من المِلك
العالمي المشترك
إلى عصر
المعلومات
فيليب كيـو(*)
ترجمة: حسن الوزاني
إن وحدة
الإنسانية لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تتأسس على وحدة الدين أو الفلسفة أو السلطة،
بل يكمن شرط تحققها أساسا في التعددية. وهو شرط يبدو من الصعب ضمان ديمومته في عصر
يتسم بهيمنة التجريد بحكم سيادة المجال الرقمي والسوق الكونية والكليانية
الاقتصادية. وبناء على ذلك، يتجلى التحدي الذي يجب رفعه لمواجهة عولمة التجريد
والسوق في تحقيق ديمومة الاعتراف بالآخر والتعدد. وفي تجاوز المفارقة الناتجة عن
توظيف التقنيات المعلوماتية القائمة على التنميط وذلك في إطار تحقيق الاختلاف،
وخلق إمكانية أن نضع رهن إشارة "الآخر" حداثتنا المرتبطة بالذات
يطرح مجتمع
المعلومات العالمي، بشكل حقيقي وبيّن إشكالا سياسيا عاما، يكمن في تحديد مفهوم
"الملك العالمي المشترك" وفي حصر المستفيدين من مجتمع المعلومات ودور
الثورة المعلوماتية على مستوى تعميق التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
بين الأغنياء والفقراء، ثم في تبين المستوى "الحضاري" للعولمة ارتباطا
بمجتمع المعلومات. ويفرض الحسم في كل ذلك تملك معايير لتقييم الملك المشترك.
ما هو الـمِلك
العالمي المشترك؟
يهم مفهوم
"الملك العالمي المشترك" المنفعة الجمعية لكافة ساكنة العالم. غير أن
ثمة طرقا عديدة لتعريف "العالم" ذاته. حيث نجد مثلا أن حماية غشاء
الأزون تحظى بالتأكيد، باهتمام الساكنة العالمية الراهنة وليس فقط المعرضين منها
للأشعة المؤذية. وفي مقابل ذلك، تهم محاولات التحكم في الجينات البشرية، في الآن
ذاته، الأجيال المعاصرة ومستقبل الجنس البشري. وفي السياق نفسه، تهم الإشكالات
المرتبطة بالانترنيت وبشكل مباشر 2% من مستعمليه على المستوى الكوني، ولكنها تمس
بشكل غير مباشر المقصيين من عالم المعلومات. كما أن الاضطرابات الناتجة عن
المضاربات تؤثر بشكل حتمي على كافة الدول وليس فقط، الممارسة منها للمضاربات.
وفي الإطار ذاته،
يجب تحديد دلالة "الملك المشترك":
يتم ربط المفهوم
حسب تصورات القانون الدولي بكل ما لا يخص أحدا (les
nullius ) كأعالي البحار أو كل ما يخص الجميع (les
commuris) كمجال الذبذبات الإلكترو- مغنطيسية. كما يحيل
المفهوم في السياق ذاته على ما هو عمومي (les
publica). والحقيقة أنه
كان من الممكن اعتبار "الملك العالمي المشترك" كذلك، لو كان ثمة شكل من
أشكال التدبير القادر على تبين حقيقته وحمايته.
ويتسم الملك
المشترك بتعدد تجلياته. ويمكن في هذا الإطار أن نستحضر، من جهة، الإرث الوراثي
الطبيعي والذبذبات الهرتيزية. ومن جهة أخرى، المبادئ الأساسية للقانون الدولي
(مبادئ الملكية الفكرية، مثلا) وضوابط المجال العمومي (الويب، TCP/IP)
والأفكار. ويجب فضلا عن ذلك، التساؤل حول الفاعلين القادرين على فرض حماية الملك
المشترك. والحقيقة أن الدول أضعف في هذا المجال من بعض الفاعلين عبر الوطنيين
(المقاولات الضخمة). كما أن الأمم المتحدة تفتقد صلاحية وإمكانيات فرض "ملك
عالمي مشترك"، حيث إنها تخضع لمجلس أمن يمثل على الخصوص، المصالح المقدسة
لبعض الدول الأعضاء.
مفارقتا الملك
المشترك:
تنتج عن الملك
المشترك مفارقتان أساسيتان. تكمن الأولى في وجود "الاستغلاليين"، وترتبط
الثانية بإغناء الأغنياء وتفقير الفقراء (effet Matthieu
) حيث نجد أن خلق ملك مشترك يتم بإسهام الجميع بدون أن يتحمل
"المستفيدون" نصيبهم من التكاليف. ومن جهة أخرى، يمكن للأغنياء أن
يحتفظوا بامتيازات أهم على مستوى الاستفادة من الأملاك المشتركة التي تتجلى، على
سبيل المثال، في أعالي البحار.
