ص1      الفهرس   المحور 

من أجل عصرنة الفكر الفلسفي بالمغرب

حميد لشهب

لا جدال أن الفكر الفلسفي في المغرب قد عرف في الربع الأخير لقرننا هذا تطورات منهجية ومضامينية لم يسبق لها مثيل. وهناك أسباب موضوعية وأخرى معنوية تقف وراء هذه التطورات. ومع أن محور هذه الدراسة ليس تبيان أسباب هذا التطور، فإن وقفة ولو قصيرة على جملة منها قد تساعدنا على تقصي سبل عصرنة الفكر الفلسفي المغربي.

لا يختلف اثنان على كون حقبة ما بعد الاستعمار قد ساهمت في بناء مدرسة مغربية عصرية، فتحت أبوابها لجل الفئات الاجتماعية(1). ولا جدال أن هذا الفتح قد ساهم بدوره في الإسراع على الانفتاح على ثقافات جديدة، وعقليات جديدة، وفتح المجال لتربية مؤسساتية جديدة، على الرغم من التأثير المباشر للاستعمار على مضامين ومناهج التدريس لحقبة معينة. وإذا كانت الميزة الأساسية التي طغت على المدرسة المغربية في حقبة الستينات هي انفتاحها على العلوم الحقة: رياضيات، فيزياء، علوم حياة الخ، فإن الإيجابية الأساسية الثانية هي كونها اهتمت باللغات وبالعلوم الإنسانية بصفة عامة. وهنا نلمس بالضبط اللبنات الأولى لبداية الاهتمام بتدريس الفلسفة والفكر الإسلامي. وهكذا فقد يمكننا التأكيد على أن التربية المؤسساتية بالمغرب قد ساهمت في التفتح على الفكر الفلسفي العربي والعالمي، على الرغم من كون الفلسفة كخطاب متضمن للنقد، وطرح السؤال في الأماكن الحساسة، قد عرف منذ البداية أيضا تحفظا رسميا اتجاهه، وهو تحفظ لم تعرفه أية مادة تدريس أخرى(2).

أما العامل الحاسم الآخر الذي ساعد على ازدهار الثقافة الفلسفية بالمغرب فهو هذا النوع من الاستقرار السياسي، على الرغم من كل زلاته؛ ذلك أن الفلسفة كتأمل، وبحكم طبيعتها، تحتاج إلى فترات استقرار لكي تنمو وتترعرع. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، وكما قد يوحي به هذا التحليل ضمنيا، على أن الفلسفة لا تنمو إلا في وسط محافظ، إذا كان الاستقرار يعني المحافظة، كما أكد على ذلك فلاسفة كثيرون. بل إن الاستقرار يساعد على التأمل وتأسيس أدوات الفحص والنقد. والملاحظ في تاريخ الفلسفة الأوروبية مثلا، وخاصة الجرمانية منها، هو أن عطاءها يكون أكثر في فترات الاستقرار السياسي منه في فترات عدم الاستقرار.

إن هذين العاملين معا، (هناك من طبيعة الحال عوامل أخرى لا يسمح المجال لذكرها كلها)، قد ساهما إذن في بناء تقليد ثقافي فلسفي له خصوصياته ومكوناته الذاتية، الإيجابية منها والسلبية. وهي خصوصيات لأنها تميزه عن الخطاب الفلسفي الشرقي وعن الخطاب الفلسفي الغربي. والخاصية الأساسية للفكر الفلسفي المغربي هنا هو أنه ليس لا شرقيا ولا غربيا. حاول أن يهضم التيارات والاتجاهات الغربية دون نسيان روافده الشرقية. وهذا لا يعني أبدا أن الفلسفة المغربية تحاول التوفيق بين الشرق والغرب، بل الصحيح هو أنها تحاول أن تنجح حوارا موضوعيا، إيجابيا ومتوازنا بينهما؛ لأن التوفيق مستحيل في الظروف الراهنة لظروف موضوعية سواء أكانت تاريخية أو ثقافية، ولهذا السبب فإن تعايشهما أحسن من تطاحنهما. وأطروحة الحوار هذه واردة على ارض الواقع سواء على شكل ندوات أو دراسات أو لقاءات مختلفة سواء في الشرق أو في الغرب(3).

وخاصية الفكر الفلسفي المغربي، ولربما الفكر المغربي بصفة عامة، المشار إليها أعلاه لا تعني هجانة هذا الفكر أو خضرمته، كما يحلو لبعض النقاد القول(4)، بل يعني قبل كل شيء وأساسا محاولة، أو الاتجاه نحو تجاوز المصادر للفعل العملي على الساحة في الحقل الفلسفي العالمي.

من الصعب بمكان تقديم مقترحات لعصرنة الفكر الفلسفي المغربي الحالي، لأن القضية جد شائكة وحابلة بالكثير من التحديات النظرية والمنهجية، ولكي لا نترك المجال مفتوحا لأي خلط ولا لأي التباس أو سوء تأويل، لا بد من التأكيد منذ البداية أيضا على أن ما سنقوم به لا يعدو أن يكون إلا مقترحات، محكومة بجملة من العوامل، ولربما الدوافع، الموضوعية منها والذاتية. وقد يضيف إليها باحث آخر أو يحذف طبقا للزاوية التي يرى منها وبها الأمور. ومن يقول مقترحات يقول كذلك في نفس الوقت فرضيات وأطروحات عمل معلنة، لا يجب أن تكون بالضرورة صحيحة، وليست مبدئـيا خاطئة. سنلخص إذن مقترحاتنا، دون نية اختزالها، في التالي:

1 – تجاوز النقاشات débats الفلسفية الثانوية والاهتمام بجوهر القضايا الفلسفية الفعلية.

