ص1      الفهرس   المحور 

 

تصور الشخصية الروائية لدى كونديرا

 

دراسة بقلم: جاك لومارينيل

ترجمة: إبراهيم بومسهولي

دخلت الرواية، انطلاقا من نهاية القرن التاسع عشر، "عصر الشك"، ووجدت الشخصية الروائية نفسها مهددة بعملية مساءلة الواقعية النفسانية. تندرج أعمال ميلان كونديرا في تطور تاريخ الرواية الأوروبية هذا؛ الذي رصده كونديرا بنفسه في مبحثه الموسوم بفن الرواية: "إذا كنت أدرج نفسي فيما بعد الرواية التي تعرف باسم النفسانية، فإن هذا لا يعني أنني أريد أن أحرم شخصياتي من أن تكون لهم حياة داخلية، هذا يعني فحسب أن رواياتي تهتم، بالدرجة الأولى، بألغاز ومسائل أخرى"[1]. سنتبنى بدورنا هذا الموقف التساؤلي إزاء شخصيات روايتين لكونديرا: المهزلة وخفة الوجود التي لا تحتمل[2]، باحثين عن وحدة مفهومية تدلنا عليها تصريحات الكاتب ذاته: انصب اهتمامنا في بداية تفكيرنا على ما يفرق بين الروايتين المختارتين: الشروط التاريخية لكتابة كل رواية على حدة، إضافة إلى الحدث الحاسم الذي وقع في الزمن الفاصل بينهما؛ أي رحيل الكاتب من بلاده. عرف الشكل السردي تغيرا بين المهزلة -وهي أولى رواياته- وخفة الوجود التي تمثل اكتمال تطور معين؛ ذلك أن الكاتب الذي كان يتخفى وراء شخصياته، والذي كان يتحدث على لسانهم، لأن الوضعية السياسية في بلاده كانت تفرض ذلك، أصبح يتحدث مباشرة وبلسانه، انطلاقا من رواية كتاب الضحك والنسيان. أما آخر رواياته: الخلود فإنها تمثل تطورا آخر: أصبح الكاتب شخصية روائية.

سنتناول في هذه الدراسة أولا نظام أعمال كونديرا: أيا كان نوع الرواية، فسنجد أن الشخصية فيها "غير قابلة لأن تعزل عن العالم المتخيل الذي تنتمي إليه"[3] ستسمح لنا مقاربة ثانية، يمكن وصفها بالظاهراتية، من اكتشاف ما يهدد تكامل الأنا. هذان الجزءان سيؤديان بنا إلى الوقوف على التساؤل التالي: إذا كانت الشخصية غير قادرة على تأسيس هويتها على "نحن" جماعي، ولا على علاقة ثنائية يشكلها الزوج (أو الثنائي)، فأي معنى يمكن أن نعطيه للحياة الإنسانية؟ عندها سنرى بأن إشكالية الشخصية مرتبطة بإشكالية الكاتب، الباحث عن قيمة يمكن أن تكون مصلا مضادا لفراغ الوجود.

أولا – الشخصية في بنية الرواية:

نريد أن نبحث، في جزئنا هذا الأول، عن الوسائل الخاصة التي تمكن، داخل كل رواية، من "إنارة الشخصية"، والعبارة مقتبسة من الكاتب نفسه، في مبحثه عن الرواية. إذا فحصنا اشتغال كلا الروايتين، فسنلاحظ بروز مبدأين أساسيين، يعملان بطريقة متصاحبة: مبدأ يحدد بنية زمنية غير منتظمة وغير كرونولوجية ومبدأ مرتبط بانفجار السرد إلى أصوات متعددة، أو وجهات نظر متكاثرة في إطار تأليف تعددي. هكذا، وبفضل نظام رجع صدى من جزء لآخر، تبرز البنية العلاقات التي توجد بين مختلف الشخصيات، وتبرز من جهة أخرى الدور الذي لعبه التاريخ في وجودها: "ليست الوضعية إطارا خلفيا هنا، أو ديكورا تجري فيه وأمامه الوضعيات الإنسانية، ولكنها في حد ذاتها وضعية إنسانية وجودية مكبرة"[4].

تجري الحركة في رواية المهزلة على مستويين زمانيين، تفصل بينهما خمس عشرة سنة، والبنية مكونة من الذهاب والإياب على امتداد هاتين اللحظتين. الارتداد نحو الماضي يؤدي بنا دائما إلى الشهور السابقة أو اللاحقة للحدث الذي طبع تاريخ تشيكوسلوفاكيا، أي استيلاء الشيوعيين على السلطة أثناء ثورة فبراير 1948. يخبرنا لودفيك في بداية الرواية، وهو السارد الأول، بأنه عائد إلى مدينته الأم بعد غياب استمر خمس عشرة سنة، وفي الصفحات الموالية يحيل مرتين إلى نفس التحديد الزمني. المرة الأولى، عندما يقابل مجددا الدكتور كوستكا الذي التقاه لأول مرة "منذ خمس عشرة سنة" (ص20)، والمرة الثانية عندما يكشف، رغم "القناع المزيف للدهر" بأن مصففة الشعر التي ائتمنها عليه صديقه، هي لوسي، تلك التي أحب فيما مضى. الذاكرة هي التي ستملي بقية سرد لودفيك، كما سنرى في بداية الجزء الثالث من الرواية عندما يتناول الكلمة: "كنت أعي بأنني لن أتمكن من تجنب ذكرياتي: لقد كانت تحاصرني" (ص48). منطلق سرد المهزلة ونتائجها هو "السنة الأولى بعد فبراير 48" (ص49) وينتهي بذكرى لوسي وبنفس الإحالية الزمنية التي تتواثر بشكل مستمر: "لوسي؟ آه! بلى! انقضت خمس عشرة سنة دون أن ألمحها. ولم أكن أعرف عنها شيئا لمدة طويلة" (ص184-185). في الجزء الخامس، وفي الشقة التي أعارها إياه كوستكا، وبينما يشرع في إنجاز "مهمته" لينتقم لماضيه، تستحضر كلمات هيلينا شخص زيمانيك أمام ناظريه. زيمانيك، زوجها، الذي أعلن طرده من الحزب ومن الجامعة: "وإذا بي أرى نفسي فجأة في مركز هذا المشهد الذي مضت عليه 15 سنة"(ص284) في الجزء السابع والأخير سيتحدث عن "المتاريس" التي فصلته "لمدة 15 سنة"(ص446) عن شبابه. هذا الارتداد الوسواسي الذي تقوم به الشخصية نحو هذه الظروف التاريخية، يبين بأن الأمر يتعلق بالنسبة لها بـ"وضعية وجودية ذات دلالة" حسب مصطلحات الكاتب نفسه: "التجربة الأنتربولوجية الأساسية لدى لودفيك، لها إذن جذور تاريخية، بيد أن وصف التاريخ بذاته (أي دور الحزب والجذور السياسية للرعب، وتنظيم المؤسسات الاجتماعية، الخ) فهو ما لا يهمني بتاتا، وهو ما لن تجده في الرواية"[5].

