ص1      الفهرس    المحور 

هوامش حول موضوع حقوق الإنسان

1- الحق والواجب أم الحقوق الطبيعية

محمد عابد الجابري

مفهوم "حقوق الإنسان" متحرر من التقيد بعلاقة التلازم القائمة بين الحق والواجب، علاقة "المقايضة" التي أبرزناها قبل. ذلك أنه إذا كانت فكرة "الحق"، على المستويين القانوني والأخلاقي، تستدعي فكرة "الواجب"، لكونها تعبر عن علاقة بين الناس، أو بين الفرد والمجتمع، يكون فيها "الحق" كنوع من العوض لـ "الواجب"، فإن مفهوم "حقوق الإنسان" لا يستدعي أي مقابل ولا أي عوض. حقوق الإنسان بالمعنى المعاصر هي حقوق له من حيث هو إنسان وليس من حيث أن عليه واجبات.

هذه المزاوجة بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي هي التي سمحت –في العصر الحديث- بالارتفاع بـ "حقوق الإنسان" إلى مستوى أعلى: من مستوى القانون الوضعي النسبي إلى مستوى القانون الطبيعي المطلق، ومن ثمة القول: إن حقوق الإنسان هي حقوق طبيعية للإنسان، تماما مثلما أن القوانين الطبيعية هي "حقوق" طبيعية للكون، أعني قوانينه. ويمكن أن نفهم هذا جيدا إذا نحن فهمنا الإنسان على أنه "جسم" أولا وقبل كل شيء؛ وأنه بالتالي جزء من الطبيعة تسري عليه قوانينها، وأن له "حقوقا" –أو قوانين خاصة به.

 

1- الحق في الدفاع عن الحق!

منذ عقد من السنين أو أزيد قليلا صار الحديث عن حقوق الإنسان على كل لسان. والظاهرة اللافتة للنظر هي أن الذين رفعوا هذا الشعار وروجوا له واتخذوه ذريعة لكثير من تصرفاتهم ومواقفهم، بحق أو بغير بحق، هم من "الأقوياء" في هذا العالم، أعني "الدول العظمى"، الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا الغربية. هذا في حين أن شعار "حقوق الإنسان" هو شعار المستضعفين في الأرض، شعوبا وأفرادا؛ فهم الذين هضمت حقوقهم وتهضم باستمرار.

ليس هذا وحسب، بل إن مما لا يجوز للملاحظ اليقظ النزيه أن يغفل عنه، أو يتغافل، هو أن الحكومات التي ترفع شعار "حقوق الإنسان" لا تحترمها، ولا تتصرف بموجبها في بلدانها هي، إلا بالنسبة لفئة من مواطنيها. أما غير هذه الفئة فهم يعاملون معاملة تهضم فيها كثير من الحقوق التي يجب أن يتمتعوا بها بموجب حق المساواة بين الناس، وهو الحق المؤسس لغيره من حقوق الإنسان الأخرى.

هذه المفارقة تطرح قضية أخلاقية من قبيل: "لا تنه عن خلق وتأتي مثله"‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ومثل هذا السلوك هو محل ريبة دوما: فالذي يأتي سلوكا ينهى عنه، أو يمتنع عن إتيان فضيلة يحث الناس على التحلي بها، يفتقد المصداقية ويفسح المجال للشك في نواياه الحقيقية. إن حكومة ترفع شعار حقوق الإنسان سياطا تلوح به في وجه غيرها من الحكومات، وفي نفس الوقت تسكت عن غياب بعض حقوق الإنسان في بلدانها، أو بلدان مرتبطة بها، لا يمكن أن تمنع الناس من الشك في مدى إخلاصها في دعواها ولا في مشروعية ما تلوح به من تنديد أو عقاب إزاء انتهاك غيرها من الحكومات لحقوق الإنسان! إن انتهاك حقوق المستضعفين من المهاجرين والسكان الأصليين وغيرهم من فئات الشعب الأمريكي أو الشعب الفرنسي أو البريطاني أو الألماني الخ، يطعن في مصداقية حكام هذه الشعوب عندما يعاتبون أو يعاقبون حكومات أخرى تنتهك فيها حقوق المستضعفين من أبنائها أو من الطوائف المتساكنة فيها. كما أن سكوت حكومات الدول الغربية عن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني في إسرائيل، أو الإنسان العربي في بعض الدول العربية، والتنديد بالمقابل بانتهاك حقوق الإنسان في دول عربية أخرى، سلوك يفتقد المصداقية لكونه يخرق أهم دعامة في حقوق الإنسان وهي المساواة. فالأمر لا يتعلق هنا بالكيل بمكيالين إزاء الحكام وحسب، بل أيضا بالتمييز في الشعوب بين من يستحق أن تكون حقوقه المهضومة المنتهكة موضوع دفاع ومن لا يستحق!

هذه المسألة تطرح سؤالا عويصا يمكن صياغته كما يلي: هل الدفاع عن حقوق الإنسان حق لكل إنسان، أم أنه حق فقط لمن يحترم حقوق الإنسان ويلتزم بها إزاء البشر جميعا بدون تمييز؟ المشكلة المطروحة هنا هي مشكلة : الحق في الدفاع عن الحق!

