ص1      الفهرس     21-30

 

تكنولوجيا الإعلام في العالم الثالث:

بين سراب التنمية وحقيقة التبعية

العربي بوشهاب

مقدمة:

من السمات التي ميزت (ولا تزال) المجتمع الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية بروز وسائل الإعلام كقوة فاعلة على صعيد العلاقات الدولية. فقد شكلت تلك الحرب، والأولى قبلها، منعطفا حاسما في تاريخ تطور تقنيات الإعلام. فبعد قرون من سيادة المطبعة بدأت بوادر الثورة الإعلامية الأولى مع اختراع الهاتف والتلغراف خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ثم مع ظهور آلات التصوير الثابت ثم المتحرك نهاية القرن ذاته؛ وأخيرا اكتملت الثورة باختراع واستعمال الإذاعة والتلفزة خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ونظرا لخصوصيات هذه التقنيات من حيث تقليصها للمسافات وتأثيرها المباشر والغير المباشر على الأفراد والجماعات عبر العالم، إضافة إلى استعمالها كأسلحة سيكولوجية ولوجيستيكية خلال الحربين العالميتين المذكورتين وما بعدها، فقد اعتبرت من بين الأدوات التي تتحكم في العلاقات الدولية عموما، وفي علاقات الدول الغير المصنعة أو دول العالم الثالث في مواجهة الدول الغربية الصناعية على الخصوص التي وظفت تقدمها الإعلامي من أجل الحفاظ على هيمنتها السياسية والاقتصادية والثقافية طوال الفترة الممتدة من بداية الخمسينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي.

وإذا كان هذا هو طابع تقنيات الإعلام خلال الثورة الثانية التي كانت تنعت بثورة الصناعات الثقافية، فإن بروز ما أصبح ينعت بـ"مجتمع الإعلام Société de l’information" الذي يتميز بانفجار لا سابقة له في تكنولوجيا الاتصال الحديثة يعد مؤشرا على دخول المجتمع البشري، والغربي منه على الخصوص، في خضم ثورة إعلامية ثالثة قوامها التطور الهائل الذي عرفته الاتصالات اللاسلكية التي تقوت بفضل الأجيال الجديدة من الأقمار الاصطناعية، وظهور الأجيال الأولى ثم الثانية من الحواسب الإلكترونية، ثم المحاولات الأولى لربط هذه الحواسب لتشكل شبكة عالمية ستؤدي نهاية القرن العشرين إلى ظهور تكنولوجيا أو نظام "الأنترنيت" Internet (أو شبكة الربط Interconnexion Network). وإضافة إلى البرامج (Logiciels) والمحتويات (أخبار، بنوك، معطيات، برامج اللعب والترفيه…الخ).

كل هذا يؤشر إلى الانتقال النوعي الذي عرفته المجتمعات المصنعة، كما أنه يبرز التحديات الجديدة التي ينبغي لمجتمعات العالم الثالث مواجهتها،والتي تفرض عليها إيجاد أجوبة شافية للعديد من التساؤلات التي بدأت تطرح عليها من قبيل طبيعة التحولات الجارية وتأثيرها على المسار التاريخي لشعوب العالم الثالث بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية…الخ.

ونظرا لضيق المقام فإننا اخترنا التطرق إلى ثلاثة جوانب نعتقد أنها تمثل لب إشكالية الإعلام والاتصال بالنسبة للعالم الثالث وهي الإعلام والبعد الثقافي للتنمية، وإشكالية تملك دول العالم الثالث لتقنيات الإعلام والاتصال وأخيرا دور هذه الأخيرة في تعميق تبعية هذه الدول للغرب.

الإعلام والاتصال والبعد الثقافي للتنمية.