تحتل شخصية لودفيك مكانة متميزة في عملية السرد، لأنه تؤدي دور السارد في أجزاء من الرواية، ولأنها كذلك تقوم بالتدخل مرة من اثنين في السرد ذي الثلاث مصادر في الجزء الأخير. لودفيك قطب مركزي في نظام العلاقات التي تشكل الرواية. هذه العلاقات تمتد إلى مرحلة تكوين الشخصيات في الأعوام التي اتسمت بتغير سياسي حاسم في تشيكوسلوفاكيا. بالإضافة إلى ذلك، تحيل كل شخصية ساردة إلى نفس هذه المرحلة، الشيء الذي يخلق في الرواية نظاما من رجع صدى ومن التقابلات في كل جزء من أجزاء الرواية. نعلم، من خلال سرد لودفيك في الجزء الثالث، ثم من خلال سرد جاروسلاف، سارد الجزء الرابع، أن لودفيك كان شاهد زواج رفيقه القديم، في الدراسة، في كل مرة، تتم الإشارة إلى المرجعية الزمنية. تقدم جاروسلاف بطلبه في اليوم الموالي لطرد لودفيك. من جهة أخرى يخبرنا جاروسلاف أن ابنه بلغ الخامسة عشر من عمره. ومثال ذلك، وبعد المعلومة التي يقدمها لودفيك في البداية، والتي تتعلق بأول لقاء له مع كوستكا، سنحصل على تدقيقات في السرد، وهي تمثل رجع صدى للمعلومة الأولى: يقول لنا كوستكا أن ذلك اللقاء يعود لعام 1947. ونعلم بالخصوص أنه بعد فبراير 1948 أصبح لكل منهما مصير مختلف تماما عن الآخر: "لم تتح لي أبدا فرصة اللقاء به في الكلية. كان يجب على مصيرينا أن يكونا أكثر قربا من بعضهما: بعد ثلاثة أشهر من دردشتنا طرد جان من الحزب، ومن الكلية، وبعد ستة أشهر جاء دوري لمغادرة الجامعة"(314).

هكذا يتأسس حوار خيالي بين مختلف الشخصيات، من جزء لآخر. ينفتح سرد كوستكا، الذي يحتل الجزء السادس، على هذه الملاحظة الشخصية: "لم نتقابل منذ زمن طويل، ولكن بالفعل لم نتقابل سوى ناذرا. هذا أمر غريب، لأنني أقابله كثيرا في الخيال، كثيرا ما أقابل لودفيك جان، وأوجه له حواراتي الداخلية، كما لو كان هو خصمي الأساسي"(ص309). لوسي هي الموضوع المحبب في هذا الحوار الخيالي، لوسي التي عشقها كل منهما: ساعدها كوستكا عندما تم قبولها في مزرعة للدولة، بعد هروبها من أوسترافا واختفائها من حياة لودفيك. وعندما تقابلا مجددا، تحدث كوستكا إلى لودفيك عن لوسي، ولكن في حوار خيالي أخبره بأهم ما فيه: "عندما كنت أمس أمامي، يالودفيك، جالسا في هذه الكنبة، لم أكن راغبا في إحراجك، أما وأنك الآن معي مجددا وقريب إلي كما كنت فإني سأقول لك.."(329). سنجد مثل هذا النمط الحواري لدى جار وسلاف ولودفيك، كما تبين ذلك لعبة الضمائر الشخصية، أي الانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب الذي يحادث به جار وسلاف لودفيك: "ماذا جاء يفعل هنا؟.. إنك جئت كعلامة نحس، علامة سوداء"(388). وقبل ذلك تم قص زواج جار وسلاف التقليدي حسب وجهتي نظر مختلفتين: سخرية لودفيك في الجزء الثالث تقابلها في الجزء الموالي خيبة أمل جار وسلاف إزاء موقف صديقه يوم الزفاف، وحتى بعد زيارة لودفيك مساء اليوم الموالي واعتذاره، فإن الهوة بقيت مفتوحة بينهما: "كل مرة أحس بعدم الرضى ذاته الذي حدث بعد آخر حديث بيننا. لم أكن أستطيع أن أشاهد مباشرة سقوط لودفيك. كنت أحس بالعار لنجاحي"(229) وبعد ذلك، ومن خلال رسائله، ظل جار وسلاف يغدي سوء التفاهم: "كنت أصف له عالمي هذا كما لو بقي مشتركا بيننا"(230). نفس فكرة الافتراق والمسافة موجودة في علاقات لودفيك مع الشخصيات الثلاث الساردة الأخرى.

الغياب التام للشفافية بين لودفيك والشخصيات الأخرى، إضافة للمكانة المركزية التي احتلها في بنية الرواية، يخلقان في هذه الأخيرة بعدا طلسميا، ويثيران بالتالي سؤال المعنى، وهو سؤال سنحاول الإجابة عنه في الجزء الأخير من هذه الدراسة.

إذا تركنا جانبا تقسيم الرواية إلى سبعة أجزاء، وهو ما يشكل أنموذجا مطلقا لدى كونديرا، فإن خفة الوجود التي لا تحتمل تقدم نمطا سرديا مختلفا، لأن الكاتب هو الذي يحكي هنا، وهو لا يتكفل بالسرد فحسب، ولكنه يؤكد على حضوره من خلال ضمير المتكلم. وقبل أن نتساءل عما هو حقيقي لدى الكاتب، وعما هو حقيقي لدى الشخصيات، تجب أولا ملاحظة أنه في خفة الوجود التي لا تحتمل، كما في المهزلة تتحدد إضاءة الشخصيات بالبنية الروائية التي تدمج التاريخ حتى يمكنها أن تستعمله لأهدافها. على هذا المستوى، أي مستوى مسار السرد في علاقته مع التاريخ، ومستوى معرفة الشخصيات التي تقوي تلك العلاقة من حظوظها، يمكن لدراستنا في هذا الجزء الأول أن توصف بالشكلانية.

إذا كنا نعثر على نفس "الشكل-الأنموذج" في كلتي الروايتين، أي تأليف تعددية يجمع عناصر متنافرة، فإن توزيع هذه العناصر في البناء المعماري للرواية ليس متشابها. فبينما تحيل البنية الارتدادية باستمرار في المهزلة إلى الثورة الشيوعية في فبراير 1948، لإنارة الشخصيات، فإن هذه الوحدة، وهذا المصب، يختفيان في خفة الوجود التي لا تحتمل. هنا يتمدد مشهد التاريخ. يجب أن نرى في هذا التمدد ثمرة لما عاشه الكاتب نفسه تحت ضغط التاريخ: مغادرة تشيكوسلوفاكيا إلى فرنسا حيث يعيش منذ العالم 1975. وبينما كانت الحركة في المهزلة تدور في بلده الأم، فإنها هنا تحتل مشهد العالم.

هكذا ستهاجر سابينا إلى جنيف ثم باريس قبل أن يستقر بها المقام نهائيا في الولايات المتحدة، مبتعدة دائما نحو الغرب. ومن جهة أخرى، فإن الوضعية الشخصية للكاتب تفسر حضور زوج الشخصيات الذكورية في الرواية، توماس وفرانز، الأول مرتبط بأحداث 1968 في بلاده (ربيع براغ) ثم الاجتياح الروسي لتشيكوسلوفاكيا في شهر غشت؛ أما فرانز فقد قدمته الرواية بوصفه "تجسيدا لأوربا"(150) ثم قدمه المبحث بعد ذلك بوصفه "آخر صدى اكتئابي للمسيرة الكبرى لليسار الأوربي"[6] الشيء الذي سيؤدي به إلى القيام بمسيرة إلى كمبوديا، رفقة مثقفين غربيين آخرين، وهناك سيهلك. تجمع بنية الرواية في الموت بين الشخصيتين توماس وفرانز. يحكي الجزء السادس، ما قبل الأخير، دفنهما المتتالي، بطريقة شبه متزامنة، مقربا ما بين اللوحتين المثبتين على شاهد القبر(404). هذه البنية الاستباقية، التي تخبرنا بنهاية حياة الشخصيات قبل نهاية الرواية، تشكل فرادة خفة الوجود التي لا تحتمل على مستوى البناء. لقد علمنا بموت توماس وتيريزا ابتداء من الجزء الثالث للرواية، بواسطة رسالة ابن توماس، التي وجهها إلى سابينا التي كانت عشيقة لأبيه: "تلاشى آخر رباط كان يشدها إلى الماضي"(179) يمكن إذن أن نرى في ذلك بأنها علمت بهذه الواقعة. تنهض بنية الرواية على هذين المبدأين: الذهاب والإياب من حاضر وإلى ماضي الشخصيات كما هو الحال في المهزلة، ثم ثانيا الاستباق الذي يخبرنا بمستقبل تلك الشخصيات. إن الانقطاع الزماني المتواصل في كلتي الروايتين يبين أن الشيء المهم لا يوجد في الأحداث الخارجية التي تجبر الشخصية على مغادرة مدينتها أو مهنتها، ولكن الأهم يكمن في فكرة المنفى الداخلي، وهو ناتج عن تفكك الأنا.