لقد اعتاد الناس تجاوز هذه المشكلة العويصة، بل إلغاءها بالمرة، بالتمييز ابتداء بين "الحق" و"الواجب"، وبالتالي تصنيف السلوك البشري إلى قسمين: قسم ينتمي إلى "الحق" وقسم ينتمي إلى "الواجب". وبناء عليه فالمطالبة باحترام حقوق الإنسان هي حق لمن تنتهك هذه الحقوق في شخصه، ولكنها واجب بالنسبة لمن يرى حقوق الإنسان تنتهك في شخص غيره. والقاعدة الأخلاقية العامة، على الأقل كما تواضع الناس عليها، هي أن الحق والواجب فضاءان مستقلان لا يتوقف أحدهما على الآخر. فليس من شرط التمتع بالحق أداء الواجب، كما أن أداء الواجب لا يشترط فيه التمتع بالحق، إلا إذا كان عدم التمتع به يفقد القدرة على أداء الواجب. فمن حق الفرد التمتع بالحرية والمساواة والعدل الخ، حتى ولو كان مقصرا في واجباته الدينية والاجتماعية وغيرها، أو كان هو نفسه يعرقل بصورة أو بأخرى تمتع غيره بتلك الحقوق. ومن واجبه أن يقوم بما هو واجب عليه حتى ولو لم يكن يتمتع بحقوقه كاملة، مادام غير محروم من حقوق يتوقف عليها عمليا أداء الواجب.

لنأخذ مثالا من الميدان الديني فهو ميدان الحق والواجب بامتياز: من حق الفقير أن يحصل على نصيب من الزكاة، فالزكاة للفقراء والمساكين بنص القرآن. ولكن من واجبه أن يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، سواء حصل على نصيب من الزكاة أو لم يحصل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فتارك الصلاة ليس محرما عليه أن يأمر الناس بالصلاة. وبصورة عامة ليس من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكف عن كل منكر. وقد واجه المسلمون ويواجهون هذه المسألة في شخص الحاكم: هل تجوز ولاية الحاكم الفاجر إذا فرض نفسه بالشوكة والقوة وأقام الأمن؟ قال معظم الفقهاء بجوازها. وجوازها يعني الصلاة وراءه، والقتال تحت قيادته الخ.

أما من الناحية الأخلاقية فيمكن أن نسوق المثال التالي: لنفرض أن شخصا منهمكا في إغراق رجل في البحر، وفي نفس الوقت ينبه من حوله من المتفرجين إلى أن هناك شخصا آخر يغرق بجانبه لكونه لا يعرف السباحة! فهل يجوز للمتفرجين أن يدعوا هذا الغارق الأخير يغرق، بدعوى أن الذي نبه عليه لا يتمتع بالمصداقية لكونه يمارس هو نفسه فعل الإغراق؟

هذه المسألة التي طرحناها هنا على مستوى السلوك تطرح كذلك على مستوى المعرفة. فالحق على مستوى المعرفة يؤخذ من أي مصدر كان، فلا يعتبر فيه إلا كونه حقا. والمثل يقول: "خذ الحكمة من أفواه الحمقى". والحديث النبوي يقول :"أطلب العلم ولو في الصين". وقد رد ابن رشد على الفقهاء الذين حرموا المنطق والفلسفة ردا فقهيا شهيرا قال فيه: "وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك (الحق) فبيِّن أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان [ذلك] الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة. فإن الآلة (السكين) التي تصح بها التذكية (ذبح الأضحية) ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة (=أن تكون نظيفة وحادة). وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام. وإذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يُحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية (المنطق) قد فحص [عنه] القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبَّهنا عليه" (فصل المقال).

وإذن فكما أننا نأخذ الحق في ميدان المعرفة من أين أتى، ولا نعتبر إلا كونه حقا، فكذلك الأمر في ميدان السلوك: فالآمر بالمعروف كالمنادي باحترام حقوق الإنسان، يقول الحق. وكما نعمل بالحق المعرفي، أعني الحقيقة العلمية، دونما اعتبار لسلوك مكتشفها أو معتقَد ناشرها فكذلك يجب أن نعتبر حقوق الإنسان التي ينادي بها من قد لا يحترمها أو لا يعدل عندما يدعو إلى احترامها. فالحق حق في نفسه، وليس بقائله. نعم يمكن الطعن في شهادة شخص ما استنادا إلى جرح في سلوكه. ولكن هذا الجرح لا ينال من الحق الذي قد تنطق به شهادته، فلا يجوز تجريح شخص ما، فقط لأن شاهد الزور شهد له بالصلاح.

نخلص مما تقدم إلى النتيجة التالية: لا يطعن في حقوق الإنسان كون من ينادي بها لا يحترمها. إن حقوق الإنسان هي حق. والحق حق في نفسه، سواء كان حقيقة علمية أو خصالا سلوكية.

