الحجة في الاستعمال القرآني
إبراهيم وقومه نموذجا
ا
v
إذا كان كل كلام يسعى إلى إيضاح مطلوب، لا
بد وأن يكون مؤلفا من جزأين أساسيين هما الدعوى من جهة، والدليل عليها من جهة
أخرى، وإذا كان النظم الطبيعي لهذا الكلام يقتضي أن تقدم الدعوى على الدليل إلا
لعارض يراه المتكلم
v
[1] فإنا نتساءل:
ما دعوى إبراهيم التي يسعى لإيضاحها بكل ما أوتي من رشد وإيمان وقوة في البيان؟
وما دعوى قومه التي سيصرون عليها بكل ما تربوا عليه من جمود وتحجر؟ ثم ما الدليل
والحجة التي قدمها كل منهما بين يدي دعواه؟ وكيف وظفت في الاستعمال القرآني؟
وأخيرا ما النتيجة التي انتهيا إليها؟
v
أما بالنسبة لدعوى إبراهيم وقومه فإننا
نرى لكي تتضح الرؤية يجب أن نقدم حديثا عن مفهوم الدعوى بصفة عامة. يذكر التهانوي
أن (الدعوى في اللغة قول يقصد به الإنسان إيجاب حقه على غيره)[2] عكس
الإقرار فإنه إخبار بحق الغير على نفسه بينما الشهادة إخبار بحق الغير على الغير.
ويذكر أيضا أن الدعوى
عند (أهل المناظرة قضية تشتمل على الحكم المقصود إثباته بالدليل وإظهاره بالتنبيه،
والقاصد والمتصدي لذلك أي لإثبات الحكم أو إظهاره يسمى مدعيا). ثم يذكر أن الدعوى
من حيث إنها تستفاد من الدليل نتيجة، ومن حيث إنها يقام عليها دليل مدعى، ومن حيث
إنها تتحمل الصدق والكذب تسمى قضية وخبرا، ومن حيث إنها إخبار عن الواقع حكاية،
ومن حيث إنها قد تكون كليا قاعدة وقانونا.
والفائدة من الدعوى
تكمن في تحديد المجال الذي يتحرك فيه الفكر، إذ أن المدعي عندما يقدم دعواه يكون
بذلك قد حدد القضية التي ستكون موضع الأخذ والرد، ومساق الدليل والحجة، والسؤال
والجواب.
هذا عن الدعوى بصفة
عامة أما عن دعوى إبراهيم عليه السلام وقومه فإننا نجد أنها بالنسبة لإبراهيم تأخذ
بعدين: بعدا مرحليا تكون الدعوى فيه هي: اتهام قومه بأنهم في ضلال مبين إن هم لم
يقلعوا عن عبادة الأصنام: (أتتخذ أصناما آلهة، إني أراك وقومك في ضلال مبين)[3] وبعدا
غائيا يمهد له البعد المرحلي وهو حمل القوم على كلمة التوحيد وعبادة المعبود الحق
فاطر السموات والأرض: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين)[4] (إنني براء
مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)[5] حيث كان
مجموع الآية جاريا مجرى قوله: لا إله إلا الله[6].
في حين كانت دعوى قومه
تتمثل في أن عبادة هذه الأصنام من شأنها أن تقرب إلى الله زلفى بحكم (أنهم كانوا
مومنين بأن للعالم كله ربا خالقا غير هذه الآلهة والأرباب المتخذة من مخلوقاته
اتخاذا)[7] ولكنهم في
الوقت نفسه كانوا يعتقدون (أن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل،
فلا يتعلق به توجهنا العبادي، فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية
كالملائكة والجن ليقربونا إليه زلفى ويشفعوا لنا عنده)[8].
هذا عن الدعوى أما عن
الحجة فنجد أنها في اللغة تعني (الوجه الذي يكون به الظفر في الخصومة)[9] أو هي
(الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم، كما قال الراغب، وأصل المحجة وسط
الطريق المستقيم، وتطلق الحجة على كل ما يدلي به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد
دعوى خصمه)[10]. ويذكر
التهانوي أن (الحجة الإلزامية هي المركبة من المقدمات المسلمة عند الخصم، والمقصود
منها إلزام الخصم وإسكاته)[11]. ويذكر
غيره أن (الحجة عندهم عبارة عما يتألف من قضايا يتجه بها إلى مطلوب يستحصل بها)[12]. وقد (سميت
حجة لأنه يحتج بها على الخصم لإثبات المطلوب)[13]. أو (سميت حجة
لأنها تحج أي تقصد لأن القصد لها وإليها)[14]. وبتعبير
جامع إن (أصل الحجة القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي)[15]، وهي كما
تسمى حجة تسمى دليلا واستدلالا. (تسمى دليلا لأنها تدل على المطلوب. وتهيئتها
وتأليفها لأجل الدلالة يسمى استدلالا)[16].
