ر.ميلز G.Wrignt Mills. ولتعقيد الأمور أكثر، بعضهم يستعمل كلمة طبقة (Classe).. فـ "نخبة موجهة" و"طبقة موجهة"، "نخبة حاكمة" و"طبقة حاكمة"، كلها تعابير قابلة للتبادل. أما بالنسبة لمفهوم "طبقة مهيمنة"، فهو يوحي رغم التنوع "الظاهري" للنخب بوجود تداخل بين مصالح الأعضاء وتواطؤ بينهم، وتعاون بين سلطة وقوة البعض وتأثر الآخرين"[2]. فـ"داخل أية جماعة، التبادلات غير متساوية بين النخبة، والقاعدة،[و] هذا بدهي باعتبار القاعدة التالية: بما أن الثروات الرمزية مركزة في يد النخبة. فالنخبة إذن هي التي تنظم تلقين القيم الضرورية في حياة المجموعة بأداءات من نوع خاص"[3]. و"إن كل جماعة، كل مجموعة مستقلة نسبيا، تنحو لأخذ شكل هرمي. والشريحة العليا التي تتمتع بأكبر قدر من التمثيلات الرمزية والكفاءات التنظيمية تشكل النخبة"[4]، وحسب البعض "لا يوجد في التاريخ أمثلة لنخب ثقافية أو فنية أو اقتصادية.. الخ، تتطور في غياب.. أية نخبة سياسية"[5]. و"بالنسبة لماركس الطبقة ذات السلطة هي التي تملك وسائل الإنتاج"[6].

يستعمل باريتو مفهوم النخبة في صيغة المفرد أو الجمع، ويعمم مفهوم النخبة لتشمل الصيغتين معا، كما يربط المفهوم بالمجال المعرفي الذي تتحرك داخله. وبتعدد المجالات المعرفية تتعدد النخب.. هذا فضلا عن العلاقات التي يمكن أن تسود أفراد النخبة الواحدة أو النخبة مع غيرها من النخب، أو مع الجمهور.. إيجابية كانت تلك العلاقات أو سلبية.. ويستدرك ريمون آرون (B.Aron) بإضافة أمرين أساسيين يستوقفان الباحث. الأول: عدم الوضوح الكافي للمقاييس التي تسمح بتمييز أعضاء النخب، فقد يوجد هناك تعارض بين حكم المجموعة وحكم الجمهور، فقد يتمتع فيزيائي أو عالم اقتصاد أو أجناس بشهرة واسعة لدى الجمهور بينما يكون عمله موضوعا لأحكام تشكيكية من طرف نظرائه.. الثاني: أن حقول النشاط المختلفة غير متساوية من حيث التقييم، ومن ثم فهي ليست غير قابلة للتحديد خلافا لما يقترحه باريتو. وهذا الاعتراض الثاني يعود إلى سؤال مهم، وهو هل التقييم غير المتساوي لقطاعات النشاط يشير إلى وجود نظام موحد للقيم. ثم هذا النظام الموحد للقيم إذا وجد، هل يمكن(…) [لـ] طبقة مهيمنة ذات قدرة أن تفرض سلم قيمها الخاصة على المجتمع؟"[7].

أيا تكن الإجابة عن التساؤلات المطروحة، فالذي يعنينا من مفهوم "النخبة" جملة، جوانب سلبية تتمثل في أشكال من النفوذ والسيطرة والهيمنة.. تلغي واجب الآخر في المشاركة والتغيير، تجعل من ذاتها محورا ومركزا والباقي هوامش وأطراف تابعة. وتتمثل أيضا في أشكال من الاغتراب الجزئي أو الكلي.. لازمت المفهوم ذاته بمعناه الحديث، أقصد "النخبة" بمعنى المثقف العربي الحديث أو ما اصطلحت بعض الأدبيات على تسميته بـ "الأنتلجنسيا العربية"، التي ظهرت كرد فعل للتحدي الذي مثلته الحضارة الغربية بتفوقها العسكري والاقتصادي والسياسي.

فبالإضافة إلى التسمية التي تحيل مباشرة على النموذج الحداثي الغربي، فإن موقف المثقف العربي كان بإزاء هذا النموذج تعبيرا عن الاندهاش والإعجاب والرغبة في اللحاق والمتابعة، أكثر مما كان موقفا نقديا للذات، وحتى إن فعل فإنه يفعل في الغالب من موقع المتعالي المجرد، أو من موقع الناقل المستعير لنماذج أجنبية.