من عواقب "تصادم الحضارات" الذي شكلته الحملات الاستعمارية، التي قادت الدول الرأسمالية الغربية إلى وضعية الهيمنة الحالي، بروز الفوارق الصارخة بين ثقافات الشعوب الغير الأوروبية والغير المسيحية-اليهودية وبين النظام الاقتصادي الذي دفع بجيوش وبتجار وبرهبان الدول الأوروبية بحثا عن كنوز وثروات وأسواق القارات النائية. وطوال الفترة الاستعمارية تشبعت الثقافات والشعوب الخاضعة بشتى الأنظمة التي أقرها المستعمرون لفرض سيطرتهم على مناطق نفوذهم في أمريكا (اللاتينية منها والهندية) وإفريقيا وآسيا. وكانت تقنيات الاتصال من بين هذه الأنظمة.

وحينما بدأ الاستعمار المباشر في الاندحار كان أول تحدي واجهه القادة المحليون الجدد هو كيف يمكن لدولهم تلبية توقعات الشعوب الكبيرة في العيش في رخاء على النمط الغربي، وكيف العمل لمناددة الدول المصنعة واللحاق بركب "الحضارة" و"التقدم"..

تساؤلات كانت بسيطة ومحدودة؛ لكن الأجوبة كانت متعددة. فقد اختارت بعض الدول طريق المستعمر ونظامه الاقتصادي، واختارت أخرى المذهب الاشتراكي على النمط السوفياتي الذي كان قد أثبت (إلى حين!) صلاحيته في روسيا التي استطاعت أن ترقى من مجتمع زراعي إلى صف القوة العظمى في ظرف وجيز نسبيا.

غير أن اتجاها ثالثا برز نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين ليدعو إلى رفض الاتجاهين معا لكونهما لا يتناسبان وخصوصيات المجتمعات الغير المصنعة والمحكومة سياسيا واجتماعيا وثقافيا بقيم لا-مادية (أعرافا وديانات وقيما أخلاقية وعلاقات بيئية…الخ) مختلفة تمام الاختلاف مع تلك التي تسود المجتمعات الرأسمالية. وقد ساعد على ظهور هذا الاتجاه فشل مختلف التجارب التنموية الاقتصادية (أي المبنية على الاعتبارات الاقتصادية فقط) التي كانت تقلد أحد النموذجين المهيمنين: الرأسمالي والاشتراكي-الأوروبي. وقد انعقد الأمل من جديد على مذهب العالم الثالث الذي قادته دول وزعامات ومفكرون ينتمون إلى ثقافات غير رأسمالية كصين ماو زيدونغ، ومصر عبد الناصر، ويوغسلافيا تيتو، وفييتنام هو شي منه …الخ.

وخلاصة المذهب أنه يقر بضرورة الاعتراف بعدم جدوى السعي وراء النماذج التنموية المذكورة والتي ثبت فشلها وبضرورة الاعتماد على القدرات الذاتية محليا وجهويا لدول العالم الثالث لاختراع أنماط بديلة للتنمية. وقد أثبت مناصرو هذا الاتجاه أن نقل النموذج الغربي بتقنياته وقوانينه التنظيمية ومؤسساته السياسية شيء مستحيل بسبب التنافر الحضاري بين الجانبين. ومنذ ذلك الوقت أصبح شعار دول العالم الثالث في صراعهم مع الغرب –وحتى في تناقضاتهم مع المعسكر الاشتراكي السوفياتي- هو المطالبة بتنمية شاملة لا اقتصاديا فحسب، بل أيضا ثقافيا واجتماعيا (وحتى بيئيا في المراحل الأخيرة للنظام العالمي القديم) باعتبار أن التنمية ظاهرة مجتمعية شاملة لا يمكن تفعيل بعد من أبعادها دون تفعيل الأبعاد الأخرى. بل يمكن القول، كما أكد ذلك علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا أن التنمية هي بالأساس تغيير ثقافي أولا، وبالتالي لا يمكن تصور تنمية اقتصادية وصناعية دون تنمية ثقافية، واجتماعية…الخ. وبما أن تقنيات الإعلام والاتصال تعتبر أدوات نقل وتعميم الرموز والصور والقيم الثقافية الغربية التي أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية تنعت بـ"الصناعات الثقافية" فإن دول العالم الثالث بدأت تطالب بحقها في الحصول على، وفي مراقبة واستعمال، هذه التقنيات طبقا لما تمليه عليها مصالحها الذاتية وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية.