والحجة (تقسم إلى حجة
ناهضة يثبت بها الحق، وحجة داحضة يموه بها الباطل، وإنما يسمى ما لا يثبت به الحق
حجة على سبيل ادعاء الخصم حكاية لقوله، واصطلحوا على تسميتها شبهة)[17]، وهي لا
توظف في كل القضايا لأن (القضايا ليست كلها يجب أن تطلب بحجة، وإلا لما انتهينا
إلى العلم بقضية أبدا، بل لا بد من الانتهاء إلى قضايا بديهية ليس من شأنها أن
تكون مطلوبة، وهي رأس المال للمتجر العلمي)[18]. والحجة
أيضا وإن كانت أصولها محصورة فإن وجوه دلالة هذه الأصول غير محصورة، ذلك (أن
مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات إلا أن جهات دلالتها على
الذوات غير متناهية) بمعنى (أن لله تعالى في كل جوهر فرد أنواعا غير متناهية من
الدلائل… لأن كل جوهر فرد يمكن وقوعه في أحيان غير متناهية على البدل ويمكن أيضا
اتصافه بصفات غير متناهية على البدل)[19].
والحجة أيضا وإن كانت
غير متناهية فهي لا تخرج عن أنواع ثلاثة هي: القياس والاستقراء والتمثيل بالرغم من
أن (المستنبط لا يشعر أنه سلك أحد تلك الأنواع وإن كان من علماء المنطق)[20]. ذلك أن
الاستدلال إما أن يكون بالكلي على الجزئي وهو القياس الذي عرف بأنه قول مؤلف من
قضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر، وإما بالجزئي على الكلي وهو الاستقراء الذي
هو إثبات الحكم لثبوته في جزئياته، وإما جزئي على جزئي وهو التمثيل ويسميه الفقهاء
قياسا وهو مشاركة أمر لأمر آخر في علة الحكم وهي الكلي الشامل لذينك الجزئين.
v
هذا عن الحجة وطرقها بصفة عامة، أما عن
حجة إبراهيم عليه السلام البالغة التي قدمها لخدمة دعواه فسنبدأ الحديث عنها بهذا
الذي تم عرضه في هذه الآية الكريمة: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي
فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن
لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين،فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر،
فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون)[21]. في هذه
الآيات البينات يتضح أن إبراهيم عليه السلام قد استدل بأفول الكوكب والقمر والشمس
على أنه لا يجوز أن تكون أربابا مستحقة لأن يشتغل المرء بعبادتها وشكرها، إذ
(الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره)[22]، وغيبوبة
الكوكب والقمر والشمس (تدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد، وعلى أنه لا يجوز
عبادتها) مثلما (تدل على حدوثها، وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر)
قدرة أزلية. وبذلك يتبين (أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك
يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأربابا للحيوان والإنسان)[23]. هذه هي
الحجة التي قدمها إبراهيم عليه السلام على زيف ما هم عليه في نظر الإمام الرازي.
أما في نظر الشيخ محمد
رشيد رضا فإننا نجد أنه يرى أن أفول الكوكب والقمر والشمس ليس إلا وسائط ووسائل
يمهد بها إبراهيم عليه السلام لحجته البالغة التي هي بالتأكيد عنده إبداع السموات
والأرض المعبر عنها لاحقا بقوله: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا
وما أنا من المشركين)[24]، وهي الحجة
عينها التي جاء بها في سورة الأنبياء حيث قال في تماثيلهم (بل ربكم رب السموات
والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين)[25]، بل هي
الحجة التي ترددت على ألسنة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام لأنها (أقوى الحجج
وأظهرها، وأما ما ذكره إبراهيم صلى الله عليه وسلم من التعريض قبلها فهو تمهيد
لها)[26] ليس إلا.
ويستمر الشيخ محمد رشيد رضا في الدفاع عن رأيه فيذكر: (أن التعبير بفاطر السموات
والأرض هو وجه الحجة) وما عداه من أفول الكوكب والقمر والشمس لا يصلح لأن يكون حجة
لأنه (إنما يتجلى الاستدلال على وحدانية الربوبية والإلهية بالنظر في جملة العالم
وكونه لا بد أن يكون من خالق مدبر واحد إذ لا يمكن أن يستقيم نظام المتعدد إلا إذا
كانت له جهة واحدة… وأما الاستدلال بأجزاء الكون فيتولد منه شبهات ومشاكل كثيرة)[27].
ونحن إذ نتأمل فيما ذهب
إليه الإمام الرازي وفيما ذهب إليه الشيخ محمد رشيد رضا يتبين لنا أن أفول الكوكب
والقمر والشمس حجة لا شك في ذلك، ولكن الدعوى التي تخدمها الحجة الأولى هي غير
الدعوى التي تخدمها الحجة الثانية في هذه الآيات. فأفول الشمس والقمر والكوكب يخدم
الدعوى التي أفصحت عنها الآية في مطلعها وهي قول إبراهيم مخاطبا أباه (أتتخذ
أصناما آلهة، إني أراك وقومك في ضلال مبين) حيث بينت هذه الحجة ضلال القوم انطلاقا
من معبوداتهم التي لم تكن الكون بأسره حتى تتعلق به الحجة والاستدلال وإنما هي
أجزاء منه، وأما خلق السموات والأرض فيخدم الدعوى الكبرى التي من أجلها أرسل
إبراهيم وهي التوحيد، وقد كانت مضمرة لم يفصح عنها إبراهيم مخافة التشويش على
دعواه الأولى أو أنها كانت معروفة لديهم في هذا المقام من طريق اللزوم العرفي
ولذلك جاءت هذه الدعوى الكبرى ودليلها جميعا كنتيجة مرتبة على الدعوى الأولى أو
على الكشف عن ضلالهم حيث قال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما
أنا من المشركين).
