ص1      الفهرس    المحور 

من تاريخ التعليم الرسمي بالمغرب

تجربة المدارس المرينية ونتائجها

الناجي رضوان

تقديــم:

يحاول هذا الموضوع السير في نهج وضع بعض اللبنات الأولية لمشروع بحث حول تاريخ التعليم بالمغرب الأقصى وتتبع نتائجه القريبة والبعيدة، التي يمكن من خلالها استشفاف علاقة الماضي التعليمي بالحاضر الحالي وبالمستقبل القريب، بغية التعرف على آفاق واضحة، في هذا الميدان، تستمد جذورها من تجارب الماضي، ومن الأصيل في أصالته، وتتفتح على الحداثة وفق مرحليات، ودون قفز أو تماد أو إسقاط، وبانسجام مع المعطيات العامة الموضوعية لحالة المجتمع المغربي الحالي والمستقبلي، في تنوعه وخصوصياته، وفي مدى إمكاناته المادية والذهنية للتحديث.

هذا هو الإطار العام الذي نود أن ندرج ضمنه هذا الموضوع حول: تجربة المدارس المرينية بالمغرب الأقصى؛ تلك التجربة التي استمرت ما بين بداية الربع الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. و التي كانت لها أبعاد حول وضعية التعليم الرسمي وغير الرسمي، طيلة قرون تالية، حتى بعد زوال الحكم المريني من المغرب الأقصى.

I - الدور التعليمي للمدارس المرينية:

674هـ/1276م 720هـ /1321م 731هـ /1331م 752هـ/1351م 7هـ1358م

إقامة أول مدرسة مرينية بفاس، في عهد يعقوب بن عبد الحق

بناء أربعة مدارس: 3 بفاس وواحدة بتازة، في عهد أبي سعيد عثمان .

بناء 11 مدرسة بعدة مدن مخزنية: سلا/ مكناس/ فاس.. في عهد أبي الحسن.

بناء مدرسة واحدة بفاس (البوعنانية) وأخرى بمكناس، في عهد أبي عنان .

يبين الخط الزمني، الوارد أعلاه، تواريخ بناء المدارس المرينية والمدن التي أقيمت بها، أي المدن الكبرى للمخزن المريني، وأعداد المدارس طيلة الفترة الزمنية المحددة، ما بين إقامة أول مدرسة مرينية وآخر مدرسة منها، والتي بلغ مجموعها ثماني عشرة.

كان بناء وتمويل المدارس ودفع مرتبات الأساتذة ومنح الطلبة من خزينة الدولة، وأساسا من خزينة السلطان نفسه، ووقفت عليها بعض الأملاك والعقارات كحبوس: ".. منها المدرسة العظمى بطالعة سلا، قبلي المسجد الأعظم (…) وقف عليها [أبو الحسن المريني ] عدة أوقاف، رصع أسماءها بالنقش والأصباغ على رخامة عظيمة، ثم نصب الرخامة بالحائط الجوفي منها. كل ذلك محافظة على تلك الأوقاف أن تُغَيَّر..".(أحمد بن خالد الناصري - الاستقصا ج3، المجلد الأول، دار الكتاب، الدار البيضاء).

كان عدد الأساتذة والطلبة بحسب حجم المدينة وأهميتها لدى المخزن المريني، فاختلفت المدارس من حيث مدى اتساعها وعدد المآوي الخاصة بطلبتها، وفي مقدار الحبوس المخصصة لكل منها.

درست بالمدارس مجموعة من العلوم والآداب والفنون، من أبرزها: العلوم الدينية أساسا، كتفاسير القرآن والحديث وتاريخ جمعه وتحقيقه وطريقة التحقق من صحة الحديث بواسطة الرجوع إلى مدى صحة السند. ثم هناك علوم الفقه والشريعة والتاريخ الإسلامي، وعلوم اللغة العربية بنحوها وبلاغتها وأهم أشعارها ونثرها. كما خصصت بعض البرامج لفن التجويد وحفظ المتون وأمهات الكتب السنية، وعلى رأسها كتب الإمام مالك، وما جاء فيه من أحكام فقهية. كما تمت برمجة بعض العلوم الوضعية كالرياضيات والفلك والمنطق الصوري، وبعض الفنون المرتبطة باللغة العربية كالخطوط العربية المشرقية والمغربية ونسخ الكتب. ودرست بعض إجازات الطلبة المتفوقين خريجي المدارس المرينية، إجازات تتفق والتوجه العام لما ترغب فيه الدولة المرينية من هذا التعليم الرسمي(1). "وفي كل مدرسة أساتذة لمختلف العلوم، فهذا يلقي درسه في الصباح، وذاك في المساء، ويتقاضون جميعا مرتبات حسنة أوصى بها مؤسس المدرسة. وكان كل طالب من طلبة هذه المدرسة(…..) معفيا من مصاريفه ولباسه مدة سبع سنوات" (الحسن الوزان (ليون الإفريقي) - وصف إفريقيا، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر. ج1. ص227. 1980)

وطغت الطريقة الكمية المعرفية على طرق التدريس، فكان للحفظ واستعمال ملكته قيمة كبرى. وكانت الطريقة المتبعة، في الغالب، هي استنباط المعلومات والأفكار من مقدمات مسلم بها مسبقا، ثم شرحها والتعليق عليها. وكانت المراجع الأساسية مخطوطة باليد وبعضها محفوظا عن ظهر قلب؛ مما كان يسمح بكثير من النحل والتحريف للأصول المرجعية.