إشكالية تملك دول العالم الثالث لتكنولوجيا الإعلام

وهكذا واعتبارا للبعد الاستراتيجي للإعلام والاتصال في السياسات التنموية التي أصبحت الشغل الشاغل لدول وشعوب العالم الثالث فقد تمحور الصراع السياسي والثقافي (أو الإيديولوجي) بين الدول المتزعمة لهذا المعسكر خصوصا وجل دول العالم الثالث عموما وبين الدول الصناعية المهيمنة على تكنولوجيا وصناعات الإعلام والاتصال التي دخلت مرحلتها الثانية كثورة تكنولوجية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين كما أشرنا إلى ذلك أعلاه.

1 – لقد كانت حلبة هذا الصراع تتجسد في منظمة اليونسكو التي كانت المنبر الذي طالبت من فوقه هذه الدول بضرورة تمكينها من الحصول على تقنيات التواصل والإعلام والحد من هيمنة الدول الصناعية الغربية على تدفق المواد الإعلامية والتواصلية بما فيها من أخبار وبرامج تلفزية وأفلام ومعطيات…الخ. فكانت الدعوة إلى إقامة نظام إعلامي عالمي جديد (كولومبو، 1976) بموازاة المطالبة بنظام جديد أيضا في المجال الاقتصادي (الجزائر، 1973). وقد بدأت هذه المطالبات بالتبلور في شكل برامج وضعتها اليونسكو لتمويل المنشآت الإعلامية من مختلف جهات العالم الثالث ولتكوين الأطر اللازمة للإشراف عليها وتسييرها. كما سعت هذه الدول إلى كسر احتكار الوكالات الغربية في مجال الإعلام بإنشاء "مجتمع وكالات أنباء دول عدم الانحياز" سنة 1976 تحت إشراف الوكالة اليوغسلافية تانيوغ.

2 – غير أن كل التحركات الرامية إلى كسر الهيمنة الإمبريالية في المجال الثقافي والإيديولوجي كان ينظر إليها في عواصم الهيمنة الغربية، وخاصة الأنجلوسكسونية منها، نظرة المهدد في مصالحه وفي مستقبل سيطرته الإجمالية. فكانت الحملة الشرسة من طرف اليمين المتطرف –الذي وصل إلى الحكم في بريطانيا (1979) وفي الولايات المتحدة (1980)- ضد اليونسكو وضد مديرها العام السينغالي أمادو مختار مبو الذي ساند بكل قواه مطالب العالم الثالث. وكانت النتيجة انسحاب القوتين الإمبرياليتين وإضعاف اليونسكو ماديا وإجهاض مطالب العالم الثالث في التحرر الثقافي.

3 – وبحلول نهاية الثمانينات انفجر الوضع الدولي وتغيرت الأمور رأسا على عقب وبدأت آثار الأزمة الاقتصادية والسياسية للعقدين السابقين تظهر؛ كما بدأت في الظهور عواقب الهجمة الليبرالية الشرسة؛ إذ تلاشى النظام الاشتراكي والمذهب العالمثالثي، وتوحد الاقتصاد العالمي تحت الهيمنة الرأسمالية، وظهرت إيديولوجيا جديدة تحت اسم "العولمة"، وأخيرا دخلت تكنولوجيا الإعلام مرحلة الثورة الثالثة بظهور ما يسمى بتقنيات الإعلام والاتصال الجديدة التي كرست بدورها قيام "مجتمع الإعلام".