***

قد تبدو هذه النتيجة بديهية في منأى عن كل شك أو اعتراض؛ غير أن الأمر ليس كذلك، فالقول بأن "الحق حق في نفسه" هي وجهة نظر وليست حقيقة علمية. ذلك أن لمعترض أن يعترض: إذا كان الحق حقا في نفسه فلماذا يختلف الناس في "الحق" ، المعرفي والسلوكي، من مجتمع لآخر ومن عصر لآخر؟ في عصرنا ومجتمعاتنا يعتبر الحق في الحرية من أقدس الحقوق وبالتالي يقتضي احترام حقوق الإنسان، أول ما يقتضي، إلغاء الرق وتحريمه. ومعلوم أنه لم يكن الأمر هكذا في جميع العصور ولا في جميع الحضارات. ففي العصور القديمة كان الرق شيئا طبيعيا، كان حقا. كان "الحق" في جانب السيد ولم يكن في جانب العبد. وأكثر من ذلك لم يكن للعبد الحق في المطالبة بالحق. كان يقع خارج فضاء الحقوق. كان فضاؤه يتكون من الواجب وحده.

ويجب أن لا نجعل المسافة الزمنية التي تفصل بيننا وبين العصور "القديمة" هي المسئولة عن هذا الغياب للحق عن فضاء العبيد. هناك غياب مماثل يعاني منه فضاء المرأة مثلا. فحق الانتخاب لم يمنح للمرأة إلا منذ فترة وجيزة في بريطانيا مهد المناداة بـ"حقوق الإنسان" بالمعنى المعاصر. وما زال هذا الحق مرفوضا في الكويت رفضه البرلمان بينما اقترحه الأمير! وهو غائب في بلدان أخرى مجاورة عن أن يكون موضوع مزايدة بين الأمير والبرلمان، والأخير منهما غائب كذلك .

ويمكن الذهاب في الاعتراض على وجهة النظر القائلة "الحق حق في نفسه" إلى أبعد من ذلك. يمكن التساؤل مثلا: إذا كان الحق حقا في نفسه فلماذا يقبل الناس التمييز بين الحقوق، أقصد ما يشبه "التمييز العنصري"! يحتج الناس اليوم على التضييق على حرية التعبير مثلا، ولا يقبلون ما قد يدلي به المضيِّق عليها من تبريرات حتى ولو كانت معقولة من زاوية كون الممارس لحرية التعبير أضر بحرية غيره. ولكن كثيرا من الناس هم أقل احتجاجا، أو لا يحتجون بالمرة، على حكم الإعدام الذي يقضي قضاء مبرما على أول حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة. والغالب أن السكوت عن الإعدام يبرر بكونه جزاء على جريمة القتل، وهي إلحاق الضرر بحق الحياة لدى الغير. وهذا يعني أن أول حقوق الإنسان ، أعني الحق في الحياة، ليس حقا في نفسه، ليس حقا مطلقا، بل هو مقيد بـ "الواجب" الذي يعني هنا عدم المس بحق الغير.

بعبارة قصيرة إنه لو كان الحق حقا في نفسه لكانت الحقوق متساوية في قيمتها وفي نوع العقاب الذي يخصص لمنتهكها. لكن الناس يميزون بين الحقوق ويجعلون لكل حق جزاء خاصا به يطبق على منتهكه. ولا بد من الاعتراف بأن الناس يتعاملون مع الحقوق على أساس أنها عبارة عن لائحة مرتبة ترتيبا هرميا. وينعكس هذا الترتيب بصورة مباشرة وواضحة في العقوبات التي يخصون بها العدوان الذي تتعرض لها هذه الحقوق.

كيف نحل هذه المشكلة؟ كيف نجد مخرجا من هذا التناقض القائم بين وصفنا الحق بأنه "حق في نفسه"، وبين الواقع الذي نعترف به جميعا وهو اختلاف نظرة الناس إلى الأشياء، من زاوية "الحق والواجب"، باختلاف العصور والمجتمعات؟ وبعبارة أخرى : أين نضع "حقوق الإنسان" هل في فضاء المطلق أم في ميدان النسبي؟

2- الحق والواجب… والحقوق الطبيعية

"حقوق الإنسان" مفهوم حديث نسبيا إذ يرجع إلى الربع الأخير من القرن الثامن عشر. ولكن جدة المفهوم لا تعني بالضرورة جدة مضمونه. إن حقوق الإنسان كمضمون سابقة لظهور هذا المفهوم وذلك بقرون وقرون، بل يمكن القول إن عبارة "حقوق الإنسان" كمضمون ترجع إلى ذلك الوقت الذي ظهر فيه كل من مفهوم "الإنسان" و"مفهوم "الحق"، وهو وقت لا يمكن تحديده ولا تخمين بداية له. إن ظهور مفهوم "الإنسان"، بأية لغة كانت، لا بد أن يكون متأخرا بما لا يقاس عن وجود الإنسان؛ ذلك أنه يتطلب وجود لغة يُمارَس فيها التجريد، وبالتالي يتطلب مستوى من التفكير يتم فيه التمييز بين الإنسان وغيره من الكائنات. وهذا التمييز يتطلب وعيا بالفوارق، كأن يعي الإنسان الفرق بينه وبين الحيوانات الأخرى، فيعطي لنفسه "الحق" في القيام بأمور معينة وينزع من نفسه الحق في القيام بأمور أخرى. ولا بد من المرور عبر مراحل أعلى من التطور لكي ينقل الإنسان هذا التمييز إلى المستوى البشري نفسه، فيعطي الإنسان لنفسه "الحق" في أمور ويحجب هذا "الحق" نفسه عن غيره من بني جلدته. ولا بد أن يكون القوي –في البداية على الأقل- هو الذي يعطي الحق ويمنعه، وقد قيل بحق في المثل السائر: "إن حجة الأقوى هي الأفضل دائما". ومع ذلك فلا بد أن تكون هناك ردود فعل، و لابد أن تكون ردود الفعل التي تأتي احتجاجا على ذلك من أهم الوسائل التي عملت على إضفاء نوع من النظام على "حق الأقوى" هذا، وذلك بإقرار أنواع من التبرير لكل من العطاء والمنع. ومن هنا سينشأ "القانون" الذي يوزع "الحقوق" و"الواجبات" وينظمها.

