ص1     الفهرس  21-30

 

بركانية النص وأتون المعنى

بختي بن عودة

قارئا لجاك دريدا(*)

 

محمد شوقي الزين

 

في أمسية الخميس 19 مارس 1998، ألقى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في جامعة بروفونس محاضرة تحت عنوان "بين الهاوية والبركان: اللغة. رسالة من شوليم (Scholem) إلى روزنسفايغ (Rosenzweig)". أشار المحاضر إلى النص "البركاني" الذي لا يخمد ولا يسكن، دائم الهيجان والثوران، نص يتكلم بالجرح والنزيف ("التروما" Trauma). النص عند رولان بارت عبارة عن نسيج (tissu)، لأن حقيقة النص لا تنكشف في "التطابق ووحدة المعنى وحتمية الحضور وإنما في تداخل الطبقات وتشابك المجازات"(1)؛ أو النص هو "كينونة لغوية قائمة على التوتر الداخلي والصراع الباطني، هدفها تدمير التخوم الممكنة، حدود الواقع وجدران الحياة لتفجيرها فيما بعد"(2)؛ ويغدو (أي النص) عند دريدا عبارة عن "بركان" يجمع بين الهيجان والثوران (éruption) ومباغتة وانفجار غير متوقع (irruption)، نص يجمع بين المصادفة والضرورة ويتردد بين الهوية والاختلاف، كاوس وعماء، يسحق ويمحق الواقع، يوزع ويشتت الدال، يرجئ ويؤجل المدلول. النص يشتمل على اللغة واللغة "تتكلم عبر النار والانفجار" كما جاء في محاضرة ديريدا، أين تحترق الذات وتكتوي المدلولات. ولغة بختي بن عودة لغة مضطرة/منشطرة تبحث عن "المكنون" المتواري في ظهوره وبداهته والمتجلي في خفائه وتواريه،"فاللغة هي آلة الحفر وهي مادة الحفر، نحفر بها وبداخلها، كذلك تفعل اللغة البختية، إذ تغامر صوب الشعر فتفككه من الداخل"(3). لكن اللغة، إذ تعبر عنها ذات ناطقة، تنسحب هذه الذات بمجرد النطق والتعبير؛ الكلام بطبعه تكليم أي جرح ونزيف، بدءا بالناطق الذي يتكلم مع (ويجرح) الآنا" و ("الأنا" و"الأنت" و"النحن" الذين يتحدثون في النص الشعري أو السردي عبارة عن ظلال الشخصيات الحقيقية لا تحيل إليها وإنما تغرقها في فضاء استغرابي يسحب الهوية عن الفرديات المتعينة في الزمان والمكان كما يذهب الفيلسوف الألماني هانس غيورغ غادامير في شرحه لشعر الشاعر النمساوي ذي الأصل الروماني بول سيلان Paul Celan "بلورات النفس")(4)، إنها "قضاء على كل صوت وعلى كل أصل. الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة، إنها السواد البياض الذي تضيع فيه كل هوية ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب"(5).

الصوت والكتابة هما هذا الأثر في حقول اللغة بفاعلية الحفر، وهذا الجرح غير الملتئم في جسد العبارة.

"كتابة تكتبك

بحروف مسنونة

تنفيك

بعلامات من جمر

كساء يعريك

كتابة تكسوك ألغازا

كتابة فيها أندفن"(6)

