ص1    الفهرس    21-30

 

البلاغة ومقولة الجنس الأدبي

 

محمد مشبال

 

إن الجنس الأدبي بهذا المعنى حاضر في النقد والقراءة؛ فهو عامل في التواصل الأدبي يرسم "أفق انتظار" القارئ، باعتباره مجموعة من الخصائص البنيوية المكونة للجنس أو عرفا مستقرا وتقليدا شائعا. ولا شك أن هذا الأفق قابل للتحول وفق ما يطرأ على الجنس من تغييرات تفد مع كل نص جديد. وهذا قد يتسع أو يضيق، يكون عاما أو محددا بشكل دقيق؛ ففي حالة الشعر مثلا يكون هذا الأفق مرسوما بصورة عامة، بينما يميل في حالة "شعر الخمريات" إلى التحدد، حيث يستوعب جملة من السمات المرتبطة بهذا الجنس الفرعي.

 

توطئة:

يحاول هذا المقال أن يناقش الأفكار الآتية:

1 ـ إن لكل جنس أدبي جماليته الخاصة وبلاغته المتميزة، وهذا ما يجعل اللغة خاضعة في بنائها ووظيفتها لمكونات الجنس الذي تنتسب إليه. ولعل هذه الفكرة أن تسعف الباحث المعاصر في إعادة قراءة موروثه النقدي والبلاغي، على نحو يكشف عن أصوله الجمالية ويضطلع بتفسيرها.

2 ـ يعد الشعر الجنس الأدبي


(*) الذي وجه النظر البلاغي القديم، على الرغم من حديث البلاغيين عن أنماط تعبيرية أخرى كالخطابة والترسل، وإشاراتهم القليلة إلى المقامة والنادرة والخرافة؛ لقد كان الأسلوب الشعري معيارا جماليا بلور جهاز البلاغة القديمة وحال دون استشرافها لآفاق أسلوبية مغايرة ساهمت في تشكيلها أجناس أدبية لم تحظ بالمكانة اللائقة بها في تاريخ الأدب العربي وإن لم تعدم هذه المكانة على المستوى الشعبي.

3 ـ إن التفاعل بين الأجناس الأدبية لا يتنافى مع تمايز كل جنس بأسلوبه الخاص. وإذا كان البلاغيون القدامى لم يضعوا اليد على هذه الخصائص المميزة، فقد كان لعنايتهم الكبيرة بالشعر الأثر القوي في صياغة أصوله الجمالية وسماته الأسلوبية، التي لم يحظ بها جنس أدبي آخر.

الجنس الأدبي وجماليات اللغة:

لا تستمد اللغة جماليتها من تكوينها الذاتي فقط، أي باعتبارها أصواتا وتراكيب ومجازات ذات طاقة تأثيرية مباشرة، ولكن أيضا من علاقتها بالجنس الأدبي الذي تذعن له في صوغ أبنيتها، إذ تصبح اللغة بموجب هذه العلاقة في أفق جمالي جديد، حيث يعمد المبدع إلى نسج خيوطها واختيار ألوانها وفق ما يقتضيه هذا الإطار من مكونات وثوابت. على هذا النحو تتحدد جمالية اللغة وأسلوبيتها بوظائفها التصويرية في سياق جنس أدبي محدد، وكأن طاقة اللغة في التأثير تكمن في الجنس الأدبي نفسه، باعتباره أداة فنية متميزة يناط بها توصيل رسالة إنسانية.

إن للجنس الأدبي جمالية نابعة من تقاليده الخاصة في التعبير، وهذه التقاليد هي مكوناته الفنية الثابتة التي تفرض نفسها على أي مبدع مهما كانت أصالته في الخلق الفني، كما أنها تفرض نفسها على القارئ في ممارسته النقدية والتأويلية. وبذلك يصبح الجنس الأدبي معيارا يوجه الإبداع والنقد معا. ولأجل هذا فإن ما نسميه بجماليات اللغة ينطوي على ضرب من الإطلاق يتسع به مدلول "الجمالية" ليشمل أي استخدام فني للغة بصرف النظر عن طبيعة جنس الخطاب الذي ينتمي إليه. وغرضنا هنا إثبات أن ما ندعوه بجماليات اللغة، وإن كان يحمل قدرا من السمات الفنية المطلقة غير المقيدة بشروط الجنس الأدبي ومقتضياته، فإنه لا يمكنه أن يظل مفهوما مطلقا، إذ يؤكد واقع الإبداع اللغوي أن الممارسة الجمالية اللغوية لا تنفصل عن إطارها الفني الذي يرسم لها حدودها ويخط لها سمتها.

إن الإبداع اللغوي وإن كان خاصية كامنة في اللغة ذاتها، بوصفها طاقة من الإمكانات المحتملة التي يضطلع المبدع باستخراجها، فإنه لم يكن ليتحقق إلا عبر وسيط جمالي استقرت أعرافه وتقررت تقاليده؛ هذا الوسيط هو "الجنس الأدبي" الذي يقوم في الوعي النقدي باعتباره أداة فنية اجتماعية تذعن لها اللغة في تشكلاتها ووظائفها الجمالية. وليس في هذا أي تنكر لدور المبدع في التشكيل اللغوي، وإن تم تأكيد سلطان التقاليد الجمالية الموروثة في توجيه المبدع وصياغة اللغة. وعلى هذا النحو تدين اللغة في تكوين جماليتها لمبدأ الجنس الأدبي، باعتباره سلطة ذات مكونات فنية تتحكم في بنية اللغة ووظيفتها.