2 – توجيه التأمل والبحث الفلسفي والبحث الفلسفي إلى الاهتمام أكثر بالقضايا الاجتماعية-السياسية = الفلسفة العملية.

3 – إعطاء أهمية خاصة لاجتهادات الترجمة عن فضاءات فلسفية أخرى، وتشجيع مشاريع الترجمة "المضادة" – من الفلسفة العربية إلى اللغات الأخرى.

4 – توحيد الرؤى الفلسفة المغربية دون نية صهرها أو اختزالها في رؤية وحيدة = إنجاح الحوار الداخلي والاعتراف المتبادل باجتهادات الآخرين.

5 – تأمل الصراع الضمني الغير المعلن بين التفكير الفلسفي والتفكير اللاهوتي، ومحاولة تجاوز هذا الحذر اليقظ للفيلسوف من تفشي الشعارات اللاهوتية –استعمال أدوات الفكر النقدي ليس فقط لمساءلة الخطابات اللاهوتية بل لتنوير الواقع كذلك.

سنحاول في الصفحات التالية أن نتطرق بشيء من التركيز إلى هذه المقترحات الخمسة، دون أن ننسى ما قد يكون غير ممكن التطبيق، نظرا لخصوصيات مجتمعنا الثقافية والأخلاقية والتاريخية الخ.

1 – تجاوز النقاشات débats الفلسفية الثانوية والاهتمام بجوهر القضايا الفلسفية الفعلية:

لعل المتتبع للنقاش الفلسفي المغربي المعاصر قد يلاحظ أن طاقات فكرية جد مهمة تهدر، أو تبذر، في نقاشات جانبية؛ حتى ليمكن القول على أن الساحة الفلسفية المغربية شغوفة بالشطحات اللغوية، والرقصات الفكرية، في الوقت الذي كان ممكنا فيه الانصراف للتأمل والبحث عن الحقيقة كرسالة سامية للفلسفة منذ ظهورها(5). والأساسي في المسألة، وقد ننحو هنا لاستعمال أدوات تحليلية خارجة عن الفلسفة، هو أن ما يطغى على نوعية الخطابات الفلسفية المنتوجة في المغرب هو ذاك النوع من المبارزة البرهانية والتعصب، ليس المذهبي، لأننا لم نصل بعد إلى مرحلة إنتاج مذاهب فلسفية مغربية، بل التعصب إلى ينبوع المنهل. بعبارة أخرى فإن النظرة الإبستمولوجية الحذرة لواقع مساجلاتنا الفلسفية توحي بنوع من استحواذ الرغبة في قول الكلمة الأخيرة، وإقحام المخاطب (الخصم) في زاوية بعينها، والحكم عليه بممارسة الخطأ في أقصى الحدود، والسقوط فيه في أحسنها(6).

وفي هذا الإطار فإنه لا بد من الإشارة إلى أن خطابنا الفلسفي شغوف بالتحليل والتأويل والتعليل أكثر منه بالتأمل وفسح المجال ليس للعودة إلى الأصل، بل لتجاوز هذا الأخير، وفتحه على المستقبل بتوحيله (من الوحل) في أرض الواقع، قصد إنتاج تأمل فلسفي، وليس ممارسة هدرجة فلسفية. بمعنى أدق إن الحاجة ماسة للتسلح بملكة النقد الفلسفي القح، وليس بممارسة نقد تصفية الحسابات، سواء الشخصية منها أو الإيديولوجية. ولا يمكن ممارسة النقد الفلسفي إلا بممارسة النقد الذاتي الموضوعي. أي تصفية الحسابات مع النفس، كما نصح بذلك سقراط في عبارته الشهيرة: "اعرف نفسك بنفسك"(7).

والمقصود بالتأمل الفلسفي هنا ليس ذاك التأمل الساذج، الذي يعد دورانا حول النفس، والسقوط في نرجسية فكرية لا تسمح بالمضي قدما إلى الأمام، بل تفرض البقاء خارج التاريخ؛ بل إن المقصود هو ذاك التأمل الذي يجعل من طرح السؤال منهجا ومن الوصول إلى الحقيقة هدفا. ذلك أن التأمل الحق هو تلك القوة التي تمكننا من فحص الدائرة التي نوجد فيها بالخروج من محور الدائرة لمحاولة موضعتها موضعة موضوعية في إطار الدوائر الأخرى.

والاهتمام بالقضايا الفلسفية، الكلاسيكية منها أو المعاصرة، لا يعني، كما هو الحال عليه الآن، شرح أو إعادة إنتاج إشكالية فلسفية بعينها، لأن ذلك اجترار، وتحصيل حاصل، بل الاجتهاد فيها ورؤيتها بنظارات مغربية.

ولا بد من الإشارة هنا أن الحاجة ماسة كذلك لاختيار القضايا الفلسفية ذات الأولوية للأسباب التي نعرفها. لا داعي كذلك للقيام بجرد القضايا التي يجب أن تحظى بأولوية الاهتمام، لأننا مقتنعون على أن كل باحث يعي بما فيه الكفاية بأهم وأهمية القضايا التي يجب عليه أن يتأملها.

