بلاغة
السخرية في المثل الشعبي المغربي
سميرة الكنوسي
تقديــم:
نروم في هذا العرض، الذي يشكل جانبا من بحثنا في بنية الأمثال
الشعبية ووظائفها، الوقوف عند ملمح من ملامح هذه البنية المتنوعة التقاسيم.
ويتعلق الأمر بالطابع الساخر للكثير من أمثالنا الشعبية،
باعتبار السخرية طريقة للتعامل مع العالم، وتصحيحا للخلل، وانتقادا للأنا..
ولعل الأسئلة التي راودتنا، ونحن نخوض هذا الموضوع، والتي
سنسعى للإجابة عن بعضها هي كالتالي:
1-هل السخرية صورة بلاغية، أم جنس أدبي؟
2 – هل تمتلك السخرية خصائص أسلوبية تفردها عن بقية أنواع
الخطاب المتداولة؟
3 – هل هي وليدة الصياغة التعبيرية، أم المضامين thème، أم العوالم الممكنة الماثلة في الأذهان ساعة التلقي، أم هي
متولدة من تآلف هذه الأطراف مجتمعة؟
4 – هل هناك موضوعات بذاتها تصلح لأن تكون ساخرة، أم أن كل
الموضوعات قابلة لإثارة السخرية، متى راعت آليات اشتغالها وتوليدها؟
5 – هل ترتبط السخرية، دائما، بتضاد وتعارض دلالي contraire
sémantique كيما تتحقق، وهل
علينا نحن، المتلقين، أن نحل هذا التعارض بين المعطى والمفترض، أم بين المعنى
الأول والثاني أم بين الكلمات والواقع؟
6 – أي الخطابات تقابلها السخرية؟ وما هي النصوص التي لا
يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون ساخرة: الخطابات الأسطورية، الدينية، الأشكال
السحرية، أم البرامج التكنولوجية والعلمية؟
7 – كيف يمكننا أن نميز بين سخرية القول، وسخرية المقام ironie
de situation
بين السخرية اللفظية والسخرية الأيقونية Ironie
iconique ؟ وتبعا لهذا، هل
السخرية أكبر من خطاب أدبي محايد؟
8 – هل هي سمة أسلوبية تميز كل الخطابات منطوقة كانت (الخطاب
العادي المتداول، الخطاب الصحافي والسياسي والقضائي..) أو غير منطوقة (الإعلانات
الإشهارية والصور المتحركة والرسم؟).
9 – ما الحدود بين السخرية والكذب؟ السخرية والهجاء؟ السخرية
والمفارقة؟ السخرية والنكتة؟
ثم السخرية وأشكال أخرى تحف بها: التهكم raillerie، الهزء moquerie، الفكاهة Humour، المزاح Plaisanterie، الدعابة mot d'esprit، الهزل comique؟
10 – هل يمكننا الحديث عن وظيفة تقويمية إصلاحية للسخرية؟
11 – هل يمكن التفكير في نظرية عامة تنتظم السخرية بجميع تجلياتها،
أم أن مظاهر السخرية تبدو من التنوع والتشعب بحيث تستعصي على كل محاولة لمحاصرتها
واستنباط نماذجها الكلية المولدة؟
12 – وفي إطار علاقة السخرية بالمثل، هل يمكننا اعتبارها
وظيفة من وظائفه؟
13 – ألا تتصادم السخرية، في بعدها العدواني، مع النزعة
التعليمية في المثل؟
14 – وأخيرا، ألا تلتقي السخرية والمثل في بعض الخصوصيات:
خصوصية عملية التلفظ والتلقي، ومن ثم استدعاء السياق والتأويل في كليهما؟
I
– إشكالية التعريف:
لعل العودة إلى أحد معاجم اللغة العربية، وتتبع المعنى
المعجمي لكلمة سخرية لا يسعف تماما في فهم طبيعة السخرية الأدبية، وإدراك آليات
اشتغالها، بل لعله يجعل الموضوع محفوفا ببعض الحرج، إذ يستدعي الموقف الأخلاقي.
فقد جاء في لسان العرب:سَخِرَ منه وبه سَخْراً وسَخَراً ومَسْخَراً وسُخْراً بالضم
وسُخْرة وسِخْرِيًّا وسُخْرِيًّا وسُخْرِيّةً: هَزِئ به.. قال الله تعالى:
>>لا يسخر قوم من قوم<< وسخرت من فلان هي اللغة الفصيحة. وقال تعالى:
>>فيسخرون منهم سخر الله منهم<<. وقال: >>إن تسخروا منا فإنا
نسخر منكم..<< وقوله تعالى: >>فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم
ذكري<<. فهو سُخْرِيًّا وسِخْرِيًّا. قال أبو زيد: سِخْرِيًّا من سَخِر إذا
استهزأ، والذي في الزخرف: >>ليتخذ بعضكم بعضا سخريا<<: عبيدا وإماء
وأجراء. وقال: خادم سخرة، ورجل سخرة أيضا: يُسْخَرُ منه.
فالسخرية بما هي رديف الهزء والضحك من الناس أمر منهي عنه
وفق التصور الديني، باعتبارها نوعا من الاستعلاء والتسلط والإذلال. وقد تقدم قول
أبي زيد، حين طابق بين السخرية والتسخير أو القهر: خادم سخرة ورجل سخرة: أي سخر
منه.
