أوزار الوظيفة الوزارية
حميد قهوي
أما سلوك الظهور، فهو إن استطاع أن يحقق ربح بعض الوقت
المؤجل لمكافحة الندرة، فإنه في حالة الغلو يصبح دليلا راهنا على أن الثروة العامة
لا تتجمع عند الدولة بوسائل الدولة إلا لتنفق على أهل الدولة، وفي هذا تمديد لا
تحتمله التجليات الحالية للندرة في العمر الإضافي المتوقع للمخزن قبل حتمية الهرم
والأفول. وقد يستدعي أيضا مراهنة على التعديل المتعلق بعدد الوظائف الوزارية
وشاغليها، إلا أن أخلاق إدارة الندرة ستظل وحدها القادرة على تجسيد القيمة المضافة
لهذا الرهان أو على إفراغه من محتوياته وغاياته السياسية والاجتماعية
بإلهام رباني وبراءة طفولية هي المعجزة نفسها، سيختار موسى
عليه السلام الجمر عوض الياقوت، وستجعله هذه الواقعة يعاني من صعوبة الكلام
وبالتالي من انتفاء أهم شروط الإفصاح والبيان فيه طوال حياته المنذورة للإقناع
بالنبوة، لذلك، التمس وساطة بشرية بينه وبين الناس ليفقهوا قوله المحتمل جدا ألا
ينتج وظيفته الإصلاحية بفعل تلك العقدة في اللسان. ومن هنا، وبعد الاستجابة لمطلبه،
أصبح من الجائز دينيا تعريف الوزير –مهما كانت صلة الدم أو القرابة التي تربطه
بالمستوزر- كمنبع للعون والمؤازرة التي لا غنى للسلطان عنها، وليست الحالة التي
أطرت العلاقة بين كليم الله وأخيه الأفصح منه هي وحدها التي تعطي الدليل التاريخي
على وجود الفصاحة والقدرات البيانية في الوزارة أو الولاية أو الاستخلاف بشكل عام،
بل ثمة ما يؤكد هذا التلازم بين الخدمة الوزارية والفصاحة خارج الحقل الديني، مما
يرتقي به إلى مطلب سياسي واجتماعي في كثير من الأحيان.
فالوظيفة الوزارية، بتفكيكها إلى عناصرها الأولية الأكثر
حيادية، لن تربو عن كونها سلطة تحتاجها سلطة أعلى مرتهنة أو غير مرتهنة للحقل
الاجتماعي، وهي بهذا المعنى وساطة منظمة بين مالك حقيقي أو رمزي للحلول المثلى
لمعضلة الندرة بتجلياتها الاقتصادية والاجتماعية، وبين العامة أو الخاصة الملتمسة
لهذه الحلول، وما يدعو إلى الاشتغال على الوساطة الوزارية في علاقتها بالندرة
بمحتوياتها المختلفة، تلك الواقعة الدينية التي ارتبطت في قصة استخلاف الله لآدم
بأمر الهبوط إلى الأرض كمجال عدائي تنازعي متميز بانعدام الإمكانيات الكفيلة
بتلبية كل الحاجيات وبصورة عادلة، وفي ظل هذا الوضع، يمكن فهم التعاقد الاجتماعي
وفرعه السياسي أيضا، وحينما يتم الفهم والتأويل داخل الانتماء العربي الإسلامي
للمغرب، يصبح الاستخلاف مرادفا للسلطان وممارسة شرعية ووضعية لسلطة الاستخلافات
الوسطية لإدارة الندرة، وبذلك، يرتقي تنصيب الوزير لدرجة مقوم من مقومات الملك،
لكنه كان عليه من الناحية التاريخية أن ينضاف كفعل سلطاني إلى مقوم آخر أكثر أهمية
وهو الكرم، فهذه الصفة الملكية وإن كان من الممكن تحققها بدون وساطة أو على الأقل
في كنف قاعدة الظهور والاحتجاب، تستدعي الاستوزار بمعنى المؤازرة في تدبير الندرة
المطروحة بدرجات مختلفة من حيث الحدة على الرعية الخاصة والعامة. ومن هنا يمكن
الانطلاق لفهم وتأويل ذلك التقارب بين المؤازرة والأوزار داخل الوظيفة الوزارية
دون أن يعني الحضور المكثف للتاريخي في هذا الإسهام تغييبا للحقل السياسي الدستوري
الذي يؤطر بدوره ظاهرة الاستوزار في المغرب الراهن.
