التفكير في حقوق الإنسان(*)
بقلم: لوك فيري وألان رونو
ترجمة: حسن أحجيج
سجل تاريخ "الأفكار" في الفترة المعاصرة، عبر التفكير فيما أمكن
تسميته "التحدي البولوني"[1]
أو "المثال البولوني"[2]
أو أيضا "الثغرة البولونية"[3]،
حركة عودة إلى الحق أو عودة الحق، وخصوصا عودة الإحالة إلى حقوق الإنسان كلحظة
أساسية، نظريا وعمليا، من لحظات السياسي. ويجب التذكير هنا على سبيل المثال:
ـ بالعمل الذي قامت به مجلة Esprit، حيث خصصت عدد يناير 1981 لموضوع "بولونيا:
تحدي وأمل"، وأظهرت بفضل ملف مهم خصوصية المطلب الحقوقي في قلب حركة تذكر
بـ"حقوق الحياة التي لا يمكن التنازل عنها"[4]؛
وجاء ذلك العدد كتكملة لعدد آخر سبق وأن حلل إعادة تفعيل الدعوة إلى الحق بالإحالة
إلى الممارسة البولونية[5].
ـ بمنشورات كلود لوفور، وخصوصا المقالين اللذين يحملان عنوان "حقوق
الإنسان والسياسة" و"توسيع حدود الممكن"[6]؛
وقد استلهم مضمون المقال الأخير من "الحركة البولونية"؛ ويتعلق الأمر هنا
أيضا بكون "حقوق الإنسان تكون المجال الاجتماعي الديموقراطي" وبكون
توطيدها يتمثل في واقعة أن "الدولة
الشمولية ليست دولة ينتشر فيها القهر، وإنما هي دولة يتمثل مبدؤها في إنكار
الحق"[7].
لقد تحقق إجماع[8]
حول حقوق الإنسان؛ وفيلم الرجل الفولاذي للمخرج واجدا (Wajda)، الذي قدم من بولونيا في صيف 1981 قبل مجيء
الخريف الشهير، ساهم أيضا في دعم ذلك الإجماع[9].
ويبدو، في لحظة تاريخية اتضح فيها أن كل شيء قد تجمد من جديد، أنه من الضروري
التساؤل حول الموضوع: إذا لم نتخذ من الإحالة إلى حقوق الإنسان مادة للسؤال،
متبعدين قليلا عن ممارسة الشعار، فإننا نخاطر، كما وضحنا ذلك في مناسبات سابقة،
بأن نرى ثانية مثل هذه الحركة، التي مهما كانت جذابة سياسيا، تتورط في
الإيديولوجيا أو تقضي على نفسها. لهذا السبب بدا لنا التساؤل الفلسفي حول عودة
الحق، أو على وجه الدقة عودة حقوق الإنسان، ليس فقط مشروعا فلسفيا، إذا كان لفعل
التفلسف علاقة بالتفكير في ما هو كائن[10]،
وإنما هو ضروري سياسيا، إذا اتفقنا على أن التاريخ المعاصر أظهر دوما أن المشاريع
التحررية تنقلب إلى ضدها لأنها لا تتحرى الحذر ولا تأخذ وقتها للتفكير.
لنحلل أولا وباختصار ممارسة الإحالة إلى الحق لإبراز ما يمكن أن يكون
فيها موضوع سؤال فلسفي. إن هذه الممارسة، التي أصبحت ممارسة متداولة بما في ذلك
لدى "اليسار" السياسي، يمكن وصفها بسرعة كعمل يرتكز على مواجهة الاضطهاد
والنظام الشمولي فوق أرضية القانون؛ وبعبارة أخرى، إنه عمل يقوم على مقاضاة القوة
باسم القانون. وعلى مستوى العلاقات الدولية، فإن إدانة التدخل السوفياتي في
أفغانستان مثلا قد تمت باسم حق الشعوب-بينما لم يكن نقد الإمبريالية يتم في
الأزمنة السابقة، كما ذكر بذلك تيبو[11]،
بالإحالة إلى المبادئ القانونية بقدر ما كان يتم تبعا لرؤية معينة للمستقبل (التي
غالبا ما تتحدد بالمنظور الغائي لقدوم الاشتراكية).
إن مقاضاة العنف باسم القانون حاضرة أيضا على مستوى العلاقات بين
الأفراد أو جماعات من الأفراد (لنقل: المجتمع) والدولة، وذلك مثلا من خلال نشاط
بعض الجمعيات كمنظمة العفو الدولية ومعاهدة 77، الخ. إن أهمية التحول الذي تم على
هذا النحو سياسيا يقاس بسهولة بالنسبة لما كان في العقود السابقة يهيمن على
الممارسات التحررية والمطلبية، أي الإحالة إلى نوع من الماركسية التي كان فضحها
للقانون كوهم صوري موجه لضمان وإضفاء واقع الاستغلال يشكل إحدى اللحظات الأكثر
طقوسية[12].
كان تحول المشهد الثقافي إذن كبيرا جدا، بحيث تم الانتقال من فكرة تجاوز
القانون نحو مجتمع يمارس فيه الإنسان "النزاهة والعدالة بدون قانون"،
كما هو الحال في العصر الذهبي لدى أوفيد، إلى فكرة إعادة التقدير للقانون وعودة
القانوني كقيمة[13].
ويصادق المرء على ذلك لا سيما إذا تأمل فكرة الحق وكذا التمثل حول الحق الذي تحمله
معها هذه الدعوات إلى القيم القانونية، أي إذا تأمل القانون العائد.
ذلك أنه إذا كانت الإحالة المستعادة إلى الحق تكتسي مظهر دعوة إلى حقوق
الإنسان، فذلك شيء مفهوم بالتأكيد، لكنه مع ذلك شيء مفارق. فهو مفهوم ليس فقط لأن
النظام الشمولي –الذي يتفق الجميع على أنه الظاهرة السياسية الخاصة بالقرن
العشرين- يتحدد على وجه الدقة بسلبه العملي لحقوق الإنسان، ولكن أيضا لأنه لا يمكن
للفكر مع ذلك أن يتخلى اليوم عن كل شيء يتعلق بالنقد الماركسي للقانون، وخصوصا على
نوع من الحذر إزاء القانون القائم، القانون الوضعي، الذي تبقى علاقته بالدولة
(وخصوصا الدولة الشمولية) واضحة لدرجة لا يمكن أن يظل معها لمدة طويلة قيمة يستند
عليها في الدفاع عن الفرد أو المجتمع ضد تلك الدولة[14]:
فلكي يعمل القانون فعلا كقيمة مشتركة بين جماعات مختلفة ضمن مجتمع ما أو بين
مجتمعات مختلفة، ولكي يتمكن من أن يكون مناسبة لحس مشترك، كحد أدنى للحوار أو
النقاش، وباختصار للتواصل، ينبغي أن يظهر –كما نقرأ ذلك من جديد لدى غورفيتش-[15]
كبعد من أبعاد الكونية، أو على كل حال كشكل للكوني، بعيدا عن لعبة المصالح الخاصة؛
وبعبارة أخرى، كمعيار مرجعي عام.
