ص1
فهرس 31-40
صورة المرأة في رواية "الضوء الهارب" لمحمد برادة
بديعة الطاهري
الكتابة عن
المرأة هي كتابة عن الإنسان وعن المجتمع، موضوع ما يزال يستمد مشروعية استمراره
وحضوره في مجالات الإبداع لما له من خصوصية في حياتنا الاجتماعية.
لقد دأبت
الرواية العربية على الاهتمام بالمرأة، والكتابة عنها، فجاء حضورها متميزا على هذا
المستوى نظرا لإمكانياتها الهائلة في التعبير.
وبطبيعة
الحال لن نتمكن من رصد مختلف الكتابات في هذا المجال، نظرا لتعددها وغناها، إضافة
إلى أن طرق وأبعاد الاهتمام بالكتابة عن المرأة متنوعة تحكمها عوامل مختلفة منها
الظرف التاريخي والموقف الإيديولوجي للكاتب. وسنكتفي بالإطلالة على نص روائي كتب
في التسعينات لنعاين فيه صورة المرأة.
رواية الضوء
الهارب رواية امرأة/نساء يمارسن العراء ليبحن ويعترفن فتأتي الرواية من خلالهن
لتحاور المسكوت في مجتمعنا وهو الجنس.
ثنائية
المرأة/الرجل، ثنائية تحكم الكون الإبداعي ولكنها سرعان ما تنهار لتكشف عن مفارقة
تجعل العالم الروائي عالما ذكوريا.
فرغم أن
النص يحدثنا عن نساء متعددات، غيلانه كنزة فاطمة، ونساء أخريات يتفاوت حضورهن
النصي وإن كن يحضرن كوحدات فاعلة، يصبح الرجل محور السرد، ومركزه فلا تقتحم المرأة
العالم الروائي إلا من خلال السارد المتباين حكائيا أو العيشوني كشخصية ثابتة
تمارس شهوتها للمرأة والرسم، وهما لحظتان مفترقتان أحيانا، ومقترنتان أحيانا أخرى.
والجدير
بالذكر أن هذه الرواية جاءت لتشخيص واقع المرأة المغربي في فترة معاصرة، ومن خلاله
بعض القضايا المتصلة بواقعنا المغربي.
سنحاول أن
نطلع على صورة المرأة من خلال الأبعاد التي تشغلها في النص وسنركز على ثلاثة أبعاد
هي:
ـ البعد
الجنسي.
ـ البعد
الرمزي
ـ البعد
الاجتماعي.
1 - البعد
الجنسي:
في ثقافتنا
العربية..، عندما يصبح جمال المرأة موضوعا للوصف يبرز البعد المادي الفيزيولوجي
كقاعدة أساس له..، فتمتدح في المرأة بعض الأجزاء التي تبرز جمالها، كالعينين،
والشعر، والصدر، والخصر… أما عندما ينتقل الوصف إلى الجمال الداخلي فإنه يركز على
الحياء، والحشمة، والوقار كسمات رئيسية تحدد المرأة الجميلة فتظهر المفارقة
العجيبة، حيث جدلية الخفاء والتجلي تشكل لعبة الوصف.
تقتحم
المرأة عالم الرواية، لتتحدد كشيء يثير الإغراء والإعجاب، إذ يتم التركيز على بعض
الأجزاء التي أشرنا إليها سابقا لتؤسس حوارا مع الآخر الذي هو الرجل، فتنتفي هي
ككائن ويصبح وجودها رهينا بما تسمح به عين السارد، بل وتختزل منذ البداية إلى
وظيفتها كامرأة خلقت للشهوة والجنس، نقرأ:
"كان
وجهها يكتسي غلالة ناعمة ومثيرة… العينان عسليتان ومضيئتان… والجلباب منسدل على
جسد تبدو ملامح رشاقته عبر نتوءات الصدر والخصر"(1).
وتزكي
المرأة دورها، وتمارس الإشهار لتمرر نفسها كسلعة تعرض للشهوة: "أنا معجبة،
وجئت لقضاء السهرة معك هل يضايقك وجودي-ماعجبتكش"(2).
إنها تمارس
الإغراء لتمكن جسدها/ذاتها من الاستمرار، "فالمرأة عندما لا تغري تعيش
انسحاقا وجوديا، ولكي تلغي الموت عن جسدها تمارس التمويه"(3).
