محمد
العُمري
برغم كل التفاصيل
التقطيعية والملابسات التاريخية المائزة التي سيتضح أكثرها خلال العرض، فإن كلمة بلاغة
في اللغة العربية تلتقي اليوم مع كلمة ريطورية في التراث البلاغي الغربي المتحدر
من الثقافة اليونانية واللاتينية عامة (RHETORIQUE في اللغة الفرنسية، RHETORIC
في الإنجليزية)،. وليست كلمة ريطورية أو
ريطوريقا، كما عربها فلاسفتنا القدماء، هي وحدها التي عاشت في زحام مع مفاهيم
ومصطلحات أخرى تنازعها المجال الخِطابي (بالكسر)، بل إن كلمة بلاغة العربية قد
ناضلت هي الأخرى طويلا، وبدون يأس، قبل أن تستولي على تلك المساحات الشاسعة
الملتبسة التي كثر الطامعون فيها قديما و حديثا؛ من مناطقة ونحاة، ولسانيين،
وسياسيين وفلاسفة وضعيين ولاهوتيين؛ كلٌّ يدعي الحكمةَ وفصلَ الخطاب.
سنحاول رسم خريطة عامة
لأرضِ البلاغة، داخلةً تحت سلطتها أو مُقتطعةً منها، مفترضين معرفة أولية
بالموضوع، أو رغبةً صادقة في مزيد من
المعرف به من خلال ما سنحيل عليه من مراجع. لعل هذا العرض يوصل بالملموس إلى تعريف
للبلاغة مازلنا في حاجة إليه مختصين وهواة
[1].
أ ـ في
التراث العربي
أ . 1. 1 ـ قبل البلاغة كان البديع والبيان
بقطع النظر عن عِلم
العروض الذي يدخل في حيز الأنظمة المقـننة المطردة فإن أولَ كلمة تربعت فوق مجموعة
من المصطلحات المرصودة لوصف الخطاب من زاوية الخصوصية التعبيرية هي، فيما أعلم،
كلمة بديع. كان ذلك في القرن الثالث الهجري مع عبد الله بن المعتز[2]، وقد كان
ابن المعتز واعيا بصنيعه فقال: "وما جمع فنون البديع ولا
سبقني إليه أحد، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين".
كان هذا "التجميع" إعلانا عن ميلاد
علم جديد إلى جانب علوم اللغة والفقه التي تبلورت عبرَ القرنين الثاني والثالث
الهجريين[3]. وظل مصطلح
"بديع" يتغذى من النقد التطبيقي والخصومات الأدبية، أكثر من أربعة قرون،
موسعا دائرة نفوذه لتضم كلَّ صور التعبير و وُجوهَه اللسانية، غيرَ عابئ بمقامات
القول ومقاصده، أي بالأبعاد التداولية للخطاب، إلى أن ظهر كتاب مفتاح العلوم
للسكاكي فوجدناه (أي المصطلح) يزاح عن موقع السيادة والهيمنة وينقل إلى الهامش،
كما سيأتي. ونظرا لأن المفهوم القديم لكلمةِ بديع لم يتوقف، ولم يُخلِ الساحة،َ
برغم المنافسة، فقد أصبحنا أمام مفهومين للبديع: مفهوم كلي يضم كل صور التعبير
اللسانية[4]،
ومفهوم جزئي (عند السكاكي) يضم الصور غير المنضبطة لتعريف "المعاني" و"البيان"
اللذين اقتسما أرض البلاغة. وَهنا عُمِّم مفهوم التحسين والمحسن على صور البديع في
حين كان نعت "محاسن الكلام" عند ابن المعتز يعني ما ليس من البديع.