طبعا، يبقى على المرء أن يتقصى نظريا وضعية هذا البعد من أبعاد الكونية
(أهي واقعية أم رمزية؟)، لكن من الواضح سياسيا أن القانون القائم لا يمكنه أن يدعي
أنه يشغل تلك الوضعية ما دام يتعين على جماعات اجتماعية، مثلا الأقليات المضطهدة،
أن تدين ذلك القانون حتى يتم الاعتراف بها. لكن هذه الإدانة للقانون الوضعي، أي
نقد القوانين الجائرة، تتم دوما ضمنيا باسم مبادئ قانونية أخرى، أي باسم تصور للحق
مختلف عن تصور الحق القائم –وهو تصور عبر عن نفسه في تقليد الحق الطبيعي الذي
يستحق أن يعاد بناؤه انطلاقا من وجهة النظر تلك والذي وصل أوجه تاريخيا في إعلانات
حقوق الإنسان، أي "الحقوق الطبيعية للإنسان بما هو إنسان"17،
بصفته الشكل التاريخي السائد لنقد القانون القائم (من قبل الدولة، وبالتالي
للدولة) باسم القيم القانونية المعتبرة كفكرة مشتركة ممكنة، أي كدعامة لإجماع
حقيقي. فحتى وإن لم يتم هنا فحص وظيفة الكوني التي يعزوها لحقوق الإنسان محتواها
–أي الحقوق التي جاءت بها الثورة الفرنسية طبعا، ولكن أيضا الحقوق التي جاء بها من
قبل الإعلان الأمريكي لسنة 1776، حسب تاريخ سيتعين التفكير في إعادة بنائه-، فسيتم
الاتفاق على أن شكلها هو وحده الذي يحمل دلالة: فحقوق الإنسان، التي هي حقوق ترتبط
بـ"إعلان" وليس بـ"مؤسسة"، ليست حقوقا مبتكرة، بل هي فقط حقوق
مرسخة ومرسمة من قبل الدولة كمرسوم تنحصر مهمته في إظهار حقوق معترف بها كحقوق
موجودة في ذاتها سلفا- وهي وضعية فريدة تمنح وحدها لتلك الحقوق إمكانية الظهور
كقيمة خارج وفوق دولتية. إذن إذا كان من الممكن فهم العودة إلى الحق في سياق
الدفاع عن الفرد أو عن المجتمع ضد الدولة، فقد كان ضروريا أن تتوجه مثل تلك الحركة
إلى قانون قادر على أن يقدم نفسه للتمثل كشيء خارج عن الدولة، أي كشيء غير صادر
عنها: فأن تكتسي عودة الحق مظهر إعادة تفعيل مدلول الحق الطبيعي وإعادة تقدير
الحقوق الطبيعية للإنسان، يعتبر ظاهرة يمكن تفهمها بسهولة.
لكن الظاهرة تكتسي مظهرا مفارقا من الناحية التاريخية، وذلك ليس فقط لأن
حقوق الإنسان اختزلها عادة التحليل الماركسي، منذ كتاب المسألة اليهودية، إلى حقوق
الإنسان الأناني، المعزول عن الجماعة، وباختصار حقوق المجتمع البورجوازي، وبالتالي
إلى تعبير عن المصلحة الخاصة (وليس إلى شكل للكوني). ومع أن المرجعية الماركسية
ظلت بارزة، فإنها تعرضت في السنين الأخيرة لهزة كافية بقدر جعل قراءات ماركس
"المزيلة للطابع المقدس" المزعومة تتوقف عن رهن كل إمكانية لفهم
الإعلانات بشكل مختلف؛ ويشهد على هذا الاهتمام العائد بحرفية حقوق الإنسان مقال
كلود لوفور، "حقوق الإنسان والسياسة"، الذي أعاد قراءة منطوقات 1791 أو
1793 حول الحرية وتداول الآراء أو الأمن. في الواقع، إن المفارقة العميقة التي
تسقط فيها عملية إعادة تفعيل الإحالة إلى حقوق الإنسان تتمثل في التنصيب الحتمي
للإنسان بما هو كذلك كقيمة. إذ دفاعا عن الإنسان بما هو كذلك ضد نفيه من قبل
النظام الشمولي، فإن الدعوة الحالية إلى حقوق الإنسان: 1) تقتضي وجود فكرة الإنسان
بما هو كذلك، أي فكرة طبيعة أو جوهر إنسانيين، 2) تنصب هذه الفكرة عن الإنسان
كأساس أو مصدر للقيم الحقوقية- وهو ما يجعل الإحالة إلى حقوق الإنسان، على ما
يبدو، تنتمي بوضوح إلى ما يتعين تسميته بالنزعة الإنسية18.
والحال أنه إذا كان من الممكن تفهم كون عودة الحق تتم على شكل عودة نحو حقوق
الإنسان، فمن المفارقة معاينة نوع من عودة الإنسية، وذلك لسببين:
1 ـ إن هذا "الإنسان" الذي يتم التذكير اليوم بحقوقه، يمثل،
كما سبقت الإشارة إلى ذلك19، مدلولا ظل الناس منذ عقدين
يستمتعون بالإعلان عن كونه أصبح باليا20. كيف يمكن في هذه الظروف
التفكير في "عودة الإنسان" هذه؟ إن هذا البعد الأول للمفارقة، التي
سنعود إليها لاحقا، بعد مدهش لدرجة جعلته يجد ما يدعمه في مستوى ثان إن صح
التعبير.
2 ـ وبالفعل، ففي الفضاءات السياسية التي يمارس فيها اليوم خطاب حقوق
الإنسان، وحتى وإن لم يعد المكون الماركسي يحدد التفكير كما كان في السابق، فإن
نمط الفكر السائد ظل مع ذلك تاريخانيا إلى حد كبير – بالمعنى الذي يعرف ليو ستراوس
مصطلح تاريخانية، أي كنسبية، بمعنى رفض الإقرار بمعيار لا يكون اتفاقا خالصا يتغير
تاريخيا21.
والحال أنه كيف يمكن لرفض الجواهر وللرغبة في إضفاء الطابع التاريخي
و"الجدلي" على كل شيء، إذا أردنا فهم الجدل بالمعنى الذي عزاه له إنجلز
في كتاب لو دفيغ فيورباخ ("كل ما يولد محكوم عليه بالتلف")، أن يتلاءما
مع خطاب يجعل من الإنسان وحقوقه نوعا من العنصر الكوني، اللازماني، قيمة فوق
تاريخية، مطالبا هكذا بتوقيف عملية إضفاء الطابع التاريخي المنظمة على كل
المدلولات؟
لنلخص إذن هذه المفارقة: كيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان على أساس نزعة
ضد إنسية ونزعة تاريخانية؟ إن تسليط الضوء على تلك المفارقة يمكن من حصر ما يمكن
أن يكون تساؤلا فلسفيا حول عودة الحق المعاصرة؛ ذلك أنه إذا كان فعل التفلسف يقوم
على تفكير المرء في فكره الخاص والتفكير في ما يفكر فيه أو ما يقوله، أي على توضيح
الشروط التاريخية لإمكان ما يتم النطق به22، فإن "فلسفة
الحق" ستقوم قبل كل شيء على بناء الشروط التاريخية –الشروط المتعالية- لإمكان
هذا الخطاب الحقوقي أو ذاك؛ والحال أنه يمكن الاعتقاد بهذا الصدد أن الانبعاث
الحالي لنوع من الخطاب الحقوقي في أحضان السياسي يمكن أن يتوصل إلى توضيح الشروط
المتعالية لإمكانه، وبالتالي إلى أن يكون محط تساؤل فلسفي-بمعنى فلسفة متعالية
لعودة الحق-، إذا كان مطروحا أمام الأنظار، كما رأينا لتونا، مشكل تلاؤم خطاب حقوق
الإنسان مع بعض أبرز مكونات الفكر المعاصر، وخصوصا النزعة ضد إنسية والتاريخانية.
لنضع رسما لفلسفة حقوق الإنسان هذه؛ لذلك سنتصرف في البداية بطريقة
سلبية، مقتصرين هنا على تعيين (دون تحليل) تمثلات الواقعي (الأنطولوجيات) التي
يبدو بجلاء أن النزعة الإنسية الحقوقية لا تتلاءم معها؛ وبعبارة أخرى، سنقتصر على
رسم الأطر النظرية التي لن يكون فيها مكان لفكر حقوق الإنسان، عدا إن كان يقوي عدم
الانسجام. وانطلاقا من وجهة النظر هذه، يبدو أنه من الواجب إقصاء نمطين من أنماط
تمثل الواقعي أو، بعبارة أخرى، نموذجين أنطولوجيين.