وبناء على ما سبق ذكره يظهر أن للغة تجليات جمالية، وأن ما يصطلح عليه اليوم بـ"الأدبية" ينبغي ألا يطمس الفروق التعبيرية بين مختلف الأجناس الأدبية. فعلى الرغم من اشتراكها في صفات توحد بينها، فإن الاختلاف بينها يظل "جوهريا بدونه تخفق تلك الأجناس في أداء رسالتها الإنسانية التي تشترك فيها جميعا بتوافر الأداة اللغوية الخاصة بكل منها"[1].

إن الإقرار باختلاف الأداة التعبيرية بين الأجناس الأدبية هو اعتراف بأحقية كل واحد منها في الوجود والتعبير عن الإنسان بقيمه الغنية وتصوير حالاته المتباينة باعتباره كائنا تتوزعه أغراض وشروط تتجسد في هذا الاختلاف القائم بين وسائل التعبير في الأجناس الأدبية. ولا شك أنه قد يحدث لأداة تعبيرية في جنس أدبي معين أن تتجاوز نطاق جنسها لتصير وسيلة من وسائل التعبير في جنس أدبي آخر، غير أنه ينبغي لها أن تخضع في المحصلة النهائية لشروط بيئتها الجديدة، وهذا هو الذي يفسر لنا لماذا لا يفضي تفاعل الأجناس الأدبية إلى محو الحدود الفاصلة بينها نهائيا.

وعلى هذا النحو تصير موافقة الأسلوب لسياقه الجنسي معيارا جماليا تتقوم به التشكيلات الفنية المختلفة للغة؛ فالصور الشعرية على سبيل المثال لا قيمة لها من حيث طاقتها الشعرية في جنس أدبي مثل المسرح، وإنما تتجلى قيمتها في مواءمتها للمكونات المسرحية، أي حظها من الطاقة الدرامية[2]. كما أن أنواع المجاز البلاغي التي تضطلع بوظيفتها التأثيرية في الشعر لا تغدو كذلك في جنس الرواية إلا إذا اندغمت في البنية الكلية للعمل الروائي باعتباره سياقا أدبيا ذا مكونات سردية أصلا[3].

إن مبدأ ارتباط اللغة بسياقها التعبيري فكرة لم يعدمها موروثنا البلاغي والنقدي، غير أنه يصعب القول إنها من أصوله التي كان لها تأثير في طبيعة نظرية اللغة الأدبية، ذلك أن معظم الباحثين المعاصرين[4] يؤكدون أن التصور العربي القديم للأدب لم ينبن على مقولة الأجناس، وإنما قام على تصنيف ثنائي تمثل في القسمين الكبيرين: الشعر والنثر. ولا نكاد نجد بعد ذلك أي حديث عن علاقة الأسلوب بالأجناس الأدبية شعرية كانت أم نثرية إلا ما اتفق لنا العثور عليه من ملاحظات يسيرة ومتفرقة لا تشكل قاعدة من قواعد تفكيرهم النقدي أو الجمالي. ومع ذلك فهذا ينبغي ألا يحول دون النظر إلى التفكير البلاغي الموروث باعتباره حصيلة تأمل طويل ودقيق في أساليب الشعر، بصرف النظر عن أنواعه وعن أنه لم يكن للنثر بأنواعه المختلفة التي عرفت في أدبنا القديم أمثال المقامة والخبر والنادرة والخرافة والرسالة وغيرها أي تأثير فيه، وهذا إن أفاد غياب مقولة الأجناس عن تفكيرنا القديم، فإنه من جهة أخرى يفيد السلطة التي "يتمتع" بها جنس الشعر في هذا التفكير، الذي ظل منذ بداياته الأولى يتحرك في نطاق جمالياته الآسرة، دون أن يعني ذلك –بالطبع- أنه كان يستوعب أنواعه المختلفة كالخمريات والطرديات والموشحات وغيرها. فقد ظلت هذه الأنواع على هامش "القصيدة" التي كانت قد استبدت بالنقد الأدبي، ووجهت طرقه وأسست مفهوماته. ولأجل ذلك أمكننا القول إن التراث البلاغي والنقدي مدين، في صياغته لمصطلحه ومبادئه، لجنس أدبي عام هو الشعر، الذي كان يساوي عندهم القصيدة بأغراضها المعروفة التي لا ننكر أنها كانت تمثل بالنسبة إليهم أنواعا داخل إطار القصيدة، وهو ما حملهم في مناسبات كثيرة على إجراء روابط بينها وبين الأساليب التي يختارها الشاعر، وإن لم يفعلوا ذلك فيما يتعلق بالأنواع الشعرية التي انحرفت في شكلها عن بناء القصيدة. وهذا ما يؤكد سلطان الشعر بمفهومه العام على خطابنا البلاغي والنقدي القديم.

ولكن ماذا نقصد بالشعر، الذي نفترض سيطرته على الخطاب النقدي والبلاغي، هل هو النص المثالي، الذي تشكل النصوص الحقيقية بالنسبة إليه مشتقات قد تتطابق معه كثيرا أو قليلا؟ هل هو الجوهر المثالي الخفي والبنية الكلية، كما تذهب إلى ذلك النظريات الأنطلوجية التي تعتبر "الجنس" عنصرا خارجيا متعاليا مما يجعل منه مفهوما تصنيفيا بالدرجة الأولى ليس همه تقصي البعد الدينامي للمكون التجنيسي؟[5].