قد لا نجد فروقا مهمة حول مفهوم النخبة في الفكرين العربي والغربي، من حيث دلالته على فئة أو طبقة تتعدد بتعدد المجالات التي ترتبط بها والأنشطة التي تزاولها. لكن يوجد الاختلاف دون شك في مناهج وطرق مزاولة هذه النخب لأعمالها، وفي انتماءاتها وولاءاتها، وفي رؤاها ومنطلقاتها. وهذه المبادئ التصورية، أو حتى بعض مناهج العمل المتفرعة عنها، التي تحاول بعض النخب العربية استعارتها وتوظيفها، تصطدم في الغالب بالقناعات المحلية فترفض وتقاوم وتنحى إلى الظل. يساهم هذا أيضا في عزل النخبة، أو على الأصح تساهم النخبة بهذا في عزل ذاتها وإبعاد نفسها عن تلك القناعات المحلية المعبرة عن هوية وانتماء حضاري. وعلى الرغم من وضوح هذا الأمر وظهور أخطائه في تجارب عديدة، تصر النخب على مواقفها وتعمد إلى تبريرها، فتجدها تنحو باللائمة دائما على الوعي الشعبي التقليدي والمتخلف. فتصبح بهذا مهام وأشغال النخبة شيئا، وهموم ومشاكل المجتمع شيئا آخر. ويتم الابتعاد كليا عن الواجب الحقيقي للنخبة المتمثل في الالتحام بالجمهور وتوعيته ونشر القيم الثقافية الإيجابية فيه، ليساهم بدوره في عملية البناء والتغيير ومواجهة ثقافة الاستهلاك والانحلال لتحقيق ذاته واستقلاله.

نجد في فكرنا المعاصر من يذهب، مؤكدا نفس المعاني والتبريرات، إلى أنه: "يسعفنا لفظ الأنتلجنسيا، برنته الإفرنجية في الحديث عن المثقفين كفئة اجتماعية متميزة وفاعلة. ذلك أن المثقفين بحكم تشابه دورهم وتماثل وضعهم، يشكلون فئة تتعالى على الأفراد الطبيعيين"[8]. و"الوسيط الاجتماعي الذي أوكلت إليه الحداثة أمر إنشاء هذه الصورة (صورة المجتمع عن نفسه، سلبية كانت أم إيجابية) وتقديمها للمجتمع، هو فئة المثقفين من حيث هي فئة اختصاصها الفكر وهمها التساؤل والنقد والبناء.. وهو دور رفيع وحاسم خاصة إذا أتاح لها المجتمع أن تلعب هذا الدور الريادي. أما إذا أغلق المجتمع أبواب النقد ونوافذ التساؤل وانطوى على نفسه يجتر صورته عن ذاته، فإن دورها يتقلص ويدرك الخسوف مكانتها والذبول وظيفتها.."[9]. كما نجد منيحاول فعلا ملامسة الدور الحقيقي للنخبة، أو المثقف فيها، فبعد استعراض طائفة من التعاريف المتعلقة بمفهوم المثقف يستخلص أحد الباحثين تعريفا جامعا له أراه مناسبا من حيث المهام الواجبة في حقه، فالمثقف عنده هو ذلك الشخص المتعلم الواعي المشارك، وصفة المشارك "يقصد بها ذلك الشخص الذي تعلم وأدرك واستوعب وتفهم قضايا مجتمعه ثم نزل إلى ساحة الميدان للمشاركة التطوعية في العمل الوطني لبناء مجتمعه. أيا كان نمط مشاركته وطبيعتها ونوعها ومستواها ودرجاتها. بمعنى ألا يقف منعزلا.. عازفا لا مباليا إزاء ما يحدث في مجتمعه. وهذه المشاركة تحدث طواعية مدفوعا إليها اندفاعا ذاتيا.."[10].

وهناك من ينوط الثورة بـ"الأنتلجنسيا" ويعتبر هذه الأخيرة أعلى مستويات النخبة المثقفة، التي يمكنها وحدها فقط الاطلاع بمهام الثورة والتنظير لها. "فالأنتلجنسيا لا تعني، كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، وكما يشير معناها القاموسي "مجموع المثقفين في بلد من البلدان". فبما أن الأنتلجنسيا هي بالتعريف "حاملة الوعي الثوري" و"أداة العمل الثوري"، فإنها لا تضم في صفوفها سوى تلك الشريحة من المثقفين المنتمين إليـ[ها]، فالمثقف لا ينضوي تحت لواء الأنتلجنسيا إلا عندما ينتهي إلى مفاهيم وتصورات رافضة للوضع القائم وداعية إلى تعديله جذريا"[11]. وخلافا لمقررات الفكر الماركسي فإن الذي يقود الثورة هذه المرة ويصنعها هي الأنتلجنسيا وليس البرولتاريا ويصبح الحديث لا عن عمال المعامل والمصانع بل عن "عمال العقل" و"العمال الفكريين" أو عن البرولتاريا الثقافية"[12].