1 ـ الوزر الأول الواجب حمله: الفاصل بين القول الفصيح
والتدبير الفعلي للندرة
بالعودة مثلا إلى تلك القراءة المعادة للقرآن كما حاول جاك
بيرك القيام بها، تبدو اللغة الفصيحة غير ذات أهمية في استخلافات أخرى كما هو
الشأن في ظل الديانة المسيحية أو اليهودية التي تتقدم شعائرها حسب القرآن نفسه في
شكل ألواح غير متلفظ بها أي في صورة مكتوبة وليست كلاما. غير أن هذه الملاحظة لا
تؤثر في النهاية في جدية شرط البيان على اعتبار أن امتلاكه قد يكون بالكلام أو
بالكتابة من جهة أولى، وعلى أساس أن أهم الدعاوي التي عارضت نبوة موسى تعللت بعدم
قدرته على الإفصاح المبين من جهة ثانية. ويبقى المبرر الأقوى للاحتفاظ بالمؤهل
البياني كشرط من شروط الحكم والاستخلاف والاستوزار هو القرآن نفسه كمعجزة بلغة
عربية مبينة جعلت حدا للمعجزات المادية في الديانات السابقة. إلا أن هناك مجموعة
من الضوابط يتعين على الممارس الأصيل أو المفوض لسلطة البيان أن يحققها، ومنها على
الخصوص عدم السقوط في ذلك التناقض الذي يتأسس في سورة الشعراء على التمييز بين من
يقول ويفعل وبين من يقول ولا يفعل. فالوظيفة الوزارية التي يشترط للنهوض بها
امتلاك مؤهلات الخطاب الفصيح المكتوب أو الشفهي، هي في نفس الوقت مطلب سلطاني
اجتماعي تفرضه واقعة الندرة المطروحة على القاعدة بشكل خاص. وكلما اتسعت الهوة
الفاصلة بين الإدارة الخطابية والبلاغية للندرة وبين التدبير الملموس للتخفيف
النسبي من حدتها، ازداد ثقل الوزر المصاحب للمؤازرة والاستوزار.
كما أن هناك إمكانية قرآنية أخرى لجعل هذا الوزر أكثر ثقلا،
وهي المؤسسة على ذلك التناقض بين الإعجاب بالقول والفساد في الأرض بعد التولية أو
الاستوزار. وعلى العموم، تبقى الكلمة الطيبة والبليغة المقترنة بالعمل الصالح في
مواجهة ما أفسده تاريخ تدبير ندرة الأرض والفائض المقتطع منها لتمويل الحكم، من
أهم السلط المشرعنة للسلطة المجردة، ومن أكثرها قوة وقدرة على تعميم الرضى والطاعة
كحقوق للوظيفة الوزارية على القاعدة والخاصة على السواء. وإن ما يضفي الأهمية
القصوى على اقتران القول بالعمل في الوظيفة الوزارية، هي تلك الطبيعة الانتظارية
التاريخية للمجتمع المغربي، والمقصود هنا بالمجتمع الانتظاري أن الوظيفة الوزارية
والقيادية بشكل أعم لم تستطع لحد الآن الحسم النهائي المقبول اجتماعيا في مسألة
الندرة والتوزيع العادل لأعبائها وحلولها بالتمليك والتعليم والتشغيل وتعميم
امتيازات المصعد الإداري كاختصاص من اختصاصات تجسيد مقوم أو صفة الكرم السلطاني.