يقترح شايفر Schaeffer[6] مفهوما جديدا يحاول به الإجابة عن سؤال حول ما هو الجنس؟ الذي أثير في الدراسات الفلسفية، حيث أصبح إشكالا أنطولوجيا لا صلة له بنظرية الأدب. وما دامت صيغ الأجوبة المقدمة في هذا الإطار غير مقنعة، فقد عمل "شايفر" على اقتراح صيغته المستمدة من الأبحاث الإنشائية المرتبطة مباشرة بالحقل الأدبي. وهكذا قدم تعريفا نصيا خالصا معتبرا التجنيس La générecité  مكونا قائما في النص يمكن النفاذ إليه. يقول في هذا الصدد: "يفترض في نظرية الأجناس، بكل بساطة، أن تعنى بمجموعة من التشابهات النصية والشكلية وخصوصا الموضوعاتية؛ والحق أنه يمكن تفسير هذه التشابهات على نحو تام بتحديد التجنيس باعتباره مكونا نصيا، أعني العلاقات ذات الخاصية التجنيسية، باعتبارها مجموعة من أشكال إعادة استثمار (تكاد تكون تحويلية) لهذا المكون النصي نفسه. فلئن كان الأدب يعد تحديدا مؤسسة، فإن التجنيس يمكن تفسيره تماما كما لو أنه لعبة من التكرارات والمحاكاة والاقتباس الخ. إنه النص في ارتباطه بنص آخر أو بنصوص أخرى"[7].

وبناء على هذا فإن جنس الشعر يغدو شبكة من التشابهات الموجودة بين مجموعة من النصوص الشعرية. وهذه التشابهات لا تعني أن النص مجرد تكرار للنموذج التجنيسي الذي تكونه طبقة من النصوص، التي يفترض أنها سابقة في الوجود، بل إن هذا النموذج يصير مادة من المواد التي يستخدمها النص. فالتجنيس مكون دينامي[8] يقوم على نظامي التكرار والتحويل، وهذا ما يجعله ذا بعد زمني وتاريخي. ولعل هذا ما دفع "شايفر" إلى استخدام مصطلح "التجنيس" بدل "الجنس"، الذي اعتبره معياريا وغير قادر على استيعاب المقومات التجنيسية الجديدة التي تتضاعف في النصوص الإبداعية العظيمة.

إن النظر إلى الشعر بوصفه جملة من الثوابت والمتغيرات، أو المكونات والسمات النصية المتحققة، ينأى بمفهوم الجنس الأدبي عن مثاليته أو عن معياريته، ويجعله مكونا نصيا ديناميا خاضعا للتحول المستمر. يقول غلوينسكي Glowinski في هذا الصدد: "لا يوجد جنس أدبي يؤول إلى ما يمثل مجال عناصره الضرورية فقط؛ فهو لا يتحدد إذن بثوابته وحدها. إنه يمتلك حقلا هائلا من الإمكانات المتنوعة والمتغيرة والمتعارضة أحيانا"[9].

ومع ذلك فالقول بماهية الشعر لا يتناقض مع التغيرات الهائلة التي خضع لها هذا الجنس من التعبير الأدبي، ذلك أن "الشيء، أعني ماهيته الثابتة، لا يعرف إلا من خلال تغيراته" كما أكد "كارل بوبر": "فالماهية بمعنى ما، هي أيضا تفترض التغير، وبذلك تفترض التاريخ.. فالماهية يمكن تفسيرها بأنها مجموع أو مصدر الإمكانيات القائمة في الشيء، كما يمكن تفسير التغيرات (أو الحركات) بأنها تحقق الإمكانيات الكامنة في الماهية أو خروج هذه الإمكانيات إلى الفعل"[10].

على هذا النحو يمكننا القول إن للشعر طبيعة ثابتة، يتأتى لنا تعرفها بواسطة تحققها الفعلي. فتراكم النصوص الشعرية المختلفة هو الذي يجعل القبض على هذه الماهية أمرا ممكنا. وهذا لا يعني أن للشعر مفهوما ثابتا لا يتغير عبر التاريخ. فالواقع يثبت أن هذا المفهوم غير مستقر مما يتعذر معه وضع تعريف يحدده، وهو ما حمل ياكبسون Jakobson  على تعويض مفهوم الشعر بالوظيفة الشعرية باعتبارها مكونا نصيا قابلا للتحديد[11].

ومن الواضح أن ما اصطلح عليه "ياكبسون" بالشاعرية La poéticité أو الوظيفة الشعرية هو مكون ثابت أراد به تحديد لغة الشعر، أو بتعبير آخر، إنه معيار لتجنيس الشعر. وجملة القول، لا يعدم الباحث في التفكير الأدبي الإنساني حول الشعر، وجود مكونات ومعايير ثابتة تحدد طبيعته. ولكن حسبنا الآن تأكيد أن المقصود بـ"جنس الشعر" الذي نتصور أن البلاغة العربية تدين له في صياغة أصولها، هو جملة من الثوابت الأسلوبية والجمالية التي تجلت عبر تراكم نصوص الشعر باختلاف أنماطها وأشكالها. وسواء اصطلحنا عليها بالشاعرية أو "التجنيس الشعري" أو غيرهما، فإن الغاية واحدة وهي السعي إلى إثبات أن للشعر ماهية يمكن تعرفها أو امتلاكها مثلما أن للأجناس الأدبية الأخرى هذه الماهية التي لا تتناقض –كما أسلفنا- مع التحويلات التي تخضع لها.