تنطلق هذه النظرية أيضا (نظرية نديم البيطار في المثقفون والثورة) من شرط آخر غريب هذه المرة، شرط التخلف كمجال موضوعي لعمل الأنتلجنسيا وبناء الثورة. فـ "بقدر ما يزيد تخلف الواقع الموضوعي يزيد احتمال ظهور حركات ثورية جذرية تنظمها أنتلجنسا طليعية"[13]. و"التقدم الاقتصادي والصناعي يفرز جماهير متخلفة سياسيا، و.. الوعي الثوري أو السياسي يفترض تخلف الأوضاع الاقتصادية والسياسية"[14]. بل تصل المغالاة بالبيطار إلى القول بأن "التقدم" السياسي، أي وجود نظام ديموقراطي مستمر يسمح بحرية الرأي والتنظيم وتشكيل الأحزاب والمناقشة الحرة، يشكل حاجزا منيعا أمام قيام العمل الثوري [!] وأن "التخلف" السياسي، أي غياب نظام من هذا النوع يشجع على ذلك"[15]. وهذا غريب فعلا يدعو إلى التساؤل عن أهداف الثورة والتغيير إذا كانت مطالبهما متحققة؟

ولا يفوت أن نشير إلى بعض الإلماحات المهمة عند الكاتب خاصة تلك المتعلقة بدور المثقفين تجاه العامة، نذكر منها قوله: "لا يمكن إدراك التاريخ وصنعه إلا بتوسط العلماء، الجماهير تصنع التاريخ بدون شك، لكن ليس أي نوع من الجماهير، بل تلك التي ننظمها ونثقفها. إنها تصنع التاريخ بشرط إدراكه وبشرط ألا تفصل عنه بسماكة الإيديولوجيا [ت ] (…) حيث تكون مستعدة دائما (…) لتصديقـ[ها].. إن لم نكن نعلمها التمييز بين الأطروحات الجيدة والأطروحات السيئة.."[16].

 

2 ـ النخبة في الفكر العربي المعاصر، بين واجب الذات واستلاب الآخر.

تقدمت إشارات سريعة في سياق التعريف ببعض مهام النخبة وعلاقتها بجمهورها، وقد كان ضروريا إيرادها هناك لدورها التوضيحي للمفهوم. ونسعى هنا إلى إبراز موقف النخبة بين الذات أو الأنا ومتطلباتها الحضارية، وبين استهواء واستلاب الآخر وأضراره الحضارية كذلك. معتمدين في ذلك بدرجة أولى على مفكرين هم أطراف دون شك في نخبة أو نخب من هذا الفكر، لكنهم يستشعرون هذا الواقع الانفصامي بين النخبة وذاتها تاريخا وواقعا، والذي يعمق الهوة أكثر بين قيادة وقاعدة، بحيث تفقد الأولى سندها بل ومشروعيتها، كما تفقد الثانية موجهها ومؤطرها.

ولنبدأ المشكل من البداية، أي من الشعور بـ "الذاتية والفردية". حسب الدكتور محمد زنيبر، بخصوص ما عبرنا عنه بالتعالي والتجريد، "هناك المثقف الذي يعيش لنفسه ومع نفسه. فهو يعتبر نفسه في جزيرة خالية، فلا يتحدث إلا عما يعجبه في عالمه الخاص. ويستطيع أن يكتب ويؤلف، ولكنه لا يخرج عن ذاتيته، ويظل بسبب ذلك بعيدا عن الغاية الكبرى المنشودة من الثقافة. الثقافة ليست غاية في ذاتها، بل إن لها تطلعات إنسانية واجتماعية، إنها تهدف إلى الحوار، إلى إثارة التفكير لدى الغير(…) الالتزام الأساسي بالنسبة للمثقف يكمن في اختيار واضح، ألا وهو أن يقبل أن يعيش في مجتمعه بما له وما عليه كعضو متواضع، لكنه واع يقظ ليستطيع أن يقوم بمسؤوليته على الوجه الأكمل"[17]. إن الشعور المتضخم بالذاتية والفردية يولد ما يسميه الكاتب بـ "مجتمع المثقفين" "وهو مجتمع يعيش مع نفسه ولنفسه داخل المجتمع الكبير. وليست النية الحسنة هي التي تعوزه ولا الرغبة في خدمة الصالح العام، ولكن مستواه الفكري يجعله يشعر بنوع من التمايز عن الغير، ويدفعه إلى شيء من الالتفاف على بعضه، ولو كانت المنافسات والخصومات تقوم بين أفراده، وكثير من المثقفين حينما يتحدثون عن المجتمع لا يخرجون عن المجتمع الصغير"[18]. "إنهم يعايشون فقط مجتمعهم الكبير ويعيشون في مجتمعهم الصغير"[19]. ويذكر الكاتب من الأسباب الرئيسية التي تعوق المثقف عن أداء مهمته على حقيقتها:

                    ·                    أنه يعيش في طبقة تكاد تكون منعزلة وقلما يحاول أن يخرج من حدود تلك الطبقة.

      ·      مما يقوي انعزال تلك الطبقة غرورها بالعلم النظري واقتناعها بأنها تعرف كل شيء عن المجتمع، وأنها في غنى عن أي اتصال أو تجربة إضافية.

      ·      طغيان الثقافة الأجنبية على العقول بصورة تتجاوز الاحتياجات الحقيقية وتتحول إلى تضخم في الاستهلاك لمجرد الاستهلاك.

                    ·                    التوهم بأن مجتمعنا لا ينطوي إلا على فراغ، وأن هويته الفكرية منعدمة[20].

إننا يقول الكاتب "لا نريد أن نجعل المجتمع في خدمة المثقف، بل المثقف في خدمة المجتمع"[21].