كلمة بديع هي إذن
الوريث الشرعي لأقدم تأمل في الخطاب الأدبي، الشعري خاصة، من الجاهلية إلى القرن
الثالث الهجري. ظهر ظهر هذا المصطلح في جو الخصومات حول ملكية العبارة بين
القدماء والمحدثين، ولذلك فهو يضم نوعين
من الصور: صور بديعة، وصور متداولة سميت "محاسن الكلام"، واسمها يمهد
للنعت الذي نعتت به عند السكاكي: محسنات[5]. وحين يقول
تودوروف، بصدد الحضارة الغربية، بأن التأمل البلاغي هو أقدم تأمل في اللغة[6] فمن الأكيد
أنه يقصد هذا الجانب الذي دعي بديعا في اللغة العربية، ذلك أن الملاحَظ ، في
البداية قبل التقنين والتقعيد، هو، أولاً، الشاذ والفردي والمتغير أي التخييلي
الشعري...وذلك برغم ارتباط كلمة ريطورية، في التقليد الغربي، بالخطابة كما سيأتي.
***
الكلمة الأخرى التي
تربعت على مجال خطابي متميز وأنتجت لائحةً مصطلحية دالة على علم جديد، قبل استقرار
مصطلح بلاغة، هي كلمة بيان. كان ذلك أيضا في القرن الثالث الهجري، مع الجاحظ المتوفى سنة 255هـ في كتابه البيان والتبيين،
(أي بحوالي عقدين قبل ابن المعتز).
بخلاف البديع الذي
شُغِلَ بإحصاء أوجه العبارة الشعرية والتمثيل لها ومحاولة تعريفها، في غير نسق،
اهتم البيان حسب تعريف الجاحظ له بالفهم والإفهام. وبذلك فهو يمتد، في المشروع والطموح،
إلى نظرية في المعرفة (استنباطا ومعالجة وتداولا)، ويتراجع في المنجز حسب مقتضيات
اللحظة التاريخية معرفة ووظيفة إلى تقنية في التأثير والإقناع. في مسلسل التحول
من الطموح إلى المتاح والعملي تدرج الجاحظ من كلمة بيان إلى كلمة بلاغة، ومن كلمة
بلاغة إلى كلمة خطابة؛ ينتقل من الواحدة إلى الأخرى وكأنما يتحدث عن الشيء نفسه[7]. وهذا
التراجع من المعرفي إلى الخَطابي عبر "البلاغي" لم يستسغه ابن وهب
فاعتبر عمل الجاحظ غير موف بمفهوم البيان كمشروع، فاستأنف العملية في كتابه
البرهان في وجوه البيان. في ظروف أخرى رجحت كفة المكتوب والمعرفي على الشفوي
الإقناعي، ومن خلال عمله أمكن إدراك مشروع الجاحظ.
كان
الجاحظ يقدم وسيلة للحوار في عصره بين الفرقاء في المجال الفكري والسياسي، الحوار
من خلال الرصيد الخطابي العربي من جهة وأحوال المخاطبين من جهة أخرى، المهم: كيف
يكون الخطاب ناجعاً، فاعلاً. مع ما يؤدي إليه هذا المسعى من مفارقة بين الجمال
والمنفعة العملية الآنية.
ومع ذلك فإن التيار
العام كان لصالح الجاحظ، ظهر ذلك في القراءات اللاحقة ابتداء من العسكري وانتهاء
بابن سنان، فقد أخذا من الجاحظ أهم مكونين للخطاب الإقناعي، وهما: المناسبة والاعتدال[8]. وبقي البيان
في معناه المعرفي القريب من المفاهيم السميائية الحديثة خارج المسارات التي تندفع
في منحدر المجرى الكبير الذي سيسمى بلاغة، إلى أن قزم هو الآخر (أي مصطلح البيان)
في مفتاح العلوم للسكاكي، كما هو معلوم. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن العسكري
فضل ـ بعد ذلك ـ كلمة محايدة ("الصناعتين") علامة على مادة مأخوذة، في
أغلبها، من الجاحظ وابن المعتز، في حين انحاز ابن سنان ، لاعتبارات أديولوجية ذات
كساء معرفي لا يتسع لها المقام، إلى مصطلح جديد[9]: الفصاحة.
معيدا جانبا كبيرا من بيان الجاحظ إلى الواجهة.