ولعل الوقوف عند الكلمات الحافة لمفهوم السخرية في لسان
العرب لا يسعف بدوره في رسم الحدود الدقيقة بين هذه الأشكال اللفظية التي تصير
مرادفات لبعضها البعض دون أن تستقر عند مفهوم محدد.
جاء في تعريف ابن منظور للهزء قوله: "الهُزْء والهُزُء:
السخرية. هزئ به، ومنه.. وتهزَّأ واستهزأ به: سخر.
وقوله تعالى: "إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ
بهم"
قال يونس: إذا قال الرجل هزئت منك، فقد أخطأ، إنما هو هزئت
بك.
وقال أبو عمرو: يقال سخرت منك ولا يقال سخرت بك.
وهزأ الشيء يهزؤه هزءا: كسره. قال يصف درعا:
لها عُكنٌ تردُّ النَّبل خُنْساً وتهزأ بالمعابِل والقِطاع
عكن الدرع: ما تثنى منها، والباء في قوله بالمعابل زائدة..
قال ابن سيده: وهو عندي خطأ، إنما تهزأ ههنا من الهزء الذي هو السخري كأن هذه
الدرع لما ردت النبل خنسا جعلت هازئة بها.
وهكذا، يماثل "ابن سيده" بين الهزء والسخرية،
مستبعدا معنى الكسر، وإن كنا نراه واردا؛ إذ السخرية أو الهزء شكل من أشكال القهر
والإذلال كما تقدم، وكسر لانتفاخ الأنا، من خلال تتبع العيوب والنقائص. وهذا ما
سنراه لاحقا من خلال تحليل عينة من الأمثال الشعبية المغربية.
ويستمر هذا الخلط مع مفاهيم أخرى كالتهكم والهزل والفكاهة
والتندر والطرفة فضلا عن بعض الصور البلاغية كالهجاء في معرض المدح، والإبهام
والتوجيه والقول بالموجب أو أسلوب الحكيم، ونفي الشيء بإيجابه والتعريض.
والحقيقة أن هذا الاضطراب في مفهوم السخرية معاين حتى في
الثقافة الغربية. فقد سجل د.س ميوك أنه "لأسباب مختلفة، بقي مفهوم السخرية
مفهوما غير مستقر، مطاطا وغامضا. فهو لا يعني اليوم ما كان يعنيه في القرون
السابقة، ولا يعني نفس الشيء من بلد إلى آخر، وهو في الشارع غيره في المكتبة، وغيره
عند المؤرخ والناقد الأدبي. فيمكن أن يتفق ناقدان أدبيان اتفاقا كاملا في تقديرهما
للعمل الأدبي، غير أن أحدهما قد يدعوه عملا ساخرا، في حين يدعوه الثاني عملا
هجائيا satirique أو هزليا comique أو فكاهيا Humoristique أو مفارقا Paradoxale أو غامضا Ambigue.
ولعله من بين الأسباب المختلفة التي ساهمت في اضطراب مفهوم
السخرية في الأدبيات البلاغية الغربية، كون هذا الموضوع لم يحظ من عناية الدارسين
بمثل ما حظيت به موضوعات أخرى تنتظم في الإطار ذاته كالاستعارة والكناية والمجاز
المرسل.. وقد يعود السبب في هذا الضمور النسبي في دراستها إلى عاملين: الأول
تاريخي ويتعلق بإهمال أرسطو لهذا النوع من الأساليب البلاغية وهو إهمال مرده إلى
موقفه المنبني على الإزدراء بالكوميديا لأنها تنهض على محاكاة أفعال الشرائح
الوضيعة، والعامل الثاني بنيوي، وحاصله أن الخطاب الساخر وما تفرع عنه وانتظم في
إطاره من أنواع يتأبى على التحليل الأسلوبي والإنشائي الصارم.
غير أن الأمر تغير في يومنا هذا؛ حيث تزايد الاهتمام
بالسخرية من قبل الدارسين المحدثين أو السخرياتيين Ironologues، الذين صار يتحدث عنهم بهذه التسمية على غرار الشعريين Poéticiens، كما أن مجال فاعلية السخرية تراحب وامتد ليشمل متنها اللغة
الطبيعية لفظية كانت أو مقامية، وباقي أنظمة التواصل والتعبير الشبيهة باللغة
كالفنون التشكيلية والكاريكاتير والموسيقى المرافقة أو الغناء الساخر، والإشارات
ممثلة في الحركات الجسدية في المسرح والسينما والتصفيق الساخر.. هذا فضلا عن
الإعلانات الإشهارية.
وهذا بالطبع متن شاسع يمتد في اللغة وخارجها. ويطرح سؤالا
جوهريا طالما أرق دارس السخرية: ما الذي يجعل السخرية سخرية؟ وما الذي يميزها عن
غيرها؟ وهو ما يدعو إلى التفكير في هذه القضية –يقول محمد العمري- على مستوى الجنس
والتقنية معا.