2 – توجيه التأمل والبحث الفلسفي إلى الاهتمام أكثر بالقضايا الاجتماعية-السياسية = الفلسفة العملية:

من بين الأحكام المسبقة التي يكون الفيلسوف ضحيتها، سواء أكان في الرباط، برلين، موسكو، القاهرة، نيويورك، دمشق أو دكار، هو غيابه عن ساحة الفعل العملي، وابتعاده عن المشاغل اليومية لمجتمعه، وانزواؤه في أبراج تأملاته المتعالية، بعيدا عن العالم. وإذا كان هذا الحكم المسبق خاطئا في أساسه، لأن الحقيقة هي كون المجتمع هو الذي يدفع بالفيلسوف إلى احتراف التأمل من أجل تطويره (أي المجتمع)، وإذا كانت المجتمعات الغربية قد انتبهت إلى الدور الفعال والضروري للفيلسوف، وخصصت له مكانه ومكانته، فإن الملاحظ العابر قد يستنتج أن الفقيه عندنا والدجال والنصاب معروف أكثر من الفيلسوف. وإذا لم يكن من الضروري أن نستعرض أسباب هذه الواقعة، فإنه من اللازم أن نشير إلى أن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق الفيلسوف عندنا هو شرح دوره ومهمته لعامة الناس بالالتصاق أكثر بمشاكلها وهمومها والتنظير لها. فلا يفيد الفيلسوف ولا يستفيد هو نفسه إذا قضى زهرة عمره في سبر أغوار قضية أو مفهوم فلسفي ليست له أية علاقة بالاهتمامات المجتمعية لوسطه. فليس هناك أي معنى مثلا في قضاء سنوات عديدة في تأمل قضية العدالة فلسفيا إذا لم يكن هذا الاهتمام مسبوقا بالتنظير للمساواة ولمجتمع متوازن، ليس فقط في فئاته، بل وأيضا في ثقافاته وأخلاقياته أيضا، وبالتنظير للحرية والواجب والحق الخ. كما يجب على الفيلسوف المغربي أن يتكلم لغة شارعه، ويتجاوب مع نبضاته. فإذا كان الفيلسوف، والباحث في العلوم الإنسانية بصفة عامة، في الغرب قد استطاع أن يفرض ثقافة فلسفية أو سيكولوجية أو سوسيولوجية شعبية، فلأن الأجيال السابقة من الباحثين كانت قد هيأت العامة إلى استقبال خطابات متخصصة بطرق مبسطة، وبآليات في متناول الجميع. قد يعترض معترض بكون المجتمع المغربي مجتمع غير قارئ لأن معدل الأمية أكبر بكثير مما هو عليه في الغرب مثلا، أو على أن الفئة القارئة ليست ميسورة الحال لاقتناء المؤلفات الفلسفية على الرغم من أثمانها المنخفضة(8). إننا نؤكد على أن ما هو حاسم عند القارئ بصفة عامة في المغرب هو تطلعه لمؤلفات، ليست تبسيطية، بل في متناول فهمه. وما ينفر الكثير من القراء هو هذا الطابع التجريدي المغالي في طريقة الكتابة عند غالبية فلاسفتنا، وخلو النصوص من المرق المغذي في القراءة، هذا المرق المتمثل في فن الخطاب من استعارة وتشبيهات، وملء النص بالحياة والحركة لكي يصبح ممتعا في قراءته ومفيدا في مضمونه. فقد يفيد نص فلسفي مكتوب بطريقة هزلية أو ساركازمية Sarcasme أكثر من نص مكتوب بطريقة حازمة(9).

إن صورة الفيلسوف في الشارع المغربي هي صورة ذاك المواطن الذي يحمل على عاتقه هموم الدنيا كلها، والذي لا يعرف للهزل ولحب الحياة أي معنى(10). والحقيقة أن الفيلسوف هو محب للحياة، ما دامت هذه الأخيرة تعني البحث عن الحقيقة ومحبتها. فالهزل الجدي في الفلسفة هو خير من الجد الهزلي، لأن ينير لي الطريق، ويفسح لي المجال لأصبح مجدا وجديا، أما الثاني فإنه يدفعني، سرا أو علانية، لإعلان الحداد على الجد. ومن بين الفلاسفة الأوائل، في تاريخ الفلسفة الغربية، الذين احترفوا الهزل الجاد هناك سقراط والسفسطائيون من قبله. وتاريخ الفكر الفلسفي الغربي حافل بالفلاسفة من هذا النوع.

من بين المهام الأساسية للإقلاع بالبحث الفلسفي في المغرب هناك مسألة التجرؤ على النبش في المواضيع "المحرمة" التي تعتبر قيودا في معصم مجتمعنا، تشله عن الحركة أو تفرض عليه الحركة في اتجاه بعينه. ولعمري أن مثل هذه المواضيع جد كثيرة. وهذا النبش لا يكون دون أخطار سواء أكانت فيزيقية-شخصية أو فكرية. لكن بدونه (أي النبش) سوف لن يكون باستطاعة البحث الفلسفي أن يقوم بتلك الخطوة التي يجب عليه أن يقوم بها في طريق البحث عن الحقيقة.

أما على المستوى السياسي فإننا لم نطور بعد فلسفة سياسية مغربية يكون من واجبها ليس السقوط في شراك الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية والحقوقية القائمة، سواء الحاكمة منها أو التي تنتظر دورها، ولا في شراك اللهث نحو بناء "المدينة الفاضلة" ليكون الفيلسوف رئيسها، أو ابتغاء رزق أو استرزاق من بيع نظريات ومفاهيم فلسفية في المجامع السياسية والتجمهرات الخطابية؛ بل إن مهمة الفيلسوف المغربي في هذا الميدان هي قيامه بنوع مما يمكننا أن نسميه "الإبستمولوجية السياسية"، بتحليل مضامين إيديولوجيات الأحزاب والنقابات الخ(11)، وتنوير الرأي العام وتنبيهه إلى الانزلاقات التي حدثت، أو التي تحدث، في ممارسة السلطة. بمعنى آخر، فإن مهمة الفيلسوف المغربي هي أن يبقى حكما، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، في مجتمعه وعلى زمانه. ليس خاف علينا أن الفيلسوف هو إنسان، آدمي، من لحم ودم، له متطلبات عضوية ونزوات إنسانية، لا يمكنه أن يقمعها في مجتمع استهلاكي جامح؛ لكن يجب التنبيه إلى أن الفيلسوف، وبحكم كونه فيلسوفا، لا بد له أن يتسلح دائما بالعقل، وأن يركن إلى حقيقة الحقائق الأساسية في تاريخ الفكر الفلسفي العالمي، والمتمثلة في كون الفليسوف يكون في أحسن الظروف يضمن لنفسه قوت يومه، وفي الكثير منها يضطر لممارسة مهنة أخرى للعيش. يمكن للفيلسوف إذن أن يكون كل شيء إلا أن يكون غنيا ماديا. أحدث في تاريخ الفكر البشري أن كان هناك أمير أو ملك فيلسوف أو يحب الفلاسفة؟(12).