نسجل هنا ملاحظة تبدو لنا ذات أهمية كبيرة، وهي
أن كلمة بلاغة ظهرت في تاريخ وصف الخطاب في اللغة العربية في الحقل نفسة الذي ظهرت
فيه في وصف الخطاب في الحضارة الغربية عند اليونان وهو الخطابة. ولا يتعلق هذا
الاستنتاج بقضية الأثر والتاثر والتبعية والأسبقية بل يتعلق بطبيعة الخطابة نفسها[10]. لقد كان
من المعقول تفرع البلاغة عن البيان؛ فتحول البيان إلى بلاغة يعني تقديم الإفهام
على الفهم، إن لم يعن التخلي عن الفهم لصالح الإفهام نهائيا، أي الخروج من نظرية
المعرفة إلى نظرية الإقناع[11]. كما خرجت
البلاغة من دائرة الخطابة عند اليونان.
أ .2 ـ البلاغة
والفصاحة :
وهكذا فإلى حدود القرن
الخامس الهجري لم تكن كلمة "بلاغة" (باعتبارها الحاكم العام المقبل لأرض
الخطاب) قد بسطت نفوذها بعدُ على كل الأراضي التي فتحها أعوانها في مختلف أقاليم
الخطاب: شعر، خطابة، كتابة. وبرغم كون كتاب أسرار البلاغة أولَ كتاب يطرح سؤال
الهوية، هوية الخطاب البليغ فإنه كان مَحكوما بتوجهه إلى الشعر. ولذلك يصلح أن
يسمى حسب تعابيرنا: أسرار بلاغة الشعر، أو لغة الشعر. ومن البين أن هذا المفهوم
الذي أراد الجرجاني تعميمه قد مارس الإقصاء على عدة مستويات وذلك باقتصاره على
الشعر ثم على الجانب الدلالي منه ثم على صور معدودة من الجانب الدلالي، لاشك أنها
مهمة ولكنها ليست كل شيء، وهي: التشبيه والتمثيل والاستعارة. حاول الجرجاني في
كتابه الثاني تدارك جانب من الموضوع، جانب المناسبة التداولية مع تماديه في إقصاء
الإيقاع أو تقليص دوره إلى أقصى حد[12].
ومن مظاهر استمرار
الغموض في المجال المصطلحي إلى حدود القرن الخامس الهجري قول الجرجاني، في أول
دلائل الإعجاز:
"ما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة
والبيان والبراعة" لا يكشفُ عن مغزاها والمراد منها بوضوح، بل هو أقرب إلى
"الرمز والإيماء، والإشارة... والتنبيه على مكان الخبيئ ليطلب" وقصارى
الأمر الإشارة إلى أن هناك نظما وصياغة وتصويرا ونسجا وتحبيرا بدون تدقيق للمفاهيم
والحدود"[13].
مع اختلاف العنوان (من
أسرار البلاغة إلى دلائل الإعجاز) فالمؤلف مازال يعالج القضية ذاتها، على أوسع نطاق،
القضية التي عبر عنها بألفاظ مختلفة: "البلاغة والفصاحة والبيان
والبراعة"، (أرجح أن تكون البراعة لفظا مرادفا، عند المؤلف، لكلمة بديع،
وبذلك يستوفى ذكر أهم المصطلحات التي راجت في مجال تحليل الخطاب). فهذه الألفاظ
تلتقي كلها في التعبير عما يتفاضل به القائلون. مردها جميعا عنده، إلى "وصف
الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي
أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر
من رضى القلوب...ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي
أصح لتأديته، وتختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له وأحرى أن يكسبه
نبلا ويظهر فيه مزية"[14].