تلك هي حجة إبراهيم
عليه السلام، أما حجة قومه فإننا يجب أن نشير من البداية إلى حقيقة واضحة هي أن
القرآن الكريم يقرر في غير موضع منه أنه لا توجد لهم ولا لغيرهم حجة يمكن أن يدلوا
بها في استحقاق هؤلاء الشركاء العبادة، حيث نجده في هذه الآية يقول: (ولا تخافون
أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا)[28] أي (ما لم
ينزل به عليكم حجة بينة بالوحي ولا بنظر العقل تثبت لكم جعله شريكا له في الخلق
والتدبير أو في الوساطة والشفاعة والتأثير)[29]. وفي آية
أخرى يذكر أنها لم تكتسب وجودها إلا من سلطة جهل الآباء (إن هي إلا أسماء سميتموها
أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)[30]. وفي آية
أخرى يذكر على سبيل التحدي (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم)[31]. وفي آية
رابعة يقرر على سبيل القطع (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به)[32]، أي لا
برهان له به يعلمه ولا برهان يجهله لاستحالة البرهان على الباطل)[33].
ومع ذلك فالقرآن الكريم
يسمي ما يدلي به هؤلاء القوم من أوهام حجة رغم فقده لمصداقية الحجة في قوله تعالى:
(وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله)[34] ومن ثم
يقرر الإمام الرازي، أن المحاجة كما تكون في الحق تكون في الباطل (لا فرق بين هذين
البابين إلا من حيثإن المحاجة في تقرير الحق توجب أعظم أنواع المدح والثناء،
والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر) ليقول في الأخير:
(وإذا ثبت هذا الأصل صار قانونا معتبرا فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على
تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل، وكل موضع جاء يدل
على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق)[35].
وفي تتبعنا لما يدلي به
هؤلاء القوم من حجج أو شبهات في المقامات التي ناظرهم فيها إبراهيم عليه السلام لم
نجد ما يمكن للباحث أن يقف عنده إلا شبهتين إثنتين: الأولى منهما هي الالتجاء إلى
التخويف له، وهو تخويف لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجة، لكنه لوح إليه
بقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (ولا أخاف ما تشركون به) فهو الاحتجاج لوجوب
عبادة آلهتهم[36]. والثانية
هي أنهم إنما فعلوا ما فعلوه من عبادة لهذه الأصنام تقليدا للآباء (بل وجدنا آباءنا
كذلك يفعلون)[37]، (وجدنا
آباءنا لها عابدين)[38] وهي ما رتب
عليه إبراهيم دعواه التي قال فيها: (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين)[39] أي (أنهم
إذا كانوا على خطإ من أمرهم، لم يعصمهم من هذا الخطإ أن آباءهم سلكوا هذا الطريق…
إن الباطل لا يصير حقا بسبب كثرة المتمسكين به)[40].
v
هذا وإذا عمدنا إلى المقاربة بين حجة
إبراهيم وحجة قومه تبين لنا:
أولا: أن طريق تلقي
المعارف الإلهية برب العالمين بالنسبة لإبراهيم عليه السلام كانت هي الهداية
الربانية التي أفصحت عنها هذه الجملة الاعتراضية بين المعطوف: (فلما جن عليه
الليل) وبين المعطوف عليه: (قال إبراهيم لأبيه آزر) التي هي قوله تعالى:
"وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)[41] أي نريه
المرة بعد المرة ملكوت السموات والأرض من حيث (كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي
الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية)[42] والملكوت
الملك العظيم والعز والسلطان، فهو بالنسبة إلى الملك كالطاغوت والجبروت بالنسبة
إلى الطغيان والجبر أو الجبران وإن كان آكد منه من حيث المعنى.
وإنما قال نريه دون
أريناه لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آياته
تعالى في ذلك الملكوت العظيم. ولعل الحالة الماضية المشار إليها بقوله: (وكذلك) هي
ما سبق أن تحقق لإبراهيم عليه السلام حين سأل من رب العزة البيان بالإراءة
والإشهاد عن كيفية الإحياء بقوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى)[43] أي (كيفية
إفاضة الله الحياة على الأموات، وفعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة)[44] بمعنى سبب
الحياة وكيفية تأثيره، إذ هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عز من
قائل: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل
شيء)[45] فالآية
الثانية تبين أن ملكوت كل شيء هو كلمة كن الذي يقوله الحق سبحانه له، وقوله فعله
وهو إيجاده له)[46].
