ص1      الفهرس   المحور 

 

إشكالية حقوق الإنسان

ضمن الوضع العربي الراهن

حميد مجدي

ولكنني أتحدث عما هو سائد بشكل عام. وما هو سائد، للأسف، من تكرار للأشياء والناس والأفكار والأفعال والسلط، وكذا الجهل بمضامين الأشياء وأبعادها وتغييب العقل سواء في أفكارنا أو في أعمالنا وحركاتنا وتعاملاتنا، سيؤدي لا محالة إلى تعقيد الأمور أكثر وتضخيم الأزمة وبالتالي إبعاد إمكانية عيش الإنسان العربي ضمن حقوق تحفظ كرامته وحياته وحريته.

مقدمـــة:

كثر الحديث في الآونة الأخيرة، وكثرت الكتابات عن حقوق الإنسان، وأصبح هذا الخطاب لا يصدر فقط عن الشعوب، وإنما الحكومات كذلك. فعينت وزارات ولجان ومجالس تحت طائلة "الدفاع" عن الحقوق المنتهكة، متجاهلة بذلك السؤال الرئيسي التالي: إذا كانت السلطة السياسية هي من يملك القدرة والوسائل على تطبيق هذه الحقوق، فلماذا بالتالي تفريخ مؤسسات في هذا الشأن؟ ألا يعتبر ذلك تناقضا صارخا وعاريا؟!

وتعددت الجمعيات والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية العاملة في هذا الحقل، وأصبح لها دور رائد ومهم، سواء في التأثير على الحكومات من أجل تغيير سياساتها، أو من حيث استغلالها –إن بوعيها أو لاوعيها- من طرف جهات معينة لتحقيق مآربها، أو في تأديتها للدور الذي صنعه لها النظام الدولي الجديد: نظام العولمة و"حقوق الإنسان"!

هذه الأهمية التي تحتلها هذه التنظيمات اليوم لم تكن تعرفها خلال العشرين سنة الماضية، فما هو السبب في ذلك؟

يعلل الدكتور محمد عابد الجابري هذه المسألة بالقول: في أواخر القرن الماضي ومعظم هذا القرن كان ينظر إلى الاشتراكية كحل أسمى للمعضلة الاجتماعية والاستغلال الطبقي والطغيان الرأسمالي، وكان الحل الاشتراكي العادل للمسألة الاجتماعية يمر عبر "تأجيج الصراع الطبقي قطريا ودوليا، وكان الناس بناء على ذلك ينظرون إلى "العمل الإنساني" الذي تقوم به بعض الجمعيات الخيرية نظرة ملؤها الشك والازدراء. أما اليوم وبعد أن توارت نظرية الصراع الطبقي وفشلت التطبيقات التي أجريت باسمها، برزت المنظمات غير الحكومية، مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمة أطباء بلا حدود والمنظمات العربية لتقدم نفسها كـ"قطاع ثالث" بين الدولة والسوق، قطاع يأخذ على عاتقه مهمة التخفيف من وقع الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي على الطبقات المستضعفة والتخفيف كذلك من وقع الكوارث الطبيعية وغيرها..(1).

وهكذا أخذت جل التنظيمات العربية العاملة في مجال حقوق الإنسان، على عاتقها مهمة الدفاع عن الإنسان العربي البسيط ضد تعسف الحكام وغطرستهم، وضد تفاقم أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وجعلت من مرجعيتها المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تضمنتها منظمة الأمم المتحدة.

وإذا كان الفكر الغربي متوافقا مع موضوعه، وكانت منظومة حقوق الإنسان الحالية، نتيجة طبيعية لتاريخه الطويل، فهل نبدأ نحن العرب من حيث انتهى هو؟ هل الحديث المتكرر عن كونية أو عالمية حقوق الإنسان وشموليتها واكتساحها للحدود والثقافات المحلية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، كلام عقلاني، مبني على أسس معرفية، علمية وموضوعية؟

هل استطاع العاملون عندنا بهذا المجال، تفكيك محتوى الوضع العربي والدولي الراهن، لفهم علاقاته الدقيقة والمركبة، مما يساعد على بلورة آليات ناجحة في التعامل مع مضامين وأبعاد حقوق الإنسان، والمساهمة بالتالي في تكييف هذه الحقوق أو تأصيلها ضمن مجتمعاتنا؟ هل تم التفكير في مدى قابلية تطبيقها عندنا بشكلها المستورد؟

إن المشكل الأساسي الذي يجب التصدي له، لا يتجلى في إثبات البعد الإنساني الذي تحتضنه المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، ولكن المعضلة هي في البحث عن أسس تصبح عن طريقها هذه الأخيرة قابلة لأن تطبق في بلداننا العربية بشكل سليم. بمعنى آخر، البحث في الموانع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية والدولية التي تحول دون تطبيق مضامين هذه الحقوق.

التفكير في هذه المسائل المذكورة والإجابة على الأسئلة المطروحة، هو ما يشكل بالفعل تحديا بالنسبة للعاملين بميدان حقوق الإنسان.

وأعتبر مساهمتي هاته، محاولة لإثراء وتعميق النقاش حول هذه القضايا التي ليست بسيطة كما قد يظهر للكثيرين.

 

 

I ـ الأسس الفلسفية والتاريخية لحقوق الإنسان:

لفهم حقل حقوق الإنسان في بعده الفلسفي، لا بد بداية من التحري بعض الشيء في مضمونه ومرجعيته التاريخية.