والغالب أن فكرة "الحق" قد ظهرت هي وفكرة "الواجب" في وقت واحد وذلك لعلاقة التلازم والتضايف القائمة بينهما، وهي علاقة ما زالت حية قائمة في معاجم اللغة التي تعنى بالبحث في أصل الكلمات. ففي اللغة العربية يرتبط مفهوم "الحق" بـمفهوم "الواجب" ارتباط تناوب وتلازم، ولا يتخصص معنى أي منهما إلا بحرف الجر. وهكذا فـالفعل: "حق له" يفيد معنى "وجب له"، تماما مثلما أن "حق عليه" هو بمعنى "وجب عليه"، أو ثبت عليه. وأغلب ما ورد في القرآن من فعل "حق" جاء متعديا بحرف "على" ليفيد ثبوت الشيء ولزومه ووجوبه. من ذلك مثلا قوله تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فـحق عليها القول فدمرناها تدميرا" (الإسراء 16)، وأيضا: "ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المِؤمنين" (الروم 47). ويشرح الزمخشري هذه الآية بقوله: "حيث جعلهم (يعني المؤمنين) مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يُظهِرهم ويظفرهم". ويورد في هذا المعنى حديثا للنبي (ص) جاء فيه: "ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة". وفي حديث آخر أن الرسول سأل معاذا: "يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا". وواضح أن هذا النوع من التلازم والتناوب بين "الحق" و"الواجب" يفيد أن ما يجب على طرف هو حق للطرف المقابل: فما يجب على الله هو حق للإنسان، وما يجب على الإنسان هو حق لله.

وعلى هذا المنوال تم ترتيب العلاقة بين حقوق الحاكم وحقوق المحكومين. فما يجب على "الراعي" هو حق للرعية عليه، وما يجب على الرعية هو حق للراعي عليها. والحق الذي يتردد في هذا المجال هو حق العدل وحق الطاعة: من حق الرعية أن يعدل فيها الراعي ومن حق الراعي أن تطيعه الرعية؛ فالعدل حق للراعية وواجب على الراعي، أما الطاعة فهي واجبة على الرعية وحق للراعي. والعدل على مستوى علاقة الراعي بالرعية يقتضي الجمع بين الاثنين بحيث يكون عدل الراعي بمثابة تعويض لطاعة الرعية. ومثل هذا يقال في ترتيب العلاقة بين الحق والواجب على مستوى العلاقة بين الناس: فالقيام بما يفرضه الواجب قد يكون شرطا في التمتع بالحقوق، والتمتع بالحقوق يفرض القيام بواجبات. والمسألة في نهاية التحليل مسألة معاملة بالعوض، وبالتالي مسألة تعامل تجاري: "مقايضة". ذلك أن "الحق" بهذا المعنى هو دوما حق لـفلان على فلان: حق لـ "البائع" على "المشتري" أو حق لـ "المشتري" على "البائع". وسواء ذكر الطرفان معا أو ذكر أحدهما فقط فالعلاقة مع ذلك تبقى ثابتة، علاقة مبادلة.

***

كان قصدنا من الملاحظات السابقة الوصول إلى السؤال التالي الذي ينقلنا إلى موضوعنا، أعني خصوصية مفهوم "الحق" في عبارة "حقوق الإنسان":

هل نستطيع الوصول إلى "حقوق الإنسان" بمفهومها المعاصر من هذه الطريق التي سلكنا لحد الآن؟ وبعبارة أخرى: كيف يمكن انتشال مفهوم "حقوق الإنسان" من ميدان النسبي والتفكير فيه في فضاء المطلق؟

لقد انطلقنا في التفكير في مفهوم "حقوق الإنسان" تحت سلطة وتوجيه فكرة "الحق والواجب"؛ ومع أنه بالإمكان الاسترسال في التنظير للحق والواجب على المستويين القانوني والأخلاقي فإن ما تقدم يكفي لجعلنا ندرك أنه يصعب جدا، إن لم يكن يستحيل، الوصول من هذا الطريق إلى مفهوم "حقوق الإنسان"!

لماذا؟

يمكن أن نقدم كتبرير أولي أن مفهوم "حقوق الإنسان" متحرر من التقيد بعلاقة التلازم القائمة بين الحق والواجب، علاقة "المقايضة" التي أبرزناها قبل. ذلك أنه إذا كانت فكرة "الحق"، على المستويين القانوني والأخلاقي، تستدعي فكرة "الواجب"، لكونها تعبر عن علاقة بين الناس، أو بين الفرد والمجتمع، يكون فيها "الحق" كنوع من العوض لـ "الواجب"، فإن مفهوم "حقوق الإنسان" لا يستدعي أي مقابل ولا أي عوض. حقوق الإنسان بالمعنى المعاصر هي حقوق له من حيث هو إنسان وليس من حيث أن عليه واجبات.