4 – وبحلول هذه المرحلة الجديدة تبخرت آمال دول العالم الثالث في الوصول إلى أو المساهمة في الثورة الإعلامية الحالية. فقد نفدت مصادر المساعدات الثنائية التي كانت تتيح لهذه الدول الحصول على التجهيزات الإعلامية بشروط غير مكلفة عندما كانت الحرب الباردة تبرر هذه المساعدات. كما نصت إلى حد كبير مصادر اليونسكو والاتحاد الدولي للمواصلات السلكية وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية التي كان يعول عليها في نقل تكنولوجيا الإعلام والاتصال إلى الدول النامية. وهكذا لم يبق أمام دول العالم الثالث سوى السوق الدولية المعولمة للحصول على هذه التكنولوجيا بكل ما يستتبع ذلك من استنزاف للموارد المالية التي أصبحت هي الأخرى شحيحة نتيجة برامج التقشف التي فرضتها المؤسساتالمالية الدولية. وإذا كان البنك الدولي يحاول مؤخرا أن يساعد هذه الدول للوصول إلى شبكة الأنترنيت من خلال برامج من قبيل برنامج Infodev أو محاولته الأخيرة بتعاون مع SoftBank الياباني لمساعدات الشركات المبتدئة Start Up في مجال الأنترنيت.. فإن ذلك ليس إلا مساعدة لتجار وشركات الدول الغربية التي تغزو يوما بعد يوم الشبكة العالمية بإشهاراتها وتفاهاتها.

5 – وباختصار يمكن تلخيص خصائص أو رهانات "مجتمع الإعلام" فيما يلي:

أ ـ في الميدان الاقتصادي هناك هيمنة شبه مطلقة للدول الغربية والشركات الاحتكارية التابعة لها. فسوق تكنولوجيا الإعلام والاتصال، إنتاجا واستهلاكا، تتركز في الثلاثي الرأسمالي المهيمن (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي واليابان) بنسبة 90% (والنسب لكل منها على التوالي هي: 37%، 29% و24%). كما أن هذه التكنولوجيا تعرف معدلات نمو لا تعرفها القطاعات الصناعية التقليدية كصناعة السيارات أو الصناعات التحويلية أو صناعة المواد التجهيزية…الخ. فخلال التسعينات الأخيرة بلغ معدل نمو قطاع الصناعات الإعلامية والاتصالاتية أزيد من 10% سنويا. كما أن رقم معاملاته ارتفع من بعض عشرات الملايير إلى مئات الملايير من الدولارات. ونسبة هذا القطاع في الناتج الإجمالي الخام للدول المتقدمة يزداد باستمرار أمام تراجع الأنشطة التقليدية التي أصبحت تصدر إلى العالم الثالث حيث اليد العاملة الرخيصة والأسواق الواعدة وخصوصا حيث الغياب الكامل لقوانين حماية البيئة..

وهناك مجال اقتصادي آخر يبدو أن التقنيات الجديدة ستؤثر عليه بشكل ملحوظ هو قطاع التجارة والتبادل عبر شبكة الأنترنيت أو ما يسمى "التجارة الإلكترونية". وهي ظاهرة رأسمالية جديدة تهدد بالقضاء على المنافع المرجوة، من تطور تقنيات الإعلام، وذلك في مجالات أكثر إنسانية كالبحث والتعليم والثقافة والصحة..الخ. فبعد سنوات قليلة من انطلاق شبكة الأنترنيت أصبح النشاط التجاري يشغل حيزا يقارب الثلثين من استعمالاته حاليا، وذلك من فعل نشاط الشركات التجارية الغربية (يقدر مبلغ المبيعات عبر الشبكة العالمية حوالي 150 مليار دولار بعد أن كان لا يتجاوز مليارا واحدا سنة 1996).

ب ـ في الميدان السياسي يحمل "مجتمع الإعلام: في طياته بوادر علاقات جديدة بين الحاكمين والمحكومين بفضل الاتصال الفوري والمباشر، وأيضا بإمكانية التقليل من غلواء البيروقراطية ومن ضبابية أجهزة الدولة وأخيرا بالسماح للمجتمع المدني ومؤسساته بالمشاركة أكثر للدفاع عن مصالح المواطنين ومشاغلهم.

ج ـ وفي الميدان الاجتماعي يمكن لتقنيات الإعلام المساهمة في حل معضلات اجتماعية كانت لحد الآن مستعصية على الحل من مثل التقليل من الفوارق التعليمية بين الطبقات والأفراد، ومحاربة الآفات الاجتماعية والصحية التي تعجز المؤسسات التقليدية عن معالجتها (المخدرات، الجريمة، الأمراض المعدية..الخ).