تم تسهيل التقارب البنائي بين الشخصيات بواسطة السرد الذي سمح لمختلف الساردين بإقامة حوار خيالي بينهم، في خفة الوجود التي لا تحتمل تكونت لعبة التقابلات إما داخلا أو خارجا بفضل تدخل الكاتب. تشكل سابينا عنصرا مكونا بوصفها مرتبطة بالشخصيتين الذكوريتين في الرواية، أي توماس وفرانز، وظلت كذلك حتى وفاتهما، مشاركة في مغامرات ومصير كل منهما. هكذا سيؤول فرانز آخر أعمال حياته بوصفها ناتجة عن "علامة سرية" أرسلتها عشيقته: "ألم تكن كمبوديا تنويعا لوطن سابينا؟ وطن احتله الجيش الشيوعي لبلد آخر واقع تحت القبضة الروسية"(ص376)، إنها تعلم أيضا، انطلاقا من الجزء الثالث للرواية، بالموت العرضي لتوماس وتيريزا. يتقوى الدور البنائي للشخصية بعلاقتها مع تيريزا، ويتقوى أيضا بحضور القبعة، وهو دافع متواثر، يظهر في العلاقة بين المرأتين، مثلما يظهر في العلاقة بين سابينا وتوماس، وبين سابينا وفرانز.

أما العنصر الآخر، المبنين والموحد في الرواية، فهو حضور الكاتب وتدخلاته المباشرة بوصفه كاتبا. فهو إذن قادر على ضمان التقريب بين مختلف الشخصيات، ولدينا مثال ساطع في الجزء السادس، حيث يتم تطوير موضوعة النظر، التي تبتدأ أحد الفصول بـ"كلنا بحاجة لشخص ينظر إلينا"(395)، ابتداء من هذه الجملة، سيميز الكاتب بين أربعة أقسام، واضعا داخل كل منها شخصيات الرواية: سيسمح له ذلك بالتقريب بين فرانز وابن توماس، فيضعهما في القسم الخاص بالحالمين، ولمناسبة هذا التقريب يطلق على ابن توماس اسم سيمون. يشكل هذا الفصل مثالا ممتازا لما نجح كونديرا في إنجازه في خفة الوجود التي لا تحتمل، أي المزج بين جنسين: المبحث والرواية، ومن جهة أخرى، نكتشف في نفس الجزء التقريب بين توماس وفرانز، وهو تقريب تم في إطار الموت: يشكل الجزء السادس، حسب كونديرا نفسه، "مفتاح فهم كل البناء"[7].

ثانيا – لغز الأنا:

كان هدف الجزء الأول من هذه الدراسة هو تحديد الشخصية في عالم الرواية، وفي علاقتها مع باقي الشخصيات. يمكننا حضور التاريخ، الذي يتجلى عبر مستويات مختلفة من البنية، في هذه الرواية أو تلك –في الرواية الثانية يعوض الكاتب التاريخ- يمكننا من الآن فصاعدا من تصور البعد الجماعي للوجود. نفضل الاحتفاظ بهذه الخلاصة للجزء الأخير، حيث سنقوم بتجميع مختلف مظاهر إشكالية الشخصية لكي ننجز محضرا وجوديا شاملا؛ غير أنه قبل القيام بذلك، يبدو لنا من الضروري القيام بمقاربة ثانية، يشجعنا على ذلك الكاتب نفسه، الذي يعرف الظاهراتية بوصفها "بحثا عن ماهية الوضعيات الإنسانية"[8]. تسمح قراءة روايات كونديرا بالعثور على تواثر موضوعة تتواجد في كل الوضعيات، سواء أكانت وضعيات تاريخية أو خاصة. عندما يعرض الكاتب لنتائج الاجتياح الروسي لتشيكوسلوفاكيا في خفة الوجود التي لا تحتمل فإنه يشير إلى الثنائية المكونة للكائن البشري: "يستولي اليأس الذي تمكن من البلاد، على الأجساد وينال منها، عندما يتسرب إليها من خلال الروح"(330). يوجد الكاتب في نفس الرواية شخصية تحكمها نفس الثنائية: تيريزا، ضحية جسدها، وقرقرات بطنها، عندما تتخطى عتبة شقة توماس لأول مرة: "تيريزا إذن ثمرة وضعية تكشف فجأة عدم تصالح ثنائية الجسد والروح، تلك التجربة الإنسانية الأساسية"(64).

ينهض بناء الشخصية، على امتداد الرواية، منذ الولادة حتى الممات، على البحث عن وحدة الأنا. غير أن التناقض الذي يبعث اليأس من ذلك البحث، حاضر أيضا في موضوعة المرآة المرتبطة بالبحث. إذا كانت تيريزا تنظر عادة في المرآة عندما كانت صغيرة، فلكي ترى روحها من خلال جسدها. ولكن، لكي تفلح، فقد كان عليها أن تطرد صورة أمها: "عندما نجحت في ذلك، عاشت لحظة ثملى: صعدت الروح إلى سطح الجسد، مثلها مثل الملاحين الذين ينبعون من قاع السفينة، ويكتسحون القنطرة، ملوحين بأيديهم نحو السماء، وهو يغنون"(66) يظهر نفس المجاز مرة أخرى عندما يدعوها توماس للجلوس قربه على المقعد المقابل للحانة التي تشتغل نادلة فيها. يتعلق الأمر هنا بمجاز، والجملة وضعت بين قوسين في هذا المثال، للإشارة ربما إلى أن تيريزا ضحية لوهم غنائي. تيريزا ضحية لخيانات جسدها، على طول الرواية، وللإذلالات التي يجب أن تتحملها. شكل لقاؤها مع توماس أملا بالنسبة لها: "جاءت تعيش معه لتهرب من عالم أمها الذي تتساوى فيه الأجساد. جاءت تعيش معه لكي يكون جسدها فريدا، وغير قابل لأن يستبدل بآخر"(89)، غير أنها ستقبل توددات المهندس، وستضاجع هذا المجهول، لكي تستجيب لأمر سري صادر من توماس، ولكي تبحث عن تأكيد لكلامه عن الحب والجنس، وبذلك تصبح "أناه الآخر" في الحب الجسدي. عندما تضاجع تعيش انفصام الروح عن الجسد: "ترى الروح الجسد وقد تعرى بين ذراعي المجهول، هذا منظر يبدو لها غير قابل للتصديق، كما لو كانت ترى عن قرب كوكب المريخ"(225-226) سيصل هذا الفعل إلى ذروته في المشهد الموالي: "كانت تقتعد كرسي المرحاض، ورغبة القيء، التي ألمت بها فجأة، كانت هي رغبة الذهاب إلى أقاصي الإذلال، الرغبة في أن تكون جسدا، جسدا لا غير، ذلك الجسد الذي كانت أمها تقول عنه بأنه لا يصلح سوى للهضم والإفراغ، تقيأت تيريزا، وأحست في تلك اللحظة بحزن ووحدة لا حدود لها"(227-228).