إن الفكر الفلسفي المغربي المعاصر حافل بالهمسات والغمزات النقدية للمجتمع. لكنها غالبا ما تكون همسات وغمزات مكفنة في أثواب فضفاضة، قد تلبس من طرف كل أحد، دون أن تصلح لأي أحد ولا لكل أحد، ودون أن تستهوي كل أحد ولا أي أحد. إن الخطاب الفلسفي المغربي المتعلق بالوسط الذي يعيش وينمو فيه هو خطاب هماس، غمار، لا يصلح والحالة هذه أن يعتبر خطابا فلسفيا، بل يجب اعتباره هوسا فلسفيا.

3 – إعطاء أهمية خاصة لاجتهادات الترجمة عن فضاءات فلسفية أخرى، وتشجيع مشاريع الترجمة "المضادة" = من الفلسفة العربية إلى اللغات الأخرى:

قال الشاعر الفرنسي فيكتور هيجو مرة إن المترجمين بناة الجسور التي صارت الشعوب تعبرها لتبادل الزيارات فيما بينها. وقد كان الشاعر الروسي بوشكين يعتبر المترجمين كالخيول التي تنقل الحضارات. لا شك إذن أن عملية الترجمة من بين السبل الأساسية لازدهار التفكير الفلسفي العالمي. ولا شك أن الفكر الفلسفي العربي كان السباق إلى ربط جسور التواصل الفكري والثقافي بين التراث اليوناني والفكر الغربي-المسيحي لأوائل العصر الوسيط. ونعيش نحن في المغرب في نهاية القرن العشرين نفس الظاهرة تقريبا. لقد انتبه الفكر الفلسفي المغربي المعاصر إلى أهمية الترجمة، والانفتاح على آفاق فكرية جديدة. ونلاحظ في الساحة الفكرية ترجمات أمهات النصوص الفلسفية الغربية(13). وعلى هذا المستوى لا بد أن ندلي بملاحظتين أساسيتين:

1 – انحصار غالبية اجتهادات الترجمة على الفرنكفونية. إن النقص الأساسي الذي يلاحظ هنا هو أننا نقوم بترجمة ما ترجم عن لغات أوروبية أخرى إلى الفرنسية. ولا جدال أن هناك ضياعا، صغيرا أو كبيرا، لروح النص الأصلي. لا بد إذن من التفكير الجدي في اقتحام عوالم لغوية أخرى، وتجربة الترجمة عن اللغات الأصلية(14)، وتشجيع الطلبة والباحثين الشباب على الاهتمام أكثر وأكثر بأكثر من لغة أوروبية لكي نحدث هذه القفزة النوعية في الترجمة، التي نحن في حاجة ماسة لها (القفزة)، لكي نكمل معرفتنا للآخر، ونموضع حوارنا-صراعنا الحضاري التاريخي، والثقافي البرغماتي معه في موضعه الصحيح(15). ولعمري إن الترجمة المتكاملة الواعية والهادفة قد تساعدنا على تخطي تلك العقدة النفسية التي نشعر بها اتجاه الآخر. والواقع، وبحكم احتكاكنا المباشر واليومي بالفكر الغربي المعاصر، هو أن المفكر العربي عامة، والمغربي خاصة قد أقحم المفكر الغربي في إشكالية حضارية وثقافية لم تطرح على الغربي على امتداد القرون العشرة الأخيرة. وتتمثل هذه الإشكالية في كون المفكر الغربي قد انتبه إلى كون الظروف المثالية قد اجتمعت للمفكر العربي قصد تجاوز الفكر الغربي. ذلك أن أغلبية مفكرينا يضبطون على الأقل لغة أوروبية إلى جانب اللغة العربية، وقد يسمح لهم هذا الضبط، على الأقل نظريا، بإنتاج فكر أصيل. ولعل مشكل المفكر الغربي في هذا الميدان هو كونه، وبعد التراجع الكبير للاستشراق، لا يعرف إلا القليل مما يروج في الساحة الفكرية العربية والمغربية، بينما للمفكر العربي والمغربي دراية كافية بما ينتج في الغرب؛ وله في بعض الأحيان تمكن كاف من تخصص غربي ما أكثر من الغربيين أنفسهم. فكم من كانط وكم من ماركس وكم من سارتر، إلخ، عندنا؟ وإطلالة قصيرة على بحوثنا الأكاديمية وأطروحات طلبتنا خير دليل على ذلك. مجمل القول فإن التمكن من لغات أجنبية أخرى من غير الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، والقيام بترجمات عن الأصل، هو من بين السبل الأساسية لتطوير الفكر الفلسفي المعاصر في المغرب(16).