يعود خطاب حقوق الإنسان تاريخيا في أصله ونموه إلى أوروبا الغربية. وأول وثيقة سياسية يحسبها رجال الفكر على هذه الحقوق هي: "الماجناكارطا" (العهد الأعظم) التي يعترف فيها ملك إنجلترا "جون" سنة 1215م بحقوق النبلاء. يأتي بعدها سلسلة من المواثيق والإعلانات أهمها: بيان الحقوق المترتبة عن الثورة الإنجليزية عام 1689 ودستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1787 إثر استقلالها، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 على ضوء الثورة الفرنسية، فميثاق الأمم المتحدة سنة 1945 الذي تضمن إشارة واضحة إلى ضرورة احترام ورعاية حقوق الإنسان، مما تمخض عنه في عاشر دجنبر 1945 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعد مرجعية أساسية لجل الجمعيات والتنظيمات المهتمة، بالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية التي جاءت بعده مثل: الاتفاقية الدولية لإزالة كل أشكال التمييز العنصري سنة 1965، الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1966، والاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية سنة 1966. وقد انبنت مضامين الحقوق المعتمدة حاليا على مرجعيات فلسفية يمكن العودة بأصولها إلى عصر النهضة الأوروبي الذي أعلى من شأن الإنسان الفرد واعتبره غاية في حد ذاته، وأسمى الكائنات جميعها. ومع تنامي الطبقة البرجوازية، وفي خضم مواجهتها للكنيسة ونظام الإقطاع وحقوق الملوك الإلهية، تبلورت نظرية "الحق الطبيعي" بزعامة صاحب كتاب في قانون الحرب والسلم "هوغو جروسيوس" خلال القرن السابع عشر. و(الحق الطبيعي) معناه أن للإنسان حقوقا يحميها القانون الطبيعي، ولدت معه، وهي لصيقة به ولا يملك حتى الإله بذاته أن يغيرها. وهذا يترتب عنه التزام القوانين الوضعية بها. ويعتبر فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر "حرية الأفراد ومساواتهم" هي أصل الحقوق الطبيعية كلها. وهي حقوق تجد مرجعيتها العقلية وعالميتها وشموليتها في القول بـ"حالة الطبيعة" للإنسان، على اعتبار أن هذا الأخير يشكل جزء لا يتجزأ من الطبيعة ويخضع لقوانينها. يقول جون لوك (1632-1704) بصددها: "لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها يجب علينا أن نتحرى الحالة الطبيعية التي يوجد عليها جميع الأفراد، وهي حالة الحرية الكاملة في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم بما يظنون أنه ملائم لهم، ضمن قيود قانون الطبيعة، دون أن يستأذنوا إنسانا أو يعتمدوا على إرادته، وهي أيضا حالة المساواة حيث السلطة والتشريع متقابلان لا يأخذ الواحد أكثر من الآخر، إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها، المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعضهم الآخر"(2).

ولكي يحافظ الأفراد على حقوقهم الطبيعية ضمن الاجتماع الإنساني فإن فلاسفة أوروبا الحديثة أقروا ما يسمى بـ"العقد الاجتماعي". إن "هوبز" (1588-1679) –ورغم تبنيه لسلطة العاهل المطلقة- لا يتصور مجتمعا دون "ميثاق اجتماعي" يتنازل بموجبه الأفراد عن سيادتهم وحريتهم للحاكم، من أجل تحقيق السلم والأمن بينهم". و"جون لوك" يرى أن العقد الاجتماعي لا يخلق أي حق جديد، وإنما هو عبارة عن اتفاق بين أفراد يجتمعون ليستخدموا قوتهم الجماعية في وضع القوانين الطبيعية موضع التطبيق. والعقد بين الرعية والحاكم ثنائي الجانب ومن حق الرعية أن تثور على كل انتهاك للقانون(3). أما "جان جاك روسو" (1712-1778) الذي يعد أكثر فلاسفة أوروبا الحديثة تقريرا لفرضية العقد الاجتماعي، فهو يرى أن: "الإنسان بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمفرده، بل لا بد من اجتماعه مع غيره من بني جنسه. ولما كانت إرادتهم تختلف وتتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم له حال إلا إذا كان مبنيا على "تعاقد" في ما بينهم يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن حقوقه كافة للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسمها الدولة كشخص اعتباري ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم، وبذلك تتحول تلك "الحقوق الطبيعية" إلى "حقوق مدنية": وتبقى الحرية والمساواة هما جوهر هذه الحقوق"(4).

كانت هذه الأفكار والمضامين من بين الدواعي الرئـيسية لإقرار "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" خلال الثورة الفرنسية لسنة 1789. فهذا الأخير نص "على أن الناس يولدون أحرارا ويظلون أحرارا متساوين قانونا (المادة الأولى) وألا تفرض حدود الحريات إلا بقانون (المادة الرابعة)، وأن السيادة للأمة (المادة الثانية)، وأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة (المادة السادسة)"(5). هذه المبادئ الأساسية كذلك والأفكار بما عرفته من تحليلات وتعثرات وانتقادات ونجاحات أو إخفاقات على مستوى التطبيق، وإضافات، خصوصا من جانب المذهب الاشتراكي الذي ركز على الجانبين الاجتماعي والاقتصادي للحقوق، كانت الموجه الأساس والإطار العام الذي اعتمده واضعو "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في العاشر من دجنبر 1948 والاتفاقيات الدولية التي جاءت بعهده.