د ـ وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن "مجتمع الإعلام" وتكنولوجياته رغم كثرة وعودها الآنية أو المستقبلية، فهي مع ذلك تبقى رهينة بشروط السلامة والأمن وضمان استمرارها في الخدمة. فمعروف مثلا أن شبكة الأنترنيت لا تتوفر على مثل هذه الشروط؛ فهي عرضة لهجمات قراصنة "فضاء السيبر Cyber espace" (أو "الهاكرز Hackers") كما يدل على ذلك هجومهم الأخير على مواقع أكبر الشركات التجارية عبر الأنترنيت مثل Yahoo وamazone وeBaye. كما أن انعدام هذه الضمانات يؤدي إلى عدم الثقة في المعطيات التي تكتسب من مختلف المواقع Sites التي يمكن التلاعب بها بسهولة. وهذا رادع آخر لدول العالم الثالث ولباحثيه الذين يرجون من التقنيات الجديدة المساعدة على الوصول إلى المعطيات وبنوكها لسد عجز دولهم في ميادين البحث من أجل التنمية.

ويبقى مع كل هذا أن "مجتمع الإعلام" بالنسبة لأربعة أخماس سكان الكرة الأرضية لا يعني شيئا كثيرا من ظل واقع أن هذه النسبة العالية من السكان لا تمثل إلا 10% فقط من إنتاج واستهلاك الصناعات الإعلامية، وأن مستواهم الاجتماعي لا يسمح إلا لأقلية قليلة جدا بالوصول إلى هذه التقنيات (حوالي 1% فقط) وأنه أخيرا لا يتوفر لهم من التجهيزات الاتصالاتية كالهاتف مثلا إلا بنسبة محدودة تتراوح ما بين 1 و5 خطوط لكل 100 نسمة مقابل 54 خطا في الدول الصناعية.

 

تكنولوجيا الإعلام والاتصال وتعميق التبعية.

من خلال هذا الطرح الموجز لإشكالية تملك (أو بالأحرى عدم تملك) دول العالم الثالث لتكنولوجيا الإعلام والاتصال يتضح مدى عمق الفجوة التي تفصل بين أغنياء الإعلام Inforiches وفقرائه Infopauvres كما أصبحت توصف أطراف العلاقات الدولية المعاصرة زمن العولمة ومجتمع التواصل. وتذكر هذه الحقيقة بالماضي القريب لعلاقات الطرفين حينما كانت القوة والهيمنة والنفوذ مبنية على تعدد أفران المعامل وأبراجها، وعلى الكميات المستهلكة من الصلب أو الفحم أو النحاس…الخ، حينها كان العالم الثالث يسعى لاهثا للحصول على المعامل وعلى المركبات عله يلحق أو يقترب من مكانة وقوة الدول المتقدمة اقتصاديا وصناعيا وعسكريا… وفي سعيه ذاك أهدرت أموال وأزهقت أرواح وشوهت ثقافات ومحيت تقاليد اجتماعية وثقافية..

والسبب هو أن نماذج التنمية المعروضة على هذه الدول، الرأسمالية منها أو الاشتراكية-الأووربية، لم تكن في الحقيقة إلا تكريسا وخدمة لاستمرار تقدم المتقدمين وتأخر المتأخرين. وكان بديهيا أن الغرب لا يمكنه بتاتا نقل أية تكنولوجيا أو أية معرفة إذا كان في ذلك تهديد لسبقه أو مساس بثوابت سيطرته. لذلك كان يسمح بنقل الآلات والمواد والأجهزة.. وكان يسمح بنقل هذه الأخيرة ولكنه كان متمكنا ومهيمنا عبر تكنولوجيا الإعلام والاتصال على ثقافات شعوب العالم الثالث (وإن كان بدرجات متفاوتة)، أي على مصدر الإبداع والخلق والاختراع فيها.

