ص1     الفهرس    31-40

ثقافة الكتاب وثقافة الشاشة

 

عبد السلام بنعبد العالي

ربما تساءل البعض عما إذا كان التقابل الذي يطرحه هذا العنوان مجرد تقابل شكلي مؤكدا أننا أمام الثقافة نفسها، والقيم ذاتها والمعاني عينها مع اختلاف لا يعدو أدوات النقل ووسائل البث والنشر والتبليغ؟

إلا أننا ينبغي أن نلاحظ بداية أنه حتى إن كان الأمر لا يتجاوز ذلك، ولا يعني إلا كيفية التبليغ وأدوات النقل، فإن له وقعا على المضمون ذاته وعلى قيم الثقافة ومعانيها. ذلك أن حامل المعاني وشكل الثقافة لا بد أن يؤثرا في مضمونها. هذا إن لم يكونا هما ذاتهما مضمونين. وهذه المسألة أثيرت من قبل حتى فيما يتعلق بالكتاب نفسه. ونعلم أن نقادنا القدماء قد سبق لهم أن أثاروا قضية حامل المعنى وعلاقته بالدلالة. فلاحظوا أن النص يختلف معناه باختلاف الحامل الذي يكتب عليه. إن الحامل المادي ليس مسألة شكلية ولا أمرا عرضيا. يرى الجاحظ أن النص لا يلقى الاستجابة نفسها إذا كان مكتوبا على قطعة جلد أو على دفاتر القطني. الورق هش لا يحفظ النص ولا يصونه، أما الجلد فهو يصبر على "الحك" والتغير. هناك بطبيعة الحال حوامل للنص "أبقى على تقليب الأيدي" وأكثر صلابة وتحديا للزمن كالحجر والنحاس. ثم هناك حوامل عابرة سيارة تظهر لتزول وتختفي مثل الصحف اليومية، وأخرى أقل سرعة في الاختفاء مثل الأسبوعيات والشهريات والفصليات والحوليات إلى أن نصل إلى الكتب التي يبدو أنها تظهر لتبقى.

إلا أن الحامل لا ينحصر فحسب في "أرضية" النص، وإنما يطال مادته وأدوات نسخه. يتحدث بارط مثلا عما يدعوه بروتوكول الكتابة، وهو  يحكي عن علاقة الوسواس التي تشده إلى أقلام بعنيها، وتلك التي تربطه بأنواع الحبر وأدوات الكتابة، كما يشير إلى علاقته بآلة الكتابة وما يتولد عن استعمالها من أثر على النص وطريقة كتابته التي تتنافى مع التحوير والخدش والإضافة والحذف والتنقيح.

ليست المعاني إذن أرواحا طاهرة، وإنما هي تسكن مادية الكتابة وتتقمص جسدها وتتغذى من حبرها ودمها، وتتنقل على ظهرها، وتقطن أرضيتها وتحمل لباسها.

أن يرتوي المعنى حبرا وأن يلبس كتابة وأن يسكن دفتي كتاب يحمل اسما بعينه، ليس هو أن يظهر صورةً على شاشة صغيرة، والاختلاف ليس هو الاختلاف بين الحبر والذبذبات الصوتية والموجات الضوئية: إنه اختلاف بين ثقافتين بل بين رؤيتين للعالم، أو على الأصح بين عالمين متباينين.

ذلك أن الثورة الإعلامية هي الآن بصدد إرساء عالم مغاير وبالتالي علاقة جديدة للإنسان بذلك العالم. وليست غايتنا هنا أن نجيب عن سؤال طالما تردد على مسامعنا، ليس مرمانا أن نتساءل ما إذا كانت الشاشة تلغي الكتاب أو، كما يقول البعض، ما إذا كان النص الإلكتروني يلغي النص الورقي؟ ذلك أن المسألة الأساسية في نظرنا ليس هو أن نعرف ما إذا كانت الكهرباء تلغي الشموع، وما إذا كانت آلة الكتابة تلغي الأقلام، وإنما أن نتساءل ما هي القيم الجديدة التي كرسها ظهور الكهرباء في القرن الماضي، وما هي التحولات الكبرى التي تعرفها مفهوماتنا الأساسية نتيجة اكتساح الصورة؟