II
– مكونات السخرية
على خلاف الصور الدلالية كالاستعارة والكناية والمجاز
المرسل، والصور التداولية أيضا، ترى الباحثة "كيربر أريكشيوني" إلى
السخرية باعتبارها صورة trope تجمع بين الخاصية الدلالية والتداولية.
فبخصوص المكون الدلالي، تستند السخرية إلى ثنائية المعنى
داخل نفس المتوالية الكلامية؛ حيث العلاقة بين المعنى الحرفي الظاهر، والمعنى
المشتق المضمر علاقة تضاد وتعارض autonymie.
فـ A حين يتلفظ بـ X يريد أن يسمعنا غير X. ومن هنا فالمفارقة والالتباس وازدواجية المعنى ambivalence سمات مميزة للسخرية، وإذا ما كانت الاستعارة تقوم على المشابهة
بين الطرفين، فالسخرية تقوم على التضاد بينهما.
أما المكون التداولي، فيستلزم حضور القصدية Intentionalité. لقد انتهت الباحثة، من خلال تتبعها للغة الواصفة الموظفة في
الخطاب الصحافي أو العادي إلى أن غالبية الملفوظات المعتبرة ساخرة لا تحتوي أي
تعارض دلالي، ولا حتى أي مسافة دلالية، إنها فقط هازئة. ومن هنا أهمية المكون
التداولي خاصة. فأن تسخر معناه حسب كيربرا أريكشيوني "أن تتهكم وتهزأ وتفضح
وترمي هدفا. ومن ثم فالخطاطة العاملية للسخرية تشمل بالضرورة المرسل والمرسل إليه
والعامل الهدف actant cible".
وقد رفضت أريكشيوني انطلاقا من مفهوم القصدية تعريف
"جان كوهن" للسخرية على أنها صورة لا تقوم على قول نقيض ما نفكر به،
وإنما نقيض ما يقوله إما السياق أو ما فوق النص (احمرار، تلعثم..).
وهي إذ ترفض هذا التعريف، فلأنه لا يفرق بين السخرية والكذب،
الذي هو أيضا تعارض بين ما تقوله المتوالية الكلامية وما يقوله السياق وتقترح
تعريفا آخر للسخرية، يستند، بطبيعة الحال، إلى التعارض الدلالي والحضور المسبق
للقصدية: "إنها تعارض بين ما يقوله L وما يريد إسماعه".
وقد انطلقت جماعة "مو"(Mu ) في تعريفها للسخرية من هذين المكونين السالفي الذكر: "ليست
السخرية شيئا آخر غير تقاطع بنية ضدية مع انفعال هازئ".
والسؤال: هل يتعايش هذان المكونان بالضرورة، وكيف يتمفصلان؟
وهل يمكننا الحديث عن السخرية في ظل وجود مكون واحد فقط؟
تنتهي الباحثة أوريكشيوني إلى أنه من بين المكونين الاثنين،
يعتبر الثاني هو المهيمن قياسا إلى الأول: "إن القيمة التداولية لمتوالية ما
أكثر من قيمتها الدلالية هي التي تجعلنا نحدس أنها ساخرة، فأن تسخر معناه أساسا أن
تستهزئ أكثر من أن تتكلم بالتضاد".
لا يكفي،إذا، أن نحول العلامات، دائما، سلبيا للحصول على
المقصود ولا سيما إذا كانت السخرية عميقة وعامة. وعلى أي حال فثمة سخرية ينصهر
فيها المكونان معا، وقد تحصل السخرية دون وجود تعارض وقد يكون هناك تعارض دونما
سخرية، كما سنرى.
III
– السخرية مفارقة
لعل أبرز من مثل هذا الاتجاه أريكشيوني، التي قصرت مجال
بحثها في السخرية اللفظية، باعتبارها مجازا يستند إلى تعارض دلالي، فهي قول ضد
المراد، وإن كان هذا التعارض ليس شرطا ضروريا، مثلما هو الحال بالنسبة للمكون
التداولي. وقد تحصل السخرية دونما حاجة إلى الانتقال سواء على مستوى الإنتاج أو
التأويل من المعنى الحرفي الأول إلى المعنى المشتق الثاني:
لا زين، لا مجي بكري
لا مزيانة للمنظر، لا خفيفه كتسخر
وهذا ما يجعل السخرية تنفتح على المفارقة، وتمتد خارج حيز
التعارض البسيط. وقد قدمت نبيلة إبراهيم في مقال لها تعريفا للمفارقة باعتبارها
مرادفة للسخرية تقول:
"وقد وردت كلمة Eironeia في جمهورية أفلاطون، وهي مصطلح Irony نفسه في اللغة الإنجليزية، ويعني المفارقة. وقد ورد المصطلح في
جمهورية أفلاطون على لسان أحد الأشخاص الذين وقعوا فريسة محاورات سقراط وهي طريقة
معينة في المحاورة لاستدراج شخص ما حتى يصل إلى الاعتراف بجهله. وكانت الكلمة
نفسها تعني عند أرسطو الاستخدام المراوغ للغة، وهي عنده شكل من أشكال البلاغة،
ويندرج تحتها المدح في صيغة الذم، والذم في صيغة المدح".