حسب باحثين آخرين نجد أن "ثقافة التنمية الاقتصادية والسياسية (…) القائمة على تكوين نخبة مفترضة قادرة لوحدها على حمل ونقل رسالة "النهضة" واحد من الأسباب الرئيسية للركود الاجتماعي والاقتصداي، وذلك لسببين أساسيين:

      · التدبير الفعلي للهوية الثقافية السابقة عند أوسع الكتل الشعبية الموضوعية خارج دائرة الأفكار والمعلومات والمعارف، والمحكومة بالانعزال في ثقافة مفقرة ولا تملك أساليب تجددها.

      · تكريس القطيعة الاجتماعية بين هذه النخبة التي تسيطر من الآن فصاعدا على سياق إنتاج وتداول المعرفة من جهة، وبين كتل ضعيفة الشخصية تابعة في فهمها لواقعها وظروفها وفهمها للدولة والطبقة الحاكمة من جهة أخرى"[22].

وإن "قيام فئة من بين الناس تدعي تمثيلهم والدفاع عن مصالحهم، بوصفها الطليعة الواعية أو النخبة المؤمنة، معناه إبقاء الناس في حال الجهل والتبعية والعجز.. بكلام آخر: أن تتشكل نخبة تدعي القبض على الحقيقة أو المعرفة بأسرار التغيير أو امتلاك مفاتيح النجاة والخلاص، مآله اتخاذ الجماهير احتياطي بشري للتعبئة والتجييش والتنظيم، أو كحقل اختبار للمشاريع العقائدية والأحلام الثورية، أي اتخاذها آلة لتحقيق استراتيجية النخبة للاستيلاء على الدولة والمجتمع. هذا هو مآل النخبوية الفكرية والمركزية الحزبية في العمل التاريخي والتغيير الاجتماعي. فالذين اعتقدوا أن مهمتهم هي التفكير عن الناس أو العمل على توعيتهم قد انتهى بهم العمل إلى إقامة سلطة استبدادية عليهم، أو هم حصدوا الفشل والهزيمة على يديهم…"[23].

إن حرية الثقافة، فضاء المثقف، لا تعني حرية التعبير فقط للمثقفين ولكنها تعني:

                                                 ·               الحق في التكوين الثقافي المتساوي لكل أفراد الجماعة

                                                 ·               والحق في نفوذ جميع أفراد الجماعة إلى وسائل التعبير والثقافة والمعرفة

              ·     والحق في التعبير عن الرأي وفي الاختلاف وضمان هذه الحقوق. ولأن الثقافة سياسة بعيدة الجذور، تمس وجود الجماعة ذاته كوحدة متميزة ومستقلة وقادرة على الاستمرار والبقاء، فإن إخضاعها المباشر لأهداف سياسية جزئية لهذا الفريق أو ذاك، وهذا هو معنى فرض رؤية ثقافية وهذا هو أساس القمع الثقافي للسياسة الفئوية، يعني تفكيك المجتمع وتقديم الجماعة لقمة سائغة في فم الدولة الفظيع"[24].

إذا ما انتقلنا إلى ظاهرة اغتراب النخبة وآثار ذلك على البنى المحلية، وعلاقته أيضا بالمكونات الداخلية، نجد أن "تعلق النخبة الاجتماعية عموما بثقافة يفترض في تحقيقها نفي الثقافة الشعبية والثقافات الفرعية الأخرى المرتبطة بها، يخلق وضعية تظهر فيها الثقافة القائدة كاستعمار للعقل، وكغزو أجنبي للثقافة. ولا يمكن إلا أن تدفع المجتمع إلى تنظيم رد فعل سلبي يسعى من خلاله إلى طرد هذه الثقافة أو الفئة المرتبطة بها في الوقت نفسه من الجماعة واعتبارها خارجة عنها. فإذا أخفقت هذه المحاولة لسبب أو لآخر، كانت النتيجة لذلك تحلل الثقافة القومية وتفكك جميع النظم المعيارية والاعتقادية القائمة على أساس وحدة المعاني والمضامين والقواعد والدلالات في المجتمع"[25]. فالفكر التغريبي للنخبة بسبب عدم تطابقه مع "الحقائق العميقة وبنى الدولة والإنتاج.. بسبب توترات وتناقضات غير قابلة للحل داخل المجتمعات التابعة، وهو يخلق دوما حاجات ورغبات لا يمكن إشباعها، ولا يحرم هذه المجتمعات من مرجع ومعايير كانت تستخدمها سابقا لتصنع وحدتها وترسخ مقاومتها ضد المحتل فحسب، بل أيضا لتقاوم إدخال منتجات وعلاقات رأسمالية إليها إدخالا غير مسيطر عليه. وتشعر الشعوب التابعة اليوم أكثر مما كانت تشعر في المرحلة الاستعمارية أنها مجردة من وسائل وأدوات النضال ضد الرأسمالية الغازية والمفتنة أكثر فأكثر(…)، هكذا يغطي التمغرب (= التغرب) بدل أن يخلق تثقفا، سياق تدمير الهوية الثقافية السابقة وعدم نشوء هوية جديدة، ومن هنا لن يعود من الممكن القيام بوظائف الثقافة، وظائف الإبداع والتماسك والتوازن وإعطاء شرعية للتراتبية الاجتماعية والعدالة والزمن المعاش"[26]. إن العلمانية مع برهان غليون دائما كشكل قوي من أشكال احتضان القيم الثقافية الغربية، بالإضافة إلى مواقفها السياسية، تحدد "المشروع الحقيقي والمصير التاريخي للنخبة العربية الحديثة التي بقيت على هامش سلطة الدولة، لا تناضل ضد التيار وإنما معه، ولا تسيرباتجاه الجمهور وإنما بعكسه، كي لا تحصد في النهاية إلا تبخرها السياسي والفكري وزوالها"[27].

