ص1      الفهرس    المحور 

نص من التراث

الوجود.. أم الهوية؟

من مشاكل الترجمة في الفلسفة

 

يقول الفارابي:

"وليس في العربية منذ أول وضعها لفظة تقوم مقام "هست" في الفارسية ولا مقام "استين" في اليونانية، ولا مقام نظائر هاتين اللفظتين في سائر الألسنة(= في الفرنسية ETRE وفي الإنجليزية TO BE). وهذه يحتاج إليها ضرورة في العلوم النظرية وفي صناعة المنطق.

فلما انتقلت الفلسفة إلى العرب، واحتاجت الفلاسفة الذين يتكلمون بالعربية ويجعلون عبارتهم عن المعاني التي في الفلسفة وفي المنطق بلسان العرب، ولم يجدوا في لغة العرب منذ أول ما وضعت لفظة ينقلون بها الأمكنة التي تستعمل فيها "استين" في اليونانية و"هست" بالفارسية، فيجعلوها تقوم مقام هذه الألفاظ في الأمكنة التي يستعملها فيها سائر الأمم، فبعضهم رأى أن يستعمل لفظة "هو" مكان "هست" بالفارسية و"استين" باليونانية. فإن هذه اللفظة قد تستعمل في العربية كناية في مثل قولهم "هو يفعل" و"هو فعل". وربما استعملوا "هو" في العربية في بعض الأمكنة التي يستعمل فيها سائر أهل الألسنة تلك اللفظة المذكورة. وذلك مثل قولنا: "هذا هو زيد"، فإن لفظة "هو" بعيد جدا في العربية أن يكونوا قد استعملوها ههنا كناية. كذلك: "هذا هو ذاك الذي رأيته"، و"هذا هو المتكلم يوم كذا وكذا"، و"هذا هو الشاعر"، وكذلك: "زيد هو عادل"، وأشباه ذلك. فاستعملوا "هو" في العربية مكان "هست" في الفارسية في جميع الأمكنة التي يستعمل الفرس فيها لفظة "هست"، وجعلوا المصدر منه "الهوية"، فإن هذا الشكل في العربية هو شكل مصدر كل اسم كان مثالا أولا ولم يكن له تصريف، مثل "الإنسانية" من الإنسان، و"الحمارية" من الحمار، و"الرجولية" من الرجل".

ورأى آخرون أن يستعملوا مكان تلك الألفاظ، بدل "الهو"، لفظة الموجود، وهو لفظة مشتقة ولها تصاريف. وجعلوا مكان الهوية لفظة الوجود، واستعملوا الكلم الكائنة منها كلما وجودية روابط في القضايا التي محمولاتها أسماء، مكان كان ويكون وسيكون. واستعملوا لفظة الموجود في المكانين، في الدلالة على الأشياء كلها، وفي أن يربط الاسم المحمول بالموضوع حيث يقصد أن لا يذكر في القضية زمان. وهذان المكانان هما اللذان فيهما "هست" بالفارسية و"استين" باليونانية. واستعملوا "الوجود" في العربية حيث تستعمل "هستي" بالفارسية، واستعملوا وجد ويوجد وسيوجد مكان كان ويكون وسيكون(…)

ولأن هذه اللفظة (= الموجود)، بحيث ما هي عربية وبنيتها عندهم هذه البنية، صارت مغلطة جدا، رأى قوم أن يتجنبوا استعمالها، واستعملوا مكانها قولنا "هو"، ومكان الوجود: "الهوية".

ولأن لفظة "هو" ليست باسم ولا كلمة (=فعل) في العربية، ولذلك لا يمكن فيها أن نعمل منها مصدرا أصلا، وكان يحتاج في الدلالة على هذه المعاني، التي لتمس أن يدل عليها في العلوم النظرية، إلى اسم، وكان يحتاج إلى أن يعمل منه مثل "الرجل" و"الرجولية" و"الإنسان" و"الإنسانية"، رأى قوم أن يتجنبوها ويستعملوا "الموجود" مكان "هو"، و"الوجود" مكان "الهوية".

وأما أنا فإني أرى أن الإنسان له أن يستعمل أيهما شاء. ولكن إن يستعمل لفظة "هو"، فينبغي أن يستعملها على أنها اسم لا أداة -و"الهوية"، المصدر المعمول الآخر، جار وإن لم يستعمل- تركب مبنية في جميع الأمكنة على طرف واحد، على مثال ما توجد عليه كثير من الأسماء العربية التي تركب مبنية على طرف واحد آخر. وأما المصدر الكائن منها وهو "الهوية" فينبغي أن يستعمل اسما كاملا ويستعمل فيه الطرف الأول والأطراف الأخيرة كلها(…)n

أبو نصر الفارابي. كتاب الحروف. تحقيق محسن مهدي. دار المشرق. بيروت 198 ص112-115.