ويقال إن الكلمة لم تظهر في اللغة الإنجليزية بوصفها مصطلحا
إلا في أوائل القرن السادس عشر، ولكنها لم تجد سبيلها إلى الاستعمال العام إلا في
نهاية القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر، وكانت تعني أن يقول الإنسان عكس ما
يعنيه، كما تضمنت معنى السخرية.
وتأسيسا على ما سبق، فالقاسم المشترك بين السخرية والمفارقة
ما عبرت عنه الكاتبة بالاستعمال المراوغ للغة، الذي يتجلى أحيانا في صورة قلب
دلالي أو تعارض:
للا زينه وزادها نور الحمام
للا مليحه وزادتها الترويحه
الحقيقة أن هذين المثلين لا يفهمان باعتبارهما ساخرين إلا
متى تم إدراك الطابع المراوغ للغتهما؛ حيث يتخفى وراء المستوى السطحي للكلام مستوى
آخر كامن لم يعبر عنه: للا قبيحه وزادها نور الحمام
ولهذا، فنحن نحتاج إلى قلب المعنى كيما ينفجر الضحك، ونحتاج
إلى كشف المحجوب والمخفي كيما تنبجس السخرية، ولا غرابة فقط كان سقراط بارعا في
إخفاء فكره حتى لقب بـ Eirôn. ومن هنا، فالإخفاء أحد آليات السخرية.
لكن السؤال: لماذا لا نكتفي بالمعنى الأول الحرفي، ونبحث عن
معنى ثان؟ والجواب، إننا لا نقتنع بما يمدنا به التأويل الحرفي، فثمة ما يجعل
اللغة يرتطم بعضها ببعض، ويستنفر كفاءات المتلقي اللسانية والثقافية والإيديولوجية
حتى يرسو عند معنى يرتضيه ويستقر عنده.
لننظر هذا المثل: الزين الفاخر، الشفايف والمناخر
ربما، يبدو للوهلة الأولى غير ساخر في ذاته، لكن اعتماد صيغة
الجمع فيه إضافة إلى السياق يؤكدان ذلك.
"قال اللحياني في كل ذي منخر: إنه لمنتفخ المناخر، كما
قالوا إنه لمنتفخ الجوانب".
وهذا الذي تقدم، يبرز أهمية السياق في فهم الملفوظات
الساخرة، التي قد تبدو أحيانا ملتبسة. وهو ما أقرته مجموعة U. "فمعرفة الطابع البلاغي لملفوظ ما يمر بالضرورة عبر مصفاة
الكفاءة الموسوعية".
بعودتنا إلى المثل:
الزين الفاخر، الشفايف والمناخر
أو: للا زينة وزادها نور الحمام
يتأكد لنا أن حس السخرية ينبجس، أيضا، من اقتناعنا بانفصال
الواقع عن اللغة انفصال الملفوظ المثلي: للا زينة وزادها نور الحمام الدال على
الجمال عن حقيقة الواقع الدال على قبح المرأة التي يسخر منها. وهذا ما يجبرنا على
فك العلاقة بين العلامة اللغوية والموضوع Objet عبر السخرية، وإلا ظلت الجملة منفصلة عن الواقع وملتبسة كما يرى
موريي.
وهكذا، يتجاوز التعارض المعنى الأول والثاني، ليصير حصيلة
المسافة بين الواقع والمثال، وبين المعطى والمفترض.
وواضح، أن المفارقة، التي هي أساس الأمثال، أكبر من مجرد
تعارض بسيط، وإلا صعب علينا أن نفسر كل الأمثال الساخرة في ضوء هذا التعارض
الدلالي. وهذا ما أقرته أريكشيوني حين اعترفت بمقاربات أخرى كتلك التي قدمها سبربر
وولسون.
وتبعا لما تقدم، فالمفارقة قد تصطنع التضاد الخفي، حيث
الملفوظ يقول شيئا ويضمر ضده: للا زينة وزادها نور الحمام
وقد تعتمد التضاد المكشوف:
الزين زين ورده، والسعد سعد قردة
وقد يعيد المثل تركيب القضية ونقيضها، مختزنا، دوما، حسن
المفارقة: الله يعطيك سعد الخايبات.
كما تعتمد المفارقة صيغا أخرى من التقابل:
ـ آش خصك ألعريان؟
ـ خاتم أمولاي.
فالمفارقة، في هذا المثل، ومن تم السخرية، هما ثمرتا المسافة
بين الحاجي والكمالي.
وعموما، فالمفارقة هي حصيلة التوتر بين طرفين متطرفين:
*كال لو آش المعمول يا قاضي فعيشه، كال لو طلقها وانا
ناخدها.
*فين يماك أجحا؟ مشات تصبن وديالها؟ كرات عليه
*راكب على حمارو، وتيقلب عليه
*ماشيه لعند المطلقه تسحر لك.
*كن كان الحمام يبيض، كن بيض قبابو
*سل الحاجبة توريك
*ماتت الخادم د القاضي فالعزا ما بقا حد، مات القاضي ماجا
حد.
*فين ما تشوف الطويل كيجري، اعرف القصير مسخرو.
المفارقة في هذا المثل الأخير نتيجة انقلاب تراتبية السلطة،
وهي أحيانا ثمرة استغلال السلطة: طلع تاكل الكرموس، هبط شكون كالها لك.