وبرغم ترديد كلمتي بيان
وفصاحة في وصف الكلام في أول الدلائل فإن الجرجاني لم يُشر إلى علاقة تراتبية
بينهما وبين كلمة بلاغة التي اعتمدها في كتاب الأسرار، بل يبدو ليأن ترديدهما راجع
لسياق الرد على من ادعى وجودهما في اللفظ من المعتزلة وغيرهم. وهذا الأمر أكثر
جلاء عند ابن سنان الخفاجي الذي جعل البلاغةَ أعم من الفصاحة[15] (برغم
الاضطراب الذي أدى إليه ذلك في بناء كتابه). وقد انتقد هو الآخر تعريف البلاغة عند
القدماء فقال: "وقد حد الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم،
وليست بالحدود الصحيحة"[16]. ثم استعرض
التعريفات المقترحة، وهي، في أكثرها، مما جاء عند الجاحظ في البيان والتبيين، فبين
أنها نعوتٌ وليست تعريفاتٍ جامعة مانعة. وهذه ملاحظة مهمة تميز بين مرحلتين: مرحلة
الإحساس بالموضوع، ومرحلة ضبطه وتسويره.
لقد كانت محاولة تدقيق
مفهوم البلاغة في هذا العصر (القرن الخامس الهجري) محكومة باعتبارات عقائدية تتعلق
من جهة بطبيعة الكلام في تصور كل من المعتزلة والأشاعرة؛ هل هو أصوات أم معان؟
فتبعا لذلك ينبغي أن تكون البلاغة فيما هو جوهري (أي ما يحدد طبيعة الكلام): في
المعني عند الجرجاني(مشروعا ومنجزا) وفي الأصوات في مشروع ابن سنان.
لقد كان مشروع عبد
القاهر عميقًا في حفره في مجال المعاني والمقاصد على حساب الإيقاع والمقامات
والقيم الثقافية(الأغراض)، وكان مشروع ابن سنان أكثر شمولية واستيعابا لمكونات الخطاب الكلاسيكي الشعري
والخطابي:المكونات اللسانية وغير اللسانية.
أ . 3 ـ البلاغة / "علم الأدب"
يعتبر السكاكي أباً
للتصور المدرسي الذي استقر للبلاغة العربية من عصره إلى اليوم، ذلك التصور الذي
يقسم البلاغة إلى ثلاثة علوم: المعاني والبيان والبديع. هذا مع العلم بأن السكاكي
لم يجعل البديع في مستوى واحد مع المعاني والبيان، أي لم يعتبره علما بل مجرد ذيل
للمعاني والبيان يضم صورا تعبيرية لا يجمعها غير كونها ذاتَ طبيعة تحسينية: محسنات
لفظية ومعنوية.
وبذلك أزيح البديع عن
مضمونه الأول عند ابن المعتز: الصور اللسانية المميزة للتعبير الأدبي والشعري
خاصة، كما سبق . لقد أُخِذَتْ منهُ صورُ الاستلزام الدلالي التخاطبي، ودُفعت من
المجال التحسيني إلى المجال الحجاجي التداولي[17]، فربطت
بمبحث الاستدلال. والصور المقصودة هي:التشبيه والتمثيل والاستعارة والمجاز والكناية.
وهي مادة "علم البيان". وفي هذا السياق أُلحقت بالخصم التاريخي للبديع،
الذي دعي علم المعاني بعدما ظل مشتتا في
مباحث اللغويين ودارسي النص القرآني، قبل أن يبلور الجرجاني قضاياه في إطار السؤال
البلاغي،ضمن مبحث "النظم" حيث المدار على المقاصد. إن علاقة المعاني
بالبديع في تصور السكاكي كعلاقة البديع عامة بالبيان عند الجاحظ. وليس من المجازفة
الصورية في شيء أن نستنتج أن المعاني والبيان من طينة واحدة.
يلتقي "علم
المعاني" عند السكاكي مع "البيان" عند الجاحظ، ويتكامل معه في كون
كل واحد منهما يبحث في علاقة الخطاب بالأحوال والمقاصد، أي في البعد التداولي
للخطاب. الأول (المعاني) في المستوى اللساني الدلالي، والثاني (البيان) في المستوى
اللساني السوسيونفسي. لقد بذل الجاحظ قصارى جهده للملاءمة بين مطلب مراعاة أحوال
المخاطبين الذي قدمه من خلال صحيفة بشر بن المعتمر، وبين مطلبي صحة اللغة وحسن
التعبير. وبعده أوضح الجرجاني أن "الصحة" تحصيلُ حاصل، ثم اهتم السكاكي
بعد الجرجاني بملاءمة الكلام للغرض منه، مع احتمال تفاوت دلالته وحسنه.