كيف نتصور أو كيف نؤسس "حقوق الإنسان" بهذا المعنى؟

هنا لابد من تجاوز التحليل القانوني والأخلاقي الذي يستمد مواده من التاريخ والمجتمع، ومن ثم الارتقاء إلى مستوى التحليل الفلسفي الذي يشرع لكل من المجتمع والتاريخ!

هذا ما تم مع اليونان، مع سقراط وأفلاطون وأرسطو. لماذا فقط مع هؤلاء؟ يمكن أن نجيب جوابا عاما فنقول: لأن التحليل الفلسفي المنظم إنما ظهر مع هؤلاء، حسب ما لدينا الآن من معارف عن تاريخ الفكر البشري! (قد يكون هناك فلاسفة قبل هؤلاء، ومن شعوب أخرى، ولكن لا شيء لدينا عنهم). ومع ذلك فالتحليل الفلسفي، كطريقة في النظر، لا يفسر بمفرده ما نحن بصدده، أعني ما عبرنا عنه بالارتقاء بالتفكير في "الحق" إلى المستوى الفلسفي الذي سنخوض فيه الآن. ذلك أن الانتقال بفكرة "الحق" من المستوى القانوني التاريخي الاجتماعي إلى المستوى الفلسفي إنما تم عبر خاصية لغوية هي كون الكلمة التي تفيد معنى "الحق" من الكلمات التي تقال بـ "اشتراك"، في اللغة اليونانية واللغات الأوربية عموما؛ فهي تقال بمعنى "القانون الوضعي" الذي تعتمده المحاكم –مثلا- كما تقال بمعنى "القانون الطبيعي" الذي يحكم الظواهر الطبيعية (بالفرنسية: droit, loi بالإنجليزية: right, law). أما في اللغة العربية فكلمة "حق" لا تقال بهذا النوع من الاشتراك: لا نقول:"الحق الطبيعي" بمعنى القانون الطبيعي كقوانين الفيزياء.

ربما يرجع هذا الاشتراك، (والاشتراك هنا يعني دلالة الكلمة الواحدة على معان مختلفة)، إلى كون الفلسفة بدأت عند اليونان بالبحث في الأخلاق والسياسة مع الحكماء السبعة في القرن السابع قبل الميلاد. فهؤلاء –ومنهم صولون ودراكون- هم الذين شرعوا للمدينة اليونانية فوضعوا لها قوانين وضعية (من وضع العقل) بعد أن كانت تتبع "الناموس"، أي القانون الذي ينسب للآلهة. كان من بين هؤلاء الحكماء طاليس أول الفلاسفة، وكان في نفس الوقت من العلماء الطبيعيين الذين كان شغلهم الشاغل إرجاع ظواهر الطبيعة إلى مبدأ واحد أو جملة مبادئ. ومن هنا كان التفلسف يعني البحث عن "القوانين" التي تحكم الطبيعة وتحافظ على نظامها. وربما كانت فكرة "القانون" الطبيعي مستوحاة من القانون الاجتماعي الذي ينظم المدينة (اليونانية: الدولة)؛ وعلى كل حال ففكرة القانون الذي يحكم ظواهر الطبيعة والقانون الذي ينظم شؤون المدينة قد عرفت النور في فضاء فكري واحد، مما لابد أن يكون له دور ما في هذا "الاشتراك" الذي تختص به كلمة "قانون" ورديفها كلمة "حق".

وعندما أخذ السوفسطائيون يشككون في قوانين المجتمع، في ثباتها وعموميتها، ويلحون على كونها نسبية تختلف من مجتمع لآخر ومن عصر لآخر، انطلاقا من مبدأ أن "الإنسان مقياس كل شيء"، وأن القانون الحقيقي الذي يحكم شؤون المجتمع البشري هو نفسه "قانون الغاب"، أعني "رأي الأقوى"، جاء الرد على لسان سقراط أولا، ثم أفلاطون وأرسطو من بعده. وقد اعتمدوا في ردهم على التمييز بين القانون الوضعي، الذي تطبقه المحاكم والقانون الطبيعي الذي هو "العدل" نفسه. القانون الوضعي يتغير ويختلف بتغير المجتمعات والعصور واختلافها. أما القانون الطبيعي فيتميز بالثبات والاطراد، قوامه نظام الكون؛ والنظام في الطبيعة معناه أن كل شيء من أشياء الكون وكل ظاهرة من ظواهره يحتل المكان المناسب له وللنظام ككل. وذلك هو العدل. فالعدل على مستوى الكون هو إنزال كل شيء منزلته "الطبيعية". وقد استعير هذا المعنى من الطبيعة ووظف في المجتمع، فقيل –قال فلاسفة اليونان- العدل في المجتمع هو "إنزال الناس منازلهم". والقانون الوضعي مهمته هي هذه بالضبط: أعني إنزال الناس منازلهم، وذلك هو مفهوم العدل في العصور القديمة والوسطى. من هنا يتضح أن للقانون الوضعي، الذي هو نسبي بطبيعته، مرجعية تنتمي إلى فضاء المطلق، هي "القانون الطبيعي"، أو نظام الكون (الكوسموس)، الذي لا يتخلَّف ولا يختلف ولا يتغير!