1 ـ الجنس الأدبي والاختيار الأسلوبي:

لا شك أن تحديد "الأسلوب" يعد من أبرز قضايا الأسلوبية المعاصرة[12]، حيث قدمت في هذا الشأن جملة من الصيغ النظرية المتباينة سعيا لضبط هذا المفهوم، الذي أصبح موضوع هذا العلم اليافع، الذي نشأ في حضن اللسانيات، وإن كانت جذوره في البلاغة القديمة. ولا يعدم الباحث في تراثنا البلاغي العربي أفكارا صالحة لأن تكون مبادئ أو أسسا لتفكير أسلوبي عربي.

وإذا كانت مسألة تحديد الأسلوب لا تعنينا هنا بشكل مباشر، فلا شك أن في تأمل بعض الصيغ النظرية المقترحة لضبط هذا المفهوم ما قد يفتح لنا الطريق لتبين علاقة الجنس الأدبي بالأسلوب أو اللغة بشكل عام.

وربما كان تحديد الأسلوب باعتباره "اختيارا" من بين إمكانات عدة أو بدائل كثيرة متاحة للمبدع، يمثل إحدى أبرز الخصائص لضبط ماهية الأسلوب الأدبي ضبطا يقوم على مراعاة المكون التجنيسي، ذلك أن مفهوم الاختيار الذي يفيد اتساع مجال الحرية أمام المبدع في إنشاء الكلام، يفيد من جهة أخرى مجال القيود المفروضة عليه. فالأسلوب هو حصيلة تفاعل المبدع مع مجالي الحرية والقيد؛ فبقدر ما يكون حرا في الاختيار، بقدر ما تخضع هذه الحرية لمجموعة من الأعراف والتقاليد الأدبية التي يتقوم بها الجنس الذي اختار الكتابة في إطاره. وينبغي أن لا يفيد هذا أن مفهوم "الجنس" قيد يشد إليه الإبداع ويمنعه من حرية الحركة، ولكن ما نتوخى إثباته هنا هو أن مفهوم "الاختيار" ليس مطلقا. فالكاتب الذي اختار أن ينشئ أسلوبا ذا مواصفات معينة، هو خاضع بالضرورة لتوجيهات "الجنس الأدبي" الذي اختاره قبل ذلك. وهكذا يكون اختيار الأسلوب عملية تعقب اختيار جنس الكتابة، إذ تصبح خصائص هذا الأخير وسيطا يملي على المبدع اختياره الأسلوبي، ذلك أن الجنس الأدبي بأعرافه وتقاليده يمتلك وجودا سابقا على المبدع والنص المبدع. وبدهي أن يكون له حضور بشكل من الأشكال في الإبداع الأدبي أو الاختيار الأسلوبي.

"إن مفهوم الأجناس حاضر في مختلف النصوص على صعيد الإبداع"[13]، أي إن الجنس الأدبي يشكل "مؤسسة"[14] ذات قوانين بإمكان المرء أن يتوسل بها في التعبير عن نفسه، كما أن بإمكانه أيضا الالتحاق بهذه المؤسسة ثم إعادة تشكيلها بعد ذلك. وهذا يعني أن الجنس الأدبي يساهم في تشكيل النص، ولا يفلح كاتب في الإفلات من سلطته مهما بلغت درجة رغبته في التجديد: "والحق أن الأجناس الأدبية لها طابع عام وأسس فنية بها يتوحد كل جنس أدبي في ذاته ويتميز عما سواه، بحيث يفرض كل جنس أدبي نفسه بهذه الخصائص على كل كاتب يعالج فيه موضوعه مهما كانت أصالته.. ولا يستغني عن الإحاطة بهذه الخصائص الفنية كاتب ولا ناقد من النقاد"[15].

إن القول بحضور الجنس الأدبي في تشكيل النص لا يعني إلغاء فرادة هذا النص وتميزه أو رهن الإبداع بمواضعات مقررة وقواعد جاهزة، وإن كان شيء من هذا يسارع إليه الفهم ويقع عليه الخاطر لأول وهلة، بل إنه يعني أن الإبداع لا يتم إلا بالامتثال لأصول الجنس الذي يبدع الكاتب في إطاره، وينبغي أن يكون هذا الامتثال جزئيا[16]، حيث إن الكاتب الجيد يسعى دائما إلى إثبات أصالته. فالنصوص العظيمة تعمل في الواقع على مضاعفة[17] مكونات الجنس الأدبي الذي تتفاعل معه، وهو ما قد يبدو خروجا أو انتهاكا للمعايير التي يفرضها الجنس. ولعل هذا ما حمل صاحبي نظرية الأدب على أن يقولا إن "الكتاب العظام –جملة وتفصيلا- قلما يكونون محدثي أنواع جديدة"[18]. فهم يستوعبون بلا شك الصنعات الأسلوبية، التي تمثل جوهر الجنس الأدبي، ويدركون طاقاته قبل إقدامهم على اقتراح مقومات أسلوبية جديدة يتطور بها الجنس الأدبي نفسه. وعلى هذا النحو يصبح مفهوم الجنس ديناميا ومكونا نصيا، كما عبر عن ذلك "شايفر".

ويعد القول بمعيار الجنس الأدبي في تشكيل اللغة إقرارا بتعدد الأساليب، إذ يصبح لكل جنس أدبي أسلوبه البنائي الخاص به. وقد عبر "أحمد الشايب" عن هذه الفكرة النقدية بقوله: فالموضوع هو السبب الأول الذي يقوم عليه اختلاف الأساليب، ويراد بالموضوع الفن الذي يختاره الكاتب ليعبر به عما في نفسه، علما أو أدبا، نظما أو نثرا، مقالة أو قصة أو رسالة أو خطابة.. فلكل فن منها أسلوبه الخاص الذي يلائم طبيعته"[19].