ولا أجد في هذه الخلاصة أو هذا الاستنتاج حدة ولا إجحافا، مهما كان التفوق الغربي ومناصرته لقيمه ودعمه لها ولمن يمثلها بالنيابة عنه. ويكفي أن نقارن في ذلك خريف الفكر العلماني وهامشيته في الفكر العربي والإسلامي المعاصر بالرجوع إلى الوراء قرنا من الزمان تقريبا. أي في بداية تشكل وظهور مجموعة من النخب التي تبنت الأنماط الإصلاحية للمجتمع الغربي. وكيف أن العزل والتهميش رافقها منذ البداية، وأن القوة والإشعاع اللذين كانت تتمتع بهما في بداية ظهورها قد تحللا على الهامش التاريخي لأحداث الأمة وتطوراتها، تماما كما كان موقعها. بل وحتى التي تحملت فيها مسؤوليات الحكم في فترات لاحقة لم تستطع تثبيت نفسها أمام الرفض الشعبي إلا بواسطة القهر والغلبة والنفوذ السلطوي الاستبدادي(*).

وعلى العموم فإن "النخبة في الغرب ابنة تجربته وحضارته، وهي وإن نزلت لفئاته الشعبية من خارجها إلا أنه نزول من فئات أعلى تنتسب إلى المجتمع نفسه وإلى الحضارة نفسها. أما النخبة المتغربة فسمتها أنها هبطت من خارج المجتمع على فئاته الشعبية، وهذا ما أخرجها من الدائرة الحضارية كليا قبل أن تناقش نخبويتها بالنسبة إلى الفئات الكادحة. وإن هذا الفرق بين النخبة في الغرب والنخبة عندنا فرق جوهري وأساسي، ولهذا فقدت نخبتنا الهوية التي احتفظت بها الجماهير، مما يشكل المصدر لأزمة عميقة والمنبع الأول لأخطاء النخبة وعجزها، الأمر الذي فرض العودة إلى طرح موضوع الهوية وإعطائه أولوية"[28]. فسؤال الهوية من نحن "لا يطرح على الجماهير ولا هي تطرحه على نفسها، لأن هذا الأمر بالنسبة إليها مبثوث فيه ولا يقبل نقاشا، ومن ثم يجب الاعتراف بأنه مطروح على النخبة المحدثة التي انتسبت إلى إحدى مدارس الغرب. أما السبب في ذلك فيرجع إلى أنها لم تنبع من قلب الجماهير ولا يمكن اعتبارها طليعة شعبية تتسم بسمات الشعب"[29](*).

إن للاعتبارات المتقدمة جميعها تأثيرها المباشر على نجاح أو فشل مشاريع هذه النخب داخل مجتمعاتها. وهو ما يبرر طبعا الانتكاسات والهزائم المتتالية أمام مشكلات الأمة المطروحة.

ولن يسعف هذه النخب تبرير أناني وهمي وتنصلي من المسؤوليات الذاتية، من قبيل: "استطاعت الأنتلجنسيا العربية بدرجات متفاوتة أن تضع أصبعها على الجرح وأن تشخص أدواء الأمة كلها المتمثلة في لائحة التأخر التكنولوجي، والتبعية الاقتصادية والاستبداد السياسي(…) والتكلس الذهني والدوغمائية وغياب الشعب وغلبة الرأي الواحد (…). فانبرت قوى المراوحة والتقليد لتطويق هذا النقد الجذري. وبتحالف بين هذه القوى والقوى السياسية التقليدية تم قلب الحقائق وإلصاق التهمة بمن هو منها بريء، وذلك ليتم إفساح المجال لقوى التقليد والتغييب أن تستولي على دفة الأمور بحجة أن القوى التي تعاملت مع الغرب واستلهمت تفكيره ومقولاته وحلوله هي أصل الداء.."[30]. فالواقع أكبر من أن يغالط بهذا الوهم، وأفراد عديدون من هذه النخب لا يستطيعون الإقرار بواقع العزلة والفشل أمام مسؤوليات وواجبات الأمة نحوهم "فالمثقفون حيث سعوا إلى تغيير الواقع من خلال مقولاتهم، فوجئوا دوما بما لا يتوقع، لقد طالبوا بالوحدة، فإذا بالواقع ينتج مزيدا من الفرقة، وناضلوا من أجل الحرية، فإذا بالحريات تتراجع، وآمنوا بالعلمنة، فإذا بالحركات الأصولية تكتسح ساحة الفكر والعمل. وهكذا يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر، وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له، ولا الحركات الأصولية.. كما يتوهم بعض المثقفين. بالعكس، ما يفسر وضعية الحصار هو نرجسية المثقف وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي، أي اعتقاده بأنه يمثل عقل الأمة أو ضمير المجتمع أو حارس الوعي. إنه صار في المؤخرة بقدر ما اعتقد أنه يقود الأمة، وتهمش دوره بقدر ما توهم أنه هو الذي يحرر المجتمع من الجهل والتخلف. وهذا هو ثمن النخبوية: عزلة المثقف عن الناس الذين يدعي قودهم على دروب الحرية أو في معارج التقدم. ولا عجب فمن يغرق في أوهامه ينفي نفسه عن العالم، ومن يقع أسير أفكاره تحاصره الوقائع"[31].