II – حقوق الإنسان والوضع الاقتصادي/الاجتماعي العربي الراهن:

يعيش العالم العربي في الوقت الراهن أزمة كارثية على جميع المستويات. وهذا الوضع يتفاقم بسرعة خطيرة، نظرا للاختيارات والإرادات السياسية والاقتصادية السلبية والعشوائية –الغير مبنية على أسس علمية وتاريخية- التي نهجها القائمون على أمور هذه البلدان، ونظرا كذلك إلى الفساد السياسي والإداري الذي نخرها من الداخل وحال دون أي نمو في أي قطاع كان.

وهذه الدول العربية ببنياتها الهشة، ستزداد بالتأكيد حالتها توترا وتخلفا لأنه ليس لديها وهي على ما عليه الآن ما تواجه به اكتساح نظام "العولمة". خصوصا وأن هذا الأخير أصبح يحكم تدبير الشأن العام لكل بلد على حدة ويتدخل في متطلباته وأهدافه. ومن ضمن ما يقحم نفسه فيه بشكل سافر موضوع حقوق الإنسان.

لذا فإن أول ما سأتطرق إليه هو تحديد مفهوم "العولمة".

يعرف الاقتصادي العربي السوري محمد الأطرش، مفهوم "العولمة" ضمن بحث له شارك به في أعمال ندوة "العرب والعولمة" التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت أيام –19 –20 دجنبر 1997 بقوله: "العولمة تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق، وتاليا خضوع العالم لقوى السوق العالمية، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات"(6) ويميز محمد الأطرش في نفس المرجع بين مفهوم "العولمة" ومفهوم "الاقتصاد الدولي" "فهذا الأخير يركز على علاقات اقتصادية بين دول ذات سيادة، وقد تكون هذه العلاقات منفتحة جدا في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، ولكن يبقى للدولة دور كبير في إدارتها وفي إدارة اقتصادها"(6). الاقتصاد الدولي إذا يبقي على سيادة الدولة. أما العولمة فهي تحد من هذه السيادة عن طريق التدخل المريب للشركات الكبرى العابرة للقارات والأبناك العالمية وشركات التأمين. وأحسن تعبير عن انحسار سيادة الدولة هو ذلك الرد المتصور لوزير مالية أمريكا "روبرت روبن" على رئيس وزراء ماليزيا "مهاتير محمد"، والمتضمن في مقال للصحافي الأمريكي "توماس فريدمان" في النيويورك تايمز في 20 شتنبر 1997. "فخلال الاجتماع السنوي في شتنبر هذا العام لمجلس محافظي المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي في هونغ كونغ، هاجم مهاتير محمد، شرور العولمة والمضاربين في أسواق العملات والأسهم، وبخاصة جورج سورس، المضارب المعروف، واتهمهم بأنهم كانوا وراء الأزمة المالية التي عانت منها بعض بلدان جنوب شرق آسيا منذ صيف هذا العام. كما انتقد القوة الكبرى لإجبارها بعض البلدان الآسيوية على فتح أسواقها للمتاجرين في العملات والأسهم والسندات ولتدميرها اقتصادات هذه البلدان وقدراتها التنافسية في الأسواق العالمية. وتضمن الرد المتصور لوزير مالية أمريكا –ضمن أشياء أخرى- ما يأتي: "اعذرني محمد ولكن على أي كوكب أنت تعيش؟ إنك تتكلم عن المشاركة في العولمة كأن ذلك يتضمن خيارا متاحا لك. العولمة ليس خيارا وإنما حقيقة واقعة. يوجد اليوم سوق عولمة واحدة. والطريقة الوحيدة الممكن أن تنمو فيها هي اللجوء إلى أسواق السندات والأسهم للحصول على الاستثمارات وبيع ما تنتجه مصانعك في أسواق العولمة التجارية. كما أن أهم حقيقة حول العولمة هي أنه لا أحد يسيطر أيها الأبله (…). فسوق العولمة اليوم عبارة عن قطيع إلكتروني من متاجرين مجهولين بالعملات والأسهم وسندات المشاركة، يجلسون وراء أجهزة الكومبيوتر… وهؤلاء لا يعترفون بالظروف الخاصة (لأي دولة)، وإنما يعترفون فقط بقواعدهم. وهي لحد بعيد متسقة، فهم يحددون نسبة الادخار التي يجب أن تحققها دولتك، ومستوى الفوائد ونسبة عجز الموازنة للناتج المحلي الإجمالي، مستوى عجز ميزان المدفوعات الجاري. فالقطيع يرعى في 180 دولة، لذلك ليس لديه الوقت لأن ينظر إلى وضعك بالتفصيل. إنه يتوصل إلى أحكامه بصورة خاطفة عما إذا كنت تعيش استنادا إلى قواعده.."(7).