1 ـ أولا، لتعيين هذا النموذج الأول في حضوره التاريخي الأكمل، وهو ما
يمكن جمعه تحت اسم "نظرية مكر العقل"، أي هذه الأطروحة المعروفة جدا
والتي طورها هيغل، والتي بمقتضاها "كل شيء يحدث حدوثا عقلانيا" في
التاريخ، بما في ذلك ما يبدو لا عقلانيا وعبثيا (الأهواء، والحروب، والشر)، والذي
لا يكون، رغم كل شيء سوى ما تتحقق عبره عقلنة السيرورة التاريخية: فعلى أي أساس
يدرك التاريخ على أنه محكوم بقوانين مثل: لا شيء يحدث بدون علة، وعلى أي أساس يتم
إخضاع التاريخي لمبدأ العلة، وعلى أي أساس تمثل التاريخانية المدركة على هذا النحو23
إطارا تاريخيا غير متلائم مع النزعة الإنسية الحقوقية الخاصة بحقوق الإنسان؟
وبغض النظر عن الرغبة في تقديم تحليل صارم للطريقة التي يدرك بها عدم
التلاؤم مثلا في الفكر الهيغلي حول الحق، يمكن الاقتصار على الإشارة إلى الدلالة
ضد قانونية التي يحملها هذا التصور للتاريخ: إذا كانت هناك عقلنة Rationalité تعمل في قلب السيرورة التاريخية، فإن مجرى
التاريخ يكون ضروريا، وبالتالي فإن ما حدث كان يجب عليه أن يحدث في اللحظة التي
حدث فيها وبالطريقة التي حدث بها. وبعبارة أخرى، من المهام الجوهرية لـ"نظرية
مكر العقل" أن تلغي كل تفاوت بين ما هو كائن وما يجب أن يكون24،
وبالتالي أن تجعل من المستحيل القيام بأي تمييز بين نظام الواقع ونظام القيم: إن
المثال، والخير، حسب هيغل، حققتهما السيرورة التاريخية منذ الأزل؛ إن هذه السيرورة
هي الخير وهو يتحقق25.
وبهذا المعنى، إذا كانت "نظرية مكر العقل" تتضمن "نقدا
للرؤية الأخلاقية للعالم"، فإنها تجر معها أيضا نقدا لما يمكن أن يطلق عليه
"الرؤية القانونية للعالم"؛ إنها تقصي كل إمكانية لتقديم اعتراض متماسك
على الواقعة باسم القانون26، مثلا إدانة واقع سياسي
باسم قيم قانونية مدركة كقيم متعالية على هذا الواقع، وخصوصا على الواقع التاريخي
للدولة (وبالتالي فإن التاريخانية تسير بالضرورة في موازاة مع الوضعية القانونية).
وباختصار، من الصعب أن يدرك المرء المعنى الذي يمكن أن تحمله فكرة الحق الطبيعي
–فكرة مذهب الحق الطبيعي الحديث- في سياق نظري لا يكون فيه لفكرة ما ينبغي أن يكون
أي معنى.
من هنا، تكتسي العبارة الشهيرة التي استعارها هيغل من شيلر كل أهميتها:
إن القول بأن تاريخ العالم هو محكمة العالم يعني الميل إلى افتراض أن النجاح أو
الفعالية (إدماج قصد ما في التاريخية Historicité) يصبح معيار الحق. وينتج عن ذلك حتما أن تصور
الاجتماعي كفضاء حقوقي يميل، بالنسبة لكل "نظريات مكر العقل" وبالنسبة
لكل تاريخانية، إلى ألا يكون سوى لحظة لسيرورة بلغت أوجها في ما وراء الحق، كما
نلاحظ ذلك عند هيغل في ما يخص الانتقال من الحق إلى الدولة- التي بتحقيقها لطموحات
الأفراد، تجسد الحق وتصبح "القانون الأسمى ضد الأفراد"27،
مؤدية بذلك إلى إلغاء فكرة الحق التي يمكن أن يستند إليها للدفاع عن الفرد ضد
الدولة. ويبدو هذا واضحا أيضا لدى ماركس وفي التقليد الماركسي من خلال تصور
الشيوعية كتجاوز للحق28.
إن هذه العلاقة بين "نظرية (ات) مكر العقل" وسلب الحق معروفة
جدا29:
ولذلك سوف لن نقف عندها. وبالمقابل، ما تجدر الإشارة إليه هو الخطر الذي يمكن أن
يشكله، بالنسبة لممارسة متماسكة للمرجعية القانونية، أو بالنسبة لإنسية حقوقية
تريد أن تكون منطقية، نوع من الخلاصات التي تستخرج بسرعة من الإقرار بهذه العلاقة.
وبالفعل، عندما يظهر بوضوح كأن خضوع الصيرورة التاريخاني لهيمنة "مبدأ العلة
القوي جدا" يتضمن سلبا للحق ويشكل منه النموذج النظري (نموذج سلب الحق كمعيار
يتعالى على ما هو قائم)، فإنه يتم الانتهاء بسهولة إلى الاعتقاد، الصحيح مع ذلك،
أن عودة مبررة فلسفيا للقانوني يتعين أن تمر، على عكس ذلك، بنقد لفلسفات التاريخ
"العقلانية"، هذه الفلسفات التي تؤكد، حسب عبارة تيبو، أنها "فصحت
ادعاء التعبير عن التعالي". والحال أن الخطر كبير في الانتقال من هذا
الاعتقاد الصحيح إلى نموذج نظري كان يبدو هو أيضا غير متلائم مع تصور لا وضعي
للحق.
2 ـ سيتم تعيين هذا النموذج الثاني هنا بالإحالة إلى فكر هايدغر. ذلك
أنه يمكن الانتقال من الضرورة النقدية لـ"نظريات مكر العقل" إلى قرار
اختبار فكر تاريخي متحرر من كل استعمال لمبدأ العلة: فمن رفض الأطروحة القائلة بأن
"كل شيء يحدث حدوثا عقلانيا" في التاريخ إلى الإعلان بأن الحدث،
كالوردة، "لا علة له"، يمكن للنتيجة أن تبدو جيدة. ها نحن نوجد بدقة في
قلب المجال النظري الهايدغري: إذا كان نقد "العلة في التاريخ" يعني
إخضاع التاريخ للهيمنة الميتافيزيقية لمبدأ العلة، فإن المرء سيوجد إذن، شاء ذلك
أم لا، في أحضان مدلول "تاريخ الكينونة" الهايدغري – وهو نموذج مناقض
لنموذج "المكر" الهيغلي30.
بيد أنه يبدو أن نموذج "تاريخ الكينونة"، شأنه شأن النموذج
الهيغلي الذي يشكل معه تضادا، يصعب تلاؤمه مع خطاب حقوق الإنسان، وذلك لسببين:
أولا، لأنه يصعب الربط بين الإنسية الحقوقية والتساؤل حول الإنسية التي تشترك في
الجوهر مع النموذج الهايدغري، بما أن الإنسية تبدو له أنها تنبثق من ميتافيزيقا
الذاتية، كرفع من قيمة الإنسان المنصب كمركز مرجعي وعموما كتقييم، ما دام "كل
تقييم هو نوع من الذاتية"31. ثانيا، لأنه من المسموح به
التساؤل عما إذا كان هذا النموذج لا يشكل وجها جديدا للتاريخانية32
(إذا كان النموذج الهايدغري يبدو قليل التلاؤم مع فكر حقوق الإنسان)؛ ويمكن هنا
أيضا أن نوضح ذلك بطرق متعددة، مثلا بتحليل الطريقة التي يوضح بها هايدغر في مبدأ
العلة (ص، 21) كيف أن كل مرحلة من مراحل التاريخ تحمل "ضرورتها الخاصة"؛
إنها بالطبع ضرورة غير جدلية، لا تقتضي أي استنباط ممكن لمرحلة انطلاقا من مراحل
سابقة، إنها ضرورة "متجذرة في التاريخ" أو "قدرية" تقدم كل
مرحلة نفسها فيها كوجه أو كـ"رسالة"33.