وفي قراءته للخطاب العربي المعاصر، وعلاقته بواقعه قبل حرب 1967 وبعدها، يذهب د.الجابري إلى أن هذا الفكر (= الخطاب) –قبل الحرب المذكورة- "لم يكن يعبر عن معطيات الواقع العربي الحقيقية القائمة آنئذ، بل كان يعبر عن واقع آخر كان يعيشه العرب على صعيد الحلم، وعندما حلت بهم الهزيمة اصطدموا بالواقع الحقيقي الذي يعيشونه ويتحركون في إطاره. فتحول حلمهم ذلك بكل سرعة لا زمانية الحلم، تحول إلى كابوس وأصبح خطابهم المنفصل دوما عن الواقع يعبر هذه المرة عن "الحلم الكابوس" بدل التغني بحلم "الثورة" و"الوحدة والاشتراكية"... وحلم القضاء على إسرائيل..

هكذا يتضح أنه لا مقولات "الثورة" و"الوحدة والاشتراكية" التي سادت في الخطاب العربي قبل حرب 1967، ولا مقولات "الانحطاط" و"السقوط" و"الفجيعة" التي هيمنت وتهيمن على نفس الخطاب بعد تلك الحرب وإلى الآن، لا هذه ولا تلك كانت تعبر أو هي تعبر الآن عن واقع موضوعي، أو عن أي شيء له ارتباط موضوعي بهذا الواقع. بل لقد كانت مقولات الخطاب العربي الحديث والمعاصر، ولازالت، مقولات فارغة جوفاء تعبر عن آمال ومخاوف ليس غير، الشيء الذي جعلها تعكس أحوالا نفسية وليس حقائق موضوعية. وبعبارة أخرى يجب القول أن الخطاب العربي الحديث والمعاصر كان في جملته ولا يزال، خطاب وجدان وليس خطاب عقل.. لقد كان ولا يزال يعبر عما "يجده" الكاتب العربي في نفسه من انفعالات إزاء الأحداث وليس عن منطق هذه الأحداث"[32].

كانت هذه ملاحظات نقدية من داخل البيت. وعلى كل فإن طرح القضايا والمشكلات الحقيقية للأمة أمام التحديات الراهنة بات أمرا واضحا أمام تمخض كامل أو شبه كامل لخيارات الكيانات الحضارية منذ أزمة الخليج الثانية، وانهيار المنظومة الشرقية، واستفراد النظام الدولي الليبرالي الجديد بالقيادة، وانتصاب الحضارة العربية الإسلامية منافسا مستقبليا إن لم يكن آنيا، بحيث يستعصي الأمر تماما على محاولات التغليف والتبرير لدى كثير من النخب الفكرية العربية التي لم تكيف خطابها وفق معطيات المرحلة الجديدة. واستمر خطابها –إلا قليلا- إما أسى وتبريرا ومحاولات استنقاذ لنظام بائد، أو دعوات إلى الانخراط في نظام من العولمة وليس العالمية، مهيمن ومستبد. ولعل هذا بالفعل ما يؤكد نعت الكاتب للخطاب العربي المعاصر بأنه لا يزال خطاب مخاوف وآمال وأحوال نفسية وخطاب وجدان، أكثر منه تعبيرا عن حقائق موضوعية تلامس عمق الذات وتطلعاتها الحضارية المستقلة.

إن المشكل فيما أتصور، والذي تعتبر هذه النخب إحدى مظاهره وتجلياته الحادة، كامن في أنظمة من التعليم والتكوين والتثقيف.. سائدة في المجتمعات العربية والإسلامية، قائمة على إخراج أنماط وعينات من المثقفين لأداء أدوار مطلوبة، سواء تعلق الأمر بنظام من التلقين التقليدي الموروث عن عصور الانحطاط والتقليد، أو بنظام من التلقين العصري والحديث المنقول عن الفلسفات العلمانية الغربية. فكلاهما معا يسبحان بعيدا عن الهموم الاجتماعية والحضارية للأمة باعتبارها طرفا مشاركا بل مقصودا ومعنيا أولا في العمل بكامله(*).