هذه المزاوجة بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي هي التي سمحت –في العصر الحديث- بالارتفاع بـ "حقوق الإنسان" إلى مستوى أعلى: من مستوى القانون الوضعي النسبي إلى مستوى القانون الطبيعي المطلق، ومن ثمة القول: إن حقوق الإنسان هي حقوق طبيعية للإنسان، تماما مثلما أن القوانين الطبيعية هي "حقوق" طبيعية للكون، أعني قوانينه. ويمكن أن نفهم هذا جيدا إذا نحن فهمنا الإنسان على أنه "جسم" أولا وقبل كل شيء؛ وأنه بالتالي جزء من الطبيعة تسري عليه قوانينها، وأن له "حقوقا" –أو قوانين خاصة به.

يتضح مما سبق أن المرجعية التي تؤسس مفهوم "حقوق الإنسان" هي غير المرجعية التي تؤسس مفهوم "الحق والواجب"، وبالتالي فكلمة "حقوق"، في عبارة "حقوق الإنسان"، لا تجد خصوصية معناها لا في سجل العلوم القانونية ولا في لغة الأخلاق. إن لها مرجعية خاصة، هي تلك التي شرحنا أصولها. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل هذه "الأصول" أصول واقعية تاريخية أم أنها افتراضية نظرية؟

3- مسألة التأريخ لحقوق الإنسان

يمكن لمعترض أن يعترض: اتخذت من الفلسفة اليونانية مرجعية أولى لظهور فكرة حقوق الإنسان، هذا في حين أن النظام الاجتماعي اليوناني كان مجتمع عبودية وأن فلاسفة اليونان، بمن فيهم من ذكرتهم، سقراط وأفلاطون وأرسطو، كانوا لا يرون في أن يستعبد إنسان أخاه الإنسان خرقا لأي حق من حقوق الإنسان، بل كانوا يعتبرون ذلك من الأمور الطبيعية. كانوا يقولون إن العبد آلة، وهو كجميع الآلات الطبيعية مسخر لخدمة الإنسان. والإنسان عندهم هو "المواطن" أي الرجل اليوناني الحر الذي له وحده الحق في الكلام في شؤون المدينة والمساهمة في تسييرها. أما غير هذا "المواطن" ممن ينتمون إلى الطبقات المنتجة من عمال ومزارعين وأجانب الخ، فلم يكونوا يدخلون في زمرة "المواطنين"! فكيف يمكن اتخاذ الفكر اليوناني مرجعية لحقوق الإنسان التي هي حقوق لجميع بني البشر، لا فرق بين مواطن وأجنبي، بين من يعتقل أسيرا في الحروب –وهذا هو المصدر الأول للعبودية والاسترقاق- وبين من يحتفل بانتصاره في معاركه ضد الأعداء الخ. إن أول حق من حقوق الإنسان هو التصرف في نفسه، أي الحرية بالمعنى القديم الذي يعني عدم وقوع الشخص البشري عبدا لغيره.

قلت : هذا صحيح. وصحيح أيضا أن فكرة حقوق الإنسان لم تظهر إلا في الفلسفة الأوربية الحديثة، فلسفة القرن الثامن عشر بالخصوص. ولكن الفلاسفة الذين طرحوها آنذاك لم يطرحوها في فراغ و من فراغ، وإلا لما كان من الممكن إقناع الناس بها. إن الناس لا يقبلون الجديد من الأفكار –خاصة في بعض المراحل من تطورهم- إلا إذا قدمت لهم ذات أصول في تراثهم. إن الفكرة الجديدة لا تكون جديدة إلا ذا كان ينجم عنها نوع ما من التغيير، والناس عادة لا يقبلون التغيير إلا إذا قدم لهم –أو قدموه لأنفسهم، لا فرق- كشيء "يوجد" عندهم بصورة من الصور، وليس كشيء خاص بالغير خصوصا إذا كان هذا الغير خصما أو بمنزلة "الآخر" لهم. بعبارة أخرى : أنصار الجديد لا يستطيعون عادة الانتصار على أنصار القديم إذا هم قدموا الجديد كشيء لا أصل له عندهم، وأنه كله من عند الغير. إن من شروط منازلة أنصار القديم، منازلة ناجحة، خوض المعركة معهم في ميدانهم وإظهارهم بمظهر المقلد الجامد، وبالتالي العاجز عن استيعاب الآفاق الرحبة التي تثوي وراء الأصول إذا ما هي فهمت بعيدا عن التقليد والفهم الجامد. ذلك هو الطريق الذي سلكته النهضات والثورات. والدعوة المحمدية التي كانت جديدة تماما قد ركزت، كما نعرف، على انتمائها إلى الأصل الذي ترتبط به : دين إبراهيم. ومثل ذلك فعلت النهضة الأوربية التي ارتبطت بالآداب والفكر اليوناني والروماني. وفكرة "حقوق الإنسان" كما ظهرت في الفكر الأوربي في القرن الثامن عشر كانت فكرة جديدة تماما. وبالتالي كان لابد من ربطها بـ "الأصول" التي ترتبط بها الثقافية الأوربية في ذلك الوقت لكي يكون في الإمكان جعلها واحدة من الأفكار التي يمكن أن تجد مكانا لها في هذه الثقافة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من أن تكون عملية الربط بالأصول تخدم ليس الفكرة الجديدة وحدها، بل لابد أن تخدم كامل النظام الفكري الذي يراد تعزيزه بها بوصفها جزءا منه أو تنتمي إليه نوعا من الانتماء. وهذا لا يتأتى في الغالب إلا اعتمادا على فهم جديد لتلك الأصول نفسها، بحيث تبدو هذه الأصول كـ"جديد" يخوض مع "القديم" معركة مماثلة للمعركة التي يخوضها النظام الفكري الجديد. وهكذا ففكرة حقوق الإنسان لم تظهر، حين ظهرت في القرن الثامن عشر، كفكرة معزولة يتيمة، بل كانت جزءا من نظام فكري عام يمثل الجديد في كل مجال، الجديد الذي يخوض معركة شرسة مع نظام قديم خصم نصبه مناصروه خصما لكل تجديد.