كانت المدارس المرينية مؤسسات تعليمية رسمية، تابعة كلها للمخزن المريني، عملت على تكوين أطر إدارية وقضائية وتعليمية وسياسية. وحاولت برامج المدارس وأطرها التعليمية تدعيم المذهب المالكي السني، بغية التمركز مذهبيا داخل مناطق نفوذ المخزن المريني، عبر المغرب الأقصى، وذلك في مواجهة المذهب الموحدي "المهدوي"، الذي أصبح متجاوزا وقتئذ: ثم في مواجهة الزوايا المعارضة والفقهاء المعارضين لتوجهات المخزن المريني حول وضع التعليم ودوره في المجتمع المغربي وقتئذ(2).

II - النتائج القريبة والبعيدة للسياسة التعليمية في المدارس المرينية:

1 - فشل السياسة التعليمية الرسمية:

"وذلك أن التأليف نَسَخَ الرِّحلة، التي هي أصل جمع العلم. وأما البناء [ أي بناية المدارس ] فلأنه يجذب الطلبة، لما فيه من مُرَتِّبِ الجِرَايَات، فيقبل بهم على من يعينه أهل الرئاسة للإجراء والإقراء منهم؛ أو ممن يرضى لنفسه دخوله في حكمهم، ويصرفهم عن أهل العلم حقيقة، الذين لا يُدْعَوْن لذلك؛ وإن دعوا لم يجيبوا، وإن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم" (المقري: نفح الطيب، ج5، بيروت 1968. ص275و276 -عاش المقري خلال القرن 13م، فكان معاصرا للأحداث). "ولعمري لقد صدق "المقري" في ذلك وبر. فلقد أدى ذلك لذهاب العلم بهذه المدن المغربية، التي هي بلاد العلم من قديم الزمان كفاس وغيرها؛ حتى صار يتعاطى الإقراء على كراسيها من لا يعرف "الرسالة" أصلا، فضلا عن غيرها، بل من لم يفتح كتابا للقراءة قط، فصار ذلك ضُحْكَة. وسبب ذلك أنها صارت بالتوارث والرئاسات(….) حتى خلت الساحة ممن يعتمد عليه في علمه" (أحمد بابا: نيل الإبتهاج. القاهرة 1973 ص246و247 (عاش أحمد بابا خلال القرن السادس عشر الميلادي، فتعرف على نتائج تلك السياسة التعليمية).

آلت سياسة المدارس التعليمية المرينية بالتعليم والعلم، منذ منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، إلى تبعية للدولة الحاكمة، وإلى تدجين التعليم وإخضاعه لما يستهدفه الحكام منه. وفقدت مهنة التدريس بتلك المدارس الرسمية من مستواها التعليمي والعلمي ومن حرمتها ودورها الاجتماعي والثقافي، وتدهور المستوى التعليمي بها إلى حد كبير جدا.

وهكذا طرحت قضايا تعليمية رئيسية منها الاستحقاق العلمي للمدرسين والجرأة العلمية إزاء قضايا الساعة وإزاء الموقف من سياسة الحكام ومسألة الحرية التربوية في التعليم ومسألة مدى استقلالية التعليم عن السلطة الدنيوية الخ(3)؛ وذلك في وقت احتدت فيه الأزمات العامة، التي مثلتها التحولات الداخلية والخارجية التي عاشها المغرب الأقصى، انطلاقا من القرن الرابع عشر الميلادي.

وإزاء فشل السياسة التعليمية المرينية، أخذت حركة الزوايا على كاهلها مهمة تأطير المجتمع المغربي، وفق منظورها وتوجهاتها وقتئذ، وذلك انطلاقا من البوادي النائية عن سلطة المخزن المريني والوطاسي من بعده.

2 - تصاعد الدور التعليمي والاجتماعي لحركة الزوايا:

تأسست الزوايا الأولى بالمغرب الأقصى، منذ بداية القرن الثاني عشر الميلادي. فكان كل شيخ زاوية يجمع حوله، أثناء منطلق حركة، ميردين وأتباعا، فيعلمهم أذكار طريقته وأورادها. وعندما تنضج الحركة يبعث الشيخ بمريديه -الذين اكتمل تكوينهم لديه، والذين تأكد من مدى إخلالصهم والتزامهم بتعاليم طريقته- نحو مناطق أخرى، تكون قد مهدت، من قبل، ليتم توسيع تعاليم ونفوذ الزاوية داخلها.