ونجد تعبيرا وافيا عن هذا المعنى عند برهان غليون، فهو يذهب إلى أن "فشل التحرر العقلي لدى النخبة كما لدى الشعب، أي في المجتمع بشكل عام، وغياب نشوء روح علمية صحيحة، يرجع.. إلى فشل عملية تعميم المعرفة. وكل معرفة لا تعمم تصبح وسيلة سيطرة سياسية واجتماعية. ويعمل الفريق الذي يملكها على خلق هالة سرية حولها تجعلها غير قابلة للانتقال والنقل(…) وكل الاستعمال الإرهابي والقمعي لكلمة العلم هو لخدمة هذا الهدف"[33]. و"تتحول المدرسة من جديد إلى أداة سياسية مباشرة لخلق شروط تجديد السلطة القائمة. أي أنها تقوم بوظيفتين أساسيتين:

تخريج نخبة أداة بيد السلطة هي ثمرة تفوق الأقلية الداخلة إلى المدرسة من جهة، وتكوين أغلبية ساقطة وأمية لكن خاضعة أيضا ومفككة الوعي وبدون علم أو تربية أو ثقافة. عناصر هي في نهاية التحليل قاعدة الانتهاز والوصولية.."[34]. "وطبيعة هذا التعليم القائم على تخريج ما يجب أن يسمى بالجسم المضاد والذي لا علاقة له بتطور البحث العلمي(…) هي التي تفسر هذا الغياب الكامل لكل عمل علمي جدي"[35].

ولا شك في "أن تاريخ التكامل الثقافي، هو تاريخ تكامل المنظومة الفكرية على صعيد الاندماج الواسع للشعب في منظومة واحدة (خلق الرأي العام)، والاندماج الواسع لفكر النخبة والجمهور، وعلى صعيد الاندماج المتزايد لمختلف فروع المعرفة فيما بينها، النظرية والتطبيقية وتكامل هذه الفروع(…). أما الفكر التابع فلا يتميز فقط بانفصام النخبة المثقفة عن الجمهور، والعقل عن الوعي، وبالتالي تدهور الثقافة، ولكن أيضا وأساسا بانفصام فروع المعرفة والنخبة المثقفة فيما بينها. أي بفقدان أي توازن بين فروع المعرفة التي تغذي بعضها البعض، بين التطبيقي والنظري، بين الفلسفي والعلمي، بين الاجتماعي والطبيعي"[36].

فهلا وعت النخب في الفكر العربي والإسلامي المعاصر الأدوار المنوطة بها تجاه أمتها، وخاصة في سياق التحولات الجارية، وأمام حصاد العقود السالفة؟n

 

مصادر ومراجع البحث:

1 ـ ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، (1798-1939) ترجمة كريم عزقول دار النهار للنشر، ط4، 1986.

2 ـ برهان غليون: اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، دار التنوير، ط1، 1979.

3 ـ برهان غليون: مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، دراسات الفكر العربي، ط1، 1986.

4 ـ برهان غليون: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1979.

5 ـ برهان غليون: الوعي الذاتي، عيون المقالات، ط1، 1987.

6 ـ علي حرب: أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، ط1، 1996.

7 ـ مجلة الوحدة، ع40، س4، 1988-1408، محور العدد: (الأنتلجنسيا العربية).

8 ـ محاضرات ومناقشات الملتقى الثامن للفكر الإسلامي، بجاية، 1394-1974، المجلد الأول، منشورات وزارة التعليم الأصيل والشؤونالدينية – الجزائر.

9 ـ محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1985.

10 ـ منير شفيق: الإسلام في معركة الحضارة، دار الكلمة للنشر، ط2، 1983.

11 – Boudon R. Bourricaud F : Dictionnaire critique de la sociologie, 3ème édition mise à jour 1990, Octobre. Presse Universitaire de France.

12 – Cuillemain, Bernard : (Elite) in Encyclopedia Universalis, Vol 8. France S.A. 1990.

 



[1]  Cuillemain, Bernard : (Elite) in Encyclopoedia Universalis, vol 8, p182.

[2]  Boudon, R. Bourricaud F. : Dictionnaire critique de la sociologie, p225.

[3]  Cuillemain B. : op.cit, p183.

[4]  Cuillemain B. op.cit, p183.

[5]  Cuillemain B. op.cit, p183.

[6]  Cuillemain B. op.cit, p183.

[7]  Boudon R. Bourricaud F. op, cit, pp225-226.

[8] انظر: الأنتلجنسيا العربية بين الريادة والاندماج (كلمة الوحدة) مجلة الوحدة، ع40، ص4، 1988-1408، ص3. وانظر فيه العديد من المقالات في الموضوع. محور العدد "الأنتلجنسيا العربية".

[9] نفسه، ص3.

[10] جمال علي زهران: (تأثير الأوضاع الاجتماعية على المثقف العربي)، مجلة الوحدة، مرجع سابق، ص37.

[11] جورج طرابشي: (من المثقفين… إلى الأنتلجنسيا)، مجلة الوحدة، مرجع سابق، ص62. والمقال هو قراءة في كتاب المثقفون والثورة، لنديم البيطار، المرجع الأول للفكرة.