إن الطفرة الإعلامية تجعلنا اليوم نواجه عالما تعجز مفاهيمنا التقليدية عن استيعابه لعل أهم مميزاته التضاؤل الذي أخذت تعرفه أهمية المكان ليغدو الزمان هو كل شيء وليحل الوجود الآني في الأمكنة المتعددة محل الأبعاد المكانية. سبق لكلود شاب، مخترع التلغراف البصري أن قال: "إن التلغراف يلغي المسافات ويمحو الأرض ويقلص فرنسا ليختزلها في نقطة واحدة". بإمكاننا أن نعمم اليوم هاته المقولة على جميع أنحاء العالم فنؤكد أن تكنولوجيا نقل المعلومات تقضي اليوم على المكان وتقلص العالم لتجعله نقطة واحدة فترده إلى زمان. مما يجعلنا نقتحم أنماطا جديدة من التمثلات الحركية التي تتولد معانيها وقراءاتها مباشرة عن العلاقة المتبادلة بين العناصر الديناميكية الداخلة في تركيبها.

فتزاحم الصور وتشابك القنوات التي تنقلها يولدان اليوم رؤية بلورية للواقع تبدل تمثلاتنا وحساسيتنا، وتتيح لمخيلاتنا العمل في فضاءات جديدة.

إن الإنسان، وهو أمام الشاشة الصغيرة، يدرك العلائق ويربط ويفهم و"يتذكر" بكيفية مخالفة تمام المخالفة لما يقوم به وهو أمام نص مكتوب. ولعلنا اليوم نقتنع، أكثر من أي وقت مضى، أن الصورة تتيح نمطا مخالفا لبلوغ المعرفة والتمكن منها. إنها أقوى بلاغة وأكبر قدرة على تكثيف المعاني وعرضها ونشرها.

إلا أن الأهم من ذلك هو أن التحول المشار إليه لا يقتصر على قدراتنا السيكولوجية ووظائفنا العقلية وإنما يطال وجودنا في مجموعه والعلائق التي من شأنها أن تقوم بيننا. ذلك أن ثقافة الشاشة لا تختلف عن الثقافة الشفوية وثقافة الكتاب في أدوات التعبير، وإنما على مستوى الوجود ذاته. فالصورة والكتابة والكلام تحدد جميعها مجالا معينا للمعقولية. نعلم أن الكتابة غدت منذ كنط مجال الاستخدام العمومي للعقل. في نص ما هي الأنوار؟ يدعو كنط أن يظل مجال الكتابة، التي تستهدف الكوني الشمولي، مجالا يتمتع بالحرية، علما بأن الاستخدام الخصوصي للعقل هو المجال الذي نتوجه فيه بالكلام (لا كتابة) إلى مجموعة محددة.

الكتابة إذن هي المجال العمومي من حيث هو فكرة أخلاقية حيث تتواصل الإنسانية مع ذاتها وتتحدد ككائن عاقل. يتنافى هذا الموقف بطبيعة الحال مع ما ذهب إليه أفلاطون من أن الحوار هو طريق الوجود الحق، الوجود المعقول الذي يتجاوز المظاهر الخداعة.

ما ترسخه ثقافة الصورة هو في الحين ذاته قلب للأفلاطونية، وتجاوز لموقف كنط.

ترى ثقافة الشاشة أن الكتابة والكلام يتأسسان معا على الوجود من حيث هو مظهر. في هذه الثقافة يدرك الموجود مبتعدا عن ذاته مفوضا بديله وصورة عنه. إنها الثقافة التي يستبدل فيها العالم بالتلي-عالم، بمقتطف من الصور التي توجد "فوق" المحسوس تقدم نفسها على أنها هي المحسوس بلا منازع.

يتحدث الإعلاميون عن عالم مواز للعالم الواقعي يدعونه العالم الافتراضي فيتكلمون عن الاقتصاد الافتراضي والديبلوماسية الافتراضية والجامعة الافتراضية.