لكن أوضح علامة للتاريخانية هنا تتمثل أيضا في كون تفكك الميتافيزيقا،
لدى هايدغر كما لدى نيتشه، يمر عبر نقد الانفصال بين الواقعي والمثالي، بين ما هو
كائن وما ينبغي أن يكون- يمكن ملاحظة ذلك خصوصا في كتاب مدخل للميتافيزيقا الذي
يقدم فيه الانفصال بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، من التأمل الأفلاطوني في
فكرة الخير إلى فكر "القيم" الحديث، كأحد أوجه هذا الحد من الكينونة
الذي يتم بواسطته إفراغ هذه الأخيرة تدريجيا من كل ما يوضع في تعارض معها
(الكينونة والصيرورة، الكينونة والظهور، الكينونة والفكر، وما هو كائن وما ينبغي
أن يكون)، ويتم اختزاله بالتالي إلى أفقر مدلول: إن الانفصال بين ما هو كائن وما
ينبغي أن يكون هو بالفعل أحد الأشكال الرئيسية لعملية خفض مسألة الكينونة المنتمية
لتاريخ نسيانها، وبالتالي لتاريخ "أفول الفكر"، ما دامت الكينونة،
متميزة بذلك عن "ما وراء الكينونة" التي "عينت بالتالي للكينونة
نفسها كمرجعية"، "لم تعد هي المقياس"34.
ونتيجة لذلك، إذا كان التمييز بين المثالي والواقعي، الذي "اكتمل
لدى كانط"35
طبعا، يدخل في منطق النسيان الميتافيزيقي للكينونة، فمن الواضح أن الأمر، بالنسبة
للفكر الذي يحاول أن يكون في الأخير وفيا لـ"سؤاله الأساسي"، يتعلق
بإبعاد العائق الذي يحول دون تذكر الكينونة. إلا أنه في هذه الظروف، وإذا لم يعد
من الواجب التنويه بالتمييز بين الواقعي والمثالي، سيفهم المرء بأي معنى يجد نفسه
بالفعل في مجال التاريخانية، أي اختفاء كل مقياس ("ما وراء الكينونة")
للحكم على الكينونة التي تخاطر كثيرا منذئذ بالحيلولة دون وجود أي إمكانية لمنح
معنى لفكرة الحق. وهذا هو ما يفسر القسوة التي ظهرت على ستروس –في الحق الطبيعي
والتاريخ الذي بذل فيه جهوده لإقامة البعد الحقوقي ضد مختلف أشكال التاريخانية-
وهو يدرس فكر هايدغر، حتى وإن كان يمكن لتفكيكه للفكر الحديث أن يكون قريبا في بعض
الجوانب من التحليلات الهايدغرية.
لا يسعنا هنا إلا أن نلاحظ أنه إذا كان يصعب على النموذجين (بمعنى نمطين
مثاليين من المواقف اتجاه الموضوعية) الهيغلي والهايدغري (نظرية مكر العقل، وتاريخ
الكينونة) اللذين وضحنا بإيجاز كيف يتضمنان التاريخانية، أن يظهرا متلائمين مع فكر
أصيل في الحق (وهو على كل حال حق يمكن من الإحالة إلى "حقوق الإنسان")،
فإنه لا يكفي القيام بنقد لـ"فلسفات التاريخ العقلانية" حتى يمنح لخطاب
حقوق الإنسان الفلسفة التي يستحقها. يتعين على هذا الخطاب بالطبع أن يتجذر فلسفيا في
نوع من نقد العقل، لكن يتعين إدراك أنه ليس بمقدور كل نقد للعقل أن يؤسس نظريا مثل
ذلك الخطاب، وذلك ما دامت الإدانة الهايدغرية للعقل كـ"عدو للفكر" تتم
بطريقة تحول دون منحه أي معنى. لذلك يبدو أن التفكير الفلسفي في حقوق الإنسان
مشروط بنقد للعقل لا يقصي كل إمكانية للرجوع إلى "الإنسان المتناول فقط بما
هو كذلك"، ولا يدين وضع مقياس للكينونة بعيدا عن الكائن. وإلا فإن فلسفة
لحقوق الإنسان ستكون، بالمقابل، نزعة إنسية لا تنقلب لهذا السبب إلى ميتافيزيقا
ساذجة للذاتية – بما أن مثل تلك الميتافيزيقا تبلغ أوجها، كما وضح ذلك التفكيك
الهايدغري، في الشكل الهيغلي للنسق الذي يشكل فيه الأنا "كل واقع"،
النسق الذي، لكونه يدل بجوهره على هوية الواقعي وهوية العقلاني، يحول دون وجود أي
فكر خاص بما ينبغي أن يكون، وبالتالي بالحق (بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه).
إن هذه الصياغات لـ"الضرورات التدليلية" الفلسفية لخطاب حقوق
الإنسان ترسم، كما يلاحظ بسهولة، مكانا فلسفيا متميزا يمكن التعرف على أنه هو مكان
النزعة النقدية نفسها، أي مكان نقد العقل الذي، لكي يكون نقدا راديكاليا36،
يسمح، كما كان يجب أن توضح ذلك قراءة نقد ملكة الحكم، بالإحالة إلى بعض "القيم"
(الجمالية، وبالتالي، وعلى نحو غير مباشر، الإتيقية، وذلك إذا كان الجميل هو
"رمز الخير") التي يمكن أن يتصور حولها "حس مشترك" أو، إن
شئنا، نوع من "التذاوت"(*).
وفي هذا الصدد، ليس صدفة إذا عمد أوائل تلامذة كانط، حتى قبل أن يصدر
هذا الأخير سنة 1797 فقه القانون، إلى إظهار خصوبة النزعة النقدية في هذا الميدان
بفضل كتاباتهم القانونية الغزيرة. سيتعين يوما تتبع مراحل هذا التاريخ الرائع
للمدرسة القانونية الكانطية، وذلك عبر أعمال هوفلنت، وشميت، وميمون، وراينهارت،
وإرارت، وشيلينغ، وفيورباخ، وطبعا فيخته الذي يشكل كتابه أساس الحق الطبيعي (
1796) بدون شك أعظم شهادة على قدرة نوع من نقد العقل (الذي وجد فيخته نموذجه في
كتاب نقد العقل الخالص، والذي قدم كتاب مبادئ مذهب العلم (1794) نفسه كتأسيس نسقي
له) على تأسيس فكر غير "ساذج" (لا ينقلب إلى ميتافيزيقا ساذجة للذاتية)
للقيم الحقوقية.