كان هذا الخصم هو النظام الإقطاعي وحليفه الكنيسة. كان النظام الإقطاعي صاحب السلطة الزمنية، يملك الأبدان، ويسن القوانين التي "تنظم" ذلك، وكانت الكنيسة صاحبة السلطة الروحية تملك النفوس وتصدر القوانين التي تتعلق بهذا المجال بوصفها قوانين –شريعة- إلهية. وهكذا كانت القوانين أو الحقوق صنفين: قوانين زمنية يسنها الحاكم الإقطاعي، وشريعة دينية تسنها الكنيسة. وكفاح قوى التغيير والتجديد في أوربا القرن الثامن عشر كان ضد هاتين القوتين معا. ومن أجل سحب حق وضع القوانين عن الكنيسة كان لا بد من اللجوء إلى مرجعية تعلو عليها، أو يمكن ادعاء التفوق لها، موجودة بشكل أو آخر في التراث الأوربي. وكان لابد أن تكون هذه المرجعية قد أدت وظيفة مشابهة للوظيفة التي يراد لها أن تؤديها في الحاضر –أوربا القرن الثامن عشر. وقد وجد فلاسفة أوربا بغيتهم في فكرة القانون الطبيعي الذي قال به فلاسفة اليونان والذي شرحنا ملابساته في الفقرة السابقة. وهذه الفكرة –فكرة القانون الطبيعي- تخدم قضيتهم، أعني الصراع ضد الكنيسة والإقطاع، لأنها تعطي للإنسان حقوقا لا تتحكم فيها لا الكنيسة ولا الإقطاع لكونها من جنس قوانين الطبيعية، أي نظام الكون، الذي يسري مفعوله على الكنيسة والإقطاع كليهما.

ما نريد أن نخلص إليه مما تقدم هو أن لجوء فلاسفة أوربا، في القرن الثامن عشر، إلى فكرة "القانون الطبيعي" لتأسيس فكرة حقوق الإنسان ودمجها في المنظومة الفكرية التجديدية التي كانوا يناضلون من أجلها، سلوك مشروع تماما بالنظر للمقاييس التي ذكرنا، وهي المقاييس أو الشروط التي لا بد من مراعاتها في كل عملية تجديد أو نهضة.

تبقى بعد هذا نقطة أخرى، في الاعتراض الذي أوردنا في مستهل هذا المقال، وهي المتعلقة بكون فلاسفة اليونان كانوا يجيزون الرق ويعتبرون العبيد آلات أو كالآلات ليس لها حق في المواطنة وبالتالي لا حق لها في التمتع بحقوق الإنسان. وهنا لابد من التذكير بأن عدم تعميم حقوق الإنسان على كافة الكائنات التي تنتمي إلى نوع الإنسان لا يطعن في هذه الحقوق ولا في المنادي بها في مجال من المجالات. وكما أشرنا إلى ذلك قبل فحق الانتخاب والترشيح مثلا لم يمنح للمرأة في كثير من الدول الأوربية الحاملة للواء حقوق الإنسان إلا في فترة متأخرة، وهذا لا يطعن بصورة مطلقة في دفاع هذه الدول عن حقوق الإنسان. إن المسألة تتوقف على درجة الوعي بهذه الحقوق كما تسمح بها مرحلة من المراحل. والديانات نفسها، والإسلام من بينها، تسلك سبيل التدرج في تشريعاتها. فالشريعة المحمدية لم تنزل مرة واحدة على الناس وإنما جاءت بالتدريج مراعية تطور الإسلام في النفوس: من مجرد القبول إلى التشبع بروحه إلى طلب المزيد الخ. وهذا ما حدث مع مفهوم "حقوق الإنسان" في الظرف المعاصر. لقد كان هذا المفهوم لحقبة طويلة من الزمن مقصورا على ما ينتمي إلى الحريات السياسية، أما اليوم فهو يضم حقوقا اجتماعية واقتصادية. إن لائحة حقوق الإنسان ليس نهائية ولا مقفلة، بل هي لائحة مفتوحة، ويجب أن تبقى كذلك، لأن ما يمكن أن يتمتع يه الإنسان من حقوق ليس نهائـيا ولا محصورا بل هو شيء ينمو بنمو وعي الإنسان وباتساع المجالات التي يمكن أن يتمتع فيها بهذه الحقوق، مادية كانت هذه المجالات أو معنوية.