لماذا أدليت بهذا التعريف والحوار المتصور؟ لأبين أن العولمة الآن واقع حتمي وليس بعدا إيديولوجيا يراد منه التمويه وكفى. ولأوضح بالتالي كيف أصبحت الدولة القومية –التي تريد أن ننطلق منها لتفعيل الحركة الحقوقية بما لها من علاقة بالاقتصاد والسياسة- مرغمة على التنازل عن سيادتها وإرادتها بفعل اختراق حدودها الترابية والوجدانية والثقافية، ولكي أثبت بالملموس الصورة الموضوعية لتدويل رأس المال واكتساح الشركات الكبرى الدولة القومية والتحكم في إرادتها، بالإضافة إلى محاولة تحديد موقع العرب من الاقتصاد العالمي، أورد فيما يلي بعض الأرقام المعبرة:

ارتفعت استثمارات اليابان الخارجية من 17 مليار دولار عام 1980 إلى 217 مليار دولار عام 1990 أي بمعدل 12 مرة في عشر سنوات. وارتفعت استثمارات الولايات المتحدة الأمريكية في الخارج من 110 مليارات دولار عام 1980 إلى 206 مليار دولار عام 1991. وزاد حجم التعامل في البورصات المالية الدولية من 300 مليار دولار عام 1980 إلى 1300 مليار دولار عام 1995(8). وتنتج الشركات ذات الطابع العالمي 1/3 الإنتاج العالمي. وكمثال على النمو السريع للشركات الصناعية الكبرى فإن نموذج شركة "دايوو" الكورية قد ارتفع حجم تعاملاتها من 223 مليار دولار عام 1992 إلى 367 مليار دولار عام 1996 وتمثل لوحدها أربعة أخماس 4/5 الناتج الوطني الكوري الخام(8).

وحسب جريدة "الريبيبليكا" الإيطالية الصادرة في 19 فبراير 1997(9)، فإن العالم يوجد به 28،1 مليار من أجهزة التلفزة و690 مليون مشتركا في شبكات الهاتف، وحوالي 200 مليون حاسوب منها 30 مليون مرتبطة بشبكة الأنترنيت. ومن المنتظر أن تتجاوز اشتراكات شبكة الأنترنيت عام 2001 اشتراكات الهاتف اليوم، وسوف يرتفع عدد المتواصلين عبرها بين 600 مليون ومليار مشترك. ومن المتوقع أن يرتفع رقم أعمال قطاع صناعة الاتصالات من ألف مليار دولار عام 1995 إلى ألفي مليار دولار عام 2001، أي ما يعادل 10 بالمائة من الاقتصاد العالمي. وهذا يؤكد سرعة الاختراق الكبير المرتقبة للحدود الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية. في الوقت الذي لم نتهيأ أبدا لا لمواجهة التحدي ولا حتى التفكير فيه بشكل جدي. وحسب نفس الجريدة، فإنه على الرغم من أن 80 بالمائة من سكان العالم يوجدون بالجنوب، إلا أن نصيبه لا يزيد على 4 بالمائة من الإنفاق العالمي على البحث والتنمية. وفي القطاعات الحساسة مثل المعلوماتية والبحث العلمي، لا يتوفر إلا على 5 بالمائة من الحواسيب المستخدمة في العالم.

والعرب في هذا الصدد لا ينفقون على البحث العلمي سوى 600 مليون دولار إلى حدود سنة 1992 وهو ما يعادل 014،0 بالمائة من الناتج القومي الإجمالي ويعد أدنى المعدلات في العالم الثالث نفسه. في حين تخصص أمريكا مثلا بحسب تقرير المؤتمر القومي السابع 120 مليار دولار للبحث والتطوير، أي نحو 300 ضعف ما تخصصه البلدان العربية على أساس نصيب الفرد الواحد(10).

هذا من جهة، أما من جهة أخرى فيتبين كيف تخلي الدولة القومية مسؤولية تدبير اقتصادها وسياساتها ومصيرها للمؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الخ. فقد ارتفع حجم المديونية للدول النامية من 100 مليار دولار عام 1980 إلى 1350 مليار دولار عام 1990. ويقول نفس التقرير بالجريدة المذكورة سابقا، إن البلدان الغنية الدائنة قد تلقت من البلدان النامية المدينة 242 مليار دولار كتحويلات صافية بين 1983 وعام 1989، وحقق صندوق النقد الدولي أرباحا بلغت 7،0 مليار دولار في السنة على حساب الدول النامية بين عامي 1986 و1990. أما مديونية البلدان العربية فقد بلغت سنة 1995، 220 مليار دولار، في الوقت الذي تقدر رؤوس الأموال العربية الخاصة الموظفة في الخارج بحدود 750 مليار دولار(11).

وفي مجال الغذاء، يوجد كذلك عجز وتدهور خطير. فبعدما كانت نسبة الاكتفاء الذاتي تساوي في الفترة ما بين 1969 و1971 عند العرب 70 بالمائة، أصبحت تساوي 52 بالمائة في الفترة ما بين 1988 و1990. وقد دفعت الدول العربية ثمنا لغذائها المستورد خلال 15 عاما ما بين 1980 و1994 ما يزيد على 280 مليار دولار. وهذا القدر سيزيد بشكل كبير مع حلول العام 2000 حسب الأمين العام للاتحاد العربي للصناعات الغذائية.

ولتبيان الموقع الذي تحتله اقتصاديات الدول العربية من العالم يكفي أن أشير إلى أن الناتج القومي يقدر بنحو 510 مليار دولار بما فيها النفط، وهذه القيمة قريبة من قيمة الناتج القومي لهونغ كونغ البالغ حوالي 450 مليار دولار. علما أن عدد ساكنيه هو 6 ملايين نسمة فقط. ولا تزيد قيمة صادرات البلدان العربية، إذا استثنينا النفط على قيمة صادرات دولة واحدة وهي فنلندا التي لا يتجاوز سكانها 5 ملايين نسمة(12).

أما فيما يتعلق بالميزان التجاري فيزداد عجزا سنة بعد سنة في معظم الدول العربية. وفي المغرب على سبيل المثال –حسب تقرير المؤتمر العربي لعام 1997- زاد العجز من 7،1 مليار دولار سنة 1980 إلى 1،4 مليار دولار في سنة 1995(13).