من البديهي أن مجرد هذه الدعوة إلى "الوقائع" (أي إلى الخصوبة
الحقوقية الفعلية لتقليد فلسفي يقدم نفسه قبل كل شيء كنقد للعقل) غير قادرة وحدها
على إثبات أن النزعة النقدية تمثل حقا المكان الفلسفي الذي يتم فيه استيفاء الشروط
النظرية التي يبدو لنا بدونها أنه من المستحيل منح خطاب حقوق الإنسان أسه
المتماسك. ولهذا يتعين توضيح ما يمكن، في النقد ذي النزعة النقدية (Critique criticiste) للعقل، رغم مناهضته الراديكالية للميتافيزيقا،
من الحفاظ على معنى لمدلول القيمة بعد نقد الميتافيزيقا. سنقتصر هنا مؤقتا على قول
الأمور على النحو التالي: إذا ظلت الإحالة إلى بعض القيم ممكنة في إطار هذا النقد
للعقل (بينما رأينا من قبل أن ذلك لن يكون في السياق الهايدغري سوى مجرد علامة على
أننا مازلنا لم نتحرر بعد من الميتافيزيقا)، فذلك لأن هذا النقد لدى كانط، وخلافا
للتفكيك الهايدغري، لم يستنفذ كل إمكاناته؛ وبالفعل إذا كان من الممكن لتقييم
الجميل (وبالتالي الخير) أن يكون موضوع تفكير من قبل كتاب نقد ملكة الحكم، فذلك
لأنه بمجرد تفكيك الأفكار ونزع الطابع الموضوعي عنها (ونقد ادعائها الأنطولوجي)،
فإنها تحتفظ بشكل من المشروعية: فرغم أنها تتعرض للنقد بسبب قيمة الحقيقة المحتملة
لديها (أي بسبب قدرتها الوهيمة على بناء الواقع)، فإنها تبقى محفوظة، مع وضع
المعنى، بصفتها متطلبات ذاتية خالصة خاصة بكل ذات إنسانية؛ وبالتالي، فإنها تنتقد
بسبب قدرتها على تنظيم الوظافة، النظرية والعملية، للذاتية37.
لا ندعي أبدا أن هذه الإشارات، التي هي بالضرورة تلميحية ومليئة
بالثغرات، تكفي لضمان إمكانية تنصيب النزعة النقدية كـ"فلسفة لحقوق
الإنسان"؛ بل ينبغي بالخصوص إثبات كيف يكون من حق المذاهب القانونية لدى كل
من كانط وفيخته أن ترجع أيضا إلى مدلول غير "ساذج" للإنسانية، لمدلول
"الإنسان بما هو كذلك" الذي بدونه لن يوجد خطاب حقوق الإنسان، كما سبق
أن رأينا. وسيقتضي ذلك أن نوضح في آن واحد: 1) أن كانط رفض، منذ صدور كتاب تأملات
في التربية، كل استعمال "ساذج" لمفهوم "الإنسان"، ما دام قد
فسر بوضوح أنه لا يمكن الحديث عن "الطبيعة البشرية"، أي عن جوهر مفهومي
للإنسان38،
2) وأنه رغم هذا "النزع للطابع المفهومي" عن الإنسان، يمكن لمدلول
الإنسانية أن يحتفظ هنا بمعنى ما، وذلك على منوال الفكرة الناظمة، مع قيمة معنوية
أو، كما يقول كانط أيضا، قيمة رمزية.
وهنا أيضا، لا يمكن الادعاء أن تسجيل هذا الوضع الرمزي لفكرة
"الإنسانية" في خطاب النزعة النقدية يمكن أن يحل كل المشاكل: بل ينبغي
الدخول في تفاصيل (وصعوبات) النظرية العامة للنزعة التخطيطية (schématisme) التي لا يعتبر كانط رمزيتها (symbolisme) سوى حالة خاصة. وينبغي بالخصوص تحديد الأهمية
الحقيقية لنقل ما كان يشغل وضع الحقيقة أو المفهوم نحو مستوى المعنى أو مستوى
الرموز: فمن جهة، هل يكفي ذلك النقل، نظريا، لضمان "منفذ" إلى خارج
الخطاب الميتافيزيقي حول "الإنسان بما هو كذلك"؟ ومن جهة أخرى، هل
يحتفظ، عمليا، بما فيه الكفاية بإمكانية الإحالة إلى "إنسان" يمكن الدفاع
عن حقوقه دفاعا ملموسا؟
هذه بدون شك هي الأسئلة الرئيسية التي تجعل عملا ما ضروريا والتي يمكن
أن تقود البحث إلى أبعد من مجرد العودة إلى النصوص الحرفية لكانط أو فيخته. لكن
يبدو لنا أنه عندما لا يستلهم المرء ما هو نوعي في النقد ذي النزعة النقدية للعقل
(أي الدعم الذي تبرره وتقدمه لما يتبقى من الميتافيزيقا، بعيدا عن نقدها)، وبعبارة
أخرى، عندما يغذي في موضع آخر نقدا عاما "لنظرية مكر العقل"، فإنه يعرض
نفسه لخطر ألا يستطيع أبدا تقديم مبرر لهذه الإحالة إلى بعض القيم وهذه الإحالة
إلى فكرة عن "الإنسان" التي بدونها ستظل الدعوة إلى حقوق الإنسان للأبد،
كما يعترف بذلك كلود لوفور عندما يشير إلى ضرورة وجود حد أدنى من الإنسية المجردة،
غير مبررة وغير دالة تماما – أو "باروكية"، كما اعترف بذلك جاك ديريدا
مؤخرا بكثير من الأمانة والوضوح39.
وتجنبا لخطر البقاء عند "انعدام الدلالة" هذه أو عند هذا
"الباروك"، سنختتم عرضنا، الذي أردناه برنامجا فقط، بالإجابة على نوعين
من الاعتراضات التي يمكن تقديمها على الإشارات التي اقترحناها للتو. وإذا أردنا
بالفعل إيجاز الطريقة التي أدت بنا إلى التفكير في أن نجد في النزعة النقدية عناصر
التأسيس الفلسفي لخطاب حقوق الإنسان، فإن هذا البرنامج لن يقدم على أنه أمر لازم
إلا انطلاقا من اللحظة التي يقبل فيها أن التضاد بين "نظرية مكر العقل"
و"تاريخ الكينونة" ليس له من حل آخر يتلاءم مع فكر حقوق الإنسان سوى نوع
من الإحالة، غير الحرفية، للنموذج الكانطي. والحال أنه يبدو لنا أن هذه النقطة هي
ما يمكن أن يكون عرضة لبعض الاعتراضات التي يجب علينا أن نرد عليها قبل الشروع في
العمل الحقيقي.
1 ـ يبدو أن الاعتراض الأول يتمثل في البديل الذي يمكن أن تمثله لحل
النزعة النقدية للتضاد المذكور سلفا العودة إلى الفكر الإغريقي، لا سيما وأنه لا
يوجد لدى الإغريق نظام الذاتية الذي أدى، وقد وصل "أوجه" لدى هيغل، إلى
النفي التاريخاني للحق، ولا سيما أيضا أنه، خلافا لما ستفضي إليه المساءلة
الهايدغرية للذاتية، يوجد فيه نوع من التفكير في الحق، وخصوصا لدى أرسطو. فلماذا
لا نعمل ضمن هذه الشروط على تزويد حركة العودة إلى الحق، التي يبحث لها عن الشروط
النظرية لإمكانها، بعودة إلى أرسطو؟ ها نحن نتعرف هنا طبعا على محاولة تم توضيحها
بطرق شتى من قبل ليو ستروس وفيلي. إننا لا ندعي أننا نقوم هنا بتحليل واف لتلك
الأعمال، لكن يبدو لنا مع ذلك أن هناك ملاحظتين تفرضان نفسيهما:
أ ـ من المؤكد أن للعودة إلى مذهب الحق الطبيعي الأرسطي فضلا ثمينا في
إطار نقد هذه التاريخانية الحديثة والمتعددة الأشكال التي رأينا كيف تحول دون
انبثاق أي فكر مثمر في الحق؛ ويبدو حقا أن الفكر الأرسطي في الحق الطبيعي يمنح
ثانية للحق شكلا من التعالي (الذي بدونه لن يكون للدعوة إلى الحق أي معنى) – طبعا
ليس تعاليا لمعيار عقلاني (ذاتي وملازم لعقل الذات)، وإنما لمعيار طبيعي (موضوعي):
إن ما يمثل وما ينبغي أن يكون معيارا هنا هو الغاية التي بفضلها يكون كل كائن،
بالطبيعة، ما هو عليه، وبالتالي فإن التعالي يكون في النهاية هو الغاية الأولى
للكائن بالقوة الذي ينزع طبعا إلى ما يمكن أن يعثر فيه على اكتمال جوهره. وبهذا
المعنى، يمكن هنا للمرء، بفضل ملاحظة الطبائع المختلفة للكائنات، وبالتالي بفضل
الانفتاح على الطبيعة (physis)، أن يمنح للكائنات حقوقها
التي بدونها لن تعرف طبيعتها وجوهرها الكمال. هكذا يتأسس الحق كشرط لإمكان الحركة
الطبيعية لكل كائن نحو جوهره.