معروف أن نقل كلمة Virtuel إلى العربية على هذا النحو تمخض عن استعمال علماء البصريات الذين يميزون، كما نعلم، بين الصورة الفعلية وما يدعونه الصورة الافتراضية أي تلك التي نراها ونحن أمام مرآة. ويبدو أننا لو رجعنا بالكلمة إلى أصولها لكان الثنائي: وجود بالقوة ووجود بالفعل أكثر إيفاء بالمعنى، وأكثر دلالة على التقابل الميتافيزيقي الذي يحتفظ به الإعلاميون فهما لعالم التقنية. وما يعنينا نحن هنا بالضبط ليس مسألة الترجمة، وإنما هذا التقابل ذاته الذي لا يرى في الصورة إلا افتراضا، ولا يعتبرها إلا مجرد ديكور ينضاف للعالم الواقعي.

لكن ما ينبغي أن نلح عليه هو أن الطفرة الإعلامية لا تضعنا فحسب أمام عالم افتراضي لا وجود فعلي له، أمام مجموعة من الصور، إنها تضعنا بالأولى أمام "علاقات اجتماعية تتوسطها الصور"، أمام عالم فيه للخدعة نصيب من الحقيقة والفعل والفعالية، بل من الوجود الفعلي، عالم يكون فيه الشيء بقدر ما لا يكون.

الصورة إذن هي "لب لا واقعية المجتمع الواقعي" ووراءها عمليات تحويل وإنتاج وصناعة علها أهم صناعات العالم المعاصر.

إضافة إلى هذا القلب للرؤية الأفلاطونية تقوم ثقافة الشاشة بتجاوز الموقف الكنطي من الكتابة وعلاقتها بالعمومي والخصوصي.

ذلك أنها ترى أن العقل عندما يستخدم الوسائط الإعلامية ككتابة فإنه يظل خصوصيا، كما أنه عندما يستخدم الكلام الشفوي فإنه قد يتوجه إلى الجميع لا إلى مجموعة محددة. فلم يعد مجال الشفوي هو مجال الحميمية والحوار، ولا مجال الخصوصي وحده.

عندما نقول إذن إن العالم غدا صورة فينبغي أن نؤكد أن الصورة لا تعني هنا تمثلا لموضوع من طرف وعي ذاتي. إنها تعني بالأولى رؤية تعددية من طرف ذات كونية شمولية. إلا أن هاته الذات كما يتصورها الإعلام كشمولية ليست ذاتا بالمعنى المعهود للكلمة، وإنما هي المتلقي الكوني للإرساليات.

المرسل يوجه على الدوام وفي كل مكان إرساليات من أجل الجميع ومن أجل لا أحد.

فلا معنى هنا للمفاهيم التقليدية للقارئ والمتلقي والجمهور والهدف. ذلك أن قنوات البث الإعلامي لا تتوجه اليوم لهدف بعينه، أو على الأقل إنها تجهل بالضبط من هو وما هو المتلقي الذي سيتقبل إرسالياتها. إنها تكاد تعمل دون عقل مدبر.

يعطي أمبرتو إيكو مثال القميص الذي يغدو مرتديه قناة من قنوات الإشهار والإعلام ووسائل الاتصال. فهذا القميص يحمله لاعب الكرة في المباراة التي تنقل عبر الشاشة التي تصور صحيفة ما لقطة من لقطاتها، فأين هي وسيلة الاتصال هنا؟ والمهم من أية نقطة تصدر؟ ما هو مركزها؟ الظاهر أن الجواب لم يعد بمثل السهولة التي كان عليها فيما سبق، فنحن أمام وسيلة اتصال مضاعفة، أمام وسيلة متشابكة. والأهم من ذلك: أمام رسالة لم يعد بإمكاننا أن نحدد مرسلها. فمن يبلغ الرسالة؟ أهي الصحيفة التي نقلت الصورة من الشاشة التي نقلت المباراة فصورت اللاعب وهو يحمل قميصا رسمت عليه رسوم وكتبت فوقه أحرف؟