والحق أن الربط بين الأسلوب والجنس الأدبي يمثل مجالا من مجالات الدرس الأسلوبي المعاصر، حيث تتجاوز الأسلوبية الأدبية دراسة كاتب أو عمل مفرد أو الخصائص المميزة لمجموعة من الكتاب ولحقبة معينة، إلى دراسة أسلوب جنس ما، أي ما اصطلح عليه ستيفن أولمان Stephen Ullman بـ"أسلوبية الجنس"، ذلك أنه في دراسته للأسلوب في الرواية الفرنسية الحديثة، سعى لتوجيه العناية إلى ما أسماه بثوابت اللغة الروائية، أي تلك المشكلات الأسلوبية والطاقات المحتملة الكامنة في الجنس نفسه[20].

ولعل فكرة "أسلوبية الجنس" أن تؤول في الأصل إلى ميخائيل باختين Michail Bakhtine الذي عمل في كتاباته على ربط الدراسة الأسلوبية بمعيار الجنس الأدبي، حيث استطاع أن يخلص مفهوم الأسلوب من بعده الجمالي المطلق، وأن يجذبه خارج الحقل الشعري الذي سيطر على اهتمامات الأسلوبيين. وبذلك قدم مفهوما جديدا للأسلوب نابعا من تمحيص دقيق ومعاينة كاشفة لجنس الرواية. إنه يؤكد "أسلوبية الجنس الأدبي" ويرى أن "فصل الأسلوب واللغة عن الجنس الأدبي أدى، إلى حد كبير، إلى تمحور الدراسة على الفروق الأسلوبية وحدها في المقام الأول، سواء ما اتصل منها بأفراد معينين أو باتجاهات معينة، بينما تم تجاهل الطابع الأساسي الاجتماعي للأسلوب، فحجبت المصائر الصغيرة للتغيرات الأسلوبية المتصلة بفنانين معينين وباتجاهات معينة، المصائر التاريخية الكبرى للكلمة الفنية المتصلة بمصائر الجنس الأدبي"[21].

إن ربط الأسلوب بمقولة "الأجناس" على نحو ما أسفر عنه تحليل "باختين" للرواية، ساهم في تقديم مفهوم جديد للأسلوب تجاوز به الأبعاد الجمالية المطلقة التي اكتسبها في إطار الأسلوبية التقليدية المرتبطة أساسا بالشعر. وواضح أن المقصود هنا بالأسلوبية التقليدية تلك التي أرست قواعدها على المنظور اللساني الوثيق الصلة بدراسة الجملة، وهو ما رشحها لتكون علما خاصا بالشعر دون غيره من الأجناس الأدبية، وهذا لا يعني بالطبع أن الأسلوبيات اللسانية تمثل نمطا من التفكير النابع من صميم الجنس الشعري ولكن ما أقصده هو أن طبيعة الشعر النوعية شكلت حقلا ملائما لنمو هذا العلم، الذي بدأ مرتبطا بتقصي الخصائص الأسلوبية للغة الطبيعية[22]، بينما كانت الأجناس الأدبية التي تختلف أسالبيها عن الشعر مجالا بعيدا عن النظر الأسلوبي بمفهومه الدقيق. فإذا شئنا أن نلتمس مكانا ما للأجناس النثرية في خريطة الدراسات الأدبية المعاصرة، فمن المؤكد أن الأسلوبيات اللسانية ليست المكان المبتغى.

ولعل شيئا شبيها بهذا قد حصل للتفكير البلاغي العربي القديم، الذي بدأ مرتبطا بجماليات اللغة العربية، كاشفا عن خصائصها التعبيرية والفنية. فهذه اللغة، التي قال عنها ابن جني إنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"[23]، تتجاوز وظيفتها التواصلية النفعية إلى وظائف جمالية وقف التفكير البلاغي الموروث يتأملها بشغف كبير، لم يلبث أن تمخض عن "أبواب" أو مباحث هامة تمثل حصيلة استقصاء دقيق لجماليات هذه اللغة التي وصفت بالحكمة والإتقان. والحق أن هذا التفكير البلاغي قد وجد في الشعر ضالته المنشودة، حيث اعتبر هذا الجنس من الكلام شاهدا على أساليب العرب. فهو النموذج الأمثل الذي يستمد منه العالم الحجة لإثبات خصائص العربية في التعبير الجمالي. وهكذا تحولت بلاغة الشعر إلى سند يترافع إليه علماء اللغة والبلاغة للدفاع تارة عن حكمة العربية وتارة عن إعجاز القرآن؛ فهل يصدق أن نقول إن البلاغة العربية تدين في صياغة أصولها لجنس الشعر؟

إذا انطلقنا من أن للشعر ماهية ثابتة هي حقيقة وجوده بوصفه جنسا أدبيا متميزا بأسلوبه عن الأجناس الأخرى، حيث يقوم بناؤه على استثمار الإمكانات الجمالية لمستويات اللغة الصوتية والنحوية والدلالية، فإننا سنعتبر الشعر الجنس الأدبي الذي صدرت عنه معظم أصول البلاغة وسماتها. وتجدر بنا الإشارة إلى أن الروابط التي يمكن إيجادها بين الشعر والبلاغة في تراثنا، لا تتنزل منزلة التفكير النظري المنظم في بلاغة الجنس الأدبي أو أسلوبيته، بل هي تلك الروابط التي يسعى القارئ المعاصر إلى إعادة صياغتها وفق ما تخوله له المادة البلاغية الموروثة من إمكانات التشابه والتلاقي بينها وبين الأفكار الأسلوبية الراهنة.