ها نحن نرى إذن انطلاقا من أي منظور ضد تاريخاني يمكن الرجوع إلى أرسطو
بهدف إعادة تأسيس تعالي الحق الطبيعي على الوضعية (التي يمكن بالفعل نقدها إذا
كانت تمنع هذا الكائن أو ذاك من إكمال ماهيته)-، تعال لا يمكن فضلا عن ذلك إعادة
تأسيسه دون إسناده في الذات (وبالتالي بطريقة "غير ميتافيزيقية").
بالإضافة إلى ذلك، تنبغي ملاحظة أن الفكر الحقوقي الذي يعتقد أنه يؤسس على هذا
النحو يبدو بوضوح أنه لا يتلاءم من حيث محتواه مع فكر حقوق الإنسان الحديث، كما
يوضح ذلك على نحو صارم فيلي (Villey): فما دام المنهج الأرسطي
يعتبر أنه توجد "طبائع" مختلفة يتوزع بينها ما يسميه المحدثون
"الإنسانية"، وأن طبيعة النساء لا تطابق طبيعة الرجال وطبيعة العبيد لا
تطابق طبيعة الأحرار، فمن الواضح أنه حيثما لا تكون الغاية لا تكون الحقوق واحدة.
إن الفكر الحقوقي الذي نبلغه بتلك الطريقة لا تعود له منذئذ علاقة مع فكر حقوق
الإنسان، ويفضي، خصوصا من خلال تبريره للعبودية، إلى مواقف غير مقبولة أخلاقيا من
قبل الفكر الحديث، كما أشار إلى ذلك مثلا أوبينك Aubenque عندما اعترف أنه على رغم تشبته بأرسطو ورغم كل ما
يمكن أن يعترض به على العقلانية الحديثة، فإن "النظريات الحديثة للحق
الطبيعي، ولحقوق الإنسان –هذا الإنسان اللازماني والمجرد- تمثل، رغم كل ما يقابل
ضدها، تقدما بالمقارنة مع مذهب الحق الطبيعي الأرسطي"42.
وباختصار، إذا كان يتعين على عودة الحق في السياسة أن تكتمل على شكل عودة نحو خطاب
حقوق الإنسان، فإن المرجعية الأرسطية لن تغذي نظريا تلك الحركة بأي حال من
الأحوال.
ب ـ فضلا عن ذلك، هل نحن على يقين من أن مذهب الحق الطبيعي الأرسطي لم
يكن، بفضل تصوره للطبيعية، في طريقه إلى أن يصبح نمطا فكريا سيؤدي، بسبب بنيته،إلى
النفي التاريخاني لفكرة الحق كمعيار ذي تعال متغير؟ ذلك أن ما يحدث في عمق هذا
النوع من فكر الحق الطبيعي هو أن حركة الطبيعة نفسها هي التي تنجز ما يعد معيارا؛
إن الطبيعة، المتروكة لذاتها، تحقق غاياتها تبعا لتطورها الخاص المحايث، وبالتالي
لا يكون الحق (الطبيعي) سوى الأداة التي تستخدمها الطبيعة لتحقيق غاياتها الخاصة.
يمكن القول، ضمن هذه الظروف، كما قال أوبينك (ن.م)، إن الطبيعة المتروكة لذاتها
تكتسي قيمة مقدسة تمكن من تبرير أي شيء، شريطة أن يكون طبيعيا؛ كما يمكن القول على
الخصوص إن البنية النظرية الكامنة تحت هذا التمثل للحق تستدعي (وهذا غريب) بنية
"نظرية مكر العقل"؛ أو بعبارة أخرى، ألسنا هنا أمام نظرية "مكر
الطبيعة"، كما وضح ذلك فيلي (ص64)؟
يتعين في هذه الحالة الإقرار بأن المذهب الطبيعي الأرسطي يقود فيما
يتعلق بالحق الطبيعي إلى صعوبات مماثلة للصعوبات التي تفضي إليها التاريخانية
الهيغلية: إذ بالفعل، لا يمكن أن يتعلق الأمر في المذهب الطبيعي الأرسطي بفصل
حقيقي بين الواقعي والمثالي، بين الكائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمعيار،
ما دامت حركة الواقع (الطبيعي) نفسها هي ما يحقق المعيار. يتمثل منطق الواقع هنا
في اكتمال المعيار، وليس الحق سوى أداة اكتمال غاية الطبيعة (أي تحقيق أكبر قدر
ممكن من الكمال) التي يشارك فيها البشر دون علم منهم. وانطلاقا من وجهة النظر هذه،
يبدو أن هناك استمرارية، وليس قطيعة، بين مذهب الحق الطبيعي الأرسطي وفكرة الحق الطبيعي
التي سوف سيظل هيغل يرتكز إليها في نفيه التاريخاني للحق؛ فضلا عن ذلك، يمكن للمرء
بالطبع أن يحدد تاريخيا ما الذي لعب دور الوساطة بينهما43.
وفي هذا السياق، فإن جميع محاولات إنقاذ الحق من النفي التاريخاني،
والتي تتغذى تاريخيا من الفكر الإغريقي، وخصوصا الأرسطي، كما هو الحال مثلا
بالنسبة لأعمال ليوستروس والمدرسة الستروسية، ينبغي فحصها بحذر شديد.
2 ـ إذا كان يبدو من السهل إذن إقصاء هذا النوع الأول من الاعتراض على
الطريقة التي نقترحها هنا، فإنه يبقى علينا أن نتحدث عن شكل ثان من الاعتراض يتعلق
بوجاهة فرضية عملنا التي تقول إنه لا يمكن لخطاب حقوق الإنسان أن يعثر على إسناد
فلسفي له دون أن تكون له علاقة بالنزعة النقدية. هذا الاعتراض لا تقدمه هذه المرة
أعمال ستجد لدى غير المحدثين، أي في تصور كلاسيكي للحق، بديلا عن حل النزعة
النقدية، وإنما ستقدمه وجوه معاصرة لعملية التفكير الحقوقي والسياسي، يبدو أنها
عثرت في مكان آخر على منفذ للتخلص من التضاد القائم بين "مكر التاريخ"
و"تاريخ الكينونة"-في مكان آخر، يعني دونما ضرورة للعودة إلى نوع من
الإسناد النقدوي للحق. يمكن الاعتقاد بالفعل أن التقليد الظاهراتي، وغالبا الإحالة
إلى حنة أرنت Arendt أو أعمال ميرلو-بونتي
الأخيرة، هو ما يصاحب فلسفيا، لدى كلود لوفور مثلا، عملية إعادة التقييم السياسي
لحقوق الإنسان44.