2 ـ وزر التفريط في آداب الوزارة:
لقد طبع المسار التاريخي للمغرب أيضا بنفس السمة التي تمت
ملاحظتها فيما يخص أغلب مجتمعات الانتماء العربي الإسلامي. فغياب الشكل المحدد
والدقيق لنظام وطبيعة الدولة في الأصول الدينية، نتج عنه بالضرورة غياب القوانين
التي على الدولة تطبيقها بصورة لا شخصانية، وقد استدعى هذا الأمر التركيز في
النظرية السياسية التي جاءت لاحقة للممارسة على عناصر القيادة الجيدة بمختلف
مستوياتها، وهي عناصر لم يكن من المتيسر التحقق من توفر الحاكم عليها إلا من خلال
ممارساته في إطار توزيع الخيرات النادرة والعدالة كحق وحيد للمحكومين مقابل واجب
الطاعة. غير أن واجب الطاعة يتعدى في كل الكتابات التي اهتمت بالجماعة الإسلامية
المجال المحدد للقاعدة أو الرعية ليشمل الخاصة نفسها. ذلك أن قاعدة محورية من قبيل
"لا إمرة لمن لا يطاع" يقتضي تجسيدها استعمال السلطان لكل الأدوات التي
يملكها بما في ذلك الاستوزار والاستكتاب لخلق المطيع وتعميم وظيفة الطاعة عن طريق
نمذجة وترسيم المحتويات المادية والرمزية المقترنة بهذا الواجب. وعليه، فإن جوهر
كل القواعد الأخرى الأدبية على الخصوص، لن يكون غير تحصين واجب طاعة المستخلف لمن
هو مختص باستخلافه، وبالنسبة للوظيفة الوزارية، فقد ينضاف الوزر الناتج عن الهوة
بين القول والعمل المكافح لمعضلة الندرة إلى وزر له نفس الدرجة من الأهمية هو وزر
التفريط في آداب وأخلاق الوزارة، وبالرغم من تشعب هذه الآداب وتعذر الإحاطة بها
كلها في هذا المقام، فإن إمكانية تصنيفها متوفرة بشكل جيد في مجموعة من المصادر
نقترح أن ينوب عنها كتاب السياسة لأبي بكر المرادي. ذلك أن هذا المصدر بانتمائه
إلى الدولة المرابطية في انطلاقتها الإصلاحية الأولى، كان عليه أن يسلك نهجا عمليا
بتلبيته لحاجة معبر عنها سياسيا، وهي المتمثلة في التوفر على دستور يساعد الأمير
على الارتفاع الصعب إلى المعالي ويجنبه الانحطاط السهل، ولن يتأتى ذلك إلا بالحكمة
والأدب. ثم إن هذا المصدر لم يعان، على عكس الكثير من النصائح الإصلاحية، من تجاهل
السياسي، بل على خلاف ذلك، تثبت الدراسة التاريخية لحكم المرابطين أنهم عملوا على
تنفيذ الكثير من تعاليمه. ومن جهة ثالثة، يرقى هذا المصدر ليصبح دليلا تاريخيا من
الدرجة الأولى على أن المغرب لم يكن دائما تابعا للشرق ومستهلكا وديعا لما ينتجه
ويصدره له من نظريات سياسية إصلاحية.
هذا وينقسم كتاب السياسة للمرادي إلى ثلاثين بابا نعتبرها
طبقا لما تفرضه زاوية اهتمامنا ثلاثين قاعدة أدبية يتعين على الحاكم احترامها،
ونرى نحن في الإخلال بها، ولو تعلق الأمر بالمرحلة المغربية الراهنة، إفراغا
للوظيفة الوزارية القيادية من محتواها السياسي الاقتصادي، وجنوحا بها نحو
اللامنتظر اجتماعيا.
إن إحدى سلبيات النظام الانتخابي المتبع في مغرب ما بعد
الاستقلال أنه قابل لإنتاج الأمية الوزارية كما هو قابل لإنتاج نفس الظاهرة على
المستوى اللامركزي، وإذا كانت الممارسة الملكية للاستوزار قد حالت دون تحقق هذه
السلبية، وذلك بمراعاة عدة معطيات على رأسها التكوين والتجربة والخبرة الميدانية
إلى جانب معيار النزاهة والإخلاص والوزن الاجتماعي والسياسي، فإن القاعدة الأدبية
الأولى التي يؤسسها المرادي على واجب القراءة والتعلم تظل مطلوبة وذات راهنية كبرى
لحد الآن، فالعلم برغم كل التطورات الكمية والنوعية يبقى هو الأصل، والقوة مجرد
فرع، لأن "الأسد الذي يتناهى في الجرأة يصيده الطفل بأدنى حيلة"، ولأن
احتمال العودة إلى الأمية لا يختار موضوعاته انطلاقا من الوظائف
أو المراكز المحتلة ضمن التراتبية الاجتماعية والسياسية.