إن المركز في بيان
الجاحظ ومعاني السكاكي هو الأحوالُ والمقاصد، ولذلك ظل البديع أي صور التعبير
الشعري وأسئلته على هامشهما. كان
الجاحظ يبحث عن نظرية للمعرفة فوقع في البلاغة، فعن أي شيء كان السكاكي يبحث؟
كان
السكاكي يبحث عن مكونات: "علم الأدب". العلم الذي يصون المتحدث من
الخطـأ فــــي: 1) مطابقة الكلام لقواعد اللغة ،2) ثم لأحوال ومقامات التخاطب ،3)
ثم يعطيه حسنا وقبولا. وإذا كان الصواب اللغوي مسألة معيارية عامة لا تفاوت بين
المتكلمين فيها، لأنها قابلة للتحقيق على مستوى واحد، وكان التحسين فَضْلة يتحقق
الغرض من الخطاب بدونها، في تصوره، فإن مركز "علم الأدب" ولبه هو مطابقة
الكلام للغرض منه، ثم تفاوتُ الدلالة في التعبير عن الغرض، أي المعاني ثم البيان.
نرجح هذه القراءة
بالنظر إلى بناء الكتاب من جهة وبمسار قراءته في الثقافة العربية من جهة أخرى.
فالسكاكي معروف اليوم عند الدارسين التداوليين من لسانيين ومناطقة من خلال
"علم المعاني" و"علم البيان" بحديثه عن المقام التخاطبي
والاستلزام الخطابي. وليس له في مجال النحو والصرف ولا في "البديع"
والعروض والقوافي (وقد تعرض لكل ذلك ضمن علم الأدب) ما يؤهله لمنافسة الفحول في
هذه العلوم. إن أهمية عمله تكمن في اكتشاف منطقة تقاطع النحو والمنطق والشعر،
أي في وصوله شخصيا إلى عاصمة البلاغة. وبذلك خرج من خطاب التنافي بين النحو
والمنطق والشعر الذي تاه فيه متى بن يونس والسيرافي وغيرهما، وكان من حقه أن يقول:
وجدتُها!
وبناء على ما سبق"فإن بلاغة السكاكي تقع عند
تقاطع ثلاثة مباحث متداخلة ومتنافرة في الوقت نفسه، هي النحو والمنطق والشعر(الشعر
باعتباره رؤية وتشكيلا للغة. وسنُعوِّضه هنا بلغته الواصفة الأكثر ارتباطا به، وهي
البديع بمفهومه الواسع عند ابن المعتز ومن سار في طريقه).وبذلك يمكن تمثيل
بلاغة السكاكي بالتقاطعات التالية[18]:
|
الشعر (البديع |
|
النحو |
البلاغة (المعاني
والبيان) |
المنطق (الاستدلال |
من
المشروع الآن التساؤل: هل العالِم بالأدب هو المثقف؟ هل علم الأدب هو الثقافة في
مفهومنا الحديث؟ الأكيد أنه هو الأديب، الأكيد أنه سيحصل على بطاقة العضوية في أي
اتحاد للأدباء.
حين انتهى السكاكي من بلورة علمي المعاني والبيان
عرَّف البلاغة من خلالهما فقال:: "هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له
اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على
وجهها[19]". إن
هذا التعريف هو تعريفٌ لعلمي المعاني ("خواص التراكيب") والبيان
("أنواع التشبيه..الخ") معا. فالبلاغة، في نظر السكاكي، هي المعاني
والبيان. وقد عرف المعاني والبيان مرة أخرى. (بعد حديثه عن البديع دون أن يأخذه
بعين الاعتبار) تعريفا أكثر صورية وتجريدا، إذ عوض صور البيان (التشبيه والمجاز
والكناية) بعبارة: "صياغات المعاني": "علم المعاني والبيان
هو: معرفة خواص تراكيب الكلام، ومعرفة صياغات المعاني، ليُتوصل بها
إلى توفية مقامات الكلام حقها[20]".