ثنائية الروح والجسد حاضرة أيضا بصورة هزلية أو درامية في التجربة المزدوجة للحب التي يعيشها لودفيك في المهزلة. عاش التفكك بطريقة متناقضة في علاقته مع لوسي، ثم هيلينا، فعل الانتقام، الذي قام به ضد زيمانيك، والذي لم يكن فيها جسد هلينا سوى أداة، مورس أمام نظر الروح، وتم إنجازه حتى الثمالة: "ولكن روحي كانت تأمر بالاستمرار، بأن ألقي بها من نشوة لأخرى، بأن أقسو على جسدها على كل المستويات، حتى أجعل هذا الغائب يغادر الظلمات والخفاء وكل الزوايا التي ينظر من خلالها إليها"(294) غير أن الجسد بعد ذلك بلحظات ينتقم لنفسه عندما يفرض حضوره الملموس: "… هذا الجسد كان هنا، جسد لم أسرقه من أحد، جسد لم أتغلب فيه على أي كان أو تدميره، جسد تمت تنحيته وهجره الزوج، جسد زعمت أني استهلكته، ولكنه استهلكني، وها هو الآن يتملى بدون وجه حق بهذا النصر. ها هو ينتشي ويرقص مرحا"(303). ثم إن التفكك كان عقبة أمام كل علاقة جسدية مع لوسي: "… بالنسبة للوسي، كان الجسد قبيحا، والحب غير جسدي، بين الروح والجسد اندلعت حرب صامتة وقوية"(366). فسر كوستكا سلفا موقفها من الحب الجسدي: فهم أن "جوهر قدرها نفسه" يوجد في الصور التي تجسد "حالة اغتصاب"(326).

لكي يوضع حد للتفكك يجب حذف مكوني الثنائية، هذا ما ستفعله هيلينا ولوسي، بيد أن كلا الموقفين متعارضان، فبينما تقصي لوسي الجسد من الحب، فإن هيلينا تقول "ليس للجسد خطايا، الجسد أكثر صدقا من الروح"(378)، ستكتوي "بآلام الروح" بعد رحيل لودفيك المفاجئ، وستردد بأنه "ليس ثمة علاج لألم الجسد"(411)، ولكن هذا الأخير سيفرض مرة أخرى حقيقته المادية التي يسيطر علينا بواسطتها. ستعرف محاولة الانتحار التي قامت بها نهاية هزلية، في الغرفة حيث عثر عليها لودفيك: "كانت هيلينا جالسة أمامي على مقعد خشبي، وسط الروائح الكريهة، شاحبة كانت، ولكن حية"(430) هذا المشهد يماثله ذلك الذي نجده في الرواية الثانية، بخصوص تيريزا: يبين تواثر هذه المشاهد في كل مرة خضوع الشخصية لضغوط الجسد. كما يظهر فشل لودفيك مع لوسي، وفشل هيلينا، بأن المثالية، بشتى أشكالها، هي المهرب الوحيد من ثنائية الروح والجسد. تتجلى الأسطورة الأفلاطونية، في خفة الوجود التي لا تحتمل من خلال تأمل توماس عن الحب، وحسب هذه الأسطورة فإن لكل شخص "في ركن ما من أركان العالم، شريك لم يكن يشكل معه سوى جسدا واحدا"(344). من جهة أخرى، يقترح كوستكا على لوسي في المهزلة بلسم التعالي ومساعدة الإله: "أدردش يوميا مع لوسي، وأكرر لها في كل مرة أنه قد صفح عنها. وأنه لا داعي لكي تعذب نفسها، وأن عليها أن تفك أزرار العباءة التي تلف روحها، وأن تستسلم بكل تواضع للنظام الإلهي حيث يجد الحب الجسدي نفسه مكانا له"(346).

ترتبط ثنائية الروح والجسد، التي تعاني منها الشخصيات في كلتي الروايتين، ترتبط مباشرة بعجز هؤلاء أمام هروب الزمن. لكي يعبر الكاتب عن وضعية الشخصيات الخاضعة لناموس الزمن الذي يزحف مباشرة عليها، فإنه يعارض في الجزء الأخير من خفة الوجود التي لا تحتمل وجود هاته الشخصيات بوجود الكلب: "كانت الكلبة كارنينا ترسم دائرة حياتها حول تيريزا وتوماس، دائرة قائمة على التكرار، وكانت تنتظر منهما نفس الشيء"(432).

تتعارض صورة الدائرة، في نفس الجزء، مع صورة المرآة، التي كانت تيريزا تقود أمامها كارنينا: ظل الكلب لا مباليا أما صورته، لأنه "يجهل كل شيء عن ثنائية الجسد والروح"(432).

تملك الشخصية إمكانية ملء فراغ الزمن وتخطي عدمه، وإمكانية إيجاد معنى له. هذه الإمكانية مرتبطة بوضعيتها في لحظة معينة من وجودها، عندما يعم الفراغ في حياتنا تحدث مواجهة حاسمة تضعنا وجها لوجه مع الزمن، كما يلاحظ لودفيك في المهزلة بعد طرده: "لم يبق لي سوى الزمن"(86) عاش تجربة "الزمن الخالص، الزمن الفارغ"(86). سيقول فيما بعد، عندما يتحدث عن التمارين العسكرية التي كانوا يأمرون بها في الثكنة: "كان هدفها الوحيد هو إفراغ زمان حياتنا من أية قيمة"(149).

سيساهم الغموض، كما ثنائية الديكور الذي رآه لودفيك أثناء نزهة في ضواحي "أوسترافا"، في إبراز الدلالة العميقة لوضعية: "عندما مررت بقرب منزل جذاب، يحوطه اللبلاب، أحست أن مكان هذا المنزل لهذا المنزل يوجد هنا، فهو بالضبط يخلق تنافرا مع الواجهات السامقة الممسوخة التي تتعالى أمامه…"(103) وفي مكان آخر نقرأ: "… أحسست بذلك لأني لا أنتمي لهذه الأمكنة، مكاني الحقيقي كان هناك، في ذلك الميتروبول الدائم التنافر، تلك المدينة التي يربط زحامها العنيد كل غريب بالآخر"(104). في نفس ذلك اليوم رآى لوسي للمرة الأولى. هذا اللقاء حول الزمن وأعطاه من جديد معنى: "أعاد البندول الحائطي، بعقاربه المعاقة منذ شهور، أعاد من جديد وفجأة دقاته. كان هذا مهما: ها هو الزمن، الذي كان يتسرب حتى ذلك الوقت كتيار لا مبال، من فراغ لآخر (مادامت قد كنت في إجازة!) بدون محطات، وبدون حدود؛ ها هو ذا إذن يستعيد شيئا فشيئا وجهه الإنساني: بدأ ينتظم ويتفكك"(113) يتماشى تحول الزمن مع تحول المكان. لأن هذين البعدين مترابطان في وجودنا، كما يلاحظ لودفيك عندما تدخله لوسي غرفة الشقة التي تقطنها: "… لأول مرة منذ سنة طويلة، أجد نفسي من جديد في غرفة صغيرة. أنفاس حميمية تلفني بنسائمها المسكرة، وكادت تسحقني سطوتها"(144) ربط لودفيك هذا الفضاء المغلق والحميمي بالزمن الحر الذي يمكن أن يتمتع به لبضع ساعات: "… طوال ثلاث ساعات تملكني إحساس بحرية شاملة"(144).