في هذا الشعر، يلمح أيضا الشاعر والمفكر المسيكي الراحل أوكتافيو باث Octavio Paz (جائزة نوبل 1990) إلى الحرارة اللافحة للكتابة المتضمنة على "علامات من جمر"، بل ويجعل منها "قبرا" تندفن فيه ذاتيته التي تتكلم وراء حجاب الحروف. ولا يمكن تصور هذه الحروف سوى كشظايا تنعكس فيها الذات كجملة ذوات مشتتة ومتشظية على غرار شظايا المرآة التي تعكس المنابع المنيرة، "ومنذ البدء أيضا، تختار الكتابة أن تطلق العنان للرغبات والأهواء والنزوات تمضي بالعقل إلى نهاياته. تتحرر من المرجع والنسق. فتمعن في تشظية الكلام وبعثرته"(7) وتدمج الرغائبي في الغرائبي مشكلة ما نسميه "النص الباروكي" texte baroque الجامع لكل أصناف التوهم وألوان التخيل والرابط بين الغرابة والقرابة أو المختلف والمؤتلف. نعرف النص كالتالي: "عنكبوت المكبوت: نسيجه من صلبه"، يلف في أنسجته فريسته والمتمثلة في الذات التي لا يمكنها مغادرة تربة اللغة التي تحفر في أعماقها وتكشف عن مكنونها، والوجود كله عبارة عن لغة أو حروف أو رموز للقراءة لأن "الوجود الجدير بالفهم والإدراك هو اللغة"(*) كما يقول فيلسوف التأويل هانس غيورغ غادامير، أي "وجود اللغة" في تفكيك رموز وفتح مغالق "لغة الوجود". تؤدي الذات أدوارها في مسرح اللغة وتتحول في سياق النص. تنبني وتتأسس إذن على أرضية "النص –العنكبوت" ولكنها تتموج وتتوهج في حقول "النص-الحرباء". لدينا هاهنا إشارة إلى نماذج الغرابة وحفريات المكر والدهاء، فأي وعي جلي يمكنه مسايرة هذا الفضاء الخفي وهذه الحيوانية النصية في بهائها ودهائها؟ يحصد الآن النص (نيتشه، هيدغر، بارت، دريدا…) ما زرعه "تيرموس" (thermos) هيرقليطس في حقول الهيجان والدغل المتوهج (buisson ardent). نود هنا الحديث عن "مضاهاة" اللغة البختية (بختي بن عودة) للنص الدريدي (جاك دريدا) من خلال قراءة متميزة(8) تغرق وتمتحن اللغة في متاهات البحث المستميت عن المعنى في هندسات المبنى. اللغة المضطرمة التي تتجلى في كتابات بختي وقعت على كتاب دريدا احتراق الرفات (أو "نار الرماد") رغم وجود كتب أخرى لا تقل أهمية والمعروفة في الأوساط الأدبية والفلسفية والأدبيات التفكيكية مثل الكتابة والاختلاف وعلم الكتابة أو الغراماتولوجيا والتشتت. منطلق بختي كان هو الاحتراق والاكتواء قصد صناعة النص في "حدادة" اللغة بقولبة الحروف والكلمات في أشكال هيجان الرغبة وهذيان الغرابة: "اللعبة حيثما كان هو جاك في حوار (رفقة كارول بوكيه الممثلة الفرنسية) مع استعارة الرماد (Le cendre). بدئيا هي مقترنة بالنار على مستوى العنوان الذي نحتفظ به كنص "Feu la cendre" ويمكن ترجمتها إلى أكثر من مقابل لأكثر من جهة دلالية. لدينا نار الرماد ونار بقايا الأموات ونار الرفات وإشارة الرماد وما يدل على الإشارة ربما انبعاث الرفات"(9). وهذه الإشارة إلى الرفات وبقايا الأموات تؤكد عبارة أوكتافيو باث السابقة عندما يجعل من الكتابة "مقبرة" الذات ومدفن اللذات. والنار ليست مجرد حرق ومحق وإنما هي أيضا بعث ونشور، انبعاث وصدور، النار الخالصة أو "كيرنوس" على حد تعبير هيرقليطس: "هذا العالم عبارة عن نار حية وسيظل كذلك، يشتعل بقدر ويخبو بقدر"(10). تفنى الذات لا محالة في حبائك النص لكن بقاءها يتجلى في فنائها، وانبعاثها يتراءى في امحائها، وهذا يعبر عن دهاء النص الذي يجعل تجلي الذات وظهورها في فنائها وموتها ويجعل تواريها وضمورها في ظهورها وتألقها: "تحضر اللغة في غيابها وتغيب في حضورها… لقد غابت [الذات ] اليوم من شدة حضورها وحضرت عبر وجوهها التي كانت مغيبة. نعم ماتت الذات بمفهومها الكلاسيكي ولكنها ماتت لتبعث من جديد. وغابت ولكن لتحضر من خلال الغياب"(11). والاختلاف المرجأ différance الذي استبدل فيه دريدا حرف (e) بحرف (a) يحيل إلى هذه الطاقة الأصلية الوهاجة التي يختزنها في ثناياه. والحرف (a) يدل أساسا على النار والحرارة والطاقة كما يورد ذلك مارك آلان واكنين في كتابه أسرار الأبجدية. وقراءة الحرف، كما يقول دريدا، هي عشقه(12)؛ والبحث عن خباياه وتفكيك هيروغليفيته وألغازه وسبر أغواره وأعماقه إنما محركه الكبريت الأحمر وقود اللهيب والاشتعال كما ينهب أيضا متصوف مرسية (الأندلس) ابن عربي: "يشير الأستاذ غي بوتيتدومانج إلى الرماد بالجمع، إنطلاقا من كون الفكر مثلما يفهمه هيدغر هو لهيب يشتعل ويشعل، الرماد المقترن بالاحتراق، بما هما لفظان مرعبان"(13) والرماد هو كل ما تبقى بعد اللهيب والاحتراق، يتوزع ويتشتت وينتشر ويحمل أثره وسره معه وشعلته لا تزال كامنة في ذره وذريته، لا ينقضي أجله بإتلاف جسده وضمور هيكله بل هو "هنا" يجوب فضاء "الهناك" (il y a) بتعبير إمانويل لفيناس، مجهول وغريب لا تسعه العبارة ولا تنعته الإشارة، في تخوم العود الأبدي المنبعث من "تيرموس" أو "كيرنوس" هيرقليطس: "تختزن النار تحت الرماد. فالنار، بما هي ليست بقايا، تبقى مع ذلك مختفية ومحتفظة تحت الرماد حتى لحظة انبعاثه"(14). الفكر، كما فهمه هيدغر، شعلة وبريق ووميض قرب شجرة الوجود كما يذهب أيضا الشاعر بول سيلان:

شموس الخيوط المتوهجة                                                   Fadensonnen

فوق الصحراء الرمادية السوداء                              über der grauschwarzen Ödnis

فكر عالي                                                                           Ein baum

مثل الشجرة                                                            hoher Gedanke

يدرك من نبرة النور: ثمة                                    greift sich den Lichtton: es sind

أيضا الأنغام والأغاني فيما وراء                                    noch Lieder Zu singen jenseits

الناس                                                                   der Menschen

تحيل هذه المعادلة شعلة الفكر/شجرة الوجود إلى أصول وجذور عريقة ترتبط بلحظة الأكل من الشجرة كأول خطوة نحو الشعور واكتساب المعرفة: نوع من "غاسترونوميا"(*) المعرفة. فضلا عن ذلك، تحيل الشجرة إلى تشاجر المعارف وتداخل الأفكار والتصورات والبقايا (الخشب) هي بلا شك وقود اللهيب، تلتهمها النيران. "حينما نقرأ "Feu la cendre" لن نحفظ غير الرماد الرفات والنار أو الحريق-الحرق، ولن نتمكن من إنقاذ سوى ما يبقى من اختلاف موضوعي ودلالي واشتقاقي. هنا فقط يمكن النفس (souffle) والنفيس، تنفجر النفس بنسف المجال المطمئن نفسه"(15)؛ إذ تتقولب الحروف وتتقمص ليجمع المصدر "ن ف س" النفس والنفس ومقلوبهما النسف، حرارة النفس ونورانية النفس ولهيب النسف؛ وهذا كله عبر تحولات الاشتقاق وتصدعات الانشقاق وتشتيت الكتابة باختراق الدال واحتراق المدلول "ففكك معناه جعل الدليل في وضعية ارتجاج واضطراب مقارنة مع هدوء ماضيه الفلسفي أو الأدبي"(16).