التمويه
والإغراء بطاقتان تحملهما فاطمة في طنجة من خلال علاقتها مع العيشوني وفي باريس من
خلال علاقتها مع متياس.
وكما مارست
غيلانة الإغراء بالجسد كموضوع للرسم، ومكان للشهوة الجنسية، تمارس التمويه عندما
تحج، ويكون الجسد دائما وسيلة لتمارس من خلاله لعبة العراء والتخفي.
معظم النساء
في الضوء الهارب يدخلن العالم الروائي من باب الجنس، ويصورن كشيء يمتلكه الرجل،
باستثناء أم العيشوني التي تبدو امرأة/رجلا، فهي قوية وصلبة. وكيفما كان الفضاء
الذي تتحرك فيه المرأة، نجدها تسعى إلى إشباع رغباتها الجنسية، عاهرة كانت أو
متحررة، تقول غيلانة "وفي مدريد وجدت عشرات المغربيات من كل الأصناف،
والطبقات يعملن في البارات، والمطاعم، والمراقص، ويتاجرن بأجسادهن"(4)
وتقول فاطمة "هناك في طنجة… تعرفت على الفتيات في المقهى، بعضهن يعملن في
مكاتب المحامين أو المستشفيات"(5).
عبر الجنس
تعيش المرأة حالتين:
1 - حالة
بحث عن الذات وإثباتها، ومن خلالها رفض التشيؤ، وهذا ما تجسده علاقة فاطمة
بالداودي تقول "كنت فيما يخيل إلي الآن حريصة على أن أعيش تحرري في حالته
القصوى"(6) وتضيف "وجسدي الملتهب الفوار المشدود إلى
الانعتاق من محرمات وهيمة"(7) ثم "معه لم أعد تلك المرصودة
لتنفيذ ما ينتظر منها الدراسة النجاح ثم الزواج والإنجاب لتشخيص قيم أغلبية قوامها
النفاق والتظاهر"(8).
2 - أما
الحالة الثانية فهي حالة إنسحاق الذات، تقول فاطمة: "صادفت حالات سادية
أرعبتني، وأخرى مازوشية أذهلتني، ووجدتني أغوص في تجربة تنطوي على مفاجآت قاسية،
وعلائق جنسية تنفي عني أكثر فأكثر جسدي"(9).
وإذا
استثنينا علاقة فاطمة بالداودي، فإن الرغبة في الجنس لا تكون وليدة حاجة ذاتية،
هناك دوما كما يقول René Girard
وسيط يولد هذه الرغبة وهو إما:
1 - خارجي
حيث تكون الوساطة من خارج العالم الروائي الذي تتحرك فيه البطلة، ففاطمة مثلا
تحاكي بطلة رواية "آحاد الآنسة بونون" لجاك لوران، وغيلانة تمارس
الإغراء بالجسد انطلاقا من تمثلها لدور امرأة تمارس هواية رسم الجسد العاري.
2 - وداخلي:
إذ يكون المثل الأعلى منتميا إلى الوسط الحميمي للشخصية(10) ففاطمة
تمارس الجنس مع العيشوني بعد أن أوحت لها أمها بالرغبة في ذلك من خلال ما حكته لها
عنه، وهذه الوساطة هي التي توسع الهوة بين البطل والقيم الحقيقية، إذ أن البحث
ينتقل من محاولة إثبات الذات إلى نفيها.
من هنا نقول
بأن رواية الضوء الهارب، وهي تصور المرأة من خلال الجنس تبتعد عن التصور
الإيروتيكي للجنس، ولكنها تحمل بين طياتها ملامح هجاء للتصور الجنسوي التحرري،
وتلك حالة وعي تلتقي فيها البطلتان معا: فاطمة وغيلانة(11).