وبتراكم التجارب لحركات الزوايا وتنوعها عبر المناطق المغربية وقتئذ، تبلورت طريقة -عرفت تكتلا كبيرا حولها وانتشارا واسعا وأتباعا ومريدين عبر المغرب الأقصى وخارجه- سميت بالطريقة "الشاذلية"، نسبة لشيخها "علي بن عبد الله الشاذلي" (1196-1258م)؛ ومن بعده الشيخ "محمد بن سليمان الجزولي" (حوالي 1375-1465م)، الذي عمل على تمتين دعائم الطريقة الشاذلية بتأسيس العديد من فروعها، عبر أرجاء البوادي المغربية، وترسيخ طريقتها في التعليم والتعلم، فأصبحت الطريقة تكون السكان والأطر تكوينا دينيا ودنيويا؛ مستهدفة إصلاحا مزدوجا للدين والدولة معا، الشيء الذي عجزت عن تحقيقه أطر الدولة القائمة المتمثلة في المرينيين، ومن بعدهم الوطاسيين ورثة الحكم المريني.

قامت الحركة "الشاذلية-الجزولية" بأدوار متميزة، داخل البوادي على الخصوص: فهي التي كانت تعلم الناس أصول الدين وقواعده، وتؤطرهم أخلاقيا واجتماعيا واقتصاديا. فكانت، مثلا، تفصل في الخصومات بين الأفراد والجماعات، بل حتى بين العشائر والقبائل، وكانت تضمن مضامين العقود، في مختلف المعاملات وفي الزواج، وإليها يلتجأ المرضى للتطبيب والاستشفاء، وإليها يتوجه الراغبون في التبرك لنسلهم وزرعهم، إلى غير ذلك من الارتباطات المباشرة بحياة السكان.

هذا ما دفع الناس للتمسك بشيوخ الحركة وبطريقتها ومريديها؛ خاصة في ظرف احتدت فيه الأزمات المتعددة، وتراجعت فيه مصداقية المخزن الحاكم ووسائله في التعامل مع أغلب الشرائح الاجتماعية الموجودة وقتئذ، وفي وقت أصبحت فيه السواحل المغربية عرضة للغزو الأجنبي.

خلاصات وآفاق:

وهكذا يمكن أن نستشف من خلال المعطيات السالفة، عبر هذا المقال، بأن المدارس التعليمية الرسمية المرينية، قد ارتبطت باختيار وتدعيم رسمي من طرف المخزن المريني، الذي كان يبحث جاهدا عن سند سياسي ومذهبي لمشروعه في الحكم. وبذلك لم تتمكن تلك المدارس لا من تأطير ولا من مسايرة الحركة الثقافة والتربوية الكامنة عبر أطراف المغرب الأقصى. فتبنت تلك الحركة الثقافية، جهات أخرى بعيدة عن تأثير السلطة الرسمية المرينية؛ وهي جهات معارضة للسياسة التعليمية المرينية، والتي تمثلت في عدد من الزوايا وفي الفقهاء المعارضين؛ ثم وفي الثقافة الشعبية.

وفي إطار آفاق البحث، نود أن نسجل النقص الكبير الحاصل في الدراسات المدققة حول تاريخ التعليم بالمغرب؛ وذلك على الرغم من توافر المراجع المطبوعة منها والمخطوطة. وإنه ليبدو من المفيد، في هذه المرحلة الأولية من البحث في هذا الموضوع؛ بأن نضبط أولا المعطيات العامة، مع نسبيتها، وإخضاعها للبحث الجزئي في مرحلة لاحقة، ثم الخروج بتصورات وعصارات. وهذا مشروع نرى بأنه جدير بالعناية، ليس فقط للمزيد من التعمق في معطيات الماضي وتمحيصها؛ بل وأيضا لتنوير الرؤية المستقبلة حول عمق التعليم ودوره في المجتمع، ومدى تكيفه مع الظرفية القائمة، خاصة مع تطلعات وهواجس الشرائح الدنيا التي تتركب منها غالبية المجتمع المغربي الحالي.

 

هوامش:

1 - راجع في هذا الصدد ما جاء من أسماء الكتب والمخطوطات المتعلقة بالتعليم الرسمي المريني، في كتاب الأستاذ محمد المنوني: ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين، مطابع الأطلس، الرباط، 1980. وكذا كتاب عبد السلام ابن سودة: دليل مؤرخ المغرب الأقصى، دار الكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1960، في جزءين.

2 - راجع في هذا الصدد مقال الأستاذ محمد القبلي: (قضية المدارس المرينية: ملاحظات وتأملات)، ضمن مجموعة مقالات له تحت عنوان: مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط، دار توبقال للنشر، مطبعة فضالة، المحمدية، ط1، 1987، من ص66 إلى 78.

3 - راجع ما جاء لدى الأستاذ محمد القبلي: (قضية المدارس المرينية..)، (مرجع سابق الذكر).