وتكشف هذه
الحالات المفارقة عن أهمية الوساطة والتنظيم، ومن خلالهما، عن مفهوم المنفعة
العليا العالمية. كيف يمكن إذن انبثاق "إرادة عامة" فيما يخص الملك
المشترك؟
تدل
"الإرادة العامة"، كمفهوم اقترحه جان جاك روسو على القرار الجمعي الذي
يهم مصلحة المجتمع برمته. وذلك في مقابل "إرادة الجميع" التي تعبر
بالضبط عن مجموع الرغبات الفردية.
وعلى المستوى
العالي، يمكن للإرادة العامة، في حالة إمكانية تحقيقها، أن تجسد ما يعتبره المجتمع
الدولي مستجيبا لمصالح الإنسانية، وليس فقط، لمصالح الأمم أو لجماعات الضغط. ولكن،
كيف يمكن تحقيق المنفعة العالمية العامة؟ تبدو بلورة هذه المنفعة أمرا عسيرا. غير
أنه على المستوى النظري، يمكن للمبدأ الديموقراطي القائم على التصويت أن يحسم
الأمر في حالة تطبيقه بشكل جدي. إذ يمكن للأربعة ملايير نسمة، الذين يعيشون بأقل
من دولارين في اليوم، أن يفرضوا من خلال ذلك، تصوراتهم على الأقليات الأكثر غنى،
وذلك على مستوى السياسات العالمية القائمة على تدبير الأملاك العالمية الجماعية.
أشكال العولمة
والغيتو:
تتسم العولمة،
كما تم التأكيد سابقا، بتعدد أنواعها. ويتم تثبيت أشكالها المالية والاقتصادية
والتكنولوجية بشكل مشترك، وذلك بالتزامن مع عولمة مجتمع المعلومات. ولا تكشف
تعابير "القرية الكونية" أو "المجتمع العالمي للمعلومات" أو
"عصر تعدد الوسائط" عن حقيقة الأمر. إذ أن الشوملة ليست هي نفسها
بالنسبة للجميع. يتجلى التباين على مستوى الاستفادة منها، مثلا، من خلال استفادة
إفريقي واحد من ضمن خمسة آلاف إفريقي، من خدمات الانترنيت ويكمن أحد عوامل هذا
الوضع في غياب إرادة سياسية قادرة على فرض احترامها على المستوى عبر-الوطني،
ويتأكد ذلك من خلال وجود المناطق "المعفاة" من الضرائب أو كثافة
التيارات المضارباتية أو من خلال العجز عن مواجهة مشاكل البيئة.
وتتسم العولمة
الخاصة بمجتمع المعلومات بطابعها التجريدي والمعياري والفعال خصوصا بالنسبة
للرهانات الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية. حيث إنها تنزع إلى تحرير الفاعلين
الأكثر قوة داخل المشهد الاقتصادي الرأسمالي من إكراهات الواقع. حيث يتم في هذا
الإطار، السعي إلى تجاوز الحدود الفضائية والزمنية وجمادية المادة وإلى تحقيق
التنميط القائم على نفي التعدد والاختلاف.
ظواهر
"المردوديات المتزايدة"
يحتفظ العالم
اللامادي بخصوصيات تختلف كثيرا عن خصوصيات عالم المادة. وفي هذا السياق، يمكن
استحضار ظاهرة "المردودية المتزايدة" التي تعرف انعكاساتها في المجال
التقني (أهمية المعايير، الأهمية المتزايدة للشبكات…)، ومجال المضامين والمجال
الاقتصادي القائم على الاتجاه الضمني لمنافسته "غير المنظمة" نحو إحداث
احتكارات تبتغي فرض هيمنتها على حساب الأكثر ضعفا.
وتنعكس الظاهرة
ذاتها على مستويين متناقضين حسب التصور الرأسمالي، حيث إنها تسمح من جهة، بتكوين
وبتطور الإمبراطوريات ما بعد الصناعية من خلال التحالفات عبر القطاعية والاحتكارات
العامة ومن خلال سيادة منطق البقاء للأقوى، ومن جهة أخرى، لا تستتبع المردودية
المتزايدة على المستوى التقني، بالضرورة بمردودية متزايدة.
وفق المنطق
الرأسمالي، حيث نجد مثلا أن مردودية إنتاج المواصلات المدمجة تنخفض بارتفاع
كميتها، كما أن التوزيع المتسارع للمعلومات وللصور والبرمجيات يحد من إمكانية
ارتفاع حجم عرض المنافع اللامادية. غير أنه يمكن، في مقابل ذلك، الحد من التدني
المتزايد لنسبة الاستفادة بالاعتماد على طريقتين:
تكمن الأولى في
الاستفادة من أوضاع الاحتكار العالمي داخل مجال رئيس وذلك بغية فرض ممارسات
الهيمنة. ويتجلى ذلك مثالا من خلال تعميم أنظمة الاستغلال على منظومات الإبحار (navigateurs)
وعلى التجارة الإلكترونية.