يمنحنا هنا بختي فكرة عن دلالة التفكيك الذي طالما سعينا لفهمه واستقصاء بنيته ووظيفته واكتشاف ميكانيزماته. فالماضي الفلسفي أو الأدبي يوهم الفكر بثبات وهدوء السطح، لكن عندما يضطرب العمق ويتعكر صفاؤه يظهر الأثر على السطح والأفق ويجعل المفاهيم والدلالات المترسبة في قاع تاريخ الكتابة تتشظى وتتقوض وتكشف عن هويتها بنزع قناع التطابق ومغادرة حقل "الكينونة على نحو واحد" ومباشرة مغامرة "الكينونة عبر كل أمر" داخل تنوعات المشهد وتحولات المقصد. رماد الوجود الهيدغري (les cendres de l'être) يضاهي رماد الموقد (les cendres de l'âtre) عند فلوبير (Flaubert). الوجود (être) والموقد (âtre) لا ينفكان عن بعضهما, والحرف (a) من âtre يقال، كما أشرنا سابقا، للطاقة والحرارة والموقد هو بلا شك أتون البيت، واللغة مسكن (أو بيت) الوجود كما يقول هيدغر.  فالوجود في البيت أو "الدازاين" (Dasein) في المسكن يحيل إلى الإنسان الذي يتحرك ويتنفس ويحيا داخل اللغة؛ واللغة "انفجار وانشطار" لا تنفك عن التقلب والتحول والتلون، تجعل الإنسان لا يحيا في جمالية المشاهدة (مسكن وسكون وسكينة) وإنما يواجه تراجيديا المكابدة (صراع ومعاناة)، يتحلى بصورة اللغة المتشظية ويتجلى في مستويات وجوده وحضوره ككائن مختلف لا يزال يتخلف ويتراجع دون بلوغ مقصوده وإدراك مفقوده. الخطاب (الذي يتكلمه ويحيا به وفيه) عبارة عن خراب وسراب وتكتنفه الحيرة وكوجيتو النقص والغياب: "سيشغل التفكيك بوصفه آلة مدمرة، وحشا هيرمينوطيقا الذي يختبئ في جسد الاستعارة ونفحات اللعب ليظل التحديد هو نفسه اللاتحديد أي تسمية ربما غير عقلانية للنص"(17). التفكيك، بهذا المعنى، عبارة عن لعبة واستعارة واستراتيجية لا يشير إلى معلوم ثابت وإنما يستقصي مواقع الغائب وآثار الراحل ومسارات الراجل. هويته هي استحالته وانشطاره وتوزيعه في خريطة الكتابة مؤسسا بذلك أكسيوم "السائر الحائر"(18) الذي لا  يستقر على حال وإنما يباشر الترحال ويخترق حجب المحال. يتوجه التفكيك إلى زئبقية الأمر الذي يتوخى استقصاءه وفك عقده وقراءة رموزه وإشاراته: "وعليه فإن ما يجعل التفكيك استراتيجيا هو أنه يؤسس للاختلاف وللاحتواء معا. ذلك أن التفكيك –وهو أحد أوجه أهميته الكبرى- ليس بتهديم وليس ببناء، ليس بخطاب الخاص الهامش في مقابل المركز، أو العدم في مقابل الوجود أو العكس؛ إنه أغرب ثنائية كما ترى سارة كوفمان: فهو "تواصل مع النار واللعب الهيراقليطيين مع الامتلاء وإشباع الرغبة في اللعب الذي لا يتحقق، لتجعل كل بناء استدعاء لبناء آخر وكل كتابة إضافة، وكل بناء تفكيك وكل كتابة سيرورة… إنه (أي التفكيك) لعب ونار واحتراق في الكتابة"(19). ماذا لو فككنا التفكيك نفسه؟ "Dé-construction"

: قِمْعُ الخياطة = نسيج = نص.

: زهر النرد = لعبة = احتمال (الضرورة والمصادفة).

: فعل الانشقاق والانفصال (فعل يفيد العكس).

Construction: الأصل والبناء والتأسيس.

"" من Déconstruction هي "نص كنسيج" و"لعبة كاحتمال" و"خلخلة وإزاحة"؛ تشابك المعنى والعبارة والإشارة. بالمعنى الجيولوجي، هو وجود طبقات (strates) مترسبة ينبغي نحتها وإزاحتها؛ وبالمعنى الاستراتيجي إن هذه الطبقات هي طبقات منسوجة بحيث يتعذر الكشف عن لحمة النسيج (trâme) والسلسلة (chaîne). فالنص هو نسيج مركب من إشارات وتعبيرات ودلالات متداخلة ومتشابكة تستدعي التفكيك والعزل لفحص بنيتها وجذورها المتضاربة وفق دقة وحذاقة.