2 - البعد
الرمزي:
يقول جورج
طرابشي "متى أدركنا أن الرواية العربية كانت ولا تزال رواية رجال، استطعنا أن
نفهم كيف أمكن أن تنحط المرأة في رواياتهم من إنسان إلى رمز والمرأة حتى عندما
يرمز بها إلى الوطن تخسر استقلالها، وسؤددها الذاتي، وتصير أشبه بمادة صلصالية يصنعها
الآخرون، ولا تصنع نفسها تملك اللدائنية ولا تملك طاقة الحرية، وكم تخسر المرأة
باعتبارها إنسانا حين تحول إلى رمز للوطن، وكم يخسر الوطن نفسه حين يرمز له بكائن
لا حرية له"(12) ونقول: عندما ترمز المرأة إلى الوطن ترقى في
دلالاتها، لأن من لا وطن له لا هوية له ولا وجود له، ولكن عندما يرمز للوطن
بالمرأة ينحط، لأن ذاكرتنا العربية وهي تعين المرأة لازالت رهينة دلالات سلبية
تحيل عليها المرأة لغويا(13).
في الضوء
الهارب تتحول المدنية إلى امرأة لتصبح رمزا للشهوة والجنون الجنسي والابتذال.
المرأة هي المدينة، والمدينة هي المرأة "حسناء تبذل مكنوناتها بحساب"
"مدينة مشاع امرأة هلوك"(14) تعيش حاضرها "واثقة لا
مبالية بأشواقي النوستالجية"(15).
كلاهما يعرف
الضيف بالقيود والحدود، كلاهما يشتهى، لكن المدينة وهي تمارس عشقها المتنوع تؤسس
ذاكرة التاريخ والحضارة، بينما المرأة في عشقها المتعدد تعيش الانحدار.
المدينة لا
تنصهر في جلد المرأة ولا تذوب فيه، تحتفظ بصلابتها وقوتها، مدينة تأبى التملك؛
تملك الحضارة، وتملك الشخصية (العيشوني بصفة خاصة). وتفرض العصيان…
بينما
المرأة رغم صراعها ضد أشكال التملك والقيود، تصبح شيئا يمتلكه الرجل، وإن اختلفت
أشكال هذا التملك:
1 - مع
العيشوني تدخل دائرة عشيقاته/حريمه: غيلانة، كنزة، فاطمة، ويستعصي هو عن التملك إذ
يرفض الزواج من غيلانة، وينفلت من كنزة لأنها أصبحت تفرض عليه نظاما خاصا يشرع
لعلاقة الملكية.
2 - ومع
الآخرين تبيع الجسد، وتملكه بالإيجار.
3 - البعد
الاجتماعي:
كثيرة هي
الروايات العربية التي اتخذت المومس شخصية من شخصياتها. والمومس هي عادة امرأة
جميلة تتحول إلى الدعارة نتيجة حب فاشل، أو خطأ أو اغتصاب، فتكون بذلك ضحية
المجتمع. في الضوء الهارب تعلن غيلانة أنها أصبحت عاهرة مع سبق الإصرار،
ولكننا عندما نعاين سيرورتها النصية، يتبين لنا أن هناك مجموعة من الظروف وراء
تحولها ذلك، منها تجربتها مع العيشوني الذي عاشت معه طويلا منتظرة (حب فاشل) ثم
ثقل التقاليد في فاس بعد زواجها (الخطأ) إضافة إلى دور الروبيو في مدريد، وهي
الشخصية الرئيسية التي كانت وراء تعاطي غيلانة الدعارة غدرا (اغتصاب بمعنى من
المعاني)، وفاطمة تمارس الدعارة بشكل مقنع.
إن الدعارة
تتم في إطار تبادلي بين موضوعين هما: المال والجسد إلا أن العلاقات الجنسية لفاطمة
مع الآخرين لا يتحقق فيها الشرط الأول. كما أن فاطمة لا تقف في ساحات باريس التي
تعرف رواجا علنيا للدعارة، ولكنها تمارسها انطلاقا من فضاء المتحف متنكرة في أدوار
الآنسة بونون.
وتكون
المرأة حاقدة على المجتمع وجميع مؤسساته، تتمرد على وضعها وتمارس حريتها،
وإنسانيتها محاولة أن تثبت أن المجتمع قد يفرض عليها جميع أشكال الهوان، ولكنه لن
يصادر ذاتها لذلك وجدنا فاطمة تحتفظ بالجنين. وانطلاقا من هذا الضغط الاجتماعي
الذي يصدم المرأة، ويحاصرها، تتشكل سلوكاتها وفقا لما تراه وما تقتنع به.