ثم لمن تتوجه الرسالة؟ في وسائل الاتصال "التقليدية" كان بالإمكان حصر مراكز البث وقنواته ومراميه. وكان بالإمكان تبعا لذلك تحديد فحوى الرسالة وحصر معناها و"حمولتها الإيديولوجية". أما وقد تشابكت القنوات وتعددت المراكز (إن لم نقل إنها ذابت) والأهداف والمرامي، فلم يعد بالإمكان لا ضبط المتلقي، ولا حتى ضبط المعنى الذي ستبلغه إياه الرسالة. فكل ما هناك حركة أو دوامة من الرسائل التي لا حصر لها تؤلف فيما بينها تركيبات لا نهاية لها لتأخذ معاني لا تتوقف عند حد. فأمام بلْورة الكتاب تقوم بلّورية الشاشة. أمام تمركز الكتب وتمركز المكتبات هناك تشتت ثقافي. إننا أمام طوفان من المعلومات مفتوح أمام الجميع. وهذا يعني أن علينا أن نراجع مفهوماتنا، بصدد هذه الثقافة الجديدة، لا عن القارئ والمؤلف والمرسل والمتلقي فحسب، بل حتى عن النص والتأويل وحركة توليد المعاني.

ذلك أن النص، في ذاكرة الحاسوب، ليس مجموعة متناسقة من الكتابات، إنه لا ينص على معاني بعينها، وهو ليس وحدة ونسيجا عنكبوتيا وإنما مجموعة شذرات يعيد الحاسوب التوليف بينها بكيفيات لا متناهية وذلك بالضبط لحظة ظهورها على الشاشة. وهذا يعني أن أي نص دخل في بنك المعطيات هو في الوقت ذاته نصوص لا حصر لها. هذا النص المولد للنصوص هو ما يسميه البعض النص الأعظم Hypertexte. وهو يكشف عن أبعاد جديدة للقراءة والرؤية ويجدد طرق التأليف ذاتها. فعن طريق هذا النص يمكن "للقارئ" أن يحدث كل لحظة انفصالا بالنسبة لما يقترحه "المؤلف" وذلك بالانتقال المفاجئ نحو مقطع آخر.

ينبغي أن نتصور أن جميع الوثائق الموجودة على نسيج الأنترنيت ترتبط فيما بينها لتشكل هذا النص الأعظم. وما يهمنا نحن هنا ونحن نقارن الكتاب بالشاشة، هو إبراز الخلخلة التي باتت تهز بعض الثنائيات المعهودة كالقارئ والمؤلف. ولتوضيح ذلك يكفي أن نشير إلى ما أصبحت تعرفه شبكة الأنترنيت من عمليات التأليف–القراءة الجماعية. فبعض الكتاب الأنجلوساكسونيين مثلا يؤلفون (ولنأخذ هنا الكلمة في حرفيتها أي يبنون ويركبون) روايات على شاكلة أشجار متفرعة حيث تتجه كثير من الفروع اتجاهات مختلفة انطلاقا من جذع مشترك، بحيث يمكن لمشارك معين أن يعمل على تطوير فرع بعينه. بهذا يغدو "الإبداع" (لنقل البناء) الأدبي تقاطعات وتلاقيات بين عدة "إبداعات" تؤلف في الحين ذاته.

كل هذا يجعلنا نعيد النظر في مفهوم المؤلف الذي كرسته ثقافة الكتاب، بل وفي العلاقة ببينه وبين القارئ. فلم يعد القارئ هنا هو المتلقي السلبي المستهلك، كما أن المؤلف لم يعد هو المبدع المنتج المتحكم في نسج النصوص الإبداعية. لقد فقد سلطته وحجيته. لكن الأهم من ذلك أنه لم يعد ذاتا فردية، وأن النص لم يعد يحمل توقيعا بعينه، ولم تعد له هوية محددة.

ذلك أن كل متدخل مساهم في عملية التأليف يجد نفسه مشدودا إلى مجموعة من العلائق. وكل هاته العلائق تشكل رصيدا معرفيا ينتمي إلى ذخيرة مشتركة، حتى لا نقول إلى تراث جماعي. فمقابل الثقافة الشفوية المحدودة، ومقابل الحوار السقراطي الذي يتم على الساحة العمومية، وفي ساحة الأغورا نحن هنا أمام ما يدعوه البعض التيلي أغورا Téléagora، أي أمام مواطنة من نوع جديد، أمام روابط و"قوميات" تحددها شبكات الاتصال.