2 – الترجمات المضادة: من أولويات العمل الأساسية الأخرى الملقاة على عاتق الفلسفة المغربية المعاصرة هناك مسؤولية نشر الفكر المغربي خارج الحدود الجغرافية المغربية والعربية عن طريق الترجمات من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، وخاصة الأوروبية منها. فالنصوص الممتازة والدراسات الجادة والبحوث المتميزة متوفرة في الساحة. ومسؤولية إنجاز هذا المشروع الحضاري والثقافي ملقاة ليس فقط على عاتق الفيلسوف، بل قبل كل شيء على عاتق صاحب القرار، الذي بإمكانه أن يوفر الظروف المادية لإنجاز مثل هذه المشاريع. ويقودنا هذا إلى اعتبار توفير الظروف الملائمة للقيام بترجمات مضادة من مهام السلطات الوصية، لأن نجاح مثل هذه المشاريع لا يشرف فقط نشاط البحث العلمي والثقافي والفلسفي في المغرب، بل وأيضا وجه السلطات. فالمغرب، وكباقي الدول الأخرى، يبحث باستمرار لتلميع صورته في الغرب، والتعريف بثقافته وحضارته. فالمنتوج الثقافي المغربي يجب أن يحظى بنفس العناية التي تحظى به منتوجات استهلاكية أخرى سواء أكانت مواد استهلاكية أو سياحية الخ. لقد اجتهد الفيلسوف والباحث المغربي بصفة عامة أكثر من أي وقت مضى. وهو اجتهاد يتم على حساب شروط شخصية فردية، في غياب أي تنسيق واهتمام فعلي بالباحثين، وخاصة الشباب منهم. ما يزال الباحث المغربي في العلوم الإنسانية على وجه الخصوص يعمل بسخاء وبدون مقابل ولوجه المعرفة، ويعيش إحباطاته ونكساته وتعثراته المادية والمعنوية في وسطه الضيق: هو وزوجته وزملاء العمل. لا يمكن والحالة هذه أن ننتظر الكثير من مستقبل البحث العلمي في بلادنا، لأن النخبة التي حملت مشعل التنوير سوف لن تستطيع إكمال المشوار وسوف لن تستطيع كذلك توريث المشعل للأجيال القادمة لأن ظروف العمل الجيدة غير متوفرة(17).

إن أهمية الترجمة المضادة ستقود لا محالة إلى تقوية الحضور المغربي على الساحة الثقافية العالمية، في زمان عولمة قد تأتي على الأخضر واليابس في العالم، ولعل مهمة المفكر هو تنبيه صاحب القرار إلى هذه الأهمية، وإقناعه على تشجيع الترجمة المضادة، لأن نتائجها سوف لن تكون إلا إيجابية على المغرب والمغاربة. لكن لا يجب أن تكون فقط من أجل المباهاة والتلويح بشارات الفكر والمعرفة، بل يجب أن تكون قبل كل شيء، وكما قلنا سابقا، مشروعا حضاريا على المدى الطويل، لأن الترجمات المناسباتية المتقطعة لن تأتي بأكلها.

4 – توحيد الرؤى الفلسفية المغربية دون نية صهرها أو اختزالها في رؤية وحيدة = إنجاح الحوار الداخلي والاعتراف المتبادل باجتهادات الآخرين:

إن نظرة إبستمولوجية معمقة لواقع ما ينتج في المغرب في الميدان الفلسفي توحي بأنه ليس هناك أي تنسيق وتكامل في الرؤى. ولعمري إن الإنتاج الفلسفي المغربي المعاصر يشبه إلى حد ما حكاية الزرابي في بوادينا. غير أن الفرق الوحيد هو أن حائكات الزرابي يعملن بمنظور متكامل وبناء ذهني موروث منذ عصور، ليكون المنتوج النهائي زربية مغربية مزركشةتضاهي أعرق الزرابي العالمية. والزربية الفلسفية المغربية لأيامنا هذه تظهر في بداية مشوارها جد غنية لأن المادة الخام التي تدخل في حياكتها غنية من حيث الألوان واختلاف الخيوط. ما يغيب، أو ما يجب إنجاحه، هو نوع من التنسيق وتوحيد الرؤى للاتفاق على الزربية الفلسفية التي يجب أن تحاك. فالواقع الفعلي يظهر على أن هناك زربيات عديدة في طريق الحياكة. وخطر تعدد الزرابي في الآونة الراهنة هو احتمال عدم إكمال أية زربية، أو حياكة زرابي أحادية سوف تفقد كل قيمتها بفعل الزمن. فالتقوقع على الذات، والاحتراس المبالغ فيه من الآخر، وعدم تسريب المعلومات عن خلية العمل التي يكون الباحث بصددها، هي من العوامل الأساسية التي تخل بتطور بحث فلسفي يحسب له حسابه في المغرب.

من هنا فإن الحاجة باتت جد ماسة من أجل بناء حوار داخلي بناء بين المهتمين بالفلسفة عندنا. وما نقصده بالحوار هنا هو ليس فقط الندوات، حيث تلقى العروض وتناقش ويدافع عنها، وتهاجم، وتستحب أو تنبذ؛ بل ما نقصده هو قبل كل شيء بدء تقليد فلسفي يتمثل في إنشاء مجموعات عمل مكونة من أكثر من شخص لبداية التفكير الجماعي من أجل إنجاح الفجر الفلسفي المغربي. والاتفاق على استراتيجيات عمل، والتنازل التدريجي عن الأنانيات والحساسيات الشخصية لصالح العمل المتكامل. إن عصر الفارس الواحد، وعصر عنترة الفلسفي قد مر. والحوار الداخلي المشار إليه أعلاه، والاعتراف المتبادل بكفاءات الآخرين، والبحث عن أماكن إضافة عربية أو عجلة لقطار الفلسفة المغربية المعاصرة، وليس الموت في محاولة صناعة قطار خاص، هي كلها عوامل وتحديات يجب على البحث الفلسفي في المغرب أن يواجهها لكي يخطو خطوات إلى الأمام. فعصر الفلاسفة "الكبار" قد مر، وحل محله عصر مجموعات الفلاسفة الكبار.