وباختصار كان العالم الثالث في تبعية ليست فقط اقتصادية وصناعية بل أيضا إعلامية وثقافية . وتلك هي أخطر أنواع التبعيات. وإذا كان هو الحال طوال النصف الأخير من القرن العشرين فإن تبعية هذه الدول تجاه الغرب وشركاته وتقنياته زمن العولمة ومجتمع الإعلام أصبحت تقترب من مرحلة الاكتمال. ذلك أنه إذا كانت الدول التابعة في الماضي تستفيد من إمكانية "التراجع الاستراتيجي" والاحتماء وراء الحدود الوطنية والقيام بالتجارب الإنمائية في مأمن نسبيا من التأثيرات الخارجية فإن العولمة ومؤسساتها (شبكات الاتصال ومؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية…الخ) لم تعد تسمح لأية دولة بالخروج عن الخط المرسوم من طرف ذوي القرار في البيت الأبيض أو البنتاغون أو وول ستريت..

وأصبحت بذلك التبعية سياسية واستراتيجية إضافة إلى أبعادها السالفة الذكر.

وأخيرا يمكن أن يضاف إلى هذه وتلك آخر أشكال التبعية: التبعية الأمنية أو الوجودية. فالاستعمال المتزايد لشبكات الاتصال سواء عبر الأقمار الاصطناعية أو عبر الإنترنت أصبح يشكل تهديدا أمنيا لا سابقة له. فكل مستعمل لهذه القنوات سواء كان فردا أو جماعة أو دولة إلا ويجد نفسه تحت رحمة حراس الإمبراطوريات الغربية وخاصة منها الأنجلوسكسونية. فقد ثبت مؤخرا أن هناك مراكز متخصصة في التنصت والتجسس ومراقبة كل المعلومات التي تتنقل عبر شبكات الاتصال المذكورة تعمل على مدار الساعة واليوم والشهر والسنة لالتقاط كل ما يجوب خواطر ومراكز وإدارات ومؤسسات دول العالم… خدمة لمصالح الإمبراطورية المهيمنة، وذلك حتى على حساب حلفائها الغربيين كما أثبت ذلك اكتشاف برنامج التجسس المسمى "Echelon". وآخر هذه البرامج قد بدأ تنفيذه منذ 12 فبراير 2000 والذي عهد إليه بأخذ صور ثلاثية الأبعاد للكرة الأرضية ستسمح للقوات الأمريكية، بعد تحليلها، بالتوفر على صور "حقيقية" لكل تضاريس وجبال ومدن العالم!! أليست هذه قمة التبعية؟

هذه باختصار بعض مظاهر إشكالية تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي تبهر ببريقها الاختصاصي والعادي من أفراد مجتمعات العالم الثالث، ولكن قلة قليلة فقط هي التي تتريث في الحكم على هذه التقنيات. صحيح أن لها مزايا لا تنكر سياسيا واقتصاديا وثقافيا…الخ، لكن القدرة على عزل هذه الإيجابيات عن سلبياتها رهينة بمدى تمكننا تقنيا، وليس فقط استعمالا، من السيطرة عليها وتوجيهها ووضع التنظيمات والقوانين والآليات الكفيلة بجعلها آمنة الاستعمال وتلك طريقة طويلة وصعبة المسالك، لا يكفي لقطعها مجرد خلق صناعات ثانوية كما هو الحال في الهند أو المكسيك بالنسبة لصناعة البرامج Softwares بل تتطلب استغلال التبعية ذاتها لاستدراج الصناعات التجهيزية على النمط التايواني أو الكوري الجنوبي أو غيرهما كأول خطوة… وبلاد كبلادنا التي لم تستطع أن تستفيد من قربها من أوروبا الغربية لاستقطاب أية صناعة إعلامية تذكر (إذا استثنينا بعض الصناعات الإلكترونية الموجهة كليا للتصدير) لا يمكنها كسر الحلقة المفرغة أو دراسة التبعية ما لم تخطط بجدية لخلق صناعة وطنية أو على الأقل محلية يمكن البناء عليها لتحقيق خطوات لاحقة في الاتجاه الصحيح n