فأن تسخر معناه أن تفقد تواضعك، وتخلق مسافة بينك وبين
مخاطبك وإن كنا لا نعدم، أحيانا، أمثالا تسخر من الذات، وتنتقدها، وتفضح ضعفها:
*ثلاثه د المطارق غادي يحمقوني، ما عرفتش آش نلقى ليهم: طامو
تقول قْيِّمْ أو طْلاَقْ، ربي يقول صلي أو نْحْرْاقْ، المخزن يقول خلص أو
نْشْنَاق.
وهكذا، تنفجر السخرية، أحيانا، وليدة إحساس مر بعدم القدرة
الإنسانية التي تخوننا، لنسقط ضحية ضعفنا، بل قوتنا:
*لو كان نخافو من النعاج ما نلبسوشي صوفها. وتلك قمة
المفارقة وقمة السخرية، التي قال عنها موريي: "إن كل ما يمزق الإنسان، وكل
تناقضاته ووعوده الصادقة غير الموفاة، ومثاليته المتضاربة مع سلوكه، تكون مصدرا
للسخرية.. تكون السخرية في المجتمع حين تسود عدالة الإنسان المقلوبة، وتكون في
الذات الإنسانية حين تخون الإنسان ملكاته". والمفارقة إضافة إلى كونها الكلام
الذي يقول شيئا ويعني غيره، ترتبط أيضا، حسب نبيلة إبراهيم، بالتظاهر بالبراءة أو
السذاجة والغفلة.
*كال لو أنا عبدك، كال لو زيد بنا للسوق
*عطيني فمك ناكل به الشوك
*عطيني حمارك نحش عليه لحماري
*أجي يا مي نوريك دار خوالي
*إلا عييتي أميمونة أجي تنقلي الحجر
وهي براءة لا تخلو من حنكة وحيلة، وخبث أحيانا، مما يفجر
المفارقة:
*خودو يا ولادي خبزة خبزة وعطيو لباكم نص نص.
كما أن المفارقة لا تخلو من ضحية، قد تكون هي الأنا المتكلمة
أو المخاطب أو غيرهما:
*يصبر مول الغاسول
*إلا فاتك الكار شد فالمزرار.
مما يجعل السخرية عموما، منطوية على المضحك والمبكي في آن
واحد؛ فهي تدفعنا إلى البسمة التي تحنقني حالما ترتسم على الشفاه، لنتجرع مرارة
الاستهجان. ولعل هذا أمد ملامح اختلافها عن النكتة.
يقول جان كوهن عن ضحك السخرية: "إنه لا يستمر أكثر من
لحظة قصيرة وحالما ينطفئ يجد المتهكم نفسه من جديد أمام كون عبثي. ولهذا فإن الحزن
كما نلاحظ أحيانا كثيرة يتخفى في أعماق الهزلي".
ولربما يتبدى هذا الأمر أكثر، فيما اصطلح عليه مورين
بالسخرية التراجيدية حيث العواقب غير قابلة للإصلاح.
*ملاغة بْلاَّرجْ جا يضحك مع ولدو عَوْرُو
*كان راجلي وصبحت نعشق
*اللي خلاه الجدري، كملو بوحمرون
*المذبوحه عيرت المسلوخة كالت لها: يا مقطوعة الراس.
وجلي أننا نسرع إلى الضحك من عاهاتنا واختلالاتنا.. خوفا من
البكاء عليها. وتخف حدة الحزن المتخلي في أعطاف الهزلي والساخر، كلما كانت العواقب
تافهة ويمكن إصلاحها، وهو ما يقرب السخرية من حيز الفكاهة.
*بغا يضرب الكرمه، خطا الجنان
*إلا فاتك الكار شد فالمزرار
*حيدو من اللحيه ودارو فالشارب
*حتى شاب عاد دارو لو لحجاب
إن الفكاهة، وعلى خلاف السخرية، تعبير عن حالة الوعي
المطمئن، الذي حين يتابع نقائص عالم يسوده غير السوي والعادي، يتصرف بارتياح
ويتظاهر أنه وجد غير العادي مألوفا:
*عيشه عند الناس، والنسا عند عيشه
فالمثل يختزن في جوفه حركية غير عادية، لكن دون أن يعبر عن
ارتجاج العالم بقلب المعنى كما تفعل السخرية: عيشه رزينه مثلا.
إن الفكاهة لا تتكلم باستعلاء، طالما أن الفكاهي يعترف
بنقصه، وبأنه يشاطر الآخرين عيوبهم، وأنه ليس أكثر نقاء وصفاء منهم. ولأجل كل ذلك
فهو يتفادى المحاكمة:
*عندك شِي دْمِيعَاتْ زايْدين كَرْكَبْهُمْ لِيَّ
*أنا وحْمَاتي كَنْبْكِيوْ مْنْ عَيْن وَحْدَه
*الله يرحمني عاد يرحم والدي.
إن السخرية، تقتات من الصراع والتعارض، لأنها ببساطة تتعلق
بالحلم والوهم، فالساخر إنسان مثالي في نظر موريي.