من المثير للانتباه أن نجد السكاكي يتصدى فجأة،
بعد الذي تقدم من تعريف البلاغة، لتعريف الفصاحة، وإفساح المكان لها لتحل حيزا من
المجال الفسيح من علم الأدب الذي ظهر للمؤلف أنه ما يزال فارغاً بعد بناءِ مفهوم
البلاغة.
قد ينصرف الذهن، في البداية، قبل النظر في
المحتوى، إلى أن الفصاحة هي الامتداد التطبيقي للتصريف والاشتقاق مثلما يمكن
اعتبار علم المعاني امتدادا تطبيقيا للنحو، غير أن المؤلف لم يقف بالفصاحة عند هذه
الحدود، بل تجاوز البعد الصوتي والمعجمي إلى البعد التركيبي، وكأنه يلخص نموذجَ
ابن سنان في الفصاحة. قال:
"وأما
الفصاحة فهي قسمان: راجع إلى المعنى، وهو خلوصُ الكلام عن التعقيد، وراجع إلى
اللفظ، وهو أن تكون الكلمةُ عربيةً أصْلية[21]".
وعلامة
عروبة الكلمة: 1) أن تكون متداولة عند الفصحاء، 2) وأن تكون أجرى على قوانين
اللغة، 3) وأن تكون سليمة من التنافر".
أما التعقيد المعنوي فلم يحدد السكاكي سببه بدقة
غير أن المثالين اللذين أوردهما يُعتبران
من أمثلة اختلال التركيب بالتقديم والتأخير. وقد يكون ثانيهما من التعقيد الدلالي،
خاصة وهو مأخوذ من شعر أبي تمام[22].
يبدو أن السكاكي قد حاول في البداية ( في
المشروع) أن يتلافى مصطلحي بلاغة وفصاحة فرارا من حمولتهما الفكرية
والعقدية التي تطرقنا إليها غير أنه انتبه في نهاية المطاف إلى أن إشعاع الكلمتين
في التراث العربي يجعل السكوت عنهما أو تعويضهما أمرا عسيرا، خاصة وأن النحو
بمفهومه الدقيق في عصره أصبح أكثر صوريةً وضيقا بحيث لا يتسع كما كان في وقت سابق
(عند صاحب الخصائص مثلا بل عند مؤسس النحو سيبويه) لاستيعاب كل مستويات الخطاب.
ونفترض أن السكاكي شعر بأن استعادةَ إحدى الكلمتين دون
الأخرى قد يعني الدخول في حمى إحدى النظريتين وقبول كل تبعاتها، ولذلك وجد أنه
لابد من إجراءات وتوضيحات تضع الأمور في نصاب جديد"[23].
المشروع الذي ذهب فيه
السكاكي كان أشبه بعلم النص عند اللسانيين المعاصرين، لا يمكن هنا الحديث عن التطابق، ولكن يمكن اكتشاف الكثير من
عناصر الالتقاء بين منحى السكاكي ومنحى علماء النص في تناولهم النص في أبعاده
النحوية والأدبية والمعرفية والسوسيولوجية[24] وغيرها...
وإذا كان السكاكي قد جعل البلاغة مساوية - في آخر المطاف ـ لعلمي المعاني والبيان، فإن فَانْ دِيكْ صرح في
بداية مقاله المذكور بأن علم النص هو الممثل العصري للبلاغة. وعلى النقيض من مسار
عمل السكاكي حيث وجد ضرورة، في آخر المطاف، للاتفات إلى كلمة "فصاحة"
برصيدها عند ابن سنان فإن حازم القرطاجني بدأ من مادة الفصاحة متناولا قضايا اللفظ
في القسم الأول المفقود[25]. وقد صار
مبحث الفصاحة في الكتب المدرسية الحديثة مقدمة لعلوم البلاغة.
أ .2 .1 ـ الحجاج هو"عمود البلاغة"
تخليق البلاغة
اشتهر الحديث، في التراث العربي النقدي، عن عمود
الشعر. وقد أقيم ذلك العمود وثبتت أركانه
للحفاظ على النمط التقليدي المكتمل للقصيد في وجه حركات التجديد البديعية.