كل ذلك ليعرف سننه في
خلقه وحكمه في تدبير ملكه، وآياته الدالة على ربوبيته وألوهيته ليقيم بها الحجة
على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الواقفين على عين اليقين[47].
في حين كانت حجة قومه
مستمدة من الأوهام التي توارثوها عن الآباء يرددونها على ألسنتهم دون البحث لها عن
سند عقلي أو نقلي، وحتى هم لو حاولوا فإن (الوهم يعاند ولا يزال يتمثل ما قام
البرهان على خلافه كما ألفه، ممتنعا من قبول خلافه)[48] حتى ينتهي
بهم لمثل هذه النتيجة: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب)[49].
ثانيا: إن هذه الهداية
الربانية لم تجرد إبراهيم عليه السلام من نظره العقلي بل هي التي جعلته قادرا على
التصرف فيما حصل له من علم لدني يقيني بهذه الطريقة الحجاجية التي أفحصت عنها هذه
الآية بهذا الترتيب المنطقي التصاعدي (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي
فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن
لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا
أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون)[50]. الكوكب
أولا ثم القمر الذي هو أكثر منه نورا ثم الشمس بضيائها الغامر للكون ثالثا، وقد
كان بإمكان إبراهيم أن يقتصر على ذكر الشمس من حيث كان الأفول فيها يمنع من صفة
الربونية، خاصة وأن ضياءها الغامر عندما يغيب تكون الوحشة أشد من وحشة احتجاب
الكوكب والقمر إلا أنه رأى (أن الأخذ من الأدون فالأدون مترقيا إلى الأعلى فالأعلى
له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد لا يحصل من غيره فكان ذكره على هذا
الوجه أولى)[51].
ثم من جهة أخرى فإنه
بالرغم من أن (الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي
يحتج به الأنبياء في معرض دعوى الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهرا جليا
بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل. ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت
يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق. أما دلالة الأفول فإنها
ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على
هذا المقصود أتم… وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام،
فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، وكل ممكن محتاج، والمحتاج لا يكون مقطوع
الحاجة، فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب
وجوده كما قال: (وأن إلى ربك المنتهى). وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق
الحركة، فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر، فلا يكون الآفل
إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول
الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوؤه
ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول، ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة، أعني
قوله: (لا أحب الآفلين)، كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب
الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين[52].
أيضا يلاحظ من خلال
استعراض حجة إبراهيم عليه السلام أن المعرفة بالنفس الإنسانية شرط أساسي في
المناظرة، إذ نجدها تلعب فيها الدور الفعال حيث نراه يتبنى أولا دعواهم بقوله:
(هذا ربي) أي مولاي ومدبر أمري ليستدرجهم بتبني وهمهم والموافقة على زعمهم إلى
سماع حجته على بطلان ذلك[53]. ثم يعرض
ثانيا بجهلهم تعريضا خفيفا في قوله: (لا أحب الآفلين) من حيث كانوا يعبدون ما
يحتجب عنهم (لأن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه)[54]. ثم يشير
ثالثا إشارة خفيفة إلى أنهم من القوم الضالين في قوله: (لئن لم يهدني ربي لأكونن
من القوم الضالين) بتغليف هذه الإشارة بثوب العموم من جهة وبإسنادها إلى نفسه من
جهة أخرى، وبذلك تكون وطأتها عليهم –إن شعروا بها- خفيفة، وفي الوقت نفسه كذلك
يشير إشارة خفيفة إلى معبوده وما يومن بربوبيته وألوهيته. ثم هو رابعا عندما يشعر
بأن الحجة فعلت فعلها في النفوس وأنه قد بلغ الغاية مما كان يهدف إليه يصرح: (يا
قم إني بريء مما تشركون). (قال ابن المنير في الانتصاف: (مشيرا إلى بعض هذه
الوجوه) والتعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله: (لا أحب الآفلين) وإنما ترقى
في ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو
قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال. فما عرض صلوات
الله عليه بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى
آخره, والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم
والتقريع بأنهم على شرك بين. ثم قيام الحجة عليهم بتبلج الحق وبلوغه من الظهور
غاية المقصود)[55]. ثم أيضا
لما كان غرض إبراهيم عليه السلام ليس هو الغلبة في الحجاج ولا تفنيد دعواهم فقط،
وإنما غرضه أن يحملهم على كلمة التوحيد، ذكر عقب تفنيذ دعواهم مباشرة، البديل
بقوله: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).
أما حجة قومه فالذي
يمكن ملاحظته فيها هو: أن غياب العقل هو السمة البارزة فيها، لأنه إذا كان إبراهيم
عليه السلام يدعو إلى التوحيد ويذكر الأدلة والحجج على فساد عبادة الأوثان فإن
أباه يصر على ادعاء ألوهية الأوثان دون أن يذكر في مقابل حجته إلا قوله: (أ راغب
أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟). وإذا كان يصوغ حجته في قالب وعظي بليغ مقرونا باللطف
والرفق: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد
جاءني من العلم ما لم ياتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان، إن
الشيطان كان للرحمان عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان
وليا)[56]، فإن أباه
يقابل وعظه بالسفاهة حيث يهدده (بأخزى القتل وأذله وهو الرجم الذي يقتل به
المطرودون)[57] مثلما
يقابل رفقه المتجلي في التودد بهذه العبارة وما يتبعها: يا أبت… والمتجلي في
السلام الذي فيه إحسان وإعطاء أمن، والمتجلي في الوعد بالاستغفار له ربه، يقابل كل
ذلك بالشدة والعنف المتجليين في كل عباراته التي واجهه بها: (أ راغب أنت عن آلهتي
يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) وما تفضي إليه تلك العبارات من
تهديد، وسلب للأمن عنه من قبله، وطرده عن نفسه…
ليس غياب العقل بقاصر
على هذا المقام، إنه الطابع الذي يطبع سلوكاتهم في كل مقام حاججهم فيه إبراهيم،
فانظر مثلا إلى قومه وقد بانت حجة إبراهيم القوية البالغة، كيف يفرون من مواجهة
الحجة بالحجة ويعمدون إلى التمويه والمغالطة بتحويل المواقف من الجد إلى الهزل
بقولهم: (أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) لما سمعوا منه قوله: (لقد كنتم أنتم
وآباؤكم في ضلال مبين). وانظر إليهم ثانيا وقد نبههم إبراهيم إلى ما هم عليه من
غرور وجهل فاضح في عبادة الأصنام عندما حاججهم بهذه الطريقة العملية التي يعمد
فيها خفية إلى تكسير الأصنام بكاملها إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كيف نكسوا
على رؤوسهم فقلبوا الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو الحجة لإبراهيم عليهم فقالوا:
(لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فأقروا بها للحيرة التي لحقتهم)[58]، كل ذلك
يتم بعدما جاؤوا بإبراهيم على أعين الناس لعلهم (يشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه)[59] وكل ذلك
أيضا يتم بعد أن يجيب إبراهيم على سؤالهم هذا: (أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا
إبراهيم؟) بقوله (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون).
بل انظر إلى ملكهم
نمرود الذي كان أول من ادعى الألوهية في البشرية وسلك نفسه في سلك الأرباب كيف لم
يفقه سر الحياة الذي قصده إبراهيم من حجته: (ربي الذي يحيي ويميت) فيعمد إلى هذا
الرد السخيف الفج قولا وفعلا حيث يأمر بإحضار رجلين من السجن ويأمر بقتل أحدهما
وإطلاق الآخر ويقول مدعيا: (أنا أحيي وأميت) وكيف أن القوم صدقوه في ذلك ولم
يدركوا أن حجته هذه لا تعارض حجة إبراهيم، إذا إبراهيم يقصد (الحياة والموت
المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة، فإن هذه الحياة المجهولة لا
يستطيع أن يوجدها إلا من هو واجد لها)[60] بينما هو
يقصد الحياة والموت بمعناها المجازي الذي يعكسه إطلاق شخص وقتل آخر.
ولما أدرك إبراهيم أن
المستوى الفكري للملك نمرود والقوم لا يرقى إلى فقه المراد من حجته عدل إلى حجة
أخرى أكثر وضوحا تدرك بالحاسة كل صباح وهي قوله: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق
فات بها من المغرب)[61] بانيا حجته
الثانية على دعوى الخصم في الحجة الأولى (كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله:
(فإن الله…) الخ، وإنما فرع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن أن الحجة الأولى تمت
لنمرود وأنتجت ما ادعاه، ولذلك أيضا قال: (فإن الله) ولم يقل فإن ربي لأن الخصم
استفاد من قوله: (ربي سوءا وطبقه على نفسه بالمغالطة فأتى عليه السلام ثانيا بلفظ
الجلالة ليكون مصونا عن مثل التطبيق السابق)[62] وبذلك لم
يكن بوسع نمرود أن يتفوه في مقابل هذه الحجة بشيء دون أن يبهت فيسكت.
v
هذا وكما أثبت إبراهيم عليه السلام أن
دعوى القوم في استحقاق هؤلاء الشركاء العبادة هي دعوى زائفة بالحجة القاطعة، يثبت
كذلك بالرد المنطقي أن الحجج التي يقدمها هؤلاء القوم بين يدي دعواهم هي حجج كذلك
متهافتة، حيث نجده من جهة تخويفهم إياه بأنه إن لم يكف عن الطعن في آلهية هذه
الأصنام فإنه واقع لا محالة من جهتها في الآفات والبليات، يذكر (أن الخوف إنما يحصل
ممن يقدر على النفع والضر، والأصنام جمادات لا قدرة لها على النفع والضر، فكيف
يحصل الخوف منها)[63] وحتى لو
حصل له منها بليات وآفات فهي بالقطع ليست (عقوبة على الطعن في آلهية الأصنام) لأن
(نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله تعالى لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب…).
ثم يعمد بأسلوب حجاجي
إلى هذه المقارنة التي يضع عن طريقها الأمور في موضعها الصحيح (وكيف أخاف ما
أشركتم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فأي الفريقين
أحق بالأمن إن كنتم تعلمون)[64] أي (كيف
أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر، وأنتم لا تخافون من الشرك الذي هو
أعظم الذنوب… ما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن
في موضع الخوف) ليخرج منها بهذه النتيجة التي كانت جوابا منه عن هذا السؤال الكبير
الذي طرحه عليهم: (فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون)؟ وهي قوله: (الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)[65]، مثلما خرج
من قبل من أفول الكوكب والقمر والشمس بنتيجة أخرى عبر عنها بقوله: (إني وجهت وجهي
للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)[66] لأن
إبراهيم عليه السلام لا يريد من المناظرة أن يترك قومه تائهين فكريا.
هذا عن التخويف أما عن
التقليد فنجد الآية الكريمة: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)[67] حين
نتأملها في سياقها الذي وردت فيه يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى لما بين في
الآية قبلها (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم[68] الآيات:
(أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء
والأسلاف، ثم بين أنه طريق باطل ومنهج فاسد وأن الرجوع إلى الدليل أولى من
الاعتماد على التقليد أردفه بهذه الآية: "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه".
والمقصود منها ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد. وتقريره من وجهين: الأول
أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ من دين آبائه بناء على الدليل).
وهذا الدليل يصوغه الإمام الرازي بهذه الطريقة وهي: (إما أن يكون تقليد الآباء
محرما أو جائزا فإن كان محرما فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزا فمعلوم أن
أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام، وذلك لأنهم ليس لهم فخر ولا شرف إلا
بأنهم أولاده، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد
سائر الآباء، وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول: إنه ترك دين الآباء
وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك
تقليد الآباء، ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد، وإذا ثبت فنقول: فقد ظهر
أن القول بوجوب الدليل يوجب المنع من التقليد، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا،
فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلا، فهذا الطريق دقيق في إبطال التقليد وهو المراد
بهذه الآية).
(الوجه الثاني في بيان
أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا وفي الدين، أنه تعالى
بين أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل لا جرم جعل
الله دينه ومذهبه باقيا في عقبه إلى يوم القيامة، وأما أديان آبائه فقد اندرست
وبطلت، فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن
التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدنيا خير ولا أثر. فثبت من هذين
الوجهين أن متابعة الدليل وترك التقليد أولى فهذا بيان المقصد الأصلي من هذه
الآية)[69].
وبذلك كله يدحض إبراهيم
عليه السلام حجج أبيه وقومه وشبهاتهم، ويبقى الحق واضحا بينا لا لبس فيه ولا شبهة
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم)[70] لأنها حجة
حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء ربه فكان بها ذلك الرفع درجات.
v
لكن هل الغاية من المناظرة بالنسبة
لإبراهيم عليه السلام هي الانتصار فقط بالحجة والمنطق على أبيه وقومه والملك، أم
هي شيء آخر أسمى منه وهو تصحيح العقيدة من جهة وتصحيح الوضع الاجتماعي بإبعاد
الظلم منه من جهة أخرى المعبر عنهما بتلك النتائج التي كان يخرج بها من مناظراته:
(إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)[71]، (إنني
براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)[72]، (الذين
آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)[73]. حيث نجده
في هذه النتيجة الأخيرة يقرر ما كان يتطلع إلى تحقيقه في المجتمع الإنساني وهو أن
يرى أفراده (مستجمعين لهذين الوصفين: أولهما الإيمان وهو كمال القوة النظرية،
وثانيهما (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) وهو كمال القوة العملية)[74]، لأن الآية
وإن كان سياقها يدل على أن المراد من الظلم الشرك، إذ (القصة من أولها إلى آخرها
إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات…)[75] فإنها (مع
ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصية المورد، تفيد أن الأمن
والاهتداء إنما يترتب عن الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء الظلم الذي يلبسه ويستر
أثره)[76] كسلب الأمن
من نفس أحد الأفراد، أو عرضه، أو ماله من غير حق مسوغ أو مخالفة قانون أو سنة
جارية ظلما…
وإذا كان هذا هو ما يتطلع
إليه ويسعى إلى تحقيقه في المجتمع الإنساني فإننا نستطيع القول: إن إبراهيم عليه
السلام لم يحقق شيئا يذكر، بالرغم من الاهتزاز العميق الذي أحدثه ويحدثه في العقول
الراكدة والشكوك التي سربها ويسربها إلى القناعات التي لا تضرب بأدلتها في النفوس،
لأنا وجدنا أباه بعد اتضاح الأمر يصيح في وجهه بهذه العبارات الغليظة: (أ راغب أنت
عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) ووجدنا الملك بالرغم من
الإبهات الذي حصل له لظهور الحجة وسطوعها لم ينتفع بها (فبهت الذين كفروا والله لا
يهدي القوم الظالمين)[77]. ووجدنا قومه
كذلك بالرغم من وضوح الحجة وبلوغها حدا لا حد بعده يرجعون بإبراهيم في محاجته إلى
البداية التي كانت منها الانطلاقة: (وحاجه قومه قال اتحاجوني في الله وقد هدان،
ولا أخاف ما تشركون به…)[78]. إذ الآية
تبين أن القوم قد (أرهبوه من قهر الآلهة وسخطها، ووعظوه بسلوك سبيلهم ولزوم طريقهم
في التقرب بالآلهة ورفض القول بربوبية الله سبحانه، وإثباته في المقام الذي أثبتوه
فيه، وهو أنه الذي ينتهي إليه الكل فحسب)[79]. وحتى
عندما تتخذ المناظرة معهم طريقة عملية بوقفهم بالملموس على عدم الفائدة في عبادة
هذه التماثيل حيث نجده من جهة يعمد خفية إلى تكسير هذه التماثيل (فجعلهم جذاذا إلا
كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون)[80]. ويرد من
جهة أخرى بنوع من السخرية والاستهزاء على اتهامهم له بتكسير آلتهتهم بقوله: (بل
فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)[81] نجد القوم
بالرغم من الحيرة التي اعترتهم والإرتباك الذي حصل لهم لضغط الحجة وسطوعها
يتجاوزون ذلك لينتهوا إلى تعظيم أمر شركائهم ومجازاة من أهان بهم بالتحريق الذي هو
أشد العقوبات، والتهييج والإغراء بالفعل (قالوا احرقوه وانصروا آلتهتكم إن كنتم
فاعلين). بل حتى عندما رأوا آية إبراهيم الكبرى التي هي إلقاؤه في النار وخروجه
منها سالما لم يومنوا بكلمة التوحيد ويوجهوا وجوههم للذي وجه إبراهيم وجهه إليه
(إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)[82].
وبذلك كله يمكن القول
إن الحصيلة التي خرج بها إبراهيم من دعوته إلى الواحد الأحد سبحانه كانت جد هزيلة
إذ لم يومن به غير زوجته سارة وابن أخيه لوط وقوم قليلون عبر عنهم القرآن بقوله:
(والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله…)[83]. وتلك
الحصيلة الزهيدة هي التي جعلته يخرج بهذا القرار. (وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو
العزيز الحكيم)[84]، لأنه قلب
النظر في الحالة فاهتدى برشدهالذي أتاه الله إلى ذلك القرار حيث رأى (أن الهادي
إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه مفسدة لأنه إن داوم على الإرشاد كان اشتغالا بما
لا ينتفع به مع علمه، فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث، أو يسكت والسكوت دليل
الرضا، فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجهة وجبت
المهاجرة)[85] إلى أرض
غير هذه الأرض وهي أرض الشام.
v
لكن يبقى سؤال ملح ينتظر الجواب وهو:
لماذا تشبث هؤلاء القوم بتقليد الآباء والعدول عن متابعة الدليل والحجة رغم الوضوح
والبيان؟ في الجواب عن هذا السؤال يذكر الإمام الرازي من جهة علية القوم وملئهم
المتبوعين أن الله تعالى: (بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه إنما هو
حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال،
لقوله: (إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة)[86]. والمترفون
هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون محل
المشاق في طلب الحق)[87]. ويذكر
غيره من جهة عامة القوم التابعين أن هؤلاء لما (كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ
الأوثان، لم يبق لهم مما يتشبثون به إلا الاستنان بسنة من يعظمونه ويحترمون جانبه
كالآباء للأبناء والرؤساء المعظمين والأصدقاء لأصدقائهم وبالآخرة الأمة لأفرادها،
فهذا السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها.
فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار المودات الاجتماعية.
يرى العامة ذلك بعضهم
من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده والاستنان به مثله، ثم هذا الاستنان نفسه
يحفظ المودة القومية ويقيم الاتحاد والاتفاق على ساقه)[88] وهذا ما
تفصح عنه هذه الآية الكريمة على لسان إبراهيم عليه السلام: (وقال إنما اتخذتم من
دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا)[89] حيث (يظهر
أن قوله: (مودة بينكم) صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل،
والمودة على هذا سبب مود إلى اتخاذ الأوثان، وأن يكون مفعولا له، والمودة غاية
مقصودة من اتخاذ الأوثان)[90].
وبذلك كله يظهر أن
الانتفاع بالحجة لم يحصل لقوم إبراهيم، لأن الانتفاع بالحجة إنما يحصل لذوي العقول
والألباب الذين وقفوا بها على حقيقة المعارف الإلهية التي يدعو الرسل إليها… أما
هؤلاء الذين أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم فهم وإن كانت (لهم قلوب لا يفقهون
بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها)[91]، فلا جرم
أن اعتزلهم إبراهيم وما يعبدون من دون الله ليخرج مهاجرا إلى أرض أخرى حيث يكافئه
ربه، فيهبه على الكبر إسماعيل وإسحاق، ويجعل الإمامة فيه وفي ذريته الصالحة. (وإذ
ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي، قال
لا ينال عهدي الظالمين)[92] n
المصادر:
§
القرآن الكريم برواية ورش
§
تفسير المنار للشيخ محمد
رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2.
§
كشاف اصطلاحات الفنون.
§
مفاتيح الغيب أو
التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي، ط2، دار الكتب العلمية،
طهران.
§
المنطق للشيخ محمد
رضا المظفر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1400-1980.
§
المواقف للقاضي عضد
الدين الأيجي بشرح السيد الشريف الجرجاني، تحقيق د.عبد الرحمن عميرة، دار الجيل
بيروت، 1417-1997.
§
الميزان في تفسير
القرآن للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، منشورات مؤسسة الأعلمي
للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولى، المحققة، 1417-1997.
[1] انظر المنطق
للشيخ محمد رضا المطفر، 395.
[2] كشاف
اصطلاحات الفنون، 1/785.
[3] سورة
الأنعام، 74.
[4] سورة
الأنعام، 79.
[5] سورة
الزخرف، 27.
[6] انظر مفاتيح
الغيب للإمام الرازي، 27/208.
[7] تفسير
المنار،
7/556.
[8] الميزان
في تفسير القرآن، 16/124.
[9] الأزهري، لسان
العرب، مادة حجج.
[10] تفسير
المنار،
7/574.
[11] كشاف
اصطلاحات الفنون، 1،622.
[12] المنطق للشيخ محمد
رضا المطفر، 395.
[13] نفسه.
[14] الأزهري، لسان
العرب، مادة حجج.
[15] الميزان
في تفسير القرآن، 2/352.
[16] المنطق، 201.
[17] تفسير
المنار،
7/574.
[18] المنطق، 201.
[19] مفاتيح
الغيب،
13/42 - 1/9.
[20] انظر المنطق
للشيخ محمد رضا المطفر، 202، وانظر كذلك المواقف بشرح السيد الشريف
الجرجاني، 1/181.
[21] سورة
الأنعام، 76-77-78-79.
[22] مفاتيح
الغيب،
13/52.
[23] مفاتيح
الغيب،
13/54.
[24] سورة
الأنعام، 79.
[25] سورة
الأنبياء، 56.
[26] تفسير
المنار،
7/570.
[27] تفسير
المنار،
7/564.
[28] سورة
الأنعام،
81.
[29] تفسير
المنار،
7/578.
[30] سورة
النجم، 23.
[31] سورة
الأنبياء، 24.
[32] سورة
المومنين، 117.
[33] تفسير
المنار،
7/578.
[34] سورة
الأنعام، 80.
[35] مفاتيح
الغيب،
13/59.
[36] الميزان
في تفسير القرآن، 7/198.
[37] سورة
الشعراء، 74.
[38] سورة
الأنبياء، 53.
[39] سورة
الأنبياء، 54.
[40] مفاتيح
الغيب، 22/181.
[41] سورة
الأنعام، 75.
[42] الميزان
في تفسير القرآن، 7/177.
[43] سورة
البقرة، 260.
[44] الميزان
في تفسير القرآن، 2/371.
[45] سورة يس،
82-83.
[46] الميزان
في تفسير القرآن، 7/177.
[47] انظر تفسير
المنار، 7/555-556.
[48] المنطق للشيخ محمد
رضا المطفر، 300.
[49] سورة ص، 5.
[50] سورة
الأنعام، 76-77-78-79.
[51] مفاتيح
الغيب،
13/57.
[52] نفسه،
13/52.
[53] تفسير
المنار،
7/558.
[54] نفسه،
7/560.
[55] نفسه،
7/56-562.
[56] سورة مريم،
45.
[57] الميزان
في تفسير القرآن، 14/59.
[58] مفاتيح
الغيب،
22/186.
[59] نفسه،
22/184.
[60] الميزان
في تفسير القرآن، 2/355.
[61] سورة
البقرة، 258.
[62] الميزان، 2/259.
[63] مفاتيح
الغيب،
13/58.
[64] سورة
الأنعام، 81.
[65] سورة
الأنعام، 82.
[66] سورة
الأنعام، 79.
[67] سورة
الزخرف، 26 – 27.
[68] سورة
الزخرف، 20-21-22-23-24-25.
[69] مفاتيح
الغيب،
27/218.
[70] سورة
الأنعام، 83.
[71] سورة
الأنعام، 79.
[72] سورة
الزخرف، 27.
[73] سورة
الأنعام، 82.
[74] مفاتيح
الغيب، 13/60.
[75] مفاتيح
الغيب،
13/60.
[76] الميزان
في تفسير القرآن، 7/208.
[77] سورة
البقرة، 258.
[78] سورة
الأنعام، 80.
[79] الميزان، 7/199.
[80] سورة
الأنبياء، 58.
[81] سورة
الأنبياء، 63.
[82] سورة
الأنعام، 79.
[83] سورة
الممتحنة، 4.
[84] سورة
العنكبوت، 26.
[85] مفاتيح
الغيب،
26/150.
[86] سورة
الزخرف، 22.
[87] مفاتيح
الغيب،
27/206.
[88] الميزان
في تفسير القرآن، 16/123.
[89] سورة
العنكبوت، 25.
[90] الميزان
في تفسير القرآن، 16/124.
[91] سورة الأعراف،
179.
[92] سورة
البقرة، 124.