وفي المجال التعليمي، فإن نفس التقرير المذكور، يؤكد على أن معدلات الأمية في الوطن العربي ليست فقط مستقرة ولكنها آخذة في الارتفاع. هذا مع العلم أن مضمون العملية التعليمية فاشل ومتخلف ولا يأخذ بعين الاعتبار لا الجانب النقدي ولا العقلي ولا قضايا التطور العلمي التقاني.

والحالة هاته، والعالم العربي يعيش تحت وطأة هذه التحديات جميعها، اقتصادية عالمية أو عولمية وسياسية وثقافية، فإن هناك أسئلة تفرض نفسها علينا الآن وهي كالتالي:

بما أن أهم حقوق الإنسان على الإطلاق والتي يوليها المهتمون أولوية كبرى هي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبما أن الوضع هو على ما أشرنا إليه من قبل، ناهيك عن غياب إرادات الحكومات العربية في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للرأسمال القومي، فهل وعينا فعلا التكلفة المرتفعة التي يقتضيها تطبيق هذه الحقوق؟ فلا بد من النظر إلى أن تكلفة الحقوق السياسية والدمقرطة، كما يشير إلى ذلك الدكتور محمد سبيلا في إحدى كتاباته، أرخص ثمنا بالمقارنة مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نظرا لانخفاض كلفة تطبيقها ومحدودية تجهيزاتها: صناديق الاقتراع وأوراق الاقتراع وتحديد الهويات، مؤسسات محلية ووطنية وأجور البرلمانيين الخ(14). وهل بالتالي تتلاءم استراتيجيتنا في المطالبة بتطبيق حقوق الإنسان مع معطيات الواقع الموضوعي المركب؟ بمعنى آخر، ألسنا حبيسي الآمال الجميلة الموجودة فقط في عالم المثل؟ ألا تتطلب إرادتنا في التطبيق العملي لهذه الحقوق أولا وقبل أي شيء أعمالا ضرورية أخرى، كالعمل على تغيير موازين القوى وتطوير آليات النضال من خلال المجتمع المدني، بما يحتضنه من مفكرين وجمعيات وتنظيمات وأحزاب الخ؟

أعتقد أن ما يجب العمل على تكريسه مبدئيا ليس هو المطالب بالحق في العمل والسكن والأمن والمساواة بين الجنسين والصحة والنقابة والإضراب وما إلى ذلك، بهذه البساطة وإنما البحث في أسباب وجود الحيف الاجتماعي والاقتصادي وعدم المساواة والقمع والسجون والسياسة الصحية والتعليمية المتدهورة والفوارق الثقافية والاقتصادية المهولة، ومن تم ربط المطالبة بكل حق على حدة بمدى إمكانية تطبيقه. وللوصول إلى هذه الإمكانية يجب البحث أولا عن الخطوات الضرورية التي لا بد أن نمر منها والتي ستقودنا بالتالي إلى الحق المراد تأسيسه.

هذا يعني أنه لا يجب أن نقفز على الواقع ونطالب بالحقوق الجميلة بهدف المطالبة بها وكفى، وكأننا فوق الزمان وخارج التاريخ. ولكي أوضح ما أريد أن أشير إليه أسوق الأمثلة التالية:

نحن –مثلا- في اليوم العالمي للطفل أو حتى خارج هذا اليوم ندعو في تنظيماتنا وجمعياتنا بعدم تشغيل الأطفال في مجتمع تبين كل القرائن أنهم لا يمكن إلا أن يشتغلوا. نفس الشيء بالنسبة للحق في العمل. إذ نطالب بهذا الحق في مكان وزمان لا يمكن إلا أن تستشري فيه البطالة. وكذلك الأمر بخصوص الحقوق الأخرى.

هناك مسالة أظنها غاية في الأهمية أشار إليها الباحث الأردني محمد فهيم يوسف تتعلق بصعوبة تحقيق مضامين حقوق الإنسان بالنسبة للدولة الفقيرة أو الأشد فقرا مقارنة بالدول الأخرى في ظل نظام العولمة، مما يشكل معضلة، أما الخطاب العالمي لحقوق الإنسان فالدول الغربية ترفض أي تعديل في واقع العلاقات الاقتصادية الدولية لا يأخذ في أولياته ضمان تفوقها(15).

إن الوضع العربي الراهن ما لم نساهم في تغييره من خلال رؤية شمولية تحليلية تأخذ بعين الاعتبار كل حق على حدة ثم علاقة هذا الحق بالحقوق الأخرى، وما لم نكن متتبعين عن كثب للفكر المجتمعي والواقع الموضوعي في تحولاتهما التاريخية وبعدهما الوجودي وموقعهما الزماني والمكاني، فإننا لن نعمل إلا على تكريس الأوضاع على ما هي عليه الآن. وسنؤخر بذلك كل أمل في التغيير والإصلاح لفائدة الأمة ونزيد من حدة التوتر والأزمة، لأن المزيد من الوقت في غير صالحنا بتاتا.