إن وصفنا للشعر بأنه يشكل الجنس الأدبي الأكثر حضورا في صياغة أصول البلاغة العربية ومفهوماتها، لا ينفي حضور أجناس الخطاب الأخرى، ولكنه حضور يتم بواسطة الأسلوب الشعري الذي امتد إلى الخطابة والرسالة والمقامة وغيرها من الأجناس، ولم ينحصر في القصيدة فقط.

ولا شك أن هناك اختلافا واضحا بين قولنا إن البلاغة العربية مدينة في أصولها للشعر وبين وصفنا لها بأنها بلاغة "الجنس الأدبي". فإذا كان الرأي الأول صحيحا، من وجهة نظر هذه الدراسة، فإن الرأي الثاني لا يمثل بالنسبة إلينا سوى "حلم" نقدي؛ وإلا فمن يجرؤ على ادعاء أن موروثنا البلاغي الذي نشأ مرتبطا بأصول النحو قد تجاوز حدود الجملة إلى التفكير في الأجناس الأدبية؟

ومع ذلك فالقارئ العربي لا يعدم في تراثه نظرات ثاقبة تشير إلى علاقة الأسلوب بالأجناس فيما يشبه الفكرة النقدية المبنية بناء محكما. وربما كان ابن خلدون أوضح من صاغ هذه الفكرة في تراثنا. فهو قد أنكر استعمال "أساليب الشعر" في "المخاطبات السلطانية" من مثل الإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات والتزام التقفية وكثرة الأسجاع، يقول: "واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله ولا تصلح للفن الآخر ولا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر والحمد والدعاء المختص بالخطب"[24]. ويقول أيضا: "إن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة؛ فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول.. أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين.. وأمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام ومذاهبه"[25]. غير أن حديث ابن خلدون عن الأسلوب باعتباره صورة ذهنية للتراكيب أو قالبا يبني فيه الأديب تراكيب اللغة ومنوالا ينسجها عليه، يؤذن بتحجير أساليب الأجناس بتحويلها إلى "أساليب ذهنية"[26] أو قوالب تستقر في أذهان الأدباء الذين يعمدون إلى ملئها، وكأن لا دور لتجربة المبدع الشخصية في صياغة الأسلوب.

وإذا ما تجاوزنا عن المزالق، التي يمكن أن تنجم عن تصور ابن خلدون للأسلوب باعتباره "قالبا كليا مجردا في الذهن"[27]، وهو ما يطمس الدور الذي تضطلع به التراكيب اللغوية المتحققة، فإن تقدير العلاقة بين الأسلوب والجنس الأدبي، يمثل خطوة هامة نحو التفكير في أسلوبية الجنس الأدبي وبلاغته، ذلك أنه يقر حضور الجنس في توجيه الاختيار الأسلوبي للمبدع. وهو ما يتجلى في خضوع الشعراء للأساليب المقررة في الإطار الفني الذي يكتبون فيه، وإن كان ذلك لا يتحقق إلا جزئيا؛ فالشاعر مطالب بالإبداع والخلق. والحق أنه كانت لنزعة ابن خلدون التعليمية آثار في هذا التصور الذي قدمه عن الأسلوب. وحسبنا هنا تلك الوشيجة التي ألمع إليها بين الأساليب والأجناس.

وتتمثل خلاصة فكرة ابن خلدون عن صلة الأساليب بالأجناس في أن لكل جنس أدبي طرقا وأشكالا فنية ينبغي الوعي بها وتمثلها، غير أن هذه الطرق التي اعتبرت أساليب، لا تشير إلى الصياغة اللغوية في حد ذاتها، أي باعتبارها جملة من التراكيب التي يبدعها الشاعر داخل الإطار الأسلوبي النوعي الذي يتحرك فيه. من هنا كانت نظرة ابن خلدون تمنح الأولوية للطريقة المقررة على حساب السمات اللغوية التي يبدعها الشاعر. ولأجل ذلك انحصر حديثه عن الأسلوب في تلك الطرق التي يمكن تعلمها بكثرة الارتياض في الشعر، على الرغم من وعيه بأن الأسلوب يمثل مجموعة من المقومات المميزة لجنس أدبي معين، على نحو ما ظهر في تفريقه بين أسلوبي الشعر والرسالة.

والحق أنه على الرغم من اشتراك الأجناس الأدبية في الأداة، المتمثلة في اللغة بمفرداتها وتراكيبها ودلالاتها، إلا أنها تختلف في طبيعة تعاملها مع هذه الأداة، حيث تفرض هذه الأجناس بتكوينها المتميز تأثيرها في تشكيل اللغة بذخيرتها الصوتية والنحوية والمجازية. وهكذا تستند طاقات اللغة إلى الطابع العام المميز للجنس الأدبي. فـ"للأجناس الأدبية من حيث مواقفها العامة، أثر في العبارات والتراكيب حتى تتلاءم وطبيعة الجنس الأدبي المصوغة فيه"[28]، كما قال محمد غنيمي هلال وهو الرأي نفسه الذي عبر عنه صلاح فضل بقوله: "إن الخواص الجوهرية لطبيعة رؤية وأسلوب كل جنس من الأجناس الأدبية تنعكس على النسيج اللغوي له وعلى بنية الصورة فيه.."[29].