إن الميزة الأساسية للعمل الجماعي هي صهر الاختلافات والقيام بتلحيمها في كل متكامل يجد فيه كل واحد ضالته، دون تقليص أو حذف أو اختزال أو إقصاء. فالساحة الفكرية والثقافية المغربية أرحب وأوسع مما يعتقد، تسع لكل الكفاءات. إضافة إلى كون الباحث سيكون معفى من التفكير الشمولي في موضوعه أو إشكاليته أو أطروحته لكي يتفرغ إلى البحث الدقيق، وتعميق نقطة بعينها. فالمنظور الشمولي الذي كان معمولا به في السابق قد أكل الدهر عليه وشرب، لأنه لا يقود إلا إلى بحوث فضفاضة شمولية وغير دقيقة. يجب إذن على الشمولية الكلاسيكية الفردية في البحث أن تترك المكان لشمولية جديدة جماعية، توزع فيها الأدوار بين أهل الاختصاص لإنتاج خطاب فلسفي عتيد.

إن مستقبل البحث الفلسفي المغربي يطالب بفسيفساء فلسفي متكامل، واع، مفكر فيه، منسق، وليس بأعمال أحادية منهوكة وناهكة. والحوار الداخلي والعمل الجماعي وتوحيد الرؤى من أجل بناء متكامل هي من بين الأدوات التي يمكن أن تساعد على إنجاح هذه الزخرفة الفلسفية التي تنتظرها منا الأجيال القادمة.

5 – تأمل الصراع الضمني الغير المعلن بين التفكير الفلسفي والتفكير اللاهوتي، ومحاولة تجاوز هذا الحذر اليقظ للفيلسوف من تفشي الشعارات اللاهوتية الكهنوتية = استعمال أدوات الفكر النقدي ليس فقط لمساءلة الخطابات اللاهوتية بل للتنوير كذلك.

تميز القرن العشرون بظهور حركات سياسية دينية مغايرة في هياكلها وتوجهاتها الإيديولوجية للحركات الدينية التي عرفتها القرون السابقة سواء في العالم الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي الخ. ولقد احتدم الصراع، في العالم الإسلامي، في الخمسين سنة الأخيرة على السلطة بين الحركات الدينية والأجهزة القائمة. وقد كان نجاح "الثورة الإيرانية"، وقيام "جمهورية" إسلامية فاتحة عهدا سياسيا جديدا في عالمنا المسلم. وإذا كان المغرب، وللظروف التي لم تعد خافية على أحد، قد استطاع إلى حد الساعة ضبط تطور هذه الحركات، مرة بالترغيب ومرة بالترهيب، فإن الواقع الفعلي يظهر على أن هناك غليانا تحتيا حقيقيا لهذه الحركات، متعطشا للسلطة أو يحاول فرض اقتسامها. والإشكالية الأساسية المطروحة على الفيلسوف المغربي في هذا الإطار هي محاولة عقلنة هذا الصراع، وتحليله في عمقه، وأخذ موقف واضح منه، للخروج من ذاك الغموض والتريث الحذر الذي يعيشه اتجاه ما يدور سياسيا في مجتمعه(18). ويكمن الغموض المذكور في كون الكثير من فلاسفتنا ومفكرينا إما أنهم يضمرون تضامنا خفيا مع هذه الحركات، ويتجلى ذلك في بعض النصوص التي تنسب إلى الفلسفة، والتي تغازل بوضوح هذه الحركات، وإما أن هناك رفضا مضمرا لها. بعبارة أوضح، على الفيلسوف أن يفرض نفسه كطرف ثالث، ليس للجري وراء السلطة، بل لمحاولة بناء قناة تواصلية بين السلطات القائمة والحركات السياسية الدينية من أجل تواصل أنفع وأعمق وأعقل على كل المستويات.

إن روح عصرنا المغربي الحالي تطالب الفيلسوف أكثر من أي وقت مضى بأخذ المواقف الصارمة والواضحة من القضايا العامة التي تشغل المجتمع. وقد كان هذا التكتيك هو الذي ساعد الحركات السياسية الدينية على تقوية نفسها تأطيرا ومنهجا، لأنها وبالميكانيزمات المعروفة استطاعت أن تتجاوب مع الجماهير، واستطاعت أن تعبر في خطاباتها وكتاباتها عن هذا السخط الشعبي الكبير اتجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ومهمة الفيلسوف الحالي هي المغادرة الفورية لأبراج تأملاته للقضايا الميتافيزيقية، لأننا لسنا في حاجة إليها بعد، للاعتناء أكثر بالفلسفة الاجتماعية والسياسية والسيكولوجية، وتحليل الواقع بموضوعية وشفافية، واقتراح حلول لمشاكل المجتمع.