Strate                           Stratégie             Stratagème

                           بصيرة الدهاء       استراتيجية                 طبقة

"النص-النسيج" و"اللعبة-الاحتمال" و"الخلخلة-الإزاحة" تستهدف كلها "الأصل-البناء-التأسيس" قصد تفكيك (démontage) وحدته الثابتة إلى عناصرها المؤسسة لها لمعرفة بنيتها ولمراقبة وظيفتها: "يلجأ دريدا إلى إجراء التفكيك الموجه لضرب فكرة الأصل (l’orgine)"(20)، والنص هو أساسا تفجير نواة اللغة وتحرير طاقتها التي تتوزع وتتشتت في كل الاتجاهات وتخترق كل الأبعاد الأنطولوجية والأنثروبولوجية للكائن و"تختار هذا المهوى ما بين النار والرماد لتعلق دهشتها في الميلاد المباغت للصوت ككتابة فهو هنا يقرأ، يمارس الرنين ليسمعه الآخر ليكون في ماهية الشهقة والألم"(21)، وإذ تختار اللغة (النص، الكتابة،…) الهاوية بين لفحات الحريق ونفحات الرماد، فإنها تلتقط أصداء الصوت الذي ينعكس في أعماق هذا المهوى كذبذبات متوالية تحكي الأصل (الصوت) وتحاكي آثاره وبصماته وتوقيعاته (الرنين) كجروح وانشطارات يتركها على جسد الكلمة وطوبوغرافيا العبارة. الجرح يقتضي الألم والمعاناة والنزيف ولكنه يستلزم أيضا الميلاد والصدور والانبعاث حسب تعبير إدموند جابيس. الجرح هو احتراق وانبثاق، إكتواء وابتداء، هيجان وسيلان، خلخلة للبدايات المطمئنة وارتجاج لبحار الكتابة. و"ضرب فكرة الأصل" كما يقول بختي هو الإقرار بالاختلاف الأصلي الذي يفصل بين الهويات والتشابهات بل في عين الهوية الواحدة. "إذن ما معنى الاختلاف؟ إنه المغايرة خارج الهوية الواحدة وخارج التطابق مع الآخر"(22)، والاختلاف "سيلان وتدفق" (flux) لأن "كل شيء يتدفق"(23) على حد تعبير هيرقليطس، فكل شيء يحكمه التحول والتبدل ولا تقع الإشارة أو النعت سوى على هوية منشطرة تتوالى عليها الأعراض والأحوال وتلبسها حلة التحول والتغير الطارئ. تبقى هذه الكثرة الدؤوبة (أو هذا السيلان الدائم) منعدمة الهوية لما يكتنفها من تغير وتنوع، فلا تقع العين سوى على سراب هذه الكثرة، لأن "المتعدد" (le divers) هو "المتردد" (l’indécidable) يستهويه التقلب ويستميله التألب. الاختلاف التشتيتي (la différence diasporique) الذي يرفع لواءه دريدا ويقحمه في صلب معركة (لا هوادة فيها) ضد أشكال الانغلاق (clôture) الأدبي والفلسفي والتراثي والأكاديمي، يؤمن بهذه الإرادة التي تدفع إلى الأمام طاقتها الكتابية، تزرع وتشتت الوحدات الأولية المعرفية، وحدة فلسفية (philosophème)، وحدة عرفانية (mystème أو gnosème)، وحدة تأويلية (herméneutème)… لتتشابك جذورها وتتداخل وظائفها؛ فلا يتعلق الأمر بنسق أو مذهب وإنما ببذر وتطعيم، بحث منهوم في حفريات التفصيل عما يشبع الرغبة الجامحة "للوحش الهيرمينوطيقي المختبئ في جسد الاستعارة" (بختي بن عودة) ويدعو إلى تقويض دعائم التمركز والتطابق: "في طريقكم إلى الخلخلة، فتشوا كل مقروء"(24). البحث المنهوم عن أمر مفهوم أي المعنى يتم لا محالة بهذا الحريق اللافح الذي ينبعث من أتون المبنى. في الكتابة (الحرف أو الكلمة) تحترق الذات وتكتوي المدلولات، ويعاد بذر وتشتيت الوحدات الأولية لتنمو في حقول هذه الكتابة علامات ورموز كالدخل المتوهج: تطأ القدم على حروف من جمر. "يعتبر دريدا أن كل كلمة عبارة عن نطفة (أصل أو منشأ)، مقدار معنوي (sémantique) ومنوي (spermatique)، نطفة تتكاثر بانقسامها. كل نطفة عبارة عن كلمة"(25).

لدينا هنا:

نطفة الكلمة = الكلمة في تكاثرها وانقسامها وانشطارها مشكلة النص أو الخطاب.

كلمة النطفة = أو منطق الخلق والتكوين الذي يصدر عنه الجنين.

المعنوي والمنوي = المعنى والمني.

 الـمَـ (عْ) ــنَـوِي

المنوي متضمن في المعنى، لأن الأول حقيقة الثاني، سبب الإيجاد ودليل الانقسام والتكاثر. وعن الحرف "ع" يقول ابن عربي:

"عين العيون حقيقة الإيجاد

فانظر إليه بمنزل الإشهاد"(26)

العين = حقيقة الإيجاد والتكوين

العين = الماهية أو الجوهر

العين = مصدر الرؤية والمشاهدة

العين = المنبع (السيلان والتدفق).

يتعدد "العين" ويتشتت ليدل على مدلولات مختلفة ومتنوعة (الإيجاد، الماهية، الرؤية، السيلان) ويمتحن "المعنى" في حقول "المبنى" اللافحة. تتقولب الحروف والكلمات في أشكال باروكية، مبهمة المعالم ومتقمصة الطبائع وأحيانا شبيهة بالإنسان المتشظي في لوحات الرسام البريطاني فرنسيس باكون (F.Bacon). الاختلاف التشتيتي عبارة عن تكاثر عضوي –حيوي- فوضوي للشارات (codes) السيمولاكرية (الازدواجية والانثنائية) في البرنامج الاختلافي للخطاب الدريدي. فلسنا هنا أمام دواعي الوحدة والفكرة و"الإينارجيا" "energeia" (الوضوح واللمعان) وإنما في سياق خطاب التشتت والخلخلة والاهتزازات المفاجئة والمباغتة لتعاريج وتضاريس الكتابة، وخطاب "الحياكة" (couture) و"الحكاية" (fabulation) بترقيع وحياكة أنسجة النص المتشابكة وحكاية مضامينه التخييلية وعوالمه الغرائبية.

ثم ماذا؟

"كتابة الأثر للاختلاف وبه، هكذا نركب هذه المنظومة، نقارب بين ضغوطاتها ونحتفظ للبداية بلعابها (Salive) خارج الألفة والتكرار، لعل دريدا، الذي لم يرسم اطمئنان المؤسسة للأعمال الممتلئة، يمنحنا كقراء عرب أدوات حداثية بقدر ما لا تشير إلى الحداثة بشكل ملفت، أدوات تتحاشى الارتهان، أن تكون رهينة لحظة أو غزو أو إلغاء، لعل دريدا يعلمنا نحن أبناء المحيط كيف نفاجئ الهالات الموضوعة على جباه الآخر، على شواطئه، كيف نتسلل إلى الثغرات من خلال أمتعة معرفية نقدية تفكيكية، أن ننسى ذواتنا إلى حين، أن نؤجل الحديث عن وحدة ترعاها السماء، أن نستحق طرفا في هذا الفكر القابل للسكنى (Pensée habitable)، إنه فكر كذلك، متى نحمل المصابيح؟"(27).

يتساءل بختي في الأخير عن اليوم الذي نحمل فيه المصابيح داخل الفكر القابل للسكنى بحثا عن أوجه إبداعنا الفكري وأشكال مشاركتنا النظرية في الفكر العالمي. لماذا المصباح؟ منبع نوري متوهج داخل عتمة اللغة، ينفر ظلمة الخطاب ويحتفظ بالحرارة والدفء داخل "الفكر القابل للسكنى". "متى نحمل المصابيح؟" يستجيب لإيقاع "ذات يوم، قد يصبح القرن إبستمولوجيا"(28). سؤال الإنارة Aufklärung يمتحن الافتراض الإبستمولوجي بحثا عن ملتقى طرق الحداثة الذي تتقاطع فيه جذور المعارف إفلاتا من هيمنة وقهرية المعرفة المطلقة والمغلقة(*)، "حين يحضر العالم في وعينا، حين تتلطخ الذهنية بالمعرفي وتتعدد اللغة بوصفها علامات للغد، ننشبك بالحداثة ونتحكم في مهمازها، ننصت إلى الآخر ونستشرف ما هو الحديث"(29). لا تكفي فقط أدوات وآليات قادرة على "أبستملجة" épistémologisation القرن أو العصر وإنما أيضا تشكيل وعي (نقدي، إبستمولوجي، تأويلي، تاريخي…) يفاجئ الهالة المعرفية ويباغت الجبروت العلمي بمرح نيتشوي ورقصة ديونيزوسية. بين الوعي والآلية تتحدد معالم العنوان الذي نحتفظ به كلوعة على الجباه العنيدة "الحقيقة والمنهج" الغاداميري(**)، عندما تتجاوز "الحقيقة" صرامة "الميتودولوجيا" وقهرية المنهج بـ"أنطلجة" Ontologisation هيرمينوطيقية: محنة السؤال ومهنة المساءلة. "الحقيقة" في اللسان الإغريقي تعني "إنارة وكشف" aletheia، إنه "المصباح" الذي تحلم به الكتابة البختية قصد تنفير عتمة اللغة-المسكن ليسكنها "الدازاين" Dasein العربي المحتاج "إلى تلك الألفة النادرة لنكون في قلب الإشكاليات نتدرب على الاختلاف ونختبر دهشة المعرفة ومقدار صمودها لنستنطق معيارية كل بلاغة مستخدمة الآن (اليوم) لتسمية مجهول الحداثة"(30).

ليسمح لنا نيتشه أن نستعير عبارته ونقول: "هكذا تكلم بختي"… بلغة نووية تركت وراءها هاوية سحيقة تجمع في قعرها كتابة لا تزال متوهجة ومنبعثة من غياهب النسيان وأرمدة الحطام، كتابة لا تزال عنوان العنفوان في رمزية الزمان وهو القائل "أنا زمان رمزي"… فهو ينام في رمسه ويتكلم في همسه، يرانا ونراه كلما قرأناه وعرضنا أنفسنا على لفحات نصوصه واتبعنا خطوات نصيصه (آثار سيره) ومسارات عبوره وتعبيره. لم يكتمل بيته ومسكنه، أقصد أثره وكتابته، لكن المصباح والمكنون لا يزال يضيئ ليالي وجودنا ومتاهات حضورنا.

فإلى الصوت الذي أحيل على الصمت يود هذا الصدى إجلال روحه والاعتراف بفضلهn

 

 



(*)  جاك دريدا، ولد سنة 1930 بالأبيار (الجزائر العاصمة)، فيلسوف فرنسي شهير عرف برائد التفكيكية، عمل على التقريب بين الخطاب الأدبي والخطاب الفلسفي، له العشرات من الكتب (تناهز الخمسين كتابا). أستاذ بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية وأستاذ زائر في الولايات المتحدة الأمريكية.

بختي بن عودة باحث جزائري في النقد الأدبي والفلسفة، اغتيل في شهر ماي 1995 بوهران وهو في ريعان الشباب. عمل رئيسا لتحرير مجلة التبيين الصادرة عن جمعية الجاحظية في الجزائر. في جويليه 1994 نظم في وهران ملتقى مغاربيا حول فكر جاك دريدا.

مقالنا هذا بمثابة إجلال وتحية إلى روح المرحوم بختي بن عودة.

(1)  محمد شوقي الزين، (الترجمة والاختلاف: آثار بختي بن عودة)، مجلة كتابات معاصرة، بيروت/لبنان، عدد 34، تموز/آب 1998، ص8.

(2)  بشير مفتي، (آلية الحفر وطرق إنتاج المعنى عند بختي بن عودة)، جريدة الخبر (الجزائر)، الثلاثاء 21 ماي 1996، ص21.

(3)  بشير مفتي، المرجع نفسه.

(4)  Hans-Georg Gadamer, Wer bin Ich und wer bist Du ? Kommentar Zu Celans « Atemkristall », Suhrkamp Verlag, Frankfurt am Main, 1973, 1986.

هانس غيورغ غادامير، من أنا ومن أنت؟ شرح "بلورات النفس" لبول سيلان.

(5) رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدارالبيضاء، 1988.

(6)  أكتافيو باث، (كنت شجرة وتكلمت بستان حروف)، إعداد وترجمة محمد علي اليوسفي، مجلة الشعراء، عدد1، صيف 1998، بيت الشعر، رام الله فلسطين.

(7)  محمد لطفي اليوسفي، (الشعر وتحرير الكائن: قراءة في اللغة والمتخيل)، البحرين الثقافية، السنة الخامسة، أكتوبر 1998، عدد 18، ص120.

(*)  Sein, das verstanden werden kann, ist Sprache.

(8) بختي بن عودة، (كيف نقرأ ديريدا؟ "احتراق الرفات" نموذجا)، مجلة مدارات، تونس، عدد 5/6، خريف-شتاء، 1995-1996، ص38-53.

(9)  المرجع نفسه، ص40.

(10)  Héraclite, Fragments, texte établi, traduit et commenté par Michel Conche, PUF, 1986, fragment n°80, p279.

(11) محسن التومي، (اللغة ومفارقتها: لا معنى العالم. تناوبية الكلمات والأشياء)، كتابات معاصرة، عدد 32، كانون الأول 97-كانون الثاني 1998، ص30 وص34.

(12) حوار أجري معه في إذاعة فرنسا الثقافية يوم 19 مارس 1996 بعد صدور كتابه "Apories".

(13) بختي بن عودة، كيف نقرأ دريدا؟ المرجع نفسه، ص43.

(14)  Cristina de Peretti et Paco Vidarte, (la cendre et autres restes), in Passions de la littérature, Avec Jacques Derrida, Galilée, 1996, sous la direction de Michel Lisse, p309.

(*) "gastronomie" أو فن الطبخ والأكل والاستطعام.

(15) بختي بن عودة، كيف نقرأ دريدا؟ م.ن.، ص45.

(16)  م.ن.، ص51.

(17)  م.ن.، ص51.

(18)  محمد شوقي الزين، (ميشال دوسارتو. النص العرفاني: هيجان التجربة وسيلان الكتابة)، كتابات معاصرة، عدد 35، المجلد التاسع، تشرين الأول – تشرين الثاني 1998، ص6-13.

(19)  عمر مهيبل، (حول الهوية والاختلاف في الخطاب الجزائري المعاصر: بختي بن عودة أنموذجا)، دراسات عربية، السنة 34، عدد 5/6، مارس–أبريل 1998، ص135.

(20)  بختي بن عودة، (موقع لمقاربة اختلاف جاك دريدا)، كتابات معاصرة، عدد 15، المجلد الرابع، آب-أيلول 1992، ص37.

(21) بختي بن عودة، (كيف نقرأ دريدا)؟ م.ن.، ص51.

(22)  بختي بن عودة، (الخطيبي: سؤال الاختلاف ومتعة الكتابة)، مجلة المسار المغربي، عدد 20، سبتمبر 1988، ص57.

(23)  Hérarclite, Fragments, idem, fragment n°136, p467.

(24) بختي بن عودة، (المسألة الثقافية في الجزائـر : الأسئلة الصعبة أو ضياع العلامة)، المسار المغاربي، 28 أفريل 1992، ص22.

(25)  Sarah kofman, Lectures de Derrida, Galilée, 1984, p44.

(26) ابن عربي، الفتوحات المكية، الجزء الأول، ص70 (دار صادر، بيورت، د.ت).

(27) بختي بن عودة، (موقع لمقاربة اختلاف جاك دريدا)، م.ن.، ص39.

(28) بختي بن عودة، (مقاربة العلوم الإنسانية في الجزائر: في فوضى الدال ونكوص المعنى)، مجلة التبيين، الجزائر، عدد 10، 1995، ص100.

(*) غادامير يتحدث عن الـHerrschaftswissen، في الألمانية تعني هيمنة المعرفة أو تضايف المعرفة والسلطة عند ميشال فوكو.

(29) بختي بن عودة، مجهول الحداثة أو السؤال الناقص للكينونة، جريدة الشروق الثقافي، عدد 37، 7 أفريل 1994، ص11.

(**)  Hans-Georg Gadamer, Wahrheit und Methode : GrundZüge einer philosophischen Hermeneutik, Tübingen, 1960 ;

الحقيقة والمنهج: القواعد الأساسية في فن التأويل الفلسفي.

(30) المرجع نفسه.