***

لنخم هذه "الهوامش"، قبل الاستمرار في متابعة فكرة الحق الطبيعي في القرن السابع عشر، بملاحظة أعتقد أنه من الضروري الوعي بها واستحضارها. أقصد بذلك عملية الارتباط بالتراث وبناء العلاقة مع الأصول.

إن المجال الذي تتحرك فيه هذه الهوامش يمكن وصفه بأنه : الخلفيات التاريخية والفلسفية لحقوق الإنسان المعاصرة. فالأمر يتعلق إذن بكتابة تاريخ فكرة حقوق الإنسان، لا بل بإعادة كتابة هذا التاريخ، فكل كتابة للتاريخ هي في واقع الأمر إعادة كتابة، فليس هناك كتابة "أولى" للتاريخ. ونحن عندما نتجه إلى التاريخ سواء لقراءته –قراءة ما- أو لإعادة كتابته، فإنما نفعل ذلك، وفي جميع الأحوال، بدافع من الحاضر. والتاريخ –أعني الماضي كما يعيد الناس كتابته أو قراءته- قابل لأن يتعامل الناس معه بوصفه يحتوي على كل شيء.

والتعامل مع التاريخ، من هذا المنظور، يتم في الغالب على أساس أنه أشبه ما يكون بما لا يحصى من المسالك والطرق والشعاب الملتوية المتداخلة المتقاطعة تمتد من الحاضر إلى الماضي. ونحن نرجع القهقرى ونتتبع مسلكا أو طريقا بعينه تاركين المسالك والشعاب الأخرى إلى حين الحاجة. فالحاجة، حاجة الحاضر، هي التي تدفعنا إلى اختيار مسلك معين، دون غيره، فحاجتنا اليوم إلى التمتع بحقوق الإنسان هي التي تدفعنا إلى الرجوع القهقرى مع تاريخ تطور نظرة الإنسان إلى هذه الحقوق. وهذا المسلك الذي يشكل ما نعبر عنه اليوم بـ"الخلفيات التاريخية والفلسفية لحقوق الإنسان" كان موجودا دوما. غير أن اهتمامنا به كان ضعيفا أو منعدما لأنه لم يكن هناك في الحاضر ما يدفع إلى الاهتمام به. وليس ذلك لأننا لم نكن في حاجة إلى حقوق الإنسان، بل فقط لأن وعينا بهذا الموضوع كان ضعيفا أو منعدما. وهكذا فالتاريخ لا وجود له بدون من يهتم به ويطلب المعرفة به ويكتبه ويعيد كتابته. بعبارة أخرى : الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، ليس التاريخ بوصفه أحداثا واقعية وحسب بل أيضا التاريخ كمعرفة. وكل شعب يصنع تاريخه باستمرار، تاريخه الفعلي اليومي وتاريخه المكتوب. وأوربا صنعت في القرن التاسع عشر تاريخها المكتوب، وهو المعتمد اليوم إلى حد كبير. وبما أنها كانت، في ذلك القرن، هي التي تصنع التاريخ الفعلي، تاريخ الحاضر في العالم كله، بالعلم والاستعمار الخ، فقد جعلت من تاريخها التي أعادت كتابته تاريخا للعالم كله.

وفي مجال حقوق الإنسان لا فرق في الحقيقة بين "الخلفيات التاريخية" و"الخلفيات الفلسفية" لأن الأمر يتعلق في الحالتين معا بتاريخ الأفكار. ومع أنه يمكن التثبت من وجود فكرة ما في هذا العصر أو ذلك، والقول إنها كانت من المفكر فيه الذي يؤسس لما بعده، فليس من الممكن التثبت بسهولة بوجود رابطة ما سببية بين فكرة سابقة وأخرى لاحقة؛ فقد تؤدي الظروف المتشابهة إلى ظهور أفكار متشابهة. ومع ذلك فإقامة علاقة ما بين هذه الأفكار هي مسألة اجتهاد وتخمين، والمهم في الأمر –في الغالب- ليس الوجود الفعلي لهذه العلاقة بل ما ينبني على وجودها من نتائج. والنتائج تقاس بمدى أهميتها بالنسبة للحاضر. والنتائج التي تؤثر في الحاضر هي التي تأتي وفق منطق مقبول. أما التي تفرض فرضا فهي مجرد دعاوى. والمنطق المقبول اليوم في الموضوع الذي يهمنا هو أن "تاريخ" حقوق الإنسان بمعناها المعاصر يبدأ مع فلاسفة اليونان، أو لنقل يبدأ من الحاضر الراهن ويمتد في الماضي على الخط الذي يربطها باليونان.

ولا يعني هذا أن هذا التاريخ الأوربي لحقوق الإنسان هو وحده الممكن. كلا، إنه بالإمكان دوما بناء تاريخ آخر عبر مسلك آخر من المسالك التي تمتد وراء اللحظة الراهنة لتشكل الماضي. من الممكن مثلا بناء مسلك في الثقافة العربية مماثل أو مختلف أو مكمل أو مصحح للمسلك الذي شيدته أوربا. وهذا ما لم ينجز بعد. وسيصبح قابلا للإنجاز يوم ترسخ حقوق الإنسان في الوطن العربي والثقافة العربية ويصبح لها تاريخ.

للحديث صلة