والسؤال: هل السخرية، سواء كانت تراجيدية أو متصالحة
ومتسامحة هي عدم اكتراث بالعالم، طالما أن الساخر اختار طريق الضحك ونزع الجد؟
يميز جان كوهن بين الهزلي والشعري؛ فالمعاناة والانفعال
يبلغان أقصى كثافتهما عند قطب الشعري، أما الهزلي –برأيه- فهو نفي للانفعال،
وتجريد للعالم من العاطفة. إن الضحك –حسبه- انفجار ينتزعنا من العالم ويرمي بنا في
عزلتنا الباردة؛ إنه حاجز بين الإنسان والعالم.
ومن هنا "فالضاحك غير معني بالعالم، إنه يفسخ مرة واحدة
التزامه بمأساة لم يعد يأخذها مأخذ الجد، فالضحك معناه أن تستهزئ، والاستهزاء هو
عدم اكتراث".
IV
– السخرية بعثرة
إن الضحك المرير، أحيانا، يكون وليد بعثرة، فالبعثرة إحدى
آليات السخرية إلى جانب الإخفاء والتعارض الدلالي.
*حتى في الحْمّامْ مْرُوبْلَة، لا طَاسَة، لا مْشْطَه ولا
غاسُول
*بحال الخياطة الحمقه، فين المقص، فين الحلق
وهي بعثرة تتغيا التعبير عن عالم مختل، ومقلوب، إما من خلال
إشاعة الاختلال والفصل والنفي كما في المثلين السابقين، وإما من خلال إركام جمل
والوصل بينها بعدما تتقارب نعوتها الدالة على الاختلال والبعثرة:
*السوق حامي والدّْلاَّلْ رامي والشاري عْوْرْ
*الحنة حْرْشِة والمَاشْطَة عَمْشَة والعروسة فيها
بُوهْزْهَازْ.
وقد تشي كل مفردة من الملفوظ المثلي بالبعثرة والاختلال
اللذين يسودان العالم:
*فالخْلْطَة والزّحَامْ جابو القاضي يَتْخَتَّنْ.
هذا، إلى جانب أن السخرية، بما هي بعثرة، قد تنبع عن قلب
الأدوار أو الوظائف:
*إِلاَ الضّبْعْ وَلَّى حَجَّام، حَتَّى البُومَة تَرْجْعْ
طْبِيبَة] أو قلب الحقائق:
*وَاحْدْ كَالْ الفُولْ وْوَاحْدْ تَنْفْخْ بِهْ.
كما تتولد السخرية نتيجة بعثرة كمية، أي نتيجة المبالغة Heperbole:
*الكْنَازَة كْبِيرَه والْميتْ فَارْ
*رَاجْلِي عْلَى سَبِّه، طْلْقْنْي عَلَى حْزْقَة
*سْلّمْ عْلَى الْعَرْبِي تْخْسَرْ خُبْزَة
*سَيْفْطْنَاهَا تْجِيبْ الْقَصْبُورْ، جَاتْ حَامْلَة
بَسَبْعْ شْهُورْ.
أو نتيجة التفريط Litote:
*مَامَاتْشْ غِيرْ خْرْجُ مْصِيرْنَاتُو
*مَاكَايْنْ وَالُو غِيرْ مْرَا غَرْقَاتْ
ولأن الممارسة اللغوية بحسب "غرايس" نشاط تواصلي
عقلاني يهدف إلى التعاون ما بين المتخاطبين، فإنها تستند إلى قواعد صادرة من
اعتبارات عقلية تتدبر السلوك التخاطبي وتجعله ناجحا ومنظما، إلا أنه قد يحدث
أحيانا، ما يجعل الملفوظ غير وارد، ومن ثم لا ينتج أثره التأويلي، فيكون بذلك
تبديدا لمبدأ التعاون وبعثرة.
لنرى إلى هذا المثل: كَالُو لَلْحَمْقَة زَغْرْتِي، كَالْتْ
لِيهُمْ الدَّارْ ضَيْقَة.
إن السؤال الذي يواجهنا: ما العلاقة بين الزغردة وضيق الدار؟
إذا افترضنا أن هذه الحمقاء لا ترفض مبدأ التعاون Principe
de coopération
فسيكلفنا جوابها قدرا أكبر من التأويل؛ إذ ما العلاقة بين الزغردة والدار أو بين
الزغردة وضيق الدار أساسا.
هل معنى جوابها أن الزغردة لا تتم إلا بدار واسعة، وما
العلاقة، إذا، بين رحابة المكانة وانطلاق الزغردة؟
الحقيقة، أنه أحيانا كثيرة يخرق مبدأ الورود، ومع ذلك يظل
المعنى قائما] لننظر هذا المثال: الإبن: لنذهب إلى السينما
الأب: وماذا عن الفروض المدرسية؟
فالأب بجوابه غير الوارد، يريد أن يذكر ابنه بأنه ليس حرا
بعد للذهاب إلى السينما. فماذا تريد الحمقاء أن تقول؟ وما المعنى الذي يقتضيه
جوابها؟
وقريبا من المثل الآنف الذكر، نجد: حْمْقَه وْكَالُو لْهَا
زَغْرْتِي.
فهذا المثل الأخير لا يخرق مبدأ الورود، ومع ذلك تشي قصته
أنه هو الآخر ساخر.