وتتأسس الطريقة
الثانية على الحد من الوفرة بغية تجنب انعكاساتها السلبية على الربح، حيث يمكن
مثلا خوصصة أملاك تنتمي للقطاع العام، وبالتالي الحد منها. ويتضح ذلك مثلا، من
خلال منع إعادة استعمال الحبوب المحتفظ ببراءتها، وتمديد فترة حق التأليف على حساب
"المنفعة العامة"، وخلق "حقوق جديدة للمؤلف" كالحق الذي تنص
عليه التوصية الأوربية لمارس 1996، حول قواعد المعطيات، والذي يمنح إمكانية
الخوصصة الأبدية للمعطيات العمومية، ثم من خلال منح امتيازات استثنائية لاستغلال
خدمات عمومية أساسية، كما هو الأمر بالنسبة لاستغلال الماء.
والظاهرة الأخرى
التي يبدو من المهم مقاربتها، هي ظاهرة المعايير. ويمكن، في هذا الإطار، استحضار
نموذجين دالين يكمنان في نظام الاستغلال ويندوز (Windows)
ومنظومة HTML. وفي هذا السياق،
نجد أن إقرار معيار ويندوز على المستوى العالمي يسمح، حسب حيثيات الدعوى المرفوعة
من طرف القضاء الأمريكي ضد التحالفات الاحتكارية، بوجود انعكاسات سلبية للاحتكار
وبإمكانية إقصاء التنافس الحقيقي بفعل الاتفاقات السرية والتواطؤات، وذلك باعتبار
أن كل ما يناقض مبادئ "حرية السوق" لا يجب أن يتم إلا في إطار المنافسة
المشروعة.
وفيما يخص النموذج
الثاني، سمحت منظومة HTML التي تم ابتكارها
من طرف Tim Berners-Lee داخل مؤسسة
عمومية (المركز الأوربي للبحث الفضائي)، بتحقيق انفجار سريع لعالم الويب بفضل
"معيار" ينتمي بالضبط، للقطاع العام، وهو الأمر الذي استفاد منه عالم
الانترنيت، في حين اكتفى مبتكره بالربح المعنوي.
والحقيقة أننا
نحتاج للمعايير داخل مجتمع المعلومات بحكم اقتضائها وجود الشفافية والطابع الكوني
باعتبارهما خاصيتي الشبكة. وتتسم هذه المعايير بنزعتها الاحتكارية التي يستطيع
البعض تحقيقها بينما يفشل الآخرون في ذلك. وتحيل المعايير العالمية تلك، على مفارقة
أساسية، باعتبار أن حالة الاحتكار العالمي تعارض بالتأكيد مبادئ حرية السوق.
وبناء على ذلك،
يفترض اعتبار معيار معين كشكل احتكاري لاعتبارات معينة، إقراره كجزء من
"المجال العمومي العالمي". ويمكن أن يتم ذلك مثلا، من خلال تعميم رموز
البرمجيات وذلك بغية خلق منافسة مشروعة وتجنب "شطط الهيمنة".
السوق والمنفعة
العامة: الحاجة إلى التنظيم.
إن منطق السوق
غير معني بتاتا بإعادة توزيع الثروات ولا بتحقيق التنظيم الشامل. وذلك باعتبار أن
مجالات التربية والصحة والسلام الاجتماعي ومثيلاتها، هي بالضبط من صلاحيات المجال
السياسي. كما أن اشتغال السوق يحتاج ذاته إلى التنظيم. إذ أن غيابه يكرس
الانعكاسات السلبية للمنافسة ويحد من طابعها المشروع. كما أن بقاء الأكثر قوة دون
غيرهم يفضي إلى خلق احتكارات وحالات تواطؤ. ويقتضي تجنب ذلك من المنظمين تمثل
المنفعة العامة وحمايتها، وذلك، مثلا، من خلال تحديد المفهوم السياسي للوصول
الكوني للمعلومات، والحسم في طرقه وفي إمكانيات معادلة أسعاره الوطنية والدولية
والوصول للمحتويات العمومية منها على الخصوص، وفي تحديد حقوق المستهلكين تجاه
التجارة الإلكترونية ومجالات تقاربها أو تعارضها مع حقوق المواطنين، كما يجب
التفكير، في السياق ذاته، في طرق تنظيم المواد العمومية المادية أو اللامادية.