لقد أبدت
المرأة جرأة كبيرة في الإعلان عن رغباتها والبوح بمكنونات النفس الداخلية، وعبر
المرأة تتشكف لنا علائق اجتماعية زائفة في واقع يفقد فيه الإنسان قيمته كفرد، في
مقابل مجموعة من المؤسسات السلطوية منها الدولة والأسرة (في صورة الأب)، والمال،
الشيء الذي يجعل المرأة (ونركز بصفة خاصة على غيلانة وفاطمة) ترفض الفضاء الداخلي،
وتعلن الحرب على العالم الخارجي (التمويه الذي تمارسه فاطمة مع عشاقها) وإن كانت
هذه الحرب تنتهي في النهاية بالتصالح مع الذات والواقع، إذ تنتهي قصة فاطمة من حيث
ابتدأت وتأخذ بالتالي شكلا دائريا تكون انطلاقته مع الداودي من أجل الزواج تقول:
"لكنني لا أستبعد أنني قصدت من الاحتفاظ بالجنين استدراج حبيبي الداودي إلى
الزواج"(16) ونهايته مع متياس "لا شيء يحركني، وكأنني انغلقت
على أمل وحيد موت مدام شنطال ليرث ماتياس ثروتها، وتخلق جنين في بطني يضمن لي
نصيبي من الثروة"(17).
إن عالم
المرأة عالم متسم بالاهتزاز والتفكك، هو تفكك، وتصدع أسرتها ومجتمعها، الشيء الذي
يحولها إلى امرأة هاربة من الزمن الماضي وهاربة من المكان، تقول فاطمة "كنت
معلقة هاربة كما قلت لك من ذاكرتي متشبثة بالأمور التافهة، مدمنة على التجوال..
عبر شوارع باريس باحثة عن وسيلة تمكنني من البقاء فيها وقطع الصلة مع الماضي
وبلدي"(18).
وفي الختام
نقول إن المرأة في الرواية امرأة محاصرة ضعيفة وهذا ما يتجلى لنا من خلال
المستويات الثلاث الآتية:
1 - الجنس
لأنها لا تمارسه في غالب الأحيان إلا احتداء بمثال معين، كما أنها تعيش خلاله
انحدارا بطيئا هو انحدار لزمنها، فعبره "تعتبر ككائن يمثل قيمة للاستعمال
بالنسبة للرجل، وقيمة للتبادل بين الرجال، وهي بضاعة إذ تدخل ضمن سياق التبادل
الذي يؤسس الاقتصاد العام للمجتمع، وهذا التحديد يقرر قيمة المرأة داخل التجارة
الجنسية ومن تم فالمرأة لا يمكن أن تكون أبدا إلا مجالا للتبادل"(19).
2 - المكان:
حيث باريس مسرح الثقافة والمعرفة، باريس ذاكرة التاريخ والحضارة تنتفي لتحضر كمكان
للدعارة، بينما هي مكان مؤهل لتجاوز الذات الماضية الضعيفة، وبناء ذات أخرى حاضرة
قوية.
3 - السرد:
حيث لا يتم دخولها العالم الروائي إلا من خلال السارد أو الشخصية، سواء كانت
موضوعا أو ذاتا للسرد.
هوامش:
1 - محمد
برادة: الضوء الهارب، ط2، منشورات الفنك 1995، ص13.
2 - المرجع
نفسه، ص14.
3 - محمد
نور الدين أفاية: الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش، منشورات
أفريقيا الشرق 1988، ص42.
4 - الرواية:
ص74.
5 - المرجع
نفسه: ص130.
6 - المرجع
نفسه، ص133.
7 - المرجع
نفسه، ص118.
8 - المرجع
نفسه، ص118.
9 - المرجع
نفسه، ص156.
10 - René
Girard: Mensonge Romantique et Vérité Romanesque, Edition Bernard
Grasset, 1961.
11 - انظر
الرواية، ص14 ثم ص95.
12 - جورج طرابيشي: رمزية المرأة في الرواية العربية
ودراسات أخرى، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان 1981، انظر ظهر
الغلاف.
13 - يمكن
للقارئ أن يطلع على كلمة امرأة في المعاجم العربية ليتبين دلالاتها السلبية
المتعددة.
14 - الرواية،
ص172.
15 - المرجع
نفسه، ص73.
16 - المرجع
نفسه، ص133.
17 - المرجع
نفسه.
18 - المرجع
نفسه، ص165.
19 - نور
الدين أفاية، مرجع سبق ذكره، ص53.