أما في المجال الخطابي فلم أسمع الحديث عن "العمود" إلا في القرن السادس
مع ابن رشد، وقد سارت فيه الأمور في الاتجاه المضاد. إذ تحدث ابن رشد، في حواره مع
نص أرسطو، عن "عمود البلاغة" في سياق انتقاد التصور القديم "لصناعة
الخطابة"، ذلك التصور الذي اهتم بالأمور الخارجية غير الداخلة في تكوين
الخطاب بل في محيطه الخارجي[26].
عمود البلاغة عند ابن رشد ذو طبيعة منطقية تخول
هذه الصناعة الانتماء إلى المنطق، بل إنها لن تستكمل هويتها إلا بهذا الانتماء.
عمود البلاغة بعبارة عامة سهلة هو الحجج القائمة
في الأقيسة الخطابية التي هي عنده أقيسة بلاغية أو ضمائر. والأقيسة البلاغية
احتمالية أي أنها غير قطعية. وهي بذلك غير مؤهلة لتمييز الحق من الباطل و لكنها من
وجهة النفع الجمهوري شبيهة بالحق، وهذا تخريجه لهذه القضية الدقيقة:
"والتصديقات الخطبية، و إن لم تكن حقا، فهي
شبيهة بالحق. و أيضا فإن الناس متهيئون بطبيعتهم كل التهيئة نحو الوقوف على الحق
نفسه; وهم، أكثر من ذلك، يؤمونه ويفعلون عنه. والمحمودات، وهي التي تكون منها
الضمائر شبيهة بالحق من قِبَلِ أنها نائبة عند الجمهور مناب الحق. والشبيه بالحق
قد يدخل في علم الحق الذي هو علم المنطق"[27].
(هذا المنحى في تخليق صناعة الخطابة و مَنْطقتُه
(من المنطق)، سنجده عند البلاغة الجديدة ونظرية الحجاج في العصر الحديث، عند
بيرلمان خاصة، فتأمل).
ومن حَادَ عن هذا الطريق؛ عن طريق عمود البلاغة
الذي يربط البلاغة بالمنطق (أي بعلم الحق)، صرف اهتمامه للجوانب الأسلوبية
المقامية (السكولوجية) والتنظيمية، أي للأمور الخارجية غير الجوهرية:
"وإذا كان الأمر هكذا، فقد استبان أن قصور
هؤلاء فيما تكلموا فيه من أمر الخطابةإنما كان من أجل أنه لم يكن عندهم علم
بالمنطق، وأن سائر من تكلم في الخطابة ومن يستعمل الأقاويل الخطبية فقط من غير أن
يتقدموا فيعرفوا هذه الأشياء التي هي عمود البلاغة أنه إنما تكلموا في أشياء تجري
من البلاغة مجرى التزيين والتنميق الذي يكون في ظاهر الشيء وصفحته، لا في الأشياء
التي تنزل منها منزلة ما به قوام الشيء ووجوده. وإن كان قد يظن بما فعلوا من ذلك
أنهم قد بلغوا الغاية من الأقاويل الإقناعية، وجروا في ذلك على طريق الصواب
والعدل" [28].
حين نص ابن رشد هنا على "التزيين
والتنميق" وهو يتحدث عن العناصر غير الجوهرية في الخطابة كان نظره مركزاً على
حال البلاغة العربية، حيث عوملت الخطابة، في أكثر الأحوال، بعد الجاحظ معاملة
الشعر، أي نُظر إلى الجانب التزييني الخارجي وأهمل الجانب الداخلي الحجي.
كان ابن رشد قبل هذا قد ركز مع أرسطو على
الجوانب السيكولوجية:كيف تستعمل ومواطن استعمالها، وكذا تنظيم أجزاء الخطبة مما
اهتم به من قبله. وهذه أيضاً أمور غير داخلة في العمود وإن كان دورها في كمال
البناء لا ينكر. وهذا النص أشمل في بيان العمود التصديقي والهامش السيكولوجي.