ويتصل الحض على القراءة والتعلم حسب المصدر نفسه بآداب النظر والتفهم، وأولها
النظر في الفعل والترك أيهما أنفع في الحال والمآل، وأيهما يخشى منه المضرة. ولا
يتأتى للفعل الوزاري أن ينبني على أحد هذين الاختيارين إلا بمسايرة المستجدات
واستغلال المعلومات التي يوفرها النسيج التواصلي بمكوناته المكتوبة والمرئية
والمسموعة، فهي وحدها الكفيلة بتدريب النفس على "تدبير الأمور قبل
نزولها". أما إذا نزلت في أوقات الضيق، فيكون من الآداب عدم الاشتغال عنها
بالحزن على المصيبة. والأجدى هو تدبيرها بالحيل التي يلتمس بها الخلاص، كما يتصل
بذلك كله واجب الاستشارة، وهي بمثابة عقل يزيده الوزير إلى عقله حسب المرادي. على
أن المستشار في الأمور التي تدخل في نطاق اختصاصات الوظيفة الوزارية يجب امتحانه
بالاختبار. وفي المقابل، إذا كان نجاح الاستشارة هو الحاصل صواب الرأي، فإن افتخار
المشير برأيه والاحتجاج به على فساد رأي الغير هو من سيء الآداب.
وإلى هذه الآداب تنضم أخلاق أخرى تهم الوظيفة الوزارية وكل
وظائف الحكم والقيادة والسياسة منها ما يتعلق بالاعتدال في المعيشة وسياسة الجسم،
ومنها ما يتعلق بالمال العام والخاص، وليعلم المستخلف أيضا أن ما يشغله من رأي في
غير المهم يرزي به في المهم، وما يصرفه من مال في الباطل يفقده في الحق الواجب،
وما يبذله من كرامة لأهل التقصير يرزي به عند أهل الفضل، وأن توقفه في الفعل من
قبل أن يفعله، أحسن من التراجع عنه بعد الدخول فيه. ثم إن ما يقترحه المرادي من
آداب على الأمير أو السلطان في علاقته بالكتاب والأعوان والحجاب يصلح للوظيفة
الوزارية نفسها كمنشئة لهذه الوظائف الفرعية، فسواء أتعلق الأمر بالمستوزر أو
الوزير، فإن الكاتب يبقى دائما هو اللسان، والحاجب هو الوجه، والعون هو اليد، كما
يلزم في كل الأحوال أن تكون الحجبة والظهور على قدر محكم. فالحجبة كسلوك قيادي
وزاري أو إشرافي هي في حالة الإفراط مضيعة للشغل مفسدة للرعية وقاطعة عن معرفة
الأخبار الحادثة وموقعة للمحتجب في أبواب التهمة. غير أن الآداب الأكثر مدعاة
للاحترام في ممارسة الوظيفة الوزارية هي التي يقترحها المرادي في بابه الثاني عشر.
فالوزير أكثر "أعداء من السلطان… فليستعن على ذلك بثبوت الحجة ثم ليرح قلبه
منهم كأنه لا عدو له. لأنه إذا خاف منهم كان خائفا في أمنهم ومصطليا بنار
أحقادهم…"، وإذا قربه السلطان فلا يتملق له بالدعاء الكثير والثناء المحدث
للوحشة، وليدرك أيضا أنه راجع إلى أصحابه بأدنى جفوة وبأقل أعراض ومعتبة.
وقبل وقوع هذه الحتمية المرتبطة حاليا بمفهوم الديموقراطية
والتداول على الحكم، على الوزير ألا ينافس نظراءه بالكلمة أو يحاول إفساد مراتبهم،
وليكن كلامه سهلا قليلا لأهل الفضل مبسوطا لأهل الجهل متوسطا لأهل التوسط. كل كلمة
منه متعلقة بفائدة متضمنة لمنفعة، ولا يغالب أحدا على كلامه لترى الجماعة أنه أعلم
منه بقوله.. وعليه في باب آخر أن يترك الحلم إذا أدى إلى فساد، وإذا كان التجبر في
ممارسة الوظيفة الوزارية وغيرها داعيا إلى الهلاك وضامنا للمقت، فإن الخضوع في
المقابل لا يحسن إلا للسلطان وأصحاب العلم. ومن حسن التدبير كذلك، أن تعطى الحقوق
لأهلها قبل التفضل على غيرهم...