هذا الوعي النقدي بالأزمة وامتلاك آليات البحث والتفكير لا يمكن أن يتأتى هكذا عشوائيا وإنما ينبني من خلال الجهود المتواصلة للعاملين خصوصا في التنظيمات والجمعيات الحقوقية وغير الحقوقية من أجل الحصول على قدر من الزاد العلمي والمنهجي ومواكبة سير التيارات النقدية الفكرية والسوسيولوجية والفلسفية. ذلك أن أبرز أسباب فشل ما يمكن نعته باليسار السياسي العربي –ومن ضمنهم بطبيعة الحال، التنظيميات الحقوقية- هو ذلك الفارق الكبير بين إرادة التغيير وعملية ممارسة التغيير وامتلاك آلياته. يقول شوقي جلال في هذا الصدد في بحث له حول أسباب إخفاق اليسار العربي إن هناك: "… قطيعة بين الفكر وبين العمل الهادف… الهدف كواقع حياتي متحرك، كإنجاز عملي… إنها أزمة الدلالة الوظيفية للفكرة، وأزمة الدلالة الاجتماعية للعمل… قد نملك الهدف أمنية تلخصها فكرة تتصف بالعمومية، الثورة أو التغيير. ولا نملك الإجابة المستمدة من واقع حياتي ومنهجي، أو من الممارسة المنهجية، وكيف يكون التغيير ومقتضياته وكأن الحياة كلمة لا فعل… تماما كمن يملك الحلم أو الصورة ولكنه لا يملك الأداة التي هي اكتساب أو ابتكار من خلال العمل، والنتيجة أن يفاجئنا أو يصدمنا الواقع ونواجه الموقف صفر اليدين فكرا ومنهج عمل ونتعامل مع الحدث في آنيته وفي ظاهره الجزئي. إننا لا نتعامل مع ظاهرة الإنسان/الواقع في كليته وشموله، كظاهرة مدروسة التاريخ والاحتمالات، بل مع فكرة عامة ثم مع حدث آني، وبهذا نكون في أحسن الظروف أصحاب منهج المحاولة والخطأ، أو المنهج الخبري الجزئي أو التجزيئي أو رد الفعل، ولا تراكم معرفي يفضي إلى نسق عام… فكل جيل أو كل فرد يبدأ من جديد ولا قدرة على الإبداع… ولا استقلالية للرؤية، والمرجعية دائما مفارقة، واقع غير مدروس واحتمالات في طي المجهول"(16).

III ـ حقوق الإنسان والوضع الثقافي العربي الراهن:

ننتقل الآن إلى الجانب الثقافي من المسألة. أي البحث فيما إذا كانت ثقافتنا تسمح باعتماد مضامين الميثاق الحقوقي العالمي.

ولكن قبل محاولة تحليل هذه الإشكالية، أحدد أولا المدلول الثقافي الذي أنا بصدده.

الثقافة المعنية هنا، هي تلك المستعملة في العلوم الاجتماعية والأنتروبولوجية والتي قال بها الدكتور مصطفى عمر التير في إحدى بحوثه عن نمط التفكير العربي المعاصر. وتشير إلى التراث الاجتماعي لجماعة بشرية بما يحتويه من معرفة ومعتقدات وقيم وأوامر ونواه وعادات وتقاليد وما يتعلق بنمط المعيشة. بمعنى أنه يشمل جميع الخبرات التي يتعلمها الفرد نتيجة مشاركته في جماعة بشرية. ولكل مجتمع مهما كان بسيطا أو أميا أو فقيرا اقتصاديا، ثقافة يحرص الكبار على نقلها إلى الصغار، ويساهم أفراد المجتمع جيلا بعد جيل في عملية تطويرها وتنقيحها.

تتضمن كل ثقافة أربعة عناصر أساسية وهي:

1 ـ المعلومات والمعارف، وتهدف إلى تسخير إمكانيات الطبيعة لفائدة الأفراد.

2 ـ الديانات والمعتقدات الأخرى، وهي قواعد وأفكار ثابتة في ذهن الفرد يصعب معه التخلص منها أو تغييرها.

3 ـ القيم والمعايير: فالقيم، نماذج مثالية يقيس الفرد على ضوئها الأفكار والمبادئ والقواعد فيقبل ما يتوافق مع هذه النماذج ويرفض ما يخالفها.

أما المعيار فهو نمط تجريدي يحفظ في الذاكرة ويضع حدودا لعلاقات الفرد بالآخرين ولأنماط سلوكه.

4 ـ عناصر رمزية، وتندرج فيها اللغة والإشارات ذات المعاني الثقافية(17). وإن مضمون الثقافة العربية الراهنة، من قيم ومعايير ومعتقدات ورموز، هو ما يجب أن يتركز حوله البحث، حتى تتحدد لنا مدى قابلية الواقع العربي لمنظومة حقوق الإنسان وبالتالي شكل التفكير في هذا الأخير. ذلك أن هذه الثقافة بل كل ثقافة وفي كل مكان تتميز لا ريب بخصوصياتها التي تحملها معها من التاريخ والمحيط الاجتماعي والثقافي والجغرافي. "فالتفكير –كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري- بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، إلى الكون والإنسان، كما تحددها مكونات تلك الثقافة. وهكذا فإذا كان الإنسان يحمل معه تاريخه شاء أم كره، كما يقال، فكذلك الفكر يحمل معه، شاء أم كره، آثار مكوناته وبصمات الواقع الحضاري الذي تشكل فيه ومن خلاله"(18).

وأعتقد أن الطابع الذي تتسم به الثقافة العربية الإسلامية حاليا هو شبه غياب عماد الحقوق الثقافية كلها وهو "الحق في الاختلاف" بما ينتج عنه من تسامح وحوار عقلاني وديمقراطية.