والأهم من ذلك أنها "قوميات" تبدو كما لو كانت تنعم بحرية لا حدود لها، وتتبادل المعاني والقيم في شفافية مطلقة لا تخضع لأي رقيب.

يوظف الإعلاميون مجاز الطرق السيارة تعبيرا عن شبكات الاتصال. إن استخدام هذا المجاز أمر لا يخلو من دلالة. ولعل بإمكانه أن يسمح لنا بأن نفهم على نحو أفضل قضية غياب الرقابة هاته.

الطريق السيار، كما نعلم، ليس هو دروب الغابات ولا هو الطرق المعتادة التي ألفناها. توضيحا للفروق بينه وبين هاته الطرق لنتذكر المقارنة التي يقيمها هايدغر بين الغابات من جهة، وبين "المناطق الخضراء" من جهة أخرى، أو تلك التي يعقدها بين نهر الراين عندما كان نهر شومان وهو لدرلين، وبينه عندما غدا "موضوع زيارات تنظمها وكالة أسفار أقامت على ضفافه صناعة خاصة بالعطل" أي عندما "غدا كائنا داخلا في مخطط استهلاكي".

قبل أن تدخل الطرق "في مخطط استهلاكي" كانت تختلف فيما بينها وتتباين. تختلف أبعادا وارتفاعا وصعوبة وخطورة وانعراجا وجمالا. ليست هاته بطبيعة الحال هي حال الطرق السيارة التي تتشابه في كل أنحاء المعمور، بل التي لا تتمايز حتى أجزاؤها فيما بينها.

وأنا مأخوذ في الطريق السيار، أسير في اتجاه واحد بسرعة واحدة لا تتاح لي الفرصة أن أختار التوقف بجانب البحر أو عند النهر أو في أعلى الجبل. كل ما في وسعي هو أن أحتمي بدهاليز ومتنفسات تدعى عندنا "باحات الراحة" (وهي كلها مساحات متشابهة في مكوناتها وألوانها ومعروضاتها)، كي أستأنف السير، أو كي تأخذني الطريق من جديد.

لا معنى هنا لحرية الاختيار ولا للإخفاء والشفافية، ولا للمنع أو الرقابة. والأمر سواء فيما يتعلق بالطرق السيارة التي يتحدث عنها الإعلاميون. فنحن هنا أيضا أمام تقنية تنميطية تلغي الفروق وتقضي على الاختلافات فتسعى إلى توحيد الثقافات، أو لنقل إلى ابتلاعها وصهرها في ثقافة نمطية.

إن غياب الرقابة وحرية الاختيار لا يتخذان معناهما إلا عند تعدد المسالك، إلا عندما نأخذ نحن الطريق ولا تأخذنا هي، والأهم من ذلك أن الحرية لا تكمن في أن تصلنا المعاني شفافة دون حواجز: الحرية هي أن تكون لنا القدرة على الابتعاد عنها. ولعل هذه القدرة أساسا هي ما يعوز هذه الثقافة التي تكرسها الشاشة. فهي ليست مطلقا ثقافة اللامباشرة والتراجع والانتقاد، بقدرما هي ثقافة الـ Live، أي ثقافة الحي المباشر المعيش.

وبعد..

لعلنا أقنعنا من يصر على السؤال عن مصير الكتاب في عصر الصورة، بأن هناك سؤالا أولى من هذا بالطرح، هو المتعلق بمصير الثقافة التي كرسها الكتاب. وهو سؤال يبدو أنه فرع لسؤال أوسع يطرح "مهام الفكر في عصر التقنية".

ولعل بإمكاننا أن نؤكد أنه على رغم كل ما أثبتناه عن ثقافة الشاشة، وما قلناه عن الطرق السيارة، فإن هاته الطرق لا تلغي الطرق الثانوية. صحيح أن الطرق الثانوية غالبا ما تكون معقدة ملتوية عسيرة، إلا أنها تمكننا في بعض الأحيان من التوقف عند جانب البحار، فتفتح أمام الفكر آفاقا وهوامش يتحرر بواسطتها لا من الرقابات المعهودة وحدها، بل من رقابة الوجود وتستره الدائم.