يحكى أنه في عرس للملحون، طلب فجأة من امرأة تبدو رزينة أن
تزغرد، فاسترسلت في الزغردة دون أن تكف، وانقضى العرس، وفر المدعوون بعد أن أزعجهم
صوتها الذي لم يتوقف.
وهكذا فالسخرية في المثل الأول يفجرها الحمق بما هو عجز عن
التواصل، أما في المثل الثاني، فالحمق عجز عن التكيف مع المواضعات الاجتماعية،
ولكن في كلتا الحالتين فالحمق هو "وضع الشيء في غير موضعه مع العلم
بقبحه".
ولعله من عجيب الصدف أن يكون الحمق والبعثرة نسيان، فقد أكد
ابن منظور أن البغثر: الأحمق الضعيف.
وزعم ابن يعقوب أن عين بعثر بدل من غين.
V
– السخرية فضح ومحاكمة
إن السخرية باعتبارها نوعا من الرؤية إلى العالم، لا تتستر
على النقص وتداريه، بل هي تفضح الاعوجاج وترغمه على الظهور بصراحة وخشونة لكي
ينفجر ويعترف، وفي ذلك خسارته.
فالفضح كآلية من آليات إنتاج السخرية يتغيا الإبحار عبر
عاهات الإنسان ونزواته ومتاهاته الشخصية.. لدفعه إلى اكتشاف مفارقاته، ومن ثم
التخلي عن خيلائه، وبذلك فهو يخدم السخرية بما هي كسر لانتفاخ الأنا كما تقدمت الإشارة.
*لاَ وْجْهْ لِلسَّعَايَة، لاَ دْرَاعْ لِلْخْدْمَه
*مْشَا يَخْطْبْهَا لُو دَّاهَا لُو
والسخرية بهذا تحاكم:
*الرَّيْ دَبَّا عْمَّارْ، بَاعْ الدَّارْ وْشَرَا
الْحْمَارْ
وتفضح استغلال بعض الامتيازات، دينية كانت:
*الفْقِيهْ الِّلي كْنَّا نَرْجَاوْ بَرَاكْتُو صْبْنَاهْ
فِالجَّامْعْ يَشْطَحْ بِبَلْغْتُو
*سيدي الفقيه يْدُّو فِالدَّوايَة وعَيْنُه تَتْغْمْزْ
*الفقيه حُمْيان قْرَا فَالْبْرَا سَبْع أيَّام وقالْهُم
هَذْ الخَطْ عْيَّانْ.
أو سياسية:
صْلاَةْ القُيَّادْ الجُمْعَة والْعْيَادْ.
أو اجتماعية ثقافية:
*عِيشَه تْبِيعْ الزِّيتْ، وحْمُّو ناعْس فِالْبِيتْ
*عْطِينِي بْنْتْك، وْزِيدِينِي عَوْلَتْهَا كَّمْحْ
*الله يْجِيبْ اللِّي يَحْسْنْ بِنَا، يْعْطِينَا بْنْتُو
وْيَخْدَمْ عْلِينَا
*النِّاسْ كَتْغْلْبُو وْهُوَ كَيْغْلْبْ عَيْشَه خْتُو.
وهي هجوم متعمد على شخص ما بهدف سلبه كل أسلحته، وتعريته من
كل ما يتخفى فيه ويتحصن وراءه:
اللِّي خَانْهَا دْرَاعْهَا تْقُولْ مْسْحُورَة.
بل يمكننا القول إنه بدون نقص لن توجد سخرية، ذلك أنه في
عالم موسوم بالكمال لن نعثر أبدا على الهزء أو السخرية، "فمادة السخرية هي
تتبع وتعداد عيوب ونقائص المرء".
*النَّاس فِالنَّاس والْقَرْعة فْنْتِيفْ الرَّاسْ
*عَشْرَة دْالْعْسَارَى مَا يْكْتْفُو شِي الدْجَاجَة
*كُلْ فُولَه خَامْجَة تَيْجِيبْ لِهَا الله فَرُّوجْ عْوْرْ
*اللِّي طَيْبَتُو الْعَمْشَا، يَاكْلُو رَاجْلْهَا.
هذا النقص الذي تفضحه السخرية، قد يشعر أحيانا بحس تراجيدي:
بَشْحَالْ الْقَوْس أَمُولْ الْقَوْس؟ دَابَا يْحْيِيكْ الله
وَتْشْرِيه بْلاَ فْلُوسْ.
وقد بلغ أحيانا، ذروته، فتنقلب السخرية هجاء:
*الزَّلْطْ والتّفْرْعِينْ بْحَالْ دَبَّانْ الزَّبّابْلْ
*الكَيْ فَالبْغَالْ وَالْحْمِيرْ مَالْهَا تْزَعْرَطْ
*وَاشْ الْحْمَارْ كَيْعْرَفْ مُولاَيْ ادْرِيسْ
*لُوْ كَانْ الْخُوخْ يْدَاوِي، يْدَاوِي دُودُو.
يقول عبد الواحد لؤلؤة عن هذا النوع من السخرية التي تتلبس
الهجاء: "السخرية لون من الهجاء.. ثمة سخرية هجائية. وثمة كذلك كوميديا
وسخرية لا تتصف بالهجاء؛ كوميديا أكثر كرما وسخرية، أكثر جدية من الهجاء".