فالثقافة الإسلامية مثلا وهي تشكل جزء كبيرا من ثراتنا وقيمنا وتحكم علاقاتنا وتعدد تصوراتنا للأشياء والعالم ترفض مضمون الميثاق العالمي لحقوق الإنسان كما صيغ سنة 1948 وترفض الاتفاقيات التي تلته، لأنها تعارض في نظرها الثوابت النصية التي تتأسس عليها الديانة الإسلامية. وهذا ما يفسر ردة فعلها من خلال الرفض المطلق والعنيف للكثير من "الإسلاميين" إما لمنظومة حقوق الإنسان بأكملها أو لبعضها. ومن هنا، ونتيجة للطبيعة الإكراهية للثقافة العالمية وضغوطها، وكذلك الرغبة في الانخراط وشغل موقع ضمنها، هرع هؤلاء إلى صياغة حقوق "إسلامية" في مقابل حقوق الضفة الأخرى، من مثل "إعلان حقوق الإنسان وواجباته في الإسلام" الصادر عنه رابطة العالم الإسلامي سنة 1979 و"البيان الإسلامي العالمي" عن المجلس الإسلامي الأوروبي في لندن عام 1980 و"البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام" الصادر عن المجلس الإسلامي الأوروبي في لندن عام 1981 و"مشروع وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام" المقدم إلى مؤتمر القمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الطائف في يناير 1989 ثم "مشروع إعلان حقوق الإنسان في الإسلام" الذي قدم إلى المؤتمر الخامس لحقوق الإنسان في طهران خلال دجنبر 1989(19).

وعلى الرغم مما تحمله هذه الإعلانات "الإسلامية" والبيانات والمواثيق من مضامين تبدو إلى حد كبير ذات بعد إنساني حقوقي فإنها تبدو بعيدة عن الواقع ومتناقضة مع الخطاب والثقافة اللذين أنتجاها، "فليس صحيحا –يشير محمد أركون- أن كل الناس متساوون في المجتمعات التي يحكمها هذا الخطاب، بل هناك فروقات مرسخة تقليديا ومضادة لحقوق الإنسان والمواطن بالمعنى الواسع والحديث للكلمة"(20).

إن الإنسان العربي –بشكل عام- محكوم في نمطية تفكيره وعلاقاته بما يسميه حليم بركات بـ"القيم العمودية" وهي علاقات تسير في معظمها، في ضوء طبيعة السلطة، في اتجاه واحد ومن أعلى إلى أسفل، وتكون مبنية على الطاعة والخوف أكثر منها على الحب والاحترام المتبادل وتبادل الرأي، وتؤثر على الأنشطة التي لها علاقة بنمط التفكير وإنتاج المعرفة وانتقالها، فتصبح تبعا لذلك المعرفة متمركزة في مراكز اجتماعية عليا، كالأب والزوج وكبير السن وشيخ القبيلة والرئيس…الخ. يتلقاها الآخرون على أساس أنها حقائق ثابتة وأحكام نهائية لا تقبل النقاش أو التعديل أو الإضافة. ويترتب على ذلك أن يصبح للنص سلطة مطلقة ينقل بأمانة من فرد إلى آخر ومن جيل إلى جيل ويعد مقياسا يرجع إليه في كل جدال محتمل، لا يخضع لا لمتغيرات الزمان ولا المكان، فيغلب على التفكير الحفظ وترديد النصوص دون حوار ولا نقد ولا إعمال للعقل(21).

هذه الأمور جميعها تؤثر كثيرا في طبيعة تعاملنا مع الأبعاد الفلسفية والسياسية والاستراتيجية للميثاق العالمي لحقوق الإنسان. فينظر إليه على أنه استعمار جديد وغزو لثقافتنا ولديننا، ومن تم لا بد من مواجهته بكل قوة وبجميع الوسائل، والتقرب أكثر فأكثر من "توابثنا" و"هويتنا" لأجل وقايتنا من "غوايتنا واستلابنا المحتمل"!

IV ـ الاختراق التعسفي لمنظومة حقوق الإنسان "الأوروبية" للشعوب العربية يحول دون انتشارها:

من ضمن الأمور التي توسع الهوة كذلك بين العالم العربي وحقوق الإنسان هو انعدام الثقة في كل ما يأتينا من الغرب، خصوصا وأن هذا الأخير يعمل على عولمة "حقوقه" وعولمة فهمه وتصوره لها بشكل تعسفي واستفزازي. مما يجعل دولنا وشعوبنا تنظر إلى الأمر كله نظرة ملؤها الشك والتوجس. ويمكن تلخيص مظاهر هذا التعسف والارتياب في الأمر في النقط التالية:

1 ـ عملية إقصاء العرب والمسلمين من المشاركة في وضع الخطاطة العامة لحقوق الإنسان في العالم، خصوصا وأننا نعلم أن جل أقطار العالم العربي لم تحصل على استقلالها السياسي إلا بعد تحرير "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".

2 ـ الاستخدام السياسي والإيديولوجي لموضوع حقوق الإنسان من طرف الدول الغربية حيال الدول العربية، وهو استعمال يصب في اتجاه خدمة مصالحها وبالخصوص الاقتصادية منها.

3 ـ تنامي عداء الشعوب العربية لدول الغرب، من جراء سياستها الخارجية الانتقائية والظالمة، بنصرتها للكيان الصهيوني واعتداءاتها المتكررة ضد العراق ودول عربية أخرى. وكذا من خلال نصرتها للأنظمة العربية –وغيرها- التي تخرق حقوق الإنسان، طالما تخدم مصالحها.

4 ـ الاستمرار في احتضان هيئة الأمم المتحدة من خلال أجهزتها ولجانها للاتفاقيات والإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ومتابعة التزام الدول بها في الوقت الذي فقدت فيه هذه المنظمة مصداقيتها في عيون أغلبية الشعوب العربية.