تواجه الشخصية الزمن الإنساني الذي "يزحف مباشرة" عليها. تتموقع هذه الشخصية، سواء تيريزا أو لودفيك، في إطار الامتداد بين الماضي والحاضر والمستقبل. المهمة الوجودية التي تفرض نفسها على هذه الشخصيات هي أن تعيش الحاضر. لا يمكن فصل هذا الأخير عن البعدين الآخرين، اللذين يؤاثران فيه ويمنحانه معنى إيجابيا أو سلبيا. هكذا يفكر كوستكا، بحضور لوسي، التي يريد مساعدتها حتى تعيد ارتباطها بالواقع: "كانت روح لوسي حتى الآن هروبا مستمرا، هروبا أمام الماضي وأمام المستقبل. كل شيء يخيفها. شكل الماضي والحاضر بالنسبة لها هُذَاماً. تمسكت لوسي بقلق بزورق الحاضر المثقوب، ذاك الملجأ الواهي"(346) شكل ثقل الماضي عائقا أمام تحقيق المستقبل، كما يلاحظ لودفيك الذي عبر عن عجزه إزاء قدر وضعيته الإنسانية، بهذه الصورة: "أتصور قارعة طريق سيار (إنه الزمن) تتحرك رفقة إنسان (أنا) يجري فوقها في الاتجاه المعاكس، غير أن القارعة تتحرك أسرع مني، ما يجعلها تقودني عكس هدفي الذي كنت أقصده. هذا الهدف (وياله من هدف غريب متواجد في الخلف!) هو ماضي المحاكمات السياسية، ماضي الغرف التي ترتفع فيها الأيدي، ماضي الجنود السود ولوسي، ماضي لا أزال مسحورا به، وأكابد لفك أسراره وعقده، ماضي لا يسمح لي بالعيش كما يجب أن يعيش الإنسان، في مواجهة الأمام"(419-420).

ثالثا – تجريبية قيم الوجود:

يموقع كونديرا شخصياته في جميع رواياته، بين الوجود والنسيان، نريد الآن البحث عن الإجابة التي يبلورها لإشكالياتهم الوجودية. إلا إذا كانت حقيقتهم تظل مستعصية. منذ أول رواياته، المهزلة، تختفي إمكانية التفاهم مع العالم. توجد نهاية الوهم الجماعي في بنية الرواية ذاتها، من خلال الحكي الارتدادي الذي تقوم به الشخصية الساردة. ينقل جاروسلاف الكلمات التي قالها له لودفيك عشية الثورة الشيوعية في فبراير 1948: "نحن نعيش زمنا جديدا. تنفتح آفاق عريضة أمام حركتنا"(211)، ثم يشرح لماذا خضع هو والآخرون لوهم هذا الخطاب: "كانت أفكار تجيب على أكثر أحلامنا خفاء. كانت ترفعنا فجأة إلى مستوى العظمة التاريخية"(212). وبدوره يشير كوستكا لهذه المرحلة: "كان ذلك زمن الإيمان الجماعي الكبير. الإنسان الذي يملأ ذلك الإيمان والذي يساير ذلك العصر، كان مسكونا بإحساسات جد متقاربة مع تلك التي يهبها الدين: يتخلى عن ذاته، وعن حياته الخاصة، لأجل شيء أكثر سموا، شيء يتخطى الفرد"(330) تعيش كل شخصيات هذا العالم الجديد في الرواية، تجربة انهيار الأوهام المريرة. تفرض الحقيقة نفسها على لودفيك بشكل قاس وساخر، وذلك عندما يتنكر زيمانيك، جلاده، لذلك العصر ولقيمه، مادحا الجيل الجديد: "كنا نريد إنقاذ العالم، فكدنا أن ندمره بسبب رسالتنا تلك. ربما سيقومون هم بإنقاذه بفضل أنانيتهم"(399).

تم التعبير عن الكشف الذي صعق جاروسلاف عندما تنكر لعالمه، في هذه الجملة التي يعيدها على نفسه، لأن عليه أن يخضع لها، حين قالت له فلاستا بأن ابنه لم يكن هو الملك: "فلاديمير إنسان عصري"(438-439). وقبل ذلك بعشرين سنة عندما توج ملكا لجوقة الفرسان، حلم بأن ينقل إلى ابنه "صولجان تقليد لم ينقطع قط"(198) خاطب ابنه قبل الاحتفال بهذا المونولوج الذي يعبر عن إيمانه القوي بهذه الاستمرارية: "يا صغير فلاديمير، أعتقد بأن الأشياء لها معنى. أعتقد بأن مصائر الإنسانية ملتحمة مع بعضها بواسطة الحكمة. أن يجعلوا منك ملكا هذا العام فهذه علامة حسبما يبدو لي. أنا فخور كما كنت قبل عشرين سنة، ومسرور أكثر لأنهم أرادوا تكريمي من خلالك. ولماذا الإنكار؟ في رأيي أن لهذا التكريم أهمية: أريد أن أضع بين يديك مملكتي. أريدك أن تتلقاها من يدي"(200). وهكذا فإن كل عالمه سينهار عندما يتأكد عن طريق فالستا، امرأته والمتواطئة مع ابنه، بعد أن ساورته الشكوك حول هوية الملك المقنع والصامت، بأن ابنه رفض الدور الذي كان ينتظره منه، وأنه قد خانه: "… إلى أين الذهاب؟ احتفالية السلطنة تملك الطرقات، فالستا تملك البيت، والحانات يملكها السكارى. أين يوجد مكاني، أنا؟ أنا الملك العجوز، المخلوع والمسحوق، ملك فاضل ومتسول. ملك بلا ولي للعهد. الملك الأخير"(441) هذه "الشخصية التي تستأنف التاريخ الألفي للفن الشعبي، في الوقت الذي يشرع فيه هذا الأخير في الاختفاء"[9] هي آخر ممثل لذاكرة جماعية لم يعد قادرا في النهاية على الدفاع عنها: "يقول جاروسلاف أيضا (وهذه المرة شبه متوسل) بأنه لم يعد يتحمل، وأنه يريد أن يسير وسط الحقول، ليلعب من أجل سروره"(451-452).

فكرة استمرارية الأجيال ونقل الإرث متضمنة أيضا في الدلالة الرمزية للقبعة العالية، التي ترتديها سابينا في خفة الوجود التي لا تحتمل. الإحساس بديمومة الماضي، من خلال هذه القبعة، هو ما يفسر اللوعة التي تحس بها سابينا وتوماس: "في غرفة إحدى الإقامات بزوريخ تأثرا برؤية القبعة العالية وتحابا وهما يبكيان تقريبا، لأن ذلك الشيء الأسود لم يكن فحسب ذكرى لألعابهما العاطفية، بل كان أيضا أثرا لأب سابينا ولجدها الذين عاشا في أزمنة لم تكن فيها لا سيارات ولا طائرات"(132). غير أنه تم نقض غنائية هذه اللوعة، التي تعبر عن الحنين إلى الأيام البائدة، بواسطة حقيقة العلاقة بين الأب والابن، وهي علاقة قدرها الفشل في إطار التكرار الساخر للمصائر، كما يقول توماس لتيريزا في الفصل الأخير، متحدثا عن رسائل ابنه إليه: "فعلت كل ما في وسعي كي أتجنب أي التقاء بين حياتي وحياته، انظري إذن كيف انتقم القدر مني، لقد طرد من الجامعة منذ سنوات، هو الآن سائق جرار في أحد المداشر، حقا ليس ثمة أي التقاء بين حياتي وحياته، غير أنهما مرسومان، جنبا إلى جنب في اتجاه واحد، مثل خطين متوازيين"(446).