كانت هذه إذن هي أهم أخلاق تدبير الإمارة عند المرادي، وهي
إن كانت تصلح لتبرئة المرابطين من تهمة البداوة والتعصب، فإنها كذلك تتقدم في شكل
إرث مغربي خالص لا يعني الرجوع إليه في المرحلة الانتقالية الحالية نوعا من تمجيد
الماضي على حساب المجهودات التخليقية الآنية، وإنما الغاية من ذلك هي خدمة الحاضر
الوطني المتطلع اجتماعيا إلى وظائف قيادية وزارية وانتخابية ومدنية على كافة
الأصعدة قادرة على تحقيق المطلوب منها في مواجهة الثلاثي الناتج عن واقعة الندرة،
ونقصد به البطالة والفقر والأمية، وإن أي تفريط في أخلاق تدبير هذه الندرة لمن
شأنه أن يضاعف من حدتها. والخلاصة أن وزر الفاصل بين القول والفعل في تدبير
إشكالية الندرة، ينضاف إليه وزر آخر في حال التفريط بآداب التدبير، وهنا يصبح،
المرادي الآتي من الحقبة المرابطية، أكثر استعدادا لخدمة الهدف التخليقي المعروض
حاليا في السوق الإصلاحية المغربية والعربية، وهذا الاستعداد في اعتقادنا من شأنه
أن يكون أقل تكلفة من اللجوء إلى مصادر أخرى للرأي وعرض الاستشارة قد تتخفى وراء
العالمية المحايدة في تغييب مجموعة من الخصوصيات أو قد تسلك العكس.
3 ـ وزر الإفراط في إنتاج مظاهر السلطة:
يبدو أن المرحلة المغربية الراهنة في بحثها المضني عن السند
الأخلاقي الكفيل بالارتفاع بالسلطة إلى مستوى أعلى من حيث الجودة والاشتغال لا
تمانع في الاستنجاد حتى ببعض الرصيد الحضاري العربي الإسلامي الضارب في القدم.
هكذا إذن يصبح ابن المقفع مثلا مرجعا آخر بعقلانيته الواصلة بين الأخلاقي والسياسي
الدنيوي لاكتشاف متجدد للعلاقة بين تجليات الندرة وضرورة تخليق العمل الحكومي.
فالفقر الذي يعادل الموت ويتحكم في السلوكات الفردية والجماعية، يجعل من المتعذر
تنظيم الحكومة بدون الاعتماد على معايير أخلاقية. والدليل حسب هذا الاستنجاد بابن
المقفع أن الوزراء على الأخص هم قبل كل شيء صحابة أو بدائل للأمير أو الملك،
والملك يكمن تفوقه في عدالة فعله وكرمه وشفقته على فقراء شعبه. والنتيجة أن
الاستوزار وكافة الوظائف الوزارية لا يمكن فهمها خارج مجال التحقيق الملموس لهذه،
العدالة. وهنا بالذات، يكمن ذلك الفرق بين إدارة الندرة بآلية الاستوزار والتخليق،
وبين تضخيم حدتها أو على الأقل المحاصرة الأمنية لانعكاساتها الاجتماعية المحتملة.