وعلى الرغم من النبرة اللاذعة، والإيلام اللذين تعتمدهما السخرية، فإن الساخر،
دائما، هو حسب موريي، إنسان مثالي يحب الخير والجميل والحق، والسخرية فعل عدالة
تفضح المسخ والاعوجاج، وترغب في تصحيح ما يسيء إلى الحقيقة.
ولهذا تكون السخرية أحيانا لاذعة ممزوجة بالغضب والاحتقار
والكره، كهذا المثل الذي يدين التعلق بالدنيا، مثيرا عواطف الضحك والكره في آن
واحد:
*بْحَالْ الْقَفْزْ دْ الدّجَاجْ غِيرْ الضِّيقْ والنْقِيبْ
والخْنْزْ.
إن كلا من الهجاء والواعظ يهدف إلى الإقناع، إلا أن موقف
الأول، بالطبع، أكثر صعوبة، فالثاني يريد بالدرجة الأولى أن يقبل سامعوه الفضيلة،
في حين يجب على الأول أن يحملهم على الاتفاق معه في تبين وإدانة ما يعده معيبا في
السلوك والناس. ووفق هذا المنظور فهو الآخر أخلاقي، ولكنه أخلاقي متجهم يحمل على
معايب زمانه ومكانه.
VI - خلاصات
لقد انطلقنا في هذا العرض من اقتراح أريكشيوني التي رأت إلى
السخرية اللفظية في ضوء المعنى المجازي والتعارض الدلالي. إلا أن هذا لا ينفي وجود
اقتراحات ومقاربات أخرى، حاولت بدورها تفسير اشتغال فاعلية السخرية الأدبية
كالإضافة الجديدة التي قدمها سبربر وولسون حيث اعتبر السخرية استرجاعا.
ويقوم الاسترجاع إجمالا، على اعتبار السخرية حوارا مع موقف
أو رأي سابق. فقول القائل: "الجو جميل" في سياق غير مناسب لمنطوق اللفظ كظهور
عاصفة مثلا، هو استرجاع لرأي يدعي أن الجو سيكون جميلا. ومن ثم فالاسترجاع إصدار
لحكم لنسفه بطريقة غير مباشرة، ودون أن يبدر من المتكلم ما يدل صراحة على معارضته
لذلك الحكم.
ويرى محمد العمري أن هذه المقاربة تفسر عددا كبيرا من
الأمثلة التي تستعصي على نظرية المجاز، ومن جهة ثانية فهي تكشف الجانب الحواري في
السخرية وتجعله في المقدمة فتظهر بذلك حيويتها.
وهو لا يلبث أن يعقب أنه "ليس من السهل دائما تبين هذا
الصدى أو الجزم بوجوده أصلا، ولذلك أميل، مع ميوك، إلى تقسيم السخرية إلى سخرية
مثيرة (أي استرجاعية) وسخرية عفوية أي غير مثيرة".
وبالمقابل فقد تصدى محمد ناصر العجيمي لمحدودية الطاقة
الإجرائية لهذا الطرح، إيمانا منه أن الاعتداد بمبدأ الحوارية في هذه النظرية يعني
التسليم بأن الخطاب بجميع أنواعه يتأسس على السخرية، طالما أن الخطاب مشحون بأقوال
الآخرين الصادرة في مواقف وسياقات اجتماعية مختلفة ومسكون بأصوات متعددة يزاحم
بعضها البعض، وهذا ما يتعارض مع الفكرة القائلة بتميز وتفرد الخطاب الساخر.
أما أريكشيوني فقد اعتبرت أن هذه المقاربة لا تخالف ما
اقترحته، وهي ترتكز في عمقها على التعارض والتضاد، ولم تفعل أكثر من إضافة خاصية ثانوية
إلى الظاهرة كما وصفت من قبل اعتمادا على التضاد.
والسؤال: لماذا يصرح الخطاب الساخر أحيانا كثيرة بشيء ويفهم
منه شيء آخر؟ لماذا نعمد إلى القول: لَلاًّزِينَة وْزَادْهَا نُورْ الْحَمَّامْ،
عوض المعنى الحرفي كما يقدمه هذا المثل: ناقصه ملحه؟
لماذا تعتمد السخرية، ومن ثم المثل الساخر، بلاغة المراوغة
والالتباس؟ فيحتاج المرمز Encodeur إلى جهد إنتاج إضافي طالما أنه ينتج ملفوظا أوليا لا يلبث أن
يفند، ويحتاج المرمز décodeur هو الآخر إلى جهد تأويلي إضافي طالما يحتاج إلى تعيين المعنى
الحرفي ثم العبور منه إلى معنى آخر أكثر ورودا وقابلية.
ما القصدية التي تدفع المتكلم إلى التعبير عن فكرة بنقيضها؟
تجيبنا أريكشيوني أنها أسئلة تحتاج إلى عدد من الأجوبة ذات
الطبيعة السيكولوجية، وهي عموما تؤكد ميل الإنسان إلى الاستعارة.
ولعل هذا الكلام الذي تقدم، يستتبع ضرورة التأويل، والتأويل
المضاعف حين يتعلق الأمر بالأمثال الساخرة، فكلاهما يختص بالإيحاء، وكلاهما يستدعي
السياقg