قال:" وكل من تكلم في هذه الصناعة ممن تقدمنا فلم يتكلم في شيء يجري من هذه
الصناعة مجرى الجزء الضروري والأمر الذي هو أحرى أن يكون صناعيا، وتلك هي الأمور
التي توقع التصديق الخطبي، وبخاصة المقاييس التي تسمى في هذه الصناعة الضمائر، وهي
عمود التصديق الكائن في هذه الصناعة، أعني الذي يكون عنها أولا وبالذات.
وهؤلاء فلم يتكلموا في الأشياء التي توقع
التصديق الخطبي بالجملة ولا في الضمائر التي هي أحرى بذلك. وإنما تكلموا، فأكثروا،
في أشياء خارجة عن التصديق وإنما تجري مجرى الأشياء المعينة في وقوع التصديق مثل
التكلم في الخوف والرحمة والغضب وما أشبه ذلك من الانفعالات النفسانية التي ليست
معدة نحو الأمر المقصود تبيينه أولا وبالذات، وإنما هي معدة نحو استمالة الحكام
والمناظرين، ولذلك كانت وكأنها موطئة للتصديق لا فاعلة له" [29].
فنحن هنا بإزاء موطئات وفاعلات (الموطئات
السيكولوجية والبديعية، والفاعلات الحجية المنطقية)، وهذه التراتبية في فاعلية
المكونات حاضرة أيضا في تصور الفلاسفة العرب للمحاكاة، فالإيقاع مثلا موطئ (أو
مهيئ) في حين أن التمثيل فاعل أي محقق للمحاكاة.
إن تحويل الوسائل السيكولوجية والتنظيمية
والأسلوبية إلى موقع العناصر الخارجية المساعدة لا يعني التقليل من شأنها ولكنه
يعني أنها تابعة للجانب الحجي الذي يراقبه "علم الحق" أي المنطق. فلا بد
أولاً من أن يكون للخطاب شبه بالحق وانتماء إليه حتى ولو لم يكن في مستوى القطع.
وهذا الاجتهاد في توجيه البلاغة ناتج عن الإيمان
بوظيفتها الحضارية المتجلية في منفعتين:
1 - حث " المدنيين على الأعمال
الفاضلة" و"الفضائل العادلة… وأعني بالفضائل
العادلة: التي هي فضائل بين الإنسان وبين غيره، أعني بينه وبين المشارك له في أي
شيء كانت الشركة، لا بينه وبين نفسه" [30].
2 – والمنفعة الثانية للخطابة، الوصولُ إلى ما
لا يصل إليه المنطق لوجود عوائق في طبائع الناس أو في الظروف المحيطة
بالخطابة:" فلهذا قد نضطر إلى أن نحصل التصديق بالمقدمات المشتركة بيننا وبين
المخاطب، أعني المحمودات"[31].
ثم يضيف مشيرا إلى الحلقة التي تشد الخطابة إلى
منطقة الحجاج:
"وهذه المنفعة تشارك هذه الصناعة، فيها
صناعة الجدل، كما ذكرنا ذلك في كتاب "الجدل""[32].
فللصناعتين: صناعة الخطابة (البلاغة) وصناعة
الجدل قدرة على الإقناع في الاتجاهين " لكن إذا كانت الأمور التي تعقلن فيها
صادقة كانت الأقاويل الخطبية والجدلية التي تستعمل فيها أفضل وأبلغ"[33].
وبذلك يبقى التوجه العام للخطاب إيجابيا، فبهذه
القوة يمكن نقض "الضد الذي ليس بعدل"[34]. ومعنى ذلك
أنه مع كون الصناعتين تعملان في الاتجاهين (الإيجابي والسلبي) فإن عملهما في
الاتجاه الإيجابي هو المنتصر حين يقع التعارض، هذا طبعا مع وجود الكفاءة التي يجب
السعي إلى تحصيلها.
إن الخطابة واحدة من "الأمور النافعة"
أو "الخيرات" التي يمكن
استعمالها إيجابيا أو سلبيا مثل " الجلد والصحة واليسار
والسلطان"، فالعