ص1      الفهرس     21-30

 

التراث وسؤال التسامح:

 

محمد أركون – محمد عابد الجابري – علي أومليل

إبراهيم أعراب

يعتبر التسامح راهنا سؤالا كونيا مما جعله موضوعا لجملة من اللقاءات والمؤتمرات، وقد تم إعلان سنة 1995 سنة دولية من أجل التسامح. كما توجت هذه الحملة بإصدار وثيقة إعلان مبادئ 16 نونبر 1995 تم فيه الربط بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم، وبالتالي ارتقت بالتسامح ليصبح قيمة قانونية ينبغي حمايتها عالميا، وهذا يكشف على أن التسامح أصبح مطلبا أساسيا وحاجة ضرورية من أجل تأسيس وبناء ثقافة جديدة للسلام بعد أن خرج العالم من كابوس ما عرف بالحرب الباردة بين القطبين الأمريكي السوفياتي سابقا. إلا أن الحقبة المعاصرة هذه التي تتميز بانهيار القطبية الثنائية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط المعسكر الاشتراكي عرفت انبعاث نزعات عرقية وصعود حركات يمينية ودينية متطرفة في أوربا وفي العالم العربي الإسلامي، تشترك في التعصب ورفضها لقيم التسامح والديمقراطية وحقوق الإنسان وفي معاداة الآخر وكراهية الأجنبي. فهذه الأشكال من اللاتسامح الجديدة دفعت بالمجتمع الدولي لاستعادة التسامح واكتشاف فضائله، كما أدت إلى إثارة نقاشات وسجالات فلسفية ونظرية بين النخب الثقافية والسياسية حول حدود التسامح، أي ما يمكن التسامح معه وما لا يمكن. ولم يكن المثقفون العرب المعاصرون ليقفوا متفرجين بعيدين عن هذا الاهتمام والسجال الذي ولده مناخ دولي يتسم بصعود اليمين وانتعاش إيديولوجيات التعصب واللاتسامح.

فهناك إذا قضايا ومشاكل راهنة تعرفها المجتمعات المعاصرة تجعل من سؤال التسامح موضوعا للتفكير في أبعاده المتعددة. لكن المثقف العربي المعاصر وبحكم انتمائه الحضاري سيجد فكره محاصرا بسؤال إشكالي مغاير وخاص يدور حول مفهوم التسامح في حد ذاته وهل عرفته الثقافة العربية الإسلامية؟ أي هل كان مفكرا فيه داخل هذه الثقافة أم أنه يندرج ضمن اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي؟

نجد ضمن المثقفين المعاصرين الذين انخرطوا في هذه الإشكالية، كل من محمد عابد الجابري، ومحمد أركون وعلي أومليل، وقد اخترنا هؤلاء المثقفين لتناولهم نفس الإشكالية مع اختلاف في الأطروحات.

 

أ ـ أركون: التسامح لم يعرفه السياق الإسلامي تاريخيا

فمحمد أركون وهو يتناول "مسألة التسامح واللاتسامح في التراث" الإسلامي، في محاضرة له ألقاها في ندوة قرطاج بتونس حول التسامح


[1]، انطلق من أن التسامح لا يمكن فهمه فهما نقديا، إلا بربطه بمفهوم اللاتسامح وما لا يمكن التسامح فيه (Intolérable)، ليخلص إلى التأكيد على أن التسامح كمفهوم لم يعرفه السياق الإسلامي تاريخيا و"أنه يعتبر واحدا من أنواع اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي". ويرجع أركون ذلك إلى عائق إبستيمولوجي يسميه بالسياج الدغمائي ومصادرات العقل الأرثودكسي[2]، أما التسامح كممارسة فعلية فإنه هو الآخر كان غائبا في المجتمعات الإسلامية لعدم وجود شروط تحقق ذلك، منها عدم وجود مجتمع مدني (أو بوادره على الأقل) متشبع بثقافة فلسفية ونقدية وقانونية وعدم وجود دولة قانون تضمن عدم التعرض للعقاب عند التعبير عن موقف فكري ومذهبي مخالف. وهذا الغياب عنده ليس خاصا بالفكر الإسلامي بل يشترك فيه مع فكر العصر الوسيط. لأن أركون لا يميز بين الفكر الوسطوي المسيحي والفكر الإسلامي، فهما عنده إبستيمولوجيا من إنتاج العقل الديني، أو ما يسميه أيضا "بالعقل الأرثودكسي"، وهذا العقل عنده لم يفكر في التسامح بمعناه الإيجابي الحديث بل أقصى ما فكر فيه هو نوع من التسامح السلبي كما تجسد مثلا عند العرب في مفهوم الحلم (بكسر الحاء) الذي هو تعبير عن الشفقة التي يكنها القوي للضعيف أو المنتصر للمنهزم، وهذا يختلف جذريا عن المعنى الإيجابي والحديث للتسامح كقيمة من قيم الحداثة ونتاج العقل الحديث المؤسس على المساواة.

وينتهي أركون في أطروحته كخلاصة إلى رفض "إسقاط مفهوم التسامح الذي يعتبر مرغوبا اليوم، في الماضي وفي التراث الإسلامي الذي لم يعرفه تاريخيا". ويبقى هذا المفهوم عنده حديثا ولا يمكن العثور عليه إلا في مرجعيته الأوروبية.

ب ـ الجابري: ضرورة تأصيل مفهوم التسامح في التراث

أما المفكر المغربي محمد عابد الجابري، صاحب نقد العقل العربي، فإن الرؤية عنده تختلف[3] وتسير في اتجاه القول بضرورة تأصيل مفهوم التسامح في الحضارة العربية والتراث الإسلامي انطلاقا من أطروحته التي تقول: "بتبيئة المفاهيم الحديثة في ثقافتنا"[4]. وعملية التبيئة للمفاهيم الحديثة المنقولة من الفكر الأوربي أصبحت من ضمن الآليات التي يشتغل بها الجابري في جل ما كتبه عن التراث. وهو يعتبر أن اللجوء "إلى تبيئة مفهوم ما من المفاهيم في حقل معرفي أجنبي عن حقله المعرفي الأصلي إنما تمليها الحاجة إليه في ذلك الحقل"[5]. فما هي إذا الحاجة التي أملت على الجابري تبيئة مفهوم التسامح الحديث؟ والبحث له عن مرجعية إسلامية يستند عليها؟ يرى الجابري أن ثمة قضايا ومشاكل معاصرة تدفع إلى ذلك وجعلت من التسامح اليوم إحدى الشعارات التي تطرح بحدة، وهذه القضايا أو المشاكل عنده هي: التطرف الديني باسم الدين أو ضد الدين –التطهير العرقي –التفكير الأحادي الذي يطمح للسيطرة على العالم –انتشار الإيديولوجيا القائلة بصراع الحضارات.

فكيف إذا سيعمل على بناء مفهوم التسامح داخل التراث العربي الإسلامي ما دامت الحاجة تملي ذلك؟ إنه بكل بساطة سينقب في هذا التراث عما يعبر عن التسامح. أي عن كلمة ومفهوم يرادفه أو عن تجلياته في بعض مواقف المفكرين المسلمين وتأويلاتهم. وهكذا وانطلاقا من تعريف للتسامح باعتباره يقوم على ضرورة فهم الآخر وإعطائه الأسبقية، والتماس الحجج له بقدر ما نلتمسها لأنفسنا، وتوفير الحق له، (إعطاء الأسبقية للآخر هو جوهر التسامح)[6]، سيجد الجابري ضالته في مفهومي الاجتهاد والعدل، خاصة هذا الأخير كما ورد استعماله عند المعتزلة وابن رشد، الذي يعتبره الجابري صوتا متميزا في هذا المجال بما سجله من ملاحظات وانتقادات على أبو حامد الغزالي الذي لم يكن متسامحا مع مخالفيه في المذاهب الأخرى. أما عن التجليات الأولى للتسامح فيجدها الجابري لدى الجيل الأول من "المثقفين في الإسلام ويعني بهم ما عرف في كتب الفرق الكلامية" بالمرجئة والقدرية "الذين كانت أفكارهم تدور حول محورين رئيسيين: التسامح من جهة والتأكيد على حرية الإنسان (…)، أما التسامح فيتجلى في تحديدهم لمعنى الإيمان"[7]، والمعروف تاريخيا أن هذه المسألة كانت موضوع خلاف زمن الحرب بين علي ومعاوية واعتزلت جماعة من المسلمين هذا الصراع (المرجئة والقدرية)، وقالت بفصل الإيمان عن العمل وعدم تكفير أي واحد من المتصارعين خلافا لجماعة الخوارج التي تطرفت وحكمت بالتكفير انطلاقا من ربط الإيمان بالعمل. من هنا ظهرت هذه المسألة الشائكة التي طرحت على الشكل التالي: هل مرتكب الكبيرة مؤمن أم كافر؟ ويذكر الجابري أيضا من بين الأسماء المتسامحة ضمن هذا الاتجاه أبا حنيفة الذي نقل عنه قوله: "لا نكفر أحدا بذنب ولا ننفي أحدا من الإيمان". ويعلق الجابري على هذا الموقف بقوله: "من هذا المنطلق إذن راح الجيل الأول من المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية يدافعون عن مفهوم لإيمان قائم على الاعتدال والتسامح، مفهوم "ليبرالي"، إذا جاز لنا استعمال هذه الكلمة في هذا المقام"[8].

وهكذا ينتهي الجابري إلى إعادة بناء مفهوم التسامح بالصورة التي تجعله يعبر داخل الثقافة العربية عن المعنى الذي أعطي له داخل الفكر الأوربي كمفهوم ليبرالي. وهو بهذه النتيجة يضع أطروحته في تعارض مع أطروحة محمد أركون، هذا الأخير الذي انطلق مقيدا بمعنى سابق، ومفهوم محدد للتسامح استوحاه من الثقافة الأوروبية، لذا، فليس من الغرابة في شيء أن لا يعثر عما يبحث عنه، بينما لو انطلق من واقع التجربة الإسلامية الغنية وتطوراتها في شتى المجالات الفكرية والفلسفية والصوفية والإبداعية، لا بد وأن يجد هذه التجربة إلى مفهوم وتقليد في مستوى التسامح الأوربي لكن بكلمة وتعابير أخرى نابعة من واقع المجتمعات العربية الإسلامية وثقافتها.

 

ج ـ علي أومليل: التسامح وشرعية الاختلاف بين الحاضر والماضي

أما علي أومليل، فقد ناقش هو الآخر مفهوم التسامح في كتابه الإصلاحية العربية والدولة الوطنية حيث أفرد له دراسة تحت عنوان (التسامح هل هو مفهوم محايد)، وفي كتاب آخر له، في شرعية الاختلاف. وإذا كان قد تناول في الكتاب الأول مفهوم التسامح كما قال ليرى: "ماذا كان يعني من منظور المفكرين المسلمين انطلاقا من ظرفية الضغط الأجنبي على العالم الإسلامي"[9]، أي في فترة ضعفه وتراجعه أمام أوربا، فإنه في الثاني اهتم بمرحلة تاريخية تعود إلى ما قبل الضغط الأجنبي، إلى مرحلة كانت فيها المجتمعات الإسلامية في موقع قوة وكان المثقفون المسلمون فيها واثقين من تفوق حضارتهم ودينهم وعلومهم على غيرهم من الشعوب والثقافات الأخرى. وهو بهذا –سواء في مؤلفه الأول أو الثاني- كان منشغلا بالحفر في التراث الإسلامي في الماضي البعيد لدى القدامى، أو في الماضي القريب لدى مفكري النهضة والإصلاح الذين عاصروا صدمة الحداثة وعايشوا الهجمة الاستعمارية الأوروبية على العالم العربي الإسلامي، وكانت الغاية التي وجهت علي أومليل في حديثه عن التسامح والاختلاف (التسامح عنده يعني قبول الاختلاف) هي على حد قوله: "ليس من أجل الاختلاف في حد ذاته بل هو حديث يتجه إلى عمق الديمقراطية، ذلك أن النظام الديمقراطي يسلم بالاختلاف ويشرع له ويبني عليه"[10]. فرجوع علي أومليل إلى التراث للتنقيب فيه وتحليله بحثا عن تجارب الاختلاف والتسامح فيه، إضافة إلى أن وراءه دافعا سياسيا، فهناك أيضا سؤال إشكالي ثقافي ومعرفي يشترك فيه الجابري وأركون وهو: هل التراث العربي الإسلامي كان عاملا مساعدا أم عائقا على تكون عقلية قابلة بشرعية الاختلاف والتسامح؟ وكجواب على هذا السؤال فحص علي أمليل بنية الخطاب الإصلاحي الإسلامي الحديث، ولم يتردد في الحكم عليه بأنه كان واقعا تحت تأثير ظرفيته التاريخية التي عرفت الضغط الأجنبي والاستعماري الذي كان يهدد استقلال الأمةووحدتها، ومن ثم فإنه من غير المتوقع أن يفهم التسامح من طرف مثقفي هذه الفترة التاريخية الحرجة بمعناه الإيجابي، فهو (أي التسامح) كاعتراف بالاختلاف في مجتمع مهدد من الخارج لن يعني عندهم سوى الخلاف ودعم التشتت والتمزق وضرب وحدة الأمة، وبالتالي فإن الموقف الرافض للتسامح بمعناه الليبرالي الحديث كان هو الموقف السائد في ظرفية الضغط الاستعماري، ولم يكن ذلك كما أكد علي أومليل راجعا فقط إلى عدم فهم مفكري هذه الحقبة (كالأفغاني مثلا) للأفكار الأوربية الحديثة، ولكن لأن هذا الفكر "كأي فكر آخر له إشكاليته الخاصة فلا بد أن يصدر عن تأويل لما يتداوله من أفكار إسلامية كانت أم غربية، قصد إلى ذلك أم لم يقصد. فالتأويل إذا قائم بحكم إشكالية حددتها ظرفية العالم الإسلامي الحديث منذ وقوعه تحت الضغط الإسلامي. فكان على دعاة الإصلاح أن يصوغوا أفكارهم بناء على هذه الظرفية"[11].

أما بالنسبة لتجربة القدماء من قبلهم سواء من المتكلمين أو المؤرخين أو الفقهاء أو أصحاب الرحلات وكتاب الملل والنحل والفرق ممن خاضوا مناظرات مع مخالفيهم في الرأي كالمعتزلة مثلا أو الأشاعرة أو احتكوا بمجتمعات وثقافات وديانات مختلفة عن مجتمعاتهم وثقافاتهم ودينهم كالبيروني مثلا فنجد أن ع.أمليل أبدى اهتماما في كتابه شرعية الاختلاف بما كتبه هؤلاء القدماء خاصة في موضوع العقائد والمذاهب وانتهى إلى أن هناك –رغم ما عرفته المجتمعات العربية الإسلامية في فترتهم من تنوع في المذاهب والعقائد– مع ذلك موقفا إيديولوجيا مسبقا نجده "عند واضعي هذه الكتب: وهو اعتبارهم لحقيقة واحدة يمتلكها طرف واحد. وهذا معنى حديثهم عن الفرقة "الناجية"[12]. وهذا مما يعني لدى علي أمليل أن التراث العربي الإسلامي في الماضي لم يعرف تجربة التسامح والقبول بالرأي الآخر دون أن ينكر أن هناك فقط بعض حالات قليلة طبعها الانقطاع وأنتجت مناظرات أغنت الفكر العربي[13].

وإذا كانت أطروحة علي أمليل تقوم أساسا على ضرورة الاعتراف بأن "هناك مبادئ وقيما فكرية وحقوقية جديدة لم يسبق لها نظير عند الأسلاف"[14]، كقيمة التسامح مثلا، ومبدإ الحرية ومفهوم حقوق الإنسان بما هو إنسان أولا، فلأن تفكير الأسلاف والفقهاء من منظور علي أومليل اتجه أولا إلى حقوق الله، وكون هذه الحقوق هي حقوق الإنسان هو تصور جديد وليد القرن 18، وبهذه الأطروحة يقترب علي أومليل من أركون ويبتعد قليلا عن الجابري. لكننا نجد لدى أومليل موقفه الخاص حين يصرح أن عدم معرفة الأسلاف في الماضي البعيد والقريب بمفاهيم الحداثة والحرية والتسامح والديمقراطية وحقوق الإنسان، لا يمنع من تأصيلها ثقافيا في تراثنا، وهذا العمل يدخل ضمن الاجتهاد الفكري الذي أناطه علي أومليل كمهمة بالمثقفين. وبهذا الرأي يعلن ضمنيا عدم اعتراضه على ما يقوم به الجابري وغيره من المثقفين ممن اهتموا في مشارعهم الفكرية بقراءتهم للتراث وتجديدهم له بتأصيلهم لمفاهيم الحداثة وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في التراث العربي الإسلامي.

ومن هذا المنظور وضمن هذا الاتجاه التأصيلي لا يمكن لصوت ابن رشد إلا أن يكون صوتا تسامحيا وإن لم يكن قد استعمل التسامح بلفظه، لأنه صوت الحكمة والفلسفة والعقل، والفلسفة لا يمكنها إلا أن تكون مجالا للتسامح والاجتهاد والاختلاف. وإذا انحرفت عن هذا المبدإ تتحول إلى وثوقية Dogmatisme تقود إلى اللاتسامح L’intolérance وإلى التعصب Le fanatisme.

وهذه الروح التسامحية نجدها حاضرة في التجربة الفلسفية العربية الإسلامية بدءا من الكندي واستمرارا مع ابن رشد الذي كان حريصا على بيداغوجية التسامح في مؤلفاته حيث كان يؤكد على ضرورة احترام آراء وأفكار "من تقدمنا" (إشارة إلى اليونان) "سواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة"[15]، وينبغي "أن نضرب بأيدينا في كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك فإن كان كله صواب قبلناه منهم وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه"[16]، أي ما كان "منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم"[17]، فهذه الأقوال تتضمن دعوة للتسامح باحترام ثقافة الآخر والقبول ضمنيا باختلاف الثقافات وتنوعها وضرورة التعايش والحوار فيما بينها، أي ما يسمى راهنا بثقافة السلم.

وهذه الروح نجدها أيضا عند معاصره، الصوفي صاحب الفتوحات المكية، محيي الدين بن عربي (1164-1240م) الذي نلمس لديه نزعة التسامح الديني حين يقول في قصيدته الشعرية "تناوحت الأرواح".

لقد صار قلبي قابلا كل صـــورة      فمرعى لغزلان ودير لرهبــان

إلى أن يقول:

أدين بدين الحب أنى توجهـت     ركائبه فالحب ديني وإيماني…الخ

والملاحظ أن استعماله لكلمة الحب للدلالة على التسامح تتفق مع بعض التصورات الحديثة التي تفضل استعمال كلمة الاحترام والحب بدل كلمة التسامح (انظر معجم لالاند). وهذا في النهاية يرجع إلى واقع المجتمع الإسلامي في الأندلس وحاجته إلى التسامح والتعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين آنذاك.

وهذا ما يؤكد ضرورة التفكير في التسامح ومدى حضوره أو غيابه في الثقافة العربية الإسلامية انطلاقا من المجتمع وحاجاته وتجاربه وتطلعاته وعدم الاقتصار على التحليل اللغوي أو البحث في القواميس عن وجود هذه الكلمة التي تقود إلى المفهوم، حتى وإن كنا نسلم بأن اللغة تعكس ثقافة المجتمع وتؤثر في بناء فكره ومفاهيمه ومقولاته في كل حقبة من حقبه التاريخية، لأن وقائع التاريخ العربي والتجربة الإسلامية في غناها وتنوعها واتساعها قادرة أن تقدم للباحث المهتم بإشكالية الإسلام والحداثة تربة خصبة لتأصيل واستنبات الكثير من قيم ومفاهيم الحداثة حتى تصبح هذه الأخيرة حاملة لمعنى إيجابي لا يجعلها فقط رديفة للغرب ومرتبطة بزمن معين، بل تفهم "كموقف للروح أمام مشكلة المعرفة"، وهذا ما يتيح إمكانية الإمساك بلحظات حداثية في تاريخ الفكر العربي والتراث الإسلامي، كما مع لحظة المعتزلة بعقلانيتهم وقولهم بالحرية ولحظة ابن رشد بعقلانيته وتسامحه الفكري ومع لحظة المفكرين ذوي النزعة الإنسانية في القرن الرابع الهجري أمثال مسكويه والتوحيدي والجاحظ…الخ.

وهذا ما يفيد في الختام بأن التساؤل عن التسامح ومرجعيته والتفكير فيه كمفهوم حداثي يؤول إلى التفكير في الديمقراطية والحداثة وأسئلتها وما تطرحه راهنا من تحد وإشكالات وقضايا على الوعي العربي الإسلامي ومثقفيه بمختلف تياراتهم وكيفية التعامل معها وبأية رؤية؟ وبأي منهج؟n



[1] - محمد أركون، التسامح واللاتسامح في التراث الإسلامي، مقال ضمن المجلة العربية لحقوق الإنسان، السنة الثالثة، عدد2 أكتوبر 1995، ص10.

[2] - محمد أركون، نفس المرجع، ص18.

[3] - اعتمدنا كمرجع لمعرفة موقف د.محمد عابد الجابري على ما ورد في محاضرته ضمن أشغال مؤتمر الرباط حول الفلسفة والتسامح وعلى بعض فقرات كتابه المثقفون في الحضارة العربية، المنشور ضمن منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995.

[4] - محمد عابد الجابري، نقلا عن المحاضرة السابقة الذكر.

[5] - نفسه.

[6] - محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995، ص44.

[7] - نفسه، ص46.

[8] - نفسه، ص47.

[9] - علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، دار التنوير بيروت، لبنان، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1985،ص107

[10] - علي أومليل، في شرعية الاختلاف، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الطبعة الأولى، 1991.

[11] - نفسه، ص109-110.

[12] - نفسه.

[13] - علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، سبق ذكره، ص119.

[14] - علي أومليل، في شرعية الاختلاف، سبق ذكره، ص94.

[15] - ابن رشد، فصل المقال، دار الشرق، بيروت، لبنان، 1986، ص31.

[16] - نفسه، ص32.

[17] - نفسه، ص33.