وعلى هذا الأساس فإن المواجهة، إذا بقينا سلبيين، أو التواصل، إذا كنا إيجابيين، سيكونان على ثلاثة مستويات: التواصل مع أصحاب القرار الحاليين، بغض النظر عن إشكالية مشروعية أو عدم مشروعية سلطتهم، والمطالبة بفرض حوار وعقد pacte اجتماعي يلتزم بتطبيقه واحترامه، والتواصل مع الحركات السياسية الدينية بفتح خنادق نقاش جديدة، وتوجيه الحوار توجيها اجتماعيا سياسيا دنيويا واضحا، لإزالة الهالة القدسية الكهنوتية اللاهوتية على الخطاب السياسي الديني، لكي يصبح خطابا سياسيا عصريا. فإذا كان هذا الخطاب يؤكد حاليا ما لله للوصول إلى ما للقيصر، فإن مهمة الفيلسوف هو أن يصحح الطرح لأن جوهر الإشكالية هو توضيح ما للقيصر، وتحديد ما له والمطالبة بما عليه، وتركه أمام الله وجها لوجه، ما دامت الخاصية الأساسية للإسلام هي بالضبط هذا التأكيد الكبير على العلاقة الشخصية الفردية الخاصة بين الله وعبده. لا يحق لي أنا كإنسان أن أطالب أخي الإنسان بما له اتجاه الله، لأنني بهذا أسلبه حريته واختياره، وبالتالي مسؤوليته أمام الله من جهة، ولأنني لست وصيا ولا محاميا ولا ممثلا لمصالح الله على الأرض(19). ذلك أن كل إنسان إنسان هو مسؤول أمام الله، وحر في تصرفاته الدنيوية أمامه. ما يجب الوقوف له بالمرصاد في هذا الإطار هو عدم قبول سلب الشعب، والإنسان العامي، مسؤوليته وحريته أمام الله، وبالتالي مسؤوليته أمام قدره ومصيره النهائي كإنسان، كما سلبت منه حريته الاجتماعية ومسؤوليته الحضارية من طرف السلطات الوصية، حتى وإن كانت كل المؤشرات الحالية تنم عن نوع من الإفراج العام(20). إن أكره ما قد يصيب شعبا ما هو أن تسلب إرادته المادية والمعنوية الروحية، وأن يبقى شعبا قاصرا، يختار له، ويقرر له. وأخيرا التواصل مع المجتمع في كل أنسجته. وقد يكتسي التواصل مع المجتمع طابعا آخرا، ليصبح تواصلا حقيقيا فيزيقيا، أو ما يسمى في الأدبيات الغربية الحالية: الفلسفة الشعبية(21).

لقد نادت بعض الأقلام، بسبب توجهاتها الإيديولوجية وقناعاتها الفكرية، إلى إعلان الحرب ضد الحركات السياسية الدينية في العالم العربي الإسلامي، تحت ذريعات متعددة، ومن بينها على الخصوص كون هذه الحركات تفرض نظرة أحادية للكون، وتسعى لتطبيق نموذج وحيد الطرف، وبالتالي فإنه بالإمكان تأطيرها في خانة الحركات الغير المتسامحة، التي لا تقبل الاختلاف ولا تقبل الرأي الآخر. وإذا كان هذا الحكم لا يصح منطقيا على كل الحركات السياسية الدينية، فإن الأقلام "العلماوية" تسقط هي نفسها في نفس فخ عدم احترام الرأي الآخر، وبالتالي السقوط دون وعي في شباك عدم التسامح. والمطلوب هو أن يعمل الفيلسوف والمفكر على إعادة تأصيل أخلاقيات النقاش الثقافي-السياسي في الواقع المغربي والعربي، بفسح المجال لاكتساب عادات نقاش بناءة، يستفيد منها المتناقشون أو يفترقون بالاتفاق على معاودة اللقاء، وليس بإعلان الحرب، واختيار خنادق القتال. إن المجتمع المغربي المعاصر سوف لن يتحمل أية أخطاء ناتجة عن النزوات والمشاجرات الإيديولوجية، لأن المخاطر والتحديات التي تواجه هي أكثر وأخطر من النزعات الطائفية الهامشية التي لا يستفيد منها أي أحد.

إن أهم شيء مطروح على الفيلسوف المغربي، في اعتقادنا، هو إعادة تحليله لمفهوم السلطة(22)، في كل أبعاده وجوانبه، لأن الحركات السياسية، بغض النظر عن توجهاتها واختياراتها الإيديولوجية، ما تزال تفهم السلطة كتشريف، في الوقت الذي أصبحت فيه في المجتمعات الديمقراطية تكليفا ومسؤولية حضارية وإنسانية.

لا بد من الإشارة إلى شيء جد مهم لم ينتبه إليه أحد من قبل، على ما نعرف، في العلاقة التي تجمع، أو تفرق، بين المفكر عامة والفيلسوف خاصة، وبين الحركات السياسية الدينية: إن اليقظة الحذرة التي تطغى على أغلبية مثقفينا اتجاه هذه الحركات تجد جذورها في بناء نفسي، وتطور وجداني مغمس إلى النخاع الشوكي في ثقافة شعبية دينية على يد شيوخ وأئمة وعلماء حديث أو سنة. وبهذا فإن هذه اليقظة الحذرة لا تعدو أن تكون سلوكا نفسيا انفعاليا لا يزال له مفعوله، على الرغم من أن المفكر قد يكون قد تجاوز على مستوى الفكر والسلوك اليومي تأثير هذه التربية الاجتماعية.

إن فرض أو تقديم أخلاقيات جديدة للحوار، سوف تفيد في المقام الأول الحركات السياسية الدينية، إذا كانت تريد لنفسها الاستمرار. من واجب هذه الحركات أن تنفتح على العصر، لا أن تطالب العصر أن ينفتح، أو أن ينغلق، عليها. ومن واجب الفيلسوف أن يساعد هذه الحركات على القيام بهذه الخطوة لأنه أكثر دراية منها،بحكم كل عوامل التفتح على العصر التي فرضت عليه باحترافه للفلسفة، والتي سبقها في التعرف عليها وممارستها. وهذا يعني بكلمة أخرى أن التحدي الكبير الذي يواجه الفيلسوف والسياسي الديني في آن واحد هو تقديم إسلام حديث، عصري، متسامح، متفتح، عالم، وليس إسلاما محافظا كهنوتيا متأخرا. لا بد على الفيلسوف أن يعري إذن في تحليلاته عن هذا الفرق الجوهري الموجود بين الحركات السياسية الدينية وبين الدين الإسلامي، وتحليل تلك الشرعية الوهمية التي تزعم هذه الحركات امتلاكها للدفاع عن الإسلام، وقمطرة نفسها كالفرقة الناجية، واعتبار الفرق الأخرى هالكة، ظالمة الخ. إن مهمة الدفاع عن الإسلام كدين وعقيدة لا يجب أن تحتكر لا من طرف الحركات الدينية السياسية، ولا من طرف السلطات القائمة، بل إنها مهمة ملقاة على عاتق كل مسلم، وكل من ولد مسلما. بالإضافة إلى هذا فإن الإسلام ليس في خطر(23)، كما تزعم هذه الحركات، بل على العكس من هذا فإنه يعتبر على ذلك الخطر المتخيل. إن روح الإسلام وماهيته وما يتأسس عليه من مبادئ باستطاعتها الدفاع عن نفسها بنفسها، لأنها مؤسسة على أسس أمتن وأعقد وأعمق مما يعتقد.