ينبغي طبعا تحليل أنماط هذه "المصاحبة"، لكن سنكتفي الآن
بصياغة سؤال بسيط: هل أكيد أن الإحالة إلى أرنت أو لأعمال ميرلو-بونتي الأخيرة لا
تقود من تلقاء نفسها إلى نوع من إعادة الانخراط في إطار ما أطلقنا عليه النموذج
الهايدغري والذي بينا بأي معنى هو غير متلائم فعليا مع الإنسية القانونية؟
إن طرح هذا السؤال يعرض صاحبه لتهمة "المماثلة"
و"التبسيط"، بل لتهمة "الكاريكاتورية". ومع ذلك، فقد يكون من
السهل رفع كل أنواع سوء الفهم التي يعرض لها
الشك الذي صغناه لتونا: عندما نضع فكر حنة أرنت أو نصوص ميرلو-بونتي
الأخيرة في قلب النموذج الهايدغري، فإننا لا ننوي بذلك أبدا أن نماثل، بمساعدة بعض
الاستشهادات التي سيكون من السهل طبعا تجميعها، بين متون يبدو عدم تجانسها جليا
وتخترقها انشغالات مختلفة، وباختصار غير متطابقة. بقيت الإشارة إلى أنه عندما
نتحدث هنا عن النموذج الهايدغري (أو النموذج الهيغلي)، فإننا نحدد موقفا من
الموضوعية: لنكرر القول مرة أخرى إن النموذج نعني به النموذج الأنطولوجي45،
أي تصورا لواقعية الواقعي (تصورا لوجود الموجود، لموضوعية الموضوع)، وهو تصور يمكن
أن نوضح أنه يشتغل في متن فلسفي معطى-، وهذا المتن طبعا وبالتعريف لا يقبل
الاختزال في هذا النموذج الذي يشتغل بداخله، ما دام دور كل متن فلسفي لا يقتصر على
التعبير عن أطروحة في الموضوعية46.
إن النموذج الهايدغري المدرك على هذا النحو يتحدد حصرا، في رأينا،
بالفصل الجذري بين الواقعي والعقلاني باسم الأخذ بعين الاعتبار للاختلاف
الأنطولوجي، ولعدم قابلية الواقعي للاستنباط الكامل، أي للانخراط الذي لا يقاوم
لبعد "بدون لماذا" في أحضان ما هو كائن. إن المسألة الوحيدة الباقية إذن
هي معرفة ما إذا كان الرجوع إلى أعمال أرنت أو أعمال ميرلو-بونتي الأخيرة بهدف
العثور فيها على أساس فلسفي (بمعنى أنطولوجي) لخطاب حقوق الإنسان يعني أنطولوجيا
الانعطاف نحو موقف آخر من الموضوعية غير الموقف الذي ذكرنا به لتونا.
عندما يحتفي كلود لوفور لدى ميرلو-بونتي بإبرازه أن كل فكر في الأسس
"يخفي أساسه" (م.م، ص XXII)، فارضا "التساؤل حول
وضع الذات والوعي والتمثل والمفهوم" (صIX) وملتزما "بمحاكمة المعرفة المطلقة"
(ص10) و"بالتخلي عن صياغة علاقة جديدة مع الكينونة بلغة النسق" (ص21)؛
وعندما تدعو أرنت، ضد طموح الإيديولوجيا الذي حللته بمهارة إلى استنتاج كل شيء
انطلاقا من مقدمة منطقية واحدة، إلى تبني فكر منتبه لـ"معجزة الكينونة"47
– فكيف يفلت تمثل الواقعي (والتاريخ) من نموذج الاختلاف الأنطولوجي وتاريخ
الكينونة؟
هذا هو سؤالنا الوحيد، ومن الواضح أننا لا ننوي بذلك أبدا إنكار أنه
كانت توجد في المتن الأرنتي (Arendtien) وأعمال ميرلو-بونتي
تأملات تتجاوز هذا النموذج. إن المسألة كلها تتمثل في معرفة ما إذا كان هذا
التجاوز تربطه بالنموذج الهايدغري علاقة استتباع، الحاضرة بوضوح في فكره، وهو ما
يبدو مستبعدا، أو ما إذا كان الأمر يتعلق بالأحرى بتفكير مستقل عن النموذج
الأنطولوجي، الذي يتلاءم معه بصعوبة، وفي هذه الظروف التي ما زالت تنتظر تأسيسها
الفلسفي.
لهذا السبب، وبهذا المعنى، يبدو لنا أنه لا يوجد هنا، في عملية أخذ هذه
الأفكار بعين الاعتبار، طريق خصبة كفيلة بالتجذير الفلسفي، وبطريقة غير
"باروكية"، للعودة الحالية إلى الحق (ما عدا إذا تم توضيح كيف يعمل في
أعمال أرنت وأعمال ميرلو-بونتي الأخيرة نموذج أنطولوجي آخر غير نموذج الاختلاف
الأنطولوجي). وانطلاقا من وجهة النظر هذه، فمن الجائز أن يقلق المرء قليلا من عملية
"إضفاء الطابع الهايدغري" المدهشة على التفكير الحقوقي والسياسي التي
تتمثل مثلا في الأهمية التي أصبح يحظى بها كتاب العين والروح أو كتاب المرئي
واللامرئي: ومن غير المؤكد أن يعثر خطاب حقوق الإنسان أخيرا في هذه الطريق على
الفلسفة التي يطالب به اn
[1]
- ب.تيبو، Esprit،
يناير 1981، ص3.
[2] - كـ. بوميان، Le
débat، فبراير 1981.
[3] - Autogestion،
فبراير 1981.
[4] - ب.تيبو، مرجع مذكور، ص4.
[5] - (الحق والسياسة)، Esprit،
مارس 1980.
[6] - (حقوق الإنسان والسياسة)، Libre،
ع.7، 1980، و(توسيع حدود الممكن)، Esprit،
يناير 1980، مقالان أعيد نشرهما في كتاب الابتكار الديمقراطي، فايار، 1981.
[7] - الابتكار الديمقراطي، مرجع مذكور،
ص28.
[8] - لم يخرقه قليلا إلا مقال م.غوشي،
"حقوق الإنسان ليست نشاطا سياسيا"، Le
débat، يوليوز-غشت 1980، وتدخلات م.فيلي: مثلا
"الفحص النقدي لحقوق الإنسان" الذي ألقاه يوم 6 فبراير 1980 بمركز
الدراسات والبحوث حول كانط وفيخته.
[9] - نتذكر جيدا كيف يعبر واجدا بوضوح
رائع على لسان أحد شخوصه عن الاستراتيجية الحقوقية للحرية المتمثلة في نقد
القوانين الجائرة طبعا، لكن قبل كل شيء في ضمان تطبيق "الحق" الذي
يتضمنه الدستور.
[10] - وهو منطوق يحق لنا هنا ايضا أن نأمل
في تحقيق ممكن لإجماع حوله ما دام بالإمكان إدراكه انطلاقا من الدعوة الهيغلية إلى
"تصور ما هو كائن" وكصدى للعنوان الهايدغي: "نظرة إلى ما هو
كائن".
[11] - انظر ب.تيبو: "الحق
والسياسة"، Esprit،
مارس 1980؛ و"الكامبودج، حقوق الإنسان والرأي العام الدولي"، Esprit،
شتنبر 1980.
[12] - حول النقد الماركسي للقانون، انظر
كـ.ستويانوفيتش، الماركسية والقانون، مكتبة فلسفة الحق، 1964؛ وانظر أيضا العدد 63
من مجلة أرشيف فلسفة الحق.
[13] - حول عودة الحق
كـ"مطلب لأخلاق اجتماعية جديدة"، انظر ت.و.ن. لوويت، "الثورة
النقابية"، Esprit، يناير 1981.
[14] - بهذا الصدد، لا يمكن لمطلب
"تطبيق الحق الذي يتضمنه الدستور" أن يشكل سوى الخطوة الأولى لمشروع
تحريري باسم الحق. حول العلاقات بين السلطة الدولتية والقانون القائم، انظر
كـ.بوميان، "من يملك الحق؟"، Esprit،
مارس 1980.
[15] - انظر مثلا ب.تيبو، Esprit،
مارس 1980، ص11 و14.