5 ـ بما أن مضامين المواثيق الدولية لحقوق الإنسان قد صدرت عن الغرب ونمت وترعرعت فيه فإن لها الأحقية في تأويلها بالشكل الذي تراه مناسبا للجميع، وتصديرها إلى كافة الشعوب كما تشاء هي، وكأن هذه الشعوب قاصرة وغير مؤهلة لإنتاج وتأويل مضمون جديد وغير متناقض لحقوق تأخذ بعين الاعتبار البعد الإنساني. هذا الاستعلاء والمركزية الغربية والتأويل الأحادي الجانب، زاد من كره العالم العربي لكل ما يأتي من الغرب.

خاتمــــة:

لا أتمنى أن يفهم من كل ما سبق ذكره، أنه يستحيل تطبيق مضامين حقوق الإنسان على الإطلاق. وإنما المراد حقيقة هو إثارة انتباه العاملين بالمجال الحقوقي والمفكرين والمهتمين بشؤون بلداننا العربية إلى ضرورة الوعي بفداحة الأزمة وتعقيدها، وببساطة تعاملنا مع موضوع كبير كهذا. هناك بطبيعة الحال استثناءات: مفكرون وربما مؤسسات، يتوفرون على قدر كبير من المعرفة العلمية والعقلية يحيطون بالواقع من جوانبه المتعددة ويأخذون بعين الاعتبار الأبعاد المختلفة للموضوع، ولكنني أتحدث عما هو سائد بشكل عام. وما هو سائد، للأسف، من تكرار للأشياء والناس والأفكار والأفعال والسلط، وكذا الجهل بمضامين الأشياء وأبعادها وتغييب العقل سواء في أفكارنا أو في أعمالنا وحركاتنا وتعاملاتنا، سيؤدي لا محالة إلى تعقيد الأمور أكثر وتضخيم الأزمة وبالتالي إبعاد إمكانية عيش الإنسان العربي ضمن حقوق تحفظ كرامته وحياته وحريته.

لقد تعودنا على أخذ ما هو جاهز من أفكار ومحتوى ومشاريع أعمال، وسمحنا لغيرنا أن يفكر ويقرر بدلا عنا، سواء كان هذا "الغير" غربا أو مؤسسة أو أفرادا. وهذا أمر يجعلنا قابعين في مكاننا، نتفرج على الأحداث وسير التاريخ وكفى. لا نتطور أبدا بل نتأخر كثيرا عن ركب الحضارة المعاصرة. لذا ونتيجة لذلك، فإنه من الطبيعي جدا أن تنتهك حقوقنا، سواء داخل بلداننا أو من طرف الدول الكبرىn

 

هوامش

 

(1)  د.محمد عابد الجابري، (الشأن الإنساني في عصر الخوصصة والعولمة – من أجل إعلان عالمي لأخلاقيات العولمة والتنمية)، فكر ونقد، العدد1، شتنبر 1997، ص9.

(2)  أخذت هذا النص لجون لوك من كتاب الديمقراطية وحقوق الإنسان، للدكتور محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نونبر 1994، ص150.

(3) إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، القرن السابع عشر، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، نونبر 1993، ص328-329.

(4)  د.محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نونبر 1994، ص152.

(5) د.حقي إسماعيل بربوتي، (فلسفة الليبرالية والاشتراكية في حقوق الإنسان)، مجلة الوحدة، العدد 63/64 دجنبر-يناير 89/90، ص54.

(6) محمد الأطرش، (العرب والعولمة: ما العمل؟)، مجلة فكر ونقد، السنة الأولى، العدد 7، مارس 1998، ص97.

(7)  المرجع السابق، ص121.

(8)  برهان غليون، (الوطن العربي أمام تحديات القرن الواحد والعشرين: تحديات كبيرة وهمم صغيرة)، المستقبل العربي، العدد 232، يونيو 1998، ص11.

(9)  المرجع السابق، ص12.

(10)  نفس المرجع، ص23.

(11) نفس المرجع، ص21.

(12)  نفس المرجع، ص22-23.

(13)  (تقرير الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي المقدم إلى المؤتمر الثامن)،1997، المستقبل العربي، عدد 232، يونيو 1998، ص103.

(14)  محمد سبيلا، حقوق الإنسان والديمقراطية، سلسلة شراع، العدد 19، وكالة شراع لخدمات الإعلام والاتصال، ص36.

(15)  محمد فهيم يوسف، (حقوق الإنسان في ضوء التجليات السياسية للعولمة: عولمة حقوق الإنسان أم عولمة الفهم الغربي لحقوق الإنسان؟) مجلة المستقبل العربي، العدد 235، شتنبر 1998، ص69.

(16)  شوقي جلال، (اليسار العربي وسوسيولوجيا الفشل)، عالم الفكر، العددان الثالث والرابع، 1998، ص191.

(17)  د.عمر التير، نمط التفكير العربي المعاصر: ملاحظات حول المواءمة بين الحداثة والتراث، سلسلة ندوات، العقلانية العربية والمشروع الحضاري، ص106.

(18)  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1991، ص13.

(19) أخذت هذه الإعلانات عن: محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، نونبر 1994، ص188.

(20)  محمد أركون، (الإسلام وحقوق الإنسان)، مجلة الوحدة، العدد 63/64، دجنبر-يناير 1990، ترجمة وتقديم هاشم صالح، ص15.

(21)  انظر المرجع رقم 17، الصفحة 109.