خلاصة القول: يظهر أننا قد حملنا الفيلسوف المغربي المعاصر مسؤوليات كثيرة ومعقدة. والحقيقة أننا لم نحمله شيئا، لأنه، وباحترافه لمحبة الحكمة، قد حمل نفسه هذه المسؤوليات. إن امتهان الفلسفة وممارستها ليس فقط كنشاط مهني، بل وأيضا كمهمة حضارية وإنسانية، هو من بين السبل الأساسية التي من شأنها أن تساهم في تحديث وعصرنة مجتمعنا؛ ليس فقط لأنها تشجع على استعمال العقل النقدي في رؤية الواقع، بل لأنها تعبد الطريق للأجيال القادمة من الفلاسفة والمفكرين لكي يساهموا في تطوير وتثوير العقلية المغربية لوعي ذاتها زمانهاn

 

 هوامش

(1) انظر ملف العدد 12 من فكر ونقد،التربية والتعليم: بين الهوية والثقافة وتحديات العولمة، أكتوبر 1998.

(2) انحصار تدريس الفلسفة كمادة أكاديمية في كليتين فقط (الرباط وفاس) في الوقت الذي انتشرت فيه الكليات والجامعات في كل مكان في المغرب.

(3) عضوية الجمعية الفلسفية المغربية في الجمعية الفلسفية العالمية هي بادرة جد طيبة.

(4) استجواب لحسن حنفي لجريدة الاتحاد الاشتراكي.

(5) انظر مجلة مدارات فلسفية، العدد الأول، مقال الأستاذ طه عبد الرحمان، (اليقظة الفلسفة المغربية ودرء آفة التقليد).

(6) محمد بلال أشمل، "الفلسفة وسؤال المغرب وتحولاته الثقافية والفكرية"، جريدة المنظمة، 19 و26 غشت 1998.

(7) عبد الحي أزرقان، "في معنى وشروط: اعرف نفسك بنفسك"، مدارات فلسفية، العدد الأول.

(8) انظر الاستجواب الذي أفرده وزير الثقافة لدورية يصدر بالمغرب، العدد السادس، شتنبر 1998. وهو استجواب مثير تتداخل فيه الحجج وتتقاطع فيما يتعلق بصناعة وترويج الكتاب في المغرب، وبعدم التنظيم المحكم لهذا القطاع.

(9) برع في هذا الفن السيكولوجي واللساني ميشال طاردي. انظر كتابه: Le professeur et les images, PUF, 1972.. وقد كان غوبول يلجأ إلى نفس التقنية في نصوصه، ويستعملها في محاضراته.

(10) حضرت إلى ذهني هنا واقعة معاشة: بعد حصولي على الباكالوريا، التقيت بإحدى صديقات الدراسة، ودار الحديث عن اختيار شعبة الدراسة. وعندما علمت أنني اخترت الفلسفة، كان رد فعلها العبارة التالية: "مسكين!".

(11) مقالة لنا تحت عنوان: البعد السيكو-سيميائي لشعارات المؤتمر الرابع لحزب الاستقلال.

(12) هناك استثناء وحيد في التاريخ المعاصر، ويتمثل في الأمير الفيلسوف نيكولاوس الليكتنشطايني، وهو من بين مؤسسي المعهد العالمي للفلسفة بالليكتنشطاين، ورئيسه الحالي.

(13) تعتبر سلسلة دفاتر فلسفية التي يشرف عليها عبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا من الخطوات الجبارة في هذا الاتجاه.

(14) لنا مشروع ترجمة اربعة كتب تمثل اربعة اتجاهات فلسفية جرمانية، سينشر الكتاب الأول من هذا المشروع في مستهل السنة القادمة: الله كبرهان على وجود الله. إعادة بناء فينومينولوجي للبرهان الأنطولوجي على وجود الله، ليوسف سايفرت.

(15) انظر دراستنا: "في أفق قرن جديد من الحوار-الصراع بيننا وبين الغرب"، جريدة المنظمة، 11 و12 أكتوبر 1998.

(16) انظر مقالتنا بالفرنسية: Tu as dis bilinguisme! Enseignement?، مجلة قضايا تربوية، العدد الرابع، 1991.

(17) انظر كتابنا: إبستمولوجية علوم التربية وعلوم التربية العربية الواقع والآفاق، منشورات اختلاف، 1996.

(18) محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق: هاشم صالح. دار الطليعة 1989.

(19) ترقب صدور كتابنا: الطفل والله. الأسس النفسية لظهور وتطور فكرة الله عند الطفل. تحت الطبع.

(20) محمد سبيلا، حقوق الإنسان والديمقراطية، سلسلة شراع، الكتاب 19، شتنبر 1996.

(21) تنتشر في الغرب، وخاصة في الجناح الجرماني منه، ما يسمى بالمقاهي الفلسفية التي هي عبارة عن لقاءات منتظمة لكل من يهتم بالفلسفة في مقهى عمومي. والمهتمون المعنيون ليسوا فقط مختصين، بل أناس عاميون كذلك.

(22) سالم حميش، الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ، دار الطليعة، 1998، وخاصة الفصل الثاني من الكتاب.

(23) انظر مقالتنا، الحضارات: صراع أو حوار، جريدة المنظمة، 3 غشت 1998.