17 - انظر في هذا
الصدد نظرية وولف في الحق الطبيعي والطريقة التي يتم بها استنباط "الحقوق
الطبيعية للإنسان بما هو كذلك" منها.
18 – بالمعنى مثلا الذي يعرف به هايدغر
الإنسية، أي كهذا التصور للواقع الذي يرى أن "المهم هو الإنسان المتناول بما
هو كذلك" (رسالة في النزعة الإنسية، Aubier،
ص119)، والذي يصبح ينتمي للميتافيزيقا والذاتية بفضل تنصيب الأنا البشري كأساس
(النزعة الأنتروبولوجية) (ص117).
19 – انظر م.غوشي، مقال مذكور، ص4.
20 انظر بخصوص هذه النقطة لوفور،
"حقوق الإنسان والسياسة"، مقال مذكور، ص24.
21 – ل.ستروس، الحق الطبيعي والتاريخ، Plon،
1969، ص19.
22 – نتعرف هنا طبعا على عناصر
تعريف نقدوي للفلسفة كانعكاس؛ انظر مثلا فيخته، نصوص مختارة من الفلسفة الأولى، vrin،
ص24.
23 – هذا اللفظ مستخدم هذه المرة بالمعنى
الذي يعزوه له بوبر، المجتمع المفتوح، I،
Le seuil، 1979، ص15.
24 – انظر بهذا الصدد النقد الهيغلي
لفلسفة ما ينبغي أن يكون في الفلسفتين الكانطية والفيختية.
25 – حلل ليوستروس الموجات المتلاحقة
لإلغاء ما يجب أن يكون في الفكر السياسي الحديث؛ انظر بالخصوص "موجات الحداثة
الثلاث" ضمن كتاب الفلسفة السياسية، نيويورك، 1975.
26 – إننا بالطبع لا نجهل الصفحات الشهيرة
(التي غرفت منها بعض محاولات "إعادة تقييم" الهيغلية، كمحاولات ريتر
ووايل) التي أدان فيها هيغل أشكال الظلم التي يتضمنها هذا الوجه القانوني أو
السياسي أو ذاك، مثلا وجه القانون الروماني أو وجه الرعب؛ كما أننا لا نجهل واقع
المقاطع المخصصة لنقد الوضعية القانونية للمدرسة التاريخية. إن هيغل لا يريد أن
يكون من أنصار مذهب الحق الطبيعي ولا وضعيا. بقيت الإشارة، كما وضح ذلك مثلا هابرماس
في كتاب النظرية والممارسة، إلى أن إدانة الظلم هو من صنع التاريخ نفسه، وأن
التاريخ ذاته هو الذي يلعب دور الهيئة النقدية إزاء الوضعية، وبعبارة أخرى، إن
التاريخ هو من ينتقد التاريخ، وليس القانون هو من تنتقد القانون. سنعود إلى هذه
الأسئلة وكذا إلى التعريف الهيغلي للحق كتجاوز للحق المجرد لكانط وفيخته.
27 – م.فيلي، فلسفة الحق، Dalloz،
I، ص177.
28 – انظر بخصوص هذه النقطة المقال الجيد
لراينو Raynaud، "عالم
الاجتماع ضد القانون"، Esprit،
مارس 1980.
29 – انظر مثلا ب.تيبو، "القانون
والسياسة"، مقال مذكور. ينفتح النص على ربط علاقة بين انتكاس "فلسفات
التاريخ" (الفلسفات التي تعتبر
التاريخ اتجاها) وعودة الحق.
30 – حول هذا التناقض بين هيغل وهايدغر
فيما يخص فكر التاريخ، يمكن الرجوع قبل كل شيء إلى كتاب مبدأ العلة، غاليمار،
ص201، انظر أيضا ص197.
31 – انظر رسالة في النزعة الإنسية، Aubier،
ص129. انظر حول هذه النقطة لوك فيري وألان رونو، "البعد الأخلاقي في فكر
هايدغر (من هايدغر إلى كانط)"، ضمن كتاب Gerstenberg,
Nachedenken über Heidegger، 1980، ص36-54؛
انظر أيضا "مسألة الأخلاق بعد هايدغر"، ضمن كتاب النقد والنسق.
32 – حول هذه "التاريخانية
الوجودية"، انظر "من نقد التاريخانية إلى مسألة الحق".
33 – حول Geschichte،
Geschick، انظر مثلا مبدأ
العلة، ص149. إن صيغة "كل مرحلة تحمل ضرورتها في ذاتها" تعود إلى نيتشه،
II، غاليمار، ص161.
34 – هايدغر، مدخل إلى الميتافيزيقا،
غاليمار، ص199.
35 – ن.م، ص200. لنشر إلى أنه سرعان ما تم
نسب فيخته إلى هذا "الاكتمال".
36 – تقاس هذه الراديكالية في آن واحد، في
الجدل المتعالي، على مستوى تفكيك الميتافيزيقا بتوضيح عملية الإحداث انطلاقا من
بنية العقل نفسها، وفي الجمالية المتعالية، عبر تسليط الضوء على بعد اللامفهومية
الذي لا يمكن اختزاله والخاص بالواقع. حول هذا التمفصل بين الجمالي والجدلي، انظر
في العودة إلى كانط.
(*) آثرنا استخدام هذه الكلمة، رغم قلة
شيوعها، على استخدام عبارة "التفاعل بين الذوات"، وذلك لكون وزنها يدل
على التفاعل، وهو المعنى الأساسي الذي تتضمنه العبارة الفرنسية Intersubjectivité؟
37 – انظر بخصوص هذه النقطة، ملحق للجدل
المتعالي. نحيل القارئ الذي يرغب في مزيد من التفاصيل إلى نهاية مقالنا
"مسألة الأخلاق بعد هايدغر" والحوار الذي نشر في مجلة Esprit،
أبريل 1982، حول كتاب نقد العقل.
38 – يعرف الجميع كيف استعاد فيخته هذا
الموضوع في كتابه أساس الحق الطبيعي: "كل حيوان هو ما هو كائن عليه، والإنسان
وحده هو في أصله لا شيء". انظر المقدمة التي كتبها أ.فيلونينكو لكتاب كانط
تأملات في التربية.
39 – انظر مداخلته في يناير 1982 بمركز
البحث في السياسة (ENS)،
حيث اقترح كلمة "باروك" لوصف العلاقة التي لم تكن قد تمفصلت بعد بين
خطاب التفكيك الذي يمارسه فلسفيا هو نفسه وخطاب حقوق الإنسان الذي يعتبره ضروريا
من الناحية السياسية لمواجهة النظام الشمولي.
42 – ب.أوبينك، مقال مذكور، ص157.
43 – إننا نفكر في تأسيس وولف للحق
الطبيعي.
44 – انظر بالخصوص كـ.لوفور، على عمود
منسي، غاليمار.
45 – حول هذا المدلول، انظر الحوار مع
كوليج الفلسفة، Esprit،
أبريل 1981، ونهاية مقالنا "ماكس هوركهايمر والمثالية الألمانية".
46 – يمكن تدقيق القول إن وضع ما يتجاوز
النموذج، في متن ما، يتغير تبعا لما إذا كان الأمر يتعلق بمجرد استخدام لنموذج هذا
الحقل الفكري الخاص أو ذاك (يمكن انطلاقا من نفس النموذج أن نفكر في الإنتاج
الشاعري – لدى هايدغر – أو في الفعل التاريخي – لدى أرنت)، أو بإضافة، أي
بـ"زائدة" لا علاقة استتباع تربطها بالنموذج، بل لا تتلاءم معه.
47 - ح.أرنت، النظام الشمولي، Seuil،
ص217. سيتم الاهتمام بالطريقة التي يوضح بها تحليل الإيديولوجيا وبنيتها (ص215)
أنها تشتغل كـ"نظرية مكر العقل".