[12] نفسه المرجع، ص65.

[13] نفسه، ص67.

[14] نفسه، ص68.

[15] نفسه، ص69.

[16] نفسه، ص68.

[17] محمد زنيبر: (المثقف المغربي بين الفعالية والسلبية)، ضمن محاضرات ومناقشات الملتقى الثامن للفكر الإسلامي، بجاية، 1-12 ربيع الأول 1394هـ/25 مارس 5 أبريل 1974م. منشورات وزارة التعليم الأصيل والشؤون الدينية. الجزائر، المجلد الأول، ص321.

[18] نفس المرجع، ص323-324. وقدم الكاتب نماذج من العلماء والفقهاء الذين خرقوا حواجز النخبة والتحموا بالواقع وفئاته، كابن خلدون، والحسن اليوسي… وغيرهم، ص326.

[19] نفسه.

[20] نفس المرجع، ص326-327.

[21] نفسه، ص326.

[22] برهان غليون: الوعي الذاتي، ص78-79.

[23] علي حرب: أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، ط1،1996، ص34.

[24] برهان غليون: مجتمع النخبة، ص282.

[25] برهان غليون: اغتيال العقل، ص108.

[26] برهان غليون: الوعي الذاتي، ص75-76.

[27] برهان غليون: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1979، ص67.

(*) انظر حديثا عن بداية ظهور هذه النخبة أو النخب ومظاهر القوة والضعف التي لازمتها، في: ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939) ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر، ط4/1986، ص89 وما بعدها.

[28] منير شفيق: الإسلام في معركة الحضارة، ص173.

[29] نفسه، ص172.

(*) أستحسن هنا أن أنقل فقرة بكاملها معبرة جدا عن مضمون حديثنا عن النخبة جملة، وهي جواب من الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا على سؤال وجه إليه بخصوص المعرفة السائدة في الغرب عن المجتمعات العربية الإسلامية.. وما لحقها من تشويه. قال: "أعتقد أن أحد المصادر الرئيسية لهذا العماء الغربي في إدراك أبعاد الفعالية السياسية في العالم العربي اليوم، يكمن في أن القوى السياسية الفاعلة في هذا العالم العربي غير موجودة بالنسبة إلينا إلا بمقدار قدرتها على أن تقول لنا ما نريد أن نسمعه. والنتيجة المنطقية لهذه الحالة أننا لا يمكننا التواصل إلا مع شريحة صغيرة هامشية من المجتمع السياسي والثقافي العربي، تلك الشريحة التي تريحنا وتسمعنا ما نريد سماعه وتعمق أكثر فأكثر صعوبات إدراكنا الواقع العربي الإسلامي في جوانبه المختلفة". وعن سؤال حول ماذا يقصد بـ"الشريحة الصغيرة والهامشية" قال: "أقصد الوسطاء الذين تتعامل معهم الدول الغربية لفهم ما يجري داخل بلدان الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط". وطرح الكاتب تساؤلا حول التجربة الجزائرية منذ 1992 إلى يومنا هذا: مع من كنا نتحاور طوال هذه الفترة؟ قال: "بالطبع لم يكن بالإمكان أن نتحاور ونتواصل مع الإسلاميين المتشددين الذين ظهروا بقوة على الساحة، لكن كانت هناك أطراف أخرى يمكن التحاور معها ولم نفعل ذلك، وصارت قدرتنا على التواصل مع المجتمع الجزائري ضئيلة ومحصورة في الجماعات الصغيرة التي تسمى الجماعات "الديمقراطية"، وهي في الحقيقة تشبه ورقة التوت التي تخفي عري السلطة أو مكوناتها المتطرفة. هذه الفئات "الديمقراطية" يمنحها الإعلام الغربي أهمية إعلامية وسياسية على النقيض تماما من أهميتها ونسبة تمثيلها الحقيقي داخل المجتمع الجزائري" وأعطى مثالا لذلك عن "المرأة التي تترأس جمعية سيدات لا يتجاوز عددهن أصابع اليد، يقدمها الإعلام الفرنسي إلى الرأي العام(…) على أنها تمثل المرأة الجزائرية والمجتمع الجزائري…) حاوره أحمد الشيخ، صحيفة الحياة، ع12007، 8/1/1996، ص10. نقلا عن جريدة الصحوة، ع49، شوال 1416، فبراير 1996.

[30] كلمة الوحدة، (الأنتلجنسيا بين الزيادة والاندماج)، مرجع سابق، ص4.

[31] علي حرب: أوهام النخبة، ص80.

[32] الجابري: الخطاب العربي المعاصر، ص33.

(*) انظر مثلا إلى الاهتمام المعطى لمسألة التعريب وحصص الثقافة الإسلامية والقومية وإصلاح مناهج وبرامج التعليم بمختلف مستوياته في سائر البلاد العربية والإسلامية.

[33] برهان غليون: مجتمع النخبة، ص59.

[34] نفس المرجع، ص251-252.

[35] نفسه، ص253.

[36] نفسه، ص236-237.