وكما يقول جاروسلاف في المهزلة فإنه يجب رؤية "الأخطاء والانخداعات بشكل عميق"(403). لنفحص إذن محيط العلاقات الخاصة حيث تهدد الكثافة بالخصوص حياة الزوج(*). تسمح لنا شخصية أخرى في الرواية، ألا وهي هيلينا، بإقامة همزة وصل بين الأبعاد الجماعية والفردية للوجود. هيلينا ضحية لتفكك الحياة العامة والحياة الخاصة: عرفت وأحبت زيمانيك، زوجها، في إطار وهم توحدهما، أثناء حماس الأيام الثورية. وما إن تبخر الوهم حتى كان عليها أن تعمل على إعادة بناء حياتها الخاصة. أما علاقتها مع لودفيك فإن قدرها هو الفشل. لأنه جاءها حاملا القناع. تتحدث في الجزء الثاني من الرواية عن حبها له دون أن تعرفه أو تعرف مقاصده. منذ بداية علاقتهما، لم تكن سوى أداة انتقام في يد لودفيك ضد زوجها زيمانيك، وقبل تنفيذ مخططه مباشرة يعارض لودفيك بين تلقائية رغبة المرأة وبين حساباته هو: "تصرفت على عكسها، تصرفت منذ البداية بوصفي كاتب ومخرج المغامرة التي سأعيشها.."(263) خلال ذلك اللقاء ولد الأمل، ولكن القضاء على ذلك الأمل تركها في مواجهة مع حرية تافهة، أي الحرية الجنسية التي طالما أدانتها فيما مضى: "… وإذن فقد كنت حرة تماما، وكنت أستطيع فعل ما يحلو لي، حرة مثل تلك المرأة التقنية التي طردناها خارجا. لا شيء يميزني عنها الآن. لن أعيد أبدا تجميع عالمي القديم. البقاء وفية، لماذا؟ ولأجل من؟ من يومها أصبحت حرة تماما.."(418).

هناك شخصية أخرى، وهي بخلاف السابقة، لا تتناول الكلمة في المهزلة. هذه الشخصية رمز للذي لا يقاوم في العلاقات الإنسانية، والذي يرمي بالفرد في أحضان العزلة. تحضر مجددا صورة الملك المقنع، وهي تسمح للودفيك بأن يحدد معنى فشله مع الفتاة الشابة: "… قلت لنفسي فجأة: من يدري؟ قد لا يكون ملكا بلملكة. قد تكون الملكة لوسي هي التي جاءت لتتمظهر في صورتها الحقيقة، لأن صورتها الحقيقية هي تحديدا تلك المقنعة"(384-385)، ساعدته مسبقا إيحاءات كوستكا على أن يعي بأن الفتاة الشابة غير موجودة سوى بالنسبة له: "… لم أكن أعرف لوسي، لم أكن أعرف أنها كانت حقيقية، بذاتها ولذاتها. لم أتلقى (في تمركزي الذاتي اليافع) سوى جوانب كينونتها الموجهة مباشرة اتجاهي (اتجاه وحدتي وعبوديتي، اتجاه رغبتي في الحنان والعاطفة).."(365) من جهة أخرى، ولأنه أعرض عن لوسي، ولأنه لم يكن يعرف كيف يستجيب لحبها الذي يخيفه، فإن كوستكا يتهم نفسه: "أمسكت حياتها بين يدي، سعادتها كانت تعتمد علي، فإذا بي أهرب. لا أحد غيري أذنب اتجاهها"(359).

يتابع كونديرا تعميق الإشكالية الفردية للشخصية في خفة الوجود التي لا تحتمل. يرتبط الجواب الذي يبحث عنه توماس في بداية الرواية بالحب: "هل من المستحسن أن أكون مع تيريزا أم أبقى وحيدا؟"(19). من حالة اللايقين ولدت الشخصية، كما من إرادة الكاتب لموقعتها في حدود وجوده الفردي: "رأيته واقفا أمام إحدى نوافذ شقته، ينظر إلى الجانب الآخر من الساحة. لم يكن يعرف ماذا عليه أن يفعل"(17) عاش توماس الحب المتناقض مع تيريزا، وعى ذلك عندما غادرها ليعود إلى براغ، بعد أن استقرا في زوريخ: "عاد إلى العزوبية. الأكيد أنه وجد لأجل تلك الحياة، لأنها الوحيدة التي يستطيع أن يكون فيها كما هو حقا"(51). التخلي عن مهنة الجراحة، بسبب ضغوط الحياة والحوادث الخارجية، لن تعدل من إشكاليته الوجودية، التي حددت بشكل متناقض. تم التعبير على بحثه عن الحب بهذه العبارات: "لم يكن الأمر متعلقا إذن باللذة (هذه تأتي في المقام الأول) ولكن الرغبة في السيطرة على العالم (أن يفتح بمبضعه جسد العالم الراقد) هي التي دفعته لملاحقة النساء"(288). ضرورة غزو النساء أدخلته في زمرة الرجال: "مدفوعا بالرغبة في السيطرة على التعدد اللامتناهي للعالم النسائي الموضوعي"(289). ينتمي توماس، مثل كل الذين يشتركون في هذا "الوسواس الماجن"، لسلالة دون جوان: "دون جوان، الباحث عن اللامتناهي، لا يجد أي خلود كان سوى في الانتشاء. عليه أن يكرر بشكل مباشر تجربة الانتشاء الدقيقة حتى يمكنه الاعتقاد بأنه يمحي الانقطاع"[10]. نقرأ في الصفحة(322) من الرواية بأن توماس يفكر "بشيء من الحنين" في ذلك "الصحافي ذي القامة العالية" والذي يتصرف كما لو أن كل ما يفعله يجب أن يتكرر مرات لا تحصى في العود الأبدي".

رغبة الغزو تتعارض مع حبه لتيريزا: "بدأت مغامرة توماس مع تيريزا حيث انتهت مغامراته مع النساء الأخريات"(300-301) يشعر بثقل هذا الحضور "في احتماليته التي لا تحتمل"(327). وهذا الثقل هو ثقل التعاطف "كل أطنان حديد الذبابات الروسية لم تكن أكثر ثقلا من التعاطف"(53). هكذا تفكير يؤكد على أولوية العنصر العاطفي على البعد التاريخي للوجود. إنه دائما نفس الإحساس الذي يجعله يلزم جانب تيريزا عندما يفكر بالرحيل: "مرة أخرى أحس بكل قلبه بألم تيريزا"(345).

يتم التعبير عن هذا الإبهام الأساسي الذي يتأسس عليه زوج توما-تيريزا بالأهمية التي توليها هذه الأخيرة للبعد الحالم: يتكون وجودها من أحلام متتابعة يسكنها، بشكل مستمر، توماس والموت. تكشف تلك الأحلام عن عجزها الاحتفاظ به لنفسها فقط. بيد أنها عندما تستعرض ضعفها في الأحلام التي تقصها على توماس، فإنها تنتهي بتحويل هذا الضعف إلى قوة، مجبرة هذا الرجل القوي على التراجع، سيجعله ذلك في النهاية قادرا على فهم حلم آخر: "كان ضعف تيريزا عدوانيا. فهو يجبره في كل مرة على الاستسلام. حتى اللحظة التي كف فيها عن أن يكون قويا، متحولا إلى أرنب بين ذراعيها. فكرت بلا انقطاع في الحلم"(451). شعورها بالذنب، كونها فرضت عليه مصيرا معينا، يعني فشل هذا الثنائي: "كان قلبها مثقلا من كثرة التبكيت. بسببها غادر زوريخ ليعود إلى براغ. بسببها غادر براغ"(449). ونقرأ في الصفحة الموالية: "نادت عليه، دفعت به من هاوية لأخرى، كما تفعل الجنيات مع الفلاحين، ويتركنهم يغرقون". تبدو الحياة في البادية، التي تقطع مع الحياة الماضية، في الجزء الأخير من الرواية، قادرة على وضع حد لهذا التناقض المزدوج، وعلى إعطاء فرصة للزوج: "وإذن، فلقد كانت تيريزا مسرورة، واعتقدت أنها تصل إلى هدفها: كانا معا، توماس وهي، وكانا لوحديهما"(410). ولكن سرعان ما أتى الشك، وبدل أن يقرب بينهما مرض الكلب كارنينا، فإنه سجن كل منهما في عالمه وهو ما سيعرضه الكاتب: "أخشى ما أخشاه هو أن يظلا هكذا حتى اللحظة الأخيرة. منفصلين كل لوحده"(429).

إذا كان مستحيلا تأسيس الوجود على قيم جماعية تتعالى عليه، وإذا كان التمركز الذاتي يهدد كل علاقة عاطفية، فإن اليقين الوحيد الذي يبدو أن الشخصية لدى كونديرا تتمسك به يوجد في الفن(**)، أو بالتحديد في فكرة معينة عن الجمال، وهو البعد الوحيد القادر على إنارة الحياة وإعطائها معنى: "الجمال: إنه آخر انتصار للإنسان الذي لم يعد يملك أي أمل"[11]. الجمال، كما يفهمه لودفيك في نهاية رواية المهزلة، هو الشيء الذي يتواجد فيما وراء الدلالات، وهو ما ينفلت من التاريخ: "قد تكون احتفالية الملوك جميلة، لأن محتوى التواصل فيها قد ضاع منذ زمان، ولأن ما يبرز فيها بشكل أكبر هو الحركات، الألوان، الكلمات، مثيرة الانتباه حول ذاتها، مظهرها وشكلها"(382) يشارك لودفيك المتفرج في تلك الاحتفالية عن طريق التواصل مع الموسيقى، موسيقى راجعة إلى منابع هذا الفن، قافزة على قرون من التاريخ: "كنت أرغب في البقاء هناك وأن أفتح عيناي وأنصت فقط: في وسط مدشر مورافيا هذا، أحسست بأني أسمع أبياتا شعرية، أبياتا بالمعنى البدائي المحض لهذه الكلمة… أبياتا تأسر السامعين بقوة بحرها فحسب، كما أسرت الأبيات الملقاة في الفضاءات المسرحية الوسيطية، سامعيها، كانت موسيقى عالية المقام، ومتعددة الأصوات: كل منشد يستظهر بوتيرة رتيبة، ولكن بسلالم مختلفة، إلى حد أن الأصوات إتحدت فيما بينها بطريقة لا إرادية"(382-383).

إننا نعرف الدور الذي لعبته الموسيقى في حياة كونديرا، والمكانة التي تحتلها في أعماله: إنها تقوم بنمذجة البناء  المعماري لرواياته، وتبرز كموضوعة في تفكيره. يقوم جاروسلاف بوضع نظرية متكاملة عن علم الموسيقى في رواية المهزلة؛ ومن رواية لأخرى نجد الحركة التي أشرنا إليها أعلاه: وبينما يفكر جاروسلاف بشكل عام، فإن وجهة نظر فرانز في خفة الوجود التي لا تحتمل فردية حتى وإن أشار إلى "جمال ديونيزيوس"(137) الموسيقى هي إحدى الموضوعات التي تؤسس، حسب تعبير الكاتب، نظام الترميز Code (القن) الوجودي للشخصية: "الموسيقى بالنسبة له، محررة: تحرر من الوحدة ومن التقوقع، من غبار المكتبات، تفتح في جسدها أبوابا يمكن للروح أن تخرج منها لتتآخى"(137). نلاحظ أيضا الدور الذي لعبه اكتشاف الموسيقى في وجود تيريزا: "من يومها، أصبح بتهوفن بالنسبة لها صورة للعالم الذي تسعى إليه"(77) هذه الموسيقى، المرتبطة بالحب الناشئ، دافع انخراط في "التوزيع الموسيقي لحياتها"(81) وكشفت لها أيضا عن معنى الجمال: "في كل مرة ستسمعها ستكون منفعلة، كل ما سيجري حولها في تلك اللحظة سيكون مطبوعا بضجة تلك الموسيقى وسيكون جميلا"(80-81).

هناك فن آخر، ألا وهو الرسم الذي يسمح بفهم شخصية سابينا في نفس الرواية. بالنسبة لها: "أن تعيش معناه أن ترى"(139) عندما دعيت تيريزا للمرة الأولى إلى مرسم سابينا لاحظت بأن كل لوحاتها: "تتحدث دائما عن نفس الشيء، وأنها جميعا التقاء متزامن لموضوعتين ولعالمين وأنها أشبه ما تكون بصورة مركبة"(98) تفسر لها سابينا معنى لوحاتها بالرغبة في الهرب من طغيان الفن الرسمي، وبضرورة الإطاحة به: "في الواجهة، هناك دائما عالم واقعي تماما، وفي خلفية المشهد، مثل خلفية قماش ديكور مسرحي ممزق، نرى شيئا آخر، شيئا غرائبيا أو مجردا"(98). رسمها وطريقة حياتها واحد. إنهما يجدان تفسيرهما في الرغبة في خيانة أبيها أو الشيوعية، وهما شيء واحد بالنسبة لها: "أن تخون معناه أن تغادر الصف؛ وأن تذهب إلى المجهول"(136). أصالة الشخصية، أي رفضها رؤية حياتها وفنها حاملين لعلامة مسجلة تسمح للكاتب أن يدقق فكرته عن الجمال، والدور الذي يجب أن يلعبه في حياتها. إذا كان الكاتب قد تدخل مباشرة فلكي يعترض على مثال جمالية الـ Kitsch(***): "كل هذا التأمل حول الـ Kitsch ذو أهمية أساسية بالنسبة لي"[12]. الكيتش رمز للضعف الإنساني، يجب تعريفه بوصفه أكذوبة، وبوصفه وهما عن الذات والعالم. اكتشفت سابينا العالم على حين غرة"(161)، "فجأة وسريا بوصفه عالما تمت خيانته"(162). ومن يومها عرفت أنه "لكي تجده، عليها أن تمزق قماش الديكور"(162).

تتماشى فكرة "العالم المغدور" هذه، مع فكرة "العالم المكتسح" التي تظهر لذة لودفيك في نهاية المهزلة. يسمح تعبير "على حين غرة" في الروايتين معا، وهو تعبير يؤكد على دور الصدفة في الوجود الإنساني، بالكشف عن الطريقة التي تكتشف بها الشخصية، أو تعيد اكتشاف هذا العالم. يعثر لودفيك، بعد فشله في الانتقام، على ملجأ له في "عالمه العتيق"، الذي فر منه سابقا: ".. كان بمقدوري حبه، لأنني وجدته مرى أخرى في هذا الصباح (على حين غرة) بكل فقره. بكل فقره وخاصة بكل وحدته، هجرته الجوقة؛ وهجرته الإعلانات؛ هجرته الدعاية السياسية، واليوتوبيات الاجتماعية؛ هجرته قطعان موظفي الثقافة، هجره الانخراط العاطفي لأناس جيلي، هجره أيضا (زيمانيك). تطهر الوحدة ذلك العالم. تطهره الوحدة، المليئة بالمؤاخذات اتجاهي، كما تفعل مع أي إنسان لم يعد أمامه وقت كبير، وتنيره بواسطة جمال لا يقاوم ونهائي. تعيد لي هذه الوحدة العالم"(446-447).

عندما ينضم إلى جاروسلاف يجد من جديد زمن أجواء "مراعي اليومي المنسية"(116) التي أوحتها له لوسي، أي إمكانية العيش عن طريق الهرب من التاريخ. يتساءل لودفيك عن الدلالة العميقة لهذه الصورة التي تبرز مجددا أمام ألعابه: قد تأتي الفتاة اليافعة "لتدافع عن التعاطف مع عالم تم اكتساحه"(449). في خفة الوجود التي لا تحتمل يتكفل الكاتب ذاته بالدفاع عنعالم نظف من كل ما يشوهه أو يغدر به تاركا الإنسانية تواصل "مسيرتها إلى الإمام". كما يعبر عن حبه لتيريزا التي "تلمس بحنان رأس كلب يعاني من مرض قاتل"(442).

بالنسبة لكونديرا يتموقع الإنسان بين الوجود والنسيان، يتواجد فيما يشبه الأرض المهجورة، التي تشكل الوجود. تستكشف رواياته، حسب تعبير أحد النقاد: "مجال الإنسان البالغ والمنعزل"[13] بغض النظر عن الاختلاف الأساسي في الروايتين، لجهة الكتابة السردية، وهو الاختلاف الناتج عن تناول الكلمة من طرف الكاتب في إحدى الروايتين، فإن وجهة النظر حول التاريخ، كما الحب، تبقى دون تغيير: الحركة سقوط تجد الشخصية نفسها أثناءه نفسها وقد فقدت قيمها الجماعية والفردية التي كان ممكنا أن تؤسس عليها وجودها. سنصل إلى النهاية عندما "يفقد الإنسان مفهوم ذاته"(421). ما يتبقى للشخصية إزاء هذا القدر، هو وعي متذبذب بالذات. حتى آخر رواياته، أي الخلود (كتبت هذه الدراسة عام 93هـ.م) سيفرض نفس الاستحقاق نفسه على كل شخصيات كونديرا: "الحياة: هي أن يحمل المرء ذاته المتألمة ويجول بها العالم"[14]. لنتساءل، في الأخير، عن المعنى في الروايتين اللتين درسناهما. إننا نواجه إبهاما يرتبط بمفهوم الشخصية ذاته، مثل هذا التصور يجعل من القارئ ذلك: "الإنسان الذي يتساءل" والذي يطارد في ذاته مكون الغرابة، بفضل المرآة التي تنصبها أمامه باقي الشخصيات. هذا الإبهام، الناتج عن كون حقيقة الشخصية تنفلت دائما، يفسر من جهة أخرى تنوع التأويلات التي تم اقتراحها. ولأن الإنسان قد صور في بعده الازدواجي، فإنه يمكننا اختيار البعد الساخر في أعمال كونديرا. غير أننا فضلنا بعدا آخر، ألا وهو البعد الحزين. كوننا أحسسنا بتعاطف الكاتب مع شخصياتهn

 

نشرت هذه الدراسة في مجلة: L’école des lettres ، ع.12، 1992-1993، السنة الرابعة والثمانون.

 

 

 



[1] - كونديرا، فن الرواية، غاليمار، 1986، ص44.

[2] - نشرت الروايات لدى الناشر غاليمار سنة 1967، و1984، سنستعمل الترجمة التي راجعها كونديرا ونشرت ضمن سلسلة Folio

[3]  - R.Bourneuf et R.Ouellet, Lunivers du Roman, PUF, 1972, p150.

[4] - فن الرواية، ص57.

[5] - فن الرواية، ص55.

[6] - فن الرواية، ص100.

[7] - فن الرواية، ص100.

[8] - فن الرواية، ص50.

[9] - فن الرواية، ص59.

(*) أخطر ما يهدد العلاقات الثنائية القائمة على الحب بين الرجل والمرأة في الروايات الغربية، هو ذلك الجزء الغير قابل للاختراق لدى كل منهما. بحيث أن العاشق ينتابه إحساس بأن الآخر يهرب منه، وأنه غير قادر على الإمساك به في كل لحظاته. يتحول المعشوق إلى كتاب طلسم، فينشأ عن ذلك: القلق والشك والاستفسارت البوليسية. انظر سوان العاشق لبروست. ورواية سوناتاكروتزر لتولستوي ورائعة إيطالو سفيفو: سينيليتا. وفي الأدب العربي انظر حارة العشاق لنجيب محفوظ. أما التملك الجسدي فإنه لا يساهم إطلاقا في إنقاد الحب، يقول الراوي في سوان العاشق: "من نافل القول أننا لا نملك أي شيء إطلاقا أثناء التملك الجسدي".

Proust (Marcel): A la recherche du temps perdu, ed. Robert Laffont, Paris (3 tomes).

[10]  - Michel Picard: Lire le temps, Minuit, 1989, p59.

(**) الحل عن طريق الفن، إحدى الموضوعات المتواثرة في الروائع العالمية، مثل المتاهة والنزول إلى الجحيم الخ. وحل الفن هو الذي يضع عادة مسك الختام لعدد من الروايات الغربية، أو ما يسمى بـالخاتمة السردية كرواية الغثيان لسارتر، ومزيفو النقود لجيد، والتعديل لبوتور، والمثال النموذجي للخاتمة السردية عن طريق الفن هو في البحث عن الزمن الضائع لبروست. ذلك أن السارد، الباحث عن مخرج، يجده في ميدان الفن الأدبي (الحب/الصالونات/الجمعيات… الخ. ليست سوى وقتا ضائعا) فيشرع في كتابة رواية، هي نفسها رواية في البحث عن الزمن الضائع! حول أنواع الخاتمات السردية انظر:

- Marianna Torgovnick: Closure in the novel, Princeton University, Press 1981.

- Armine Kotin Mortimer: La clôture narrative, Librairie Jose Corti, 1985.

[11] - فن الرواية، ص151-152.

(***)Kitsch  أو Kitch نعت واسم معا، وهي كلمة ألمانية من إقليم بافاريا، استعملت في الفرنسية لأول مرة عام 1962. تعني: "تجديد وإعادة بيع القديم" تطلق للدلالة أولا: على كل أسلوب أو موقف جمالي يتسم بالاستعمال المتنافر للعناصر البالية أو الشعبية، التي ترى الثقافة السائدة أنها ذات ذوق منحط، وثانيا: على كل ذوق باروكي منحط ومستفز. يحتل مفهوم "الكيتش" أهمية حاسمة في التصور الجمالي للشخصية في خفة الوجود التي لا تحتمل.

[12] - فن الرواية، ص103.

[13]  - Francois Ricard, La littérature contre elle même, Boréal Montréal, 1985, p31.

[14] - كونديرا، الخلود، غاليمار، 1990، ص309.