وإذا كان المرادي في الفقرة السابقة قد أسعفنا بأهم الأخلاق المتعين على الوظيفة
الوزارية والسلطوية عموما عدم التفريط فيها، فإن التدبير الجيد للندرة يستدعي من
جهة أخرى عدم الإفراط في الانصياع لمظاهر هذه الوظيفة المغرية جدا بمواصفاتها
السياسية ووسائلها القانونية والإدارية. وإذا كانت الملكية قد نجحت في تدبير علاقاتها
مع الوساطات بكل أشكالها ومع القاعدة، فإن العلاقة التي تظل لحد الآن قابلة لإنتاج
التوترات هي ما بين القاعدة والوظيفة الوزارية. ذلك أنه كلما احتدت تجليات الندرة،
توسعت انتظارات التعويل على الحلول النسبية المتوفرة للوظيفة الوزارية ولو على
سبيل الافتراض، وكلما حالت الإكراهات الاقتصادية الداخلية والخارجية دون تعميم هذه
الحلول، تمكن الفعل التنديدي الرسمي المنظم أو غير المهيكل من الانتعاش والنمو على
أساس المحاور التالية:
ـ محور تتفيه وظيفة الإشراف على الجهاز الإداري. والمثال
النموذجي بهذا الصدد تقدمه حكاية الجزيرة البيروقراطية التي اعتقد أن باطنها يحتوي
على معادن نفيسة، لذلك تم استدعاء العلماء والخبراء، وهؤلاء اشترطوا للبدء في
التنقيب توظيف اليد العاملة المؤهلة، وهؤلاء بدورهم اشترطوا توظيف يد عاملة
مساعدة، وبعد الانتهاء من عملية الحفر، تبين أن الباطن لا يختزن أي معدن. لكن
الحشد البشري الهائل الذي تم استقدامه سيستمر مشتغلا بنفسه وتراتبياته، مضاعفا
بالتالي من حدة الندرة وانعكاساتها الصامتة والمعلن عنها.
ـ محور تضخيم المجهود الوطني الذي يمتصه الإنفاق الإداري على
الإدارة بحيث يصبح هذا الإنفاق بمثابة تنكر للغاية الأصلية المحددة اجتماعيا
وسياسيا للوظيفة الإشرافية. وهنا أيضا، تسعفنا إلى جانب مجموعة من الأرقام الفصيحة
بعض المصادر الأدبية والفنية بالمثال النموذجي الصالح لتقريب الصورة، فقد حقق
الممثل العالمي المغربي حميدو بمسرحيته "الواسطة" سنة 1999 نفس الأهداف
التي حققتها سابقا كل من رواية "دفنا الماضي" و"المعلم علي"
لعبد الكريم غلاب، وكلها مصادر تظهر الحاكم بالوظيفة الوسطية الوزارية والقيادية
بسمات الجري اللاهث وراء الملكية والتنكر للأصل الاجتماعي والالتزامات والخضوع
المطلق لرغبات وسلوكات مصنوعاته الإدارية وقادته الحزبيين. لكن الأهم يبقى هو عدم
إتقانه للخطاب كآلية رئيسية في الإدارة الجيدة للندرة. ومن حيث الاختصاصات
القانونية والفعلية التي يحتمل الإفراط في ممارستها الانتقال بالوظيفة الإشرافية
من هدف التدبير الأمثل للندرة إلى التدبير المضاعف لحدتها. نكتفي بالإشارة إلى
اثنين: أحدهما يرتبط بسلوك الحجبة والاحتجاب، والثاني بسلوك الظهور الرسمي
والشخصي. فالسلوك الأول، بما أنه إدارة للندرة بآلية المنع والترخيص للخاصة بولوج
المصعد الإداري، يعني الإفراط في تكراره ظاهريا إعادة مستمرة ومسترسلة لحكاية
الجزيرة البيروقراطية، وفي العمق، تنحية للعقل والأخلاق تفرضها إدارة عتيقة للمال
والجاه بالخضوع والتملق، وتغييبا للعدالة بتنصيب "منتصفين للإنصاف بين الناس…
هم المشتغلون بظلم الناس.." وبالتالي لا مصداقية لهم لتحقيق العدل بالإدارة
الجيدة للندرة، إذ، "كيف يزيل الظلم من يفعله، ومن ذهب يشتكي سبقوه إلى الباب
فزادوا عليه فلا يقدر أحد أن يشتكي.." . أما سلوك الظهور، فهو إن استطاع أن
يحقق ربح بعض الوقت المؤجل لمكافحة الندرة، فإنه في حالة الغلو يصبح دليلا راهنا
على أن الثروة العامة لا تتجمع عند الدولة بوسائل الدولة إلا لتنفق على أهل
الدولة، وفي هذا تمديد لا تحتمله التجليات الحالية للندرة في العمر الإضافي
المتوقع للمخزن قبل حتمية الهرم والأفول. وقد يستدعي أيضا مراهنة على التعديل
المتعلق بعدد الوظائف الوزارية وشاغليها، إلا أن أخلاق إدارة الندرة ستظل وحدها
القادرة على تجسيد القيمة المضافة لهذا الرهان أو على إفراغه من محتوياته وغاياته
السياسية والاجتماعية.