ويمكن تمثل
الحاجة إلى التنظيم من خلال حالتين أساسيتين. ترتبط الأولى بحالة عدم التوازن بين
الشبكات الإلكترونية على المستوى العالمي، وتكمن الثانية في إشكالية الملكية
الفكرية.
تباينات التبادل
الإلكتروني على المستوى العالمي:
تجاوز التداول
المعتمد على الانترنيت سنة 1998 –ولأول مرة- حجم التداول الهاتفي العالمي. ومن
المحتمل أن يمثل هذا الأخير خلال 2002، 1% فقط من تداول الانترنيت. ونسجل في هذا
الإطار أن الثلاثة عشر مزودا لخدمات استعمال الانترنيت هم كلهم من الولايات
المتحدة الأمريكية، بينما تحتل مؤسسة الاتصالات اللاسلكية البريطانية على المستوى
الأوروبي، المرتبة الرابع عشرة عالميا. وفي الإطار ذاته، نجد أن مؤسسة Worldcom
الممتلكة للمزود الأول لخدمات الانترنيت (UUNET)
مؤهلة أكثر من غيرها لاحتكار السوق العالمية، وذلك بفضل امتلاكها مؤخرا للمزود
الثاني MCI Communications.
لقد صار الفاعلون
الأمريكان، كما هو الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، مركز توزيع
بالنسبة للاتصالات اللاسلكية العالمية وخصوصا في مجال الانترنيت، حيث إنهم، وبحكم
قوتهم المالية وامتيازاتهم التنافسية المتزايدة وبحكم تعميم عدم التنظيم، يمتلكون
الآن الإمكانيات الضرورية لإقامة أنظمة للاستبدال (Systèmes
de commutation) داخل أوربا وآسيا
وللتفاوض مع الفاعلين المحليين بشأن تعرفة تفضيلية للربط، وذلك على حساب النظام
العالمي لرسوم التوزيع (Taxes de répartition).
وتمثل هذه
الأخيرة التكلفة العامة للمكالمة الدولية؛ وقد جرت العادة أن يوجه نصفها إلى
الدولة المستقبلة للمكالمة. غير أنه، ابتداء من يناير 1998، قررت اللجنة
الفيدرالية للاتصالات اللاسلكية الأمريكية، وبشكل أحادي، التخلي عن هذا النظام،
وذلك على حساب الدول النامية، وتم ذلك تحت ذريعة كون عدم التوازن بين الإرسال
والتلقي، يسبب للفاعلين بالولايات الأمريكية خسارة تتجاوز ستة ملايير دولار سنويا.
والحقيقة أن جزءا مهما من هذه الخسارة هو نتيجة لممارسات الفاعلين الأمريكان ذاتهم
والمتجلية خصوصا في خدمات المكالمات العكسية والمكالمات التي تتم عبر دولة ثالثة
تقدم تعرفة أكثر تنافسية. وتزداد خطورة هذا الوضع مع غياب استراتيجيات محلية بديلة
على مستوى المسؤولين الأوربيين والأفارقة والآسيويين، حيث إن عدم حزمهم تجاه
الاحتكارات المحلية يكرس التنافسية الأمريكية وهو الأمر الذي تؤكده بشكل بيّن
خدمات ولوج الانترنيت.
كيف تم الوصول
إذن إلى هذا الوضع؟
لقد تم ذلك نتيجة
تفاعل مجموعة من العوامل التي ترتبط بتوظيف مختلف التطورات التكنولوجية التي تمكن
من تخفيض سعر التكلفة وباعتماد استراتيجية تجارية تستثمر ثغرات نظام رسوم التوزيع
وبمنح الامتيازات للأضخم، ثم بعجز الفاعلين خارج الولايات المتحدة الأمريكية عن
رسم استراتيجيات في الوقت المناسب، أو بالأصح، بتحمسهم للإسهام طوعا في عدم
التوازن.
إن التخفيضات
التعرفية الأولى بالولايات المتحدة الأمريكية كانت نتيجة طبيعية للتنافس الذي صار
ممكنا بحكم التكريس المبكر لعدم التنظيم والتوظيف الفوري لتطور التكنولوجيا في
إطار الاستراتيجية التجارية. وقد تم تمتين هذا التنافس المحتدم داخل السوق
الأمريكية بشكل جعل مكافأة الفاعلين الأمريكيين من طرف الفاعلين من مختلف دول
العالم عن طريق رسوم التوزيع تتم وفقا لحصة سوق التصدير. وذلك يعني أن ربح
الفاعلين الأمريكيين داخل سوق الولايات المتحدة الأمريكية يوازيه بشكل حتمي ربح
على المستوى الدولي. وقد أدى هذا التنافس الحاد إلى تطوير أنظمة تمكن من تركيز
وتحويل اتجاهات التداول الهاتفي، وهو الأمر الذي يساهم بشكل جلي في تضخيم حصص سوق
التصدير. ويضمن ذلك في الآن ذاته، إمكانية إضعاف الأسواق الجهوية غير الأمريكية من
خلال نقل المنافسة إلى عقر دارها وفق جدول زمني مفروض عليها، وتكريس قوة الفاعلين
بالولايات المتحدة الأمريكية على مستوى التصدير وتضخيم العجز، ثم توفير مبرر للشك
في فعالية نظام رسوم التوزيع، وهو الأمر الذي لم يرق إلى تطلعات الدول النامية
بحكم أنه يؤدي من جهة إلى تراكم الأرباح لدى الفاعلين الأمريكان على حساب الفاعلين
المحليين ويمس من جهة ثانية بالنظام القديم الخاص بالتمويلات المتقاطعة (Système
des subventions croisées) المنبثق عن
السياسات الوطنية والقائم على تمويل التهاتف المحلي من خلال عائدات المكالمات
الدولية.
وانسجاما مع ذلك،
تترجم العولمة التقنية والمالية من خلال "عولمة" سياسات الاتصالات
اللاسلكية بالدول النامية التي تجد نفسها مجبرة على الامتثال لمنطق الدول الأكثر
تطورا بدون امتلاك الوقت الكافي لاستكمال بنيتها التحتية الأساسية. وللإشارة، فقد
كانت الدول النامية توظف في غالب الأحيان العشرة ملايين التي يتم تحصيلها من خلال
رسوم التوزيع، في تمويل السياسات الحكومية وفي دعم الأنشطة غير التنافسية بغية
ضمان استمرارها، ثم في ضمان الاستثمار على مستوى البنية التحتية في مجالات
الاتصالات اللاسلكية المحلية.
وفي الوقت ذاته
الذي يتم فيه تكريس التنافسية في الولايات المتحدة الأمريكية وتطوير إمكانيات
التكنولوجيا وتطوير أنظمة تركيز التداول، تواصل بقية دول العالم تكريس تأخرها سواء
على المستوى التقني أو في المجال الاستراتيجي، حيث إن الانخفاض الكبير على مستوى
التكلفة التقنية لم ينعكس على مستوى الاحتكارات الوطنية في علاقاتها مع مستعمليها.
وفوق ذلك، احتاجت
هذه الاحتكارات لكثير من الوقت لتمثل المفاهيم الجديدة، ويمكن في هذا الإطار استحضار
موقف المسؤولين الفرنسيين الذين اقترحوا جعل المينتيل (Minitel)
"نسخة" فرنسية للانترنيت! وأدى كل ذلك إلى مأزق بدأت تفاصيله مع تحويل
اتجاه التداول الذي صار ممكنا مع فارق بين على مستوى التعرفات بين الولايات
المتحدة الأمريكية وبقية دول العالم. ولم تثر هذه المنافسة في البداية كثيرا من
المخاوف. بل إنها وجدت نوعا من الترحيب من طرف الاحتكارات الوطنية باعتبار أنها
كانت تستفيد بسهولة من إيرادات الحركية الأمريكية.
لقد نتجت عن كل
ذلك زعزعة جغرافية أوربا وآسيا، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية تحولت
–افتراضيا- إلى عمق المناطق تلك. إذ أن كلفة الربط المختص بين الدول الأوروبية من
خلال "الطرق السيارة للمعلومات" المشهورة أو الخطوط التي يتم من خلالها
تداول خدمات الإنترنت، تضاعف بمعدل 17 إلى 20 مرة كلفة الربط داخل الولايات
المتحدة الأمريكية. وذلك بمعنى أن كلفة الربط بين باريس ونيويورك أو بين لندن
ونيويورك أقل من كلفة الربط بين باريس ولندن أو بين باريس وفرانكفورت. لقد صارت
فرجينيا بذلك مركزا لتوزيع الارتباطات بين الدول الأوروبية! والنتيجة، أن مزودي
خدمات الاتصال بالإنترنت الأوربيين يجدون أنفسهم مجبرين على الارتباط أولا بالولايات
المتحدة الأمريكية. وينطبق الأمر ذاته على آسيا، حيث نجد أن أكثر من 93% من البنية
التحتية للإنترنت مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية. وكما هو الأمر بالنسبة
لأوربا، يتم الأداء عن هذا الربط بشكل يتم معه صرف حوالي مليار دولار سنويا. كما
يصل مبلغ الدعم العالمي لمزودي خدمات الربط غير المنتخبين للولايات المتحدة
الأمريكية إلى خمسة ملايير دولار سنويا. وفوق ذلك، يستفيد موزعو الخدمات بالولايات
المتحدة الأمريكية من إمكانية الاستعمال المجاني لخدمات استعمال الإنترنت التي
تقدمها بقية دول العالم.
وفي هذا الإطار،
نجد مثلا أن الأفارقة هم أنفسهم الذين يمولون جميع الارتباطات بالإنترنت بين
الولايات المتحدة الأمريكية وإفريقيا. وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على أمريكا
اللاتينية في ارتباطها بالولايات المتحدة الأمريكية. وفوق ذلك، وبالرغم من وجود
إمكانية الربط المباشر بين الجهات، فإنه لا يتم استغلالها، حيث يستمر حضور
الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط على مستوى الربط بين هذه الجهات.
وفي الواقع، إن
قيام الولايات المتحدة الأمريكية بعملية الاستبدال (Commutation)،
يتم في الوقت الذي يرفض فيه المزودون الآخرون تقديم خدماتهم لمنافسيهم وذلك بحكم
نزعتهم التنافسية. كما أنه، حينما يكون الطلب كبيرا تجاه الولايات المتحدة
الأمريكية، يمكن تثبيت أمراس إضافية تمتاز بانخفاض تكلفتها البين وبمردوديتها
الكبرى. وقد تم بالفعل تثبيت أمراس بين آسيا والولايات المتحدة الأمريكية، تمتاز
بطاقتها التي تقارب 80 G tops وتفوق بذلك الأمراس الموجودة بعشر إلى ثلاثين مرة بالرغم من تساوي
الاستثمار الذي يتطلبه النوعان، وهو الأمر الذي يشجع بالتأكيد الارتباط بالولايات
المتحدة الأمريكية على حسب الربط بين الجهات والذي يتسم بتكلفته الأعلى.
وبناء على ذلك،
فإن المستعملين خارج الولايات المتحدة الأمريكية هم أنفسهم الذين يمولون مستعملي
الإنترنت داخلها. وتمكن تلك الاستراتيجية من انتقال الولايات المتحدة الأمريكية
إلى مرحلة مراقبة التجارة الإلكترونية.
العمومي والخاص:
نموذج الملكية الفكرية
يبدو تحديد مفهوم
المنفعة العمومية أكثر صعوبة من تحديد مفهوم المنفعة الخاصة. وذلك، لطابعه
التجريدي ولكونه يهم العالم كله وليس شخصا بذاته. وفي مقابل صعوبة هذا التحديد،
تمتلك قوى الضغط القطاعية تمثلا واضحا لمصالحها ولطرق تكريسها. ويبدو في هذا
الإطار، من المفيد استحضار التطور الحالي لقانون الملكية الفكرية حسب تصورات حماية
"المجال العام" وامتداداته وحسب تجليات الإقصاءات الميتاقانونية.
والحقيقة أنه من الضروري، من الآن فصاعدا، أن يتم تدبير أملاك الإنسانية المشتركة
(كالماء والفضاء والجينات البشرية والموروث الثقافي العمومي والأفكار وغيرها)
كموضوع سياسي أساسي. وفي هذا السياق، يجب على سبيل المثال، تناول ورشة الملكية
الفكرية ليس فقط كموضوع قانوني أو تجاري، ولكن أيضا من خلال تصور أخلاقي وسياسي.
ويفترض ذلك من جهة، مقاربة موازين القوى بين مختلف مجموعات الضغط، ومن جهة أخرى،
التفكير في المبادئ الأساسية المؤسسة للقانون ولأخلاقيات العلاقات بين الدول
المتقدمة والدول النامية.
ما هي إذن، الأسس
الفلسفية لقوانين الملكية الفكرية؟
تكمن تلك الأسس
أساسا في حماية المنفعة العامة من خلال ضمان توزيع كوني للمعارف والابتكارات، في
مقابل حماية حقوق أصحابها خلال فترة محددة.
ويقر أرسطو في
كتابه "الشعرية" بكون الإنسان هو الحيوان الذي يتقن بامتياز المحاكاة
التي يعتبرها مصدر إبداع للنماذج، وقد عرف عصر الأنوار استحضار مفهوم
"المحاكاة" التقليدي من جديد، حيث يعتبر Condillac
أن "الناس ينتهون إلى تحقيق اختلافهم لكونهم بالضبط بدءوا بممارسة المحاكاة
واستمروا في ذلك". وفي الإطار ذاته، يعتبر الفيلسوف ألان Alain
أن "المحاكاة عملية تحفز على التفكير". ويترجم مرسوم ألارد Allard
وشابليي Le Chapelier المؤرخين بـ 2
و17 مارس 1791 مبدأ حرية التجارة والصناعة وبالتالي مبدأ حرية المنافسة، والتي
تحيل حسب مفهومها على إمكانية عرض منتوجات متشابهة داخل الأسواق، وهو الأمر الذي
يعني بالضبط حرية التقليد. وفيما يخص الولايات المتحدة الأمريكية، نجد أن فكرة
التداول العمومي للمعلومات تعود إلى المؤسسين الأوائل، وخصوصا إلى طوماس جفرسون
صاحب مفهوم "المكتبة العمومية" ومذهب "العمل المشروع".
وفي مقابل ذلك،
نعاين منذ مدة، ظهور محاولات تبتغي حماية الأفكار واللوغاريتمات المعروفة إلى حد
الآن بتعذر حمايتها، وتعديل قانون الملكية الفكرية لصالح بعض المصالح القطاعية على
حساب المصلحة العامة. ويعمل الكونغريس الأمريكي منذ بداية القرن وبشكل دوري، على
تمديد فترة "حق النشر" على حساب الملك العام. وقد أقر يوم 27 أكتوبر من
سنة 1998 قانونه المعروف بـ"Le Sonny Bono
Copyright term Extension" والذي تم
بمقتضاه تحديد مدة حق النشر في خمس وتسعين سنة بعد وفاة المؤلف بدل خمس وسبعين
سنة. ويمكن اعتبار هذا التمديد الأحادي الجانب، والذي لا يوازيه أي إجراء على
مستوى "الملك العام"، كتكريس لممارسات مجموعات الاتصال وأيضا كاتجاه نحو
زوال المجال العمومي. ولا ينسجم هذا التحول، المرغوب فيه من طرف الناشرين والذي تم
تحقيقه في غياب حوار ديموقراطي، مع روح قانون الملكية الفكرية ذاته. والواقع، أن
قبول المجتمع الاعتراف بحقوق المبدعين في أعمالهم يهم مدة محددة وذلك باعتبار أن
الأعمال تلك يجب أن تنتقل إلى ملك المجتمع وأن تستجيب للمنفعة العامة التي تقوم
أساسا على تشجيع حرية تداول الأفكار والمعلومات والمعارف من طرف الجميع.
وارتباطا بذلك،
يبدو مهما من جهة تناول مناورات الشركات الكبرى الهادفة إلى الحيلولة دون إعادة
استعمال الحبوب المنتجة من طرف المزارعين أنفسهم والمحمية بحق الملكية الفكرية،
ومن جهة أخرى إمكانية الحصول على الملكية الفكرية فيما يخص الجينات البشرية، وذلك
من زاوية المنفعة العامة العالمية، والتي تهم خصوصا الدول الأكثر فقرا وليس فقط
بعض الدول أو المجموعات الخاصة. ويمكن التساؤل هنا عن مدى انسجام هذا التطور مع
المنفعة العامة. كما يمكن استحضار النقاش الجاري حول مشكلة قواعد المعطيات
والمعلومات بالقطاع العام والذي تتباين إزاءه مواقف بعض الدول المتقدمة وبقية دول
العالم. وفي هذا السياق، دخلت التوصية الأوربية المعروفة بـ:Sui
generis" والتي تهم
قواعد المعلومات وبلورة قانون جديد للملكية الفكرية، حيز التنفيذ ابتداء من يناير
1998. ولم تحظ المبادئ المؤسسة للتوصية تلك، بموافقة المؤتمر الديبلوماسي لجنيف المنظم
من طرف "المنظمة العالمية للملكية الصناعية" بفعل معارضة الدول النامية
والدول الأسيوية، وبحكم تأثير ردود فعل المنظمات غير الحكومية. ويمكن في هذا
الإطار استحضار موقف "الفيدرالية الدولية للمعلومات والتوثيق" القائم
على التنبيه إلى "الخطر الذي يهدد وجود ودور المراكز العمومية المختصة في جمع
وتوزيع المعلومات" (المكتبات، مراكز الأرشيف، المتاحف)، وموقف
"الفيدرالية الدولية لجمعيات المكتبات" الذي يؤكد "التعارض بين
الاتجاه نحو حماية حقوق النشر القائم على اعتبارات اقتصادية والهدف الأصلي لهذه الحقوق
والكامن في تشجيع تطور العلوم والفنون".
ويندرج في السياق
ذاته، موقف "المجلس الدولي للعلوم" الذي يعتبر أن "التوصية
الأوربية يمكن أن تحد من تدفق المعطيات العلمية الذي عمل المجلس جاهدا من أجل
تحقيقه ومن أجل التوفيق بشكل جدي بين المشهد العلمي والأهداف التربوية للفاعلين
داخله". كما يؤكد المجلس "ضرورة عدم إخضاع المعطيات –بما فيها المعطيات
العلمية- لحقوق النشر في إطار السياسات التي تهم الشأن العام". ومن المرتقب
أن يناقش الكونغرس الأمريكي، الذي تتباين مواقف أعضائه بشأن الموضوع، مشروع قانون
ينسجم مع مبادئ التوصية الأوربية السابقة. ويمثل الفريقان المتعارضان بشأن
المشروع، من جهة أصحاب الصناعة المعلوماتية، ومن جهة ثانية، المكتبين المختصين في
العلوم والتربية، بالإضافة إلى مجموعات المواطنين الذين يعتبرون شرطا أساسا
لممارسة حرية التعبير. ويؤكد هؤلاء، استحالة وجود حرية حقيقية للتعبير في غياب
إعلام حقيقي. وذلك بمعنى أن تطبيق المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو
رهين التطبيق التام للمادة 27 منه.
ويجدر بنا في
الختام طرح سؤال "تقدم" الإنسانية، إذ أن القرن هو القرن الذي تم فيه
التشكيك بشكل جذري في فكرة "التقدم" ذاتها. حيث أن التطور الذي عرفه
منطق الأداة قد تم بموازاة مع إحباط العالم ومع "تيهه" الذي يعتبره كثير
من الملاحظين سمة نهاية القرن. ويحتفظ مجتمع المعلومات بموقف خاص في إطار النقاش
الدائر حول نهاية التقدم. حيث أنه يشيد من جهة يوتوبيا جديدة تكمن في خلق أداة
مادية لتكوين مجتمع عالمي، ومن جهة أخرى، يساهم بطريقته في إحباط العالم من خلال
إقرار نموذج ضمني يتأسس على التجريد الإدراكي والرياضي بغية تدبير الفعالية
الاقتصادية والائتلاف الثقافي والتمييز الاجتماعي بين فقراء المعلومات (infopauvres)
وأغنيائها (inforiches).
وانسجاما مع
طبيعة التعالق بين العولمة والتجريد ومجتمع المعلومات، من المفروض أن لا يخفي
التجريد المتصاعد للإواليات الاقتصادية والمالية الشاملة خيبة الأمل اتجاه ما
تكرسه هذه الإواليات من أشكال التنافر الكلي. وفي هذا الإطار، يتضح ضعف السياسي
على الصعيد الميتا-وطني من خلال الاضطرابات المالية خصوصا.
ويربط عالم
الأنتربولوجيا أندري لورو-غوران (André
Lero-Gourhan) تقدم الحضارات
بمستوى تجريديتها. ويفترض التسليم بهذا الطرح اعتبار الحضارة القائمة على العالم
الافتراضي والمتسمة بطابعها التجريدي البين لحظة تقدم بامتياز. والحقيقة أننا لا نقاسم
الباحث تصوره. إذ إن تقدم حضارة ما، يتجلى بالضبط في قدرتها على تفهم وحماية
الآخر. وفوق ذلك، إن الخطر الأساس الذي يمكن أن ينتج عن "الحضارة
العالمية" يكمن في الحد من التعدد ومن إمكانيات الاعتراف بالآخر وذلك من خلال
تنميط أشكال التعامل. وبمعنى آخر، إن تحقيق الشفافية وتسهيل تداول المعلومات على
المستوى العالمي يتم على حساب الاختلاف والتعدد وحرية الرأي. وفي الواقع، إن مفهوم
"الآخر" يتسم بتعدد إحالاته، إذ أنه لا ينحصر فقط في الأجانب والفقراء
والمقصيين ولكنه قد يعني أيضا "المستقبل". حيث يعتبر كينز أن "ما
قد يحدث في نهاية المطاف ليس ما لا يمكن تجنبه بل ما يتعذر توقعه". وانسجاما
مع ذلك، يمكن تمثل مستوى حضارة ما من خلال درجة احتوائها لما لا يمكن توقعه. إن
وحدة الإنسانية لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تتأسس على وحدة الدين أو الفلسفة أو
السلطة، بل يكمن شرط تحققها أساسا في التعددية. وهو شرط يبدو من الصعب ضمان
ديمومته في عصر يتسم بهيمنة التجريد بحكم سيادة المجال الرقمي والسوق الكونية
والكليانية الاقتصادية.
وبناء على ذلك،
يتجلى التحدي الذي يجب رفعه لمواجهة عولمة التجريد والسوق في تحقيق ديمومة
الاعتراف بالآخر والتعدد. وفي تجاوز المفارقة الناتجة عن توظيف التقنيات
المعلوماتية القائمة على التنميط وذلك في إطار تحقيق الاختلاف، وخلق إمكانية أن
نضع رهن إشارة "الآخر" حداثتنا المرتبطة بالذاتn
*-(*) مدير المعلومات والإعلاميات باليونسكو. هذه
هي الترجمة الكاملة للنص الذي وفانا به الكاتب.