ولم يكن تفكيرنا البلاغي والنقدي الموروث يجهل العلاقة القائمة بين الجنس الأدبي والأسلوب أو اللغة، ولكنه، لأسباب كثيرة مرتبطة بظروف حضارية، لم يعمد إلى طرحها. فقد اطمأن إلى ما حصله من مفهومات ومصطلحات كانت نتاجا لتفاعله القوي مع الشعر ممثلا بـ"القصيدة" أساسا، ولم يلتفت إلى ما كانت تنجبه الثقافة العربية من أجناس أدبية أخرى لها أساليبها الخاصة بها؛ لقد كاد الشعر يكون "الجنس الأدبي" الوحيد الذي ساهم في بناء صرح البلاغة والنقد، دون أن يصبح إشكال "الأجناس الأدبية" موضوعا من موضوعاتهما.

2 ـ الجنس الأدبي معيارا للقراءة:

لقد أظهرت الفقرات السابقة أن اللغة تستمد جانبا من جمالياتها وطاقاتها في التعبير الفني من الجنس الذي تنتمي إليه، ذلك أن الإمكانات التصويرية التي تزخر بها اللغة تؤول إلى ما يضطلع به الجنس الأدبي من أدوار في إنائها وتزويدها بما يمكنها من خلق آفاق تعبيرية جديدة. وهكذا تتعدد طاقاتها الفنية وتتوزع أساليبها الجمالية وفق تنوع الأجناس وتعددها.

ولا شك أن هذا التعدد الذي تتسم به اللغة الأدبية، من شأنه إخراج صفات: "البلاغة" و"الجمالية" و"الأسلوبية" من نطاقها الواسع والمطلق إلى نطاق محدد يقوم على ضرورة الإقرار بوجود مستويات من "الجمالية" تتباين وفق تعدد أجناس الكلام، وهكذا يصير لكل جنس أدبي معاييره الأسلوبية التي ينبغي للكاتب والناقد معا الوعي بها؛ فالكاتب لا ينشئ نصا من النصوص خارج الأعراف المعروفة في عصره. فهو يلجأ عادة إلى اختيار الكتابة في جنس أدبي معين، وهذا الاختيار يشكل جزءا من مقاصده ينبغي للناقد الأدبي الصدور عنها في وصفه لعمله أو تقويمه.

إن محاسن "نظرية الأجناس" تتمثل، كما يقول "غراهام هو": "في المبدأ الصحيح والضروري القائل بأن كل نوع أدبي يقدم درجة إشباعه الخاصة به، ويعمل حسب مستواه الخاص به، كما أن له إجراءه المناسب له"[30]،أي إن معيار الجنس الأدبي يسمح للناقد بقراءة  النص قراءة صحيحة؛ فليس له أن يطالبه بما ليس من خصائصه المكونة لماهيته. فكل نص يفتح أمام قارئه أفقا جماليا يصبح معيارا موجها للقراءة. إن الناقد "مطالب بأن يجعل مفهوم الجنس حاضرا في ذهنه، عاملا في نتائج بحثه ومكيفا للأساليب الملحوظة ومحددا لوظائفها ومتكيفا بها"[31].

وينبغي ألا يفهم من ذلك أن مفهوم الجنس الأدبي باعتباره معيارا لقراءة النص، يمثل قواعد تقيد حرية المبدع وترسم له الحدود، بل هو عبارة عن إطار منهجي يستحضره الناقد في أثناء الوصف، حيث تصير القراءة اكتشافا لحدود الجنس الأدبي على نحو ما تتجلى في النصوص المبدعة، وبذلك تصبح وظيفته استكشافية؛ فهو يصف النص ويميز هويته الأدبية مما "يتيح بدوره تبلور أساس ضابط لعملية التقويم التي تليه"[32]. ومعنى هذا كله أن "فكرة الجنس الأدبي فكرة تنظيم منهجي لا يمكن أن تنفصل عن النقد"[33].

إن الجنس الأدبي عندما يصبح معروفا من لدن "القارئ"، فإنه يصبح عاملا في قراءته. وكما يقول غلوينسكي: "إن القراءة نفسها تتحدد بالجنس، ذلك أن المتلقي يكيف جهازه المعرفي لمقتضيات الجنس الذي يمثله نص معين. وهو يسعى طوال قراءته إلى تبني موقف مطابق لما يقترحه النص أو يفرضه. وبهذا المنظور يغدو الجنس ضابطا للقراءة، يوجه مجراها أو يحدد هذا المجرى إلى حد ما. ولم يكن ليضطلع بهذه الوظيفة لولا انتماؤه إلى تقليد أدبي مألوف لدى القارئ.. ومع ذلك، فهذا لا يعني إطلاقا بأن الجنس كيان ذو طبيعة محافظة.. فالجنس يصل النص المقروء بتقليد معين دون أن يخضعه له كلية"[34].

إن الجنس الأدبي بهذا المعنى حاضر في النقد والقراءة؛ فهو عامل في التواصل الأدبي يرسم "أفق انتظار" القارئ، باعتباره مجموعة من الخصائص البنيوية المكونة للجنس أو عرفا مستقرا وتقليدا شائعا. ولا شك أن هذا الأفق قابل للتحول وفق ما يطرأ على الجنس من تغييرات تفد مع كل نص جديد. وهذا قد يتسع أو يضيق، يكون عاما أو محددا بشكل دقيق؛ ففي حالة الشعر مثلا يكون هذا الأفق مرسوما بصورة عامة، بينما يميل في حالة "شعر الخمريات" إلى التحدد، حيث يستوعب جملة من السمات المرتبطة بهذا الجنس الفرعي.

إن اعتبار الجنس عاملا في التواصل الأدبي يعني أنه يمثل ما يصطلح عليه "غلوينسكي" بـ"الوعي الأجناسي". ودون أن نخوض في التفاصيل الدقيقة التي يثيرها موضوع الأجناس، لا شك أنه، بعد أن قدمنا مجموعة من الأفكار حول الدور الذي يضطلع به الجنس الأدبي في توجيهه صيغ القراءة واستدعاء كفاية المتلقي، يمكننا افتراض أن البلاغة العربية القديمة، باعتبارها لونا من المعرفة المرتبطة باللغة، كانت تقوم على نوع من الكفاية الشعرية بالمفهوم العام لجنس الشعر؛ أي باعتباره مجموعة من الأساليب التي استقرت في الأذهان وصارت تقاليد وأعرافا جمالية مكونة الذوق الأدبي المهيمن الذي لم يفلح في زحزحته عن مكانه ما استحدث من أجناس أدبية في الثقافة العربيةn

مراجع مباشرة:

ابن جني، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986.

ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار الرشاد الحديثة.

رينيه ويليك وأوستين وارين، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984.

صلاح فضل، علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته، الطبعة الأولى، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985.

عبد السلام المسدي، النقد والحداثة، الطبعة الأولى، الدار العربية للكتاب، تونس، 1984.

غراهام هو، مقالة في النقد، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، مطبعة جامعة دمشق.

كارل بوبر، بؤس الإيديولوجيا، ترجمة عبد الحميد صبره، الطبعة الاولى، دار الساقي، بيروت، 1992.

محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، الطبعة الأولى، مكتبة الإدريسي، تطوان، 1994.

محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، الطبعة الخامسة، دار العودة ودار الثقافة، بيروت.

محمد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة-القاهرة.

محمد الهادي الطرابلسي، بحوث في النص الأدبي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1988.

ميخائيل باختين، الكلمة في الرواية، ترجمة يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1988.

M.Glowinski, (Les genres littéraires), in Théorie littéraire, problèmes et perspectives, 1989, Presses universitaires de France.

R.Jakobson, Huit questions de poétique, 1977, Le Seuil.

J.M.Schaeffer, (Du texte au genre), in poétique, n°53, 1983.

S.Ullman, The image in the modern french novel, 1963, Oxford Blackwell.

                 Style in the french novel, 1979, Cambridge.

 

 



(*) أود الإشارة إلى أن المقال لن يخوض في تفصيل وجوه ارتباط البلاغة بالجنس الشعري، وسيكتفي في هذا المقام بالاستدلال النظري على الارتباط بين ما نسميه "البلاغة" ومبدأ أنواع الخطاب ومنها الأجناس الأدبية.

[1] محمد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، ص17.

[2] يجد القارئ ملاحظة مماثلة في دراسة محمد فتوح أحمد لتجربة النقاد العرب المحدثين المنشورة بمجلة فصول، العددان الثالث والرابع، السنة 1991.

[3] يمثل مفهوم "الصورة الروائية" الذي صاغه محمد أنقار تعبيرا واضحا عن خضوع جماليات اللغة لسياقها التعبيري الجنسي. انظر كتابه بناء الصورة في الرواية الاستعمارية.

[4] انظر: عبد السلام المسدي، النقد والحداثة، ص108، وشكري عياد، (مشكلة التصنيف في دراسة الأدب)، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد43، السنة 1993.

[5] انظر تفاصيل هذا النقاش في دراسة "شايفر":

(Du texte au genre), Poétique n°53, 1983.

[6] نفسه.

[7] نفسه، ص7.

[8] نفسه.

[9]  (Les genres littéraires), In : La théorie littéraire, p87.

[10] بؤس الإيديولوجيا، ص44.

[11] انظر: Huit questions de poétique, p45-46

[12] انظر على سبيل المثال:

-Style in Language, Ed. by Thomas A. Sebeok, 1960.

-Linguistics and Literary Style, Ed. D.C. Freeman, 1970.

[13] محمد الهادي الطرابلسي، بحوث في النص الأدبي، ص207.

[14] رينيه وليك وأوستين وارين، نظرية الأدب، ص237.

[15] محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص137.

[16] نظرية الأدب، ص247.

[17]  Schaeffer, (Du texte au genre), p17.

[18] نظرية الأدب، ص247.

[19] الأسلوب، ص54.

[20]  Stephen Ullman, Style in the French Novel, p35-36.

[21] الكلمة في الرواية، ص5.

[22] تميزت الأبحاث الأسلوبية الأولى بارتكازها على دراسة الوسائل التعبيرية للغة الطبيعية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية. فقد قام "شارل بالي" بفحص القوة التعبيرية في اللغة الفرنسية وشيد بذلك علما أسلوبيا لا يعنى بالأسلوب الأدبي، انظر:

-(Bally and the saussurian Origins of Structural Stylistics), In, Linguistic Theory and Structural Stylistics, by T.Taylor.

[23] الخصائص،ج1، ص34.

[24] المقدمة، ص567.

[25] نفسه، ص571-572.

[26] نفسه.

[27] نفسه.

[28] قضايا معاصرة في الأدب والنقد، ص156.

[29] علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته، ص296.

[30] مقالة في النقد، ص103.

[31] محمد الهادي الطرابلسي، بحوث في النص الأدبي، ص188.

[32] خلدون الشمعة، (مقدمة في نظرية الأجناس الأدبية)، مجلة المعرفة، العدد 177. السنة 1976، ص9-10.

[33] نقلا عن محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص137-138.

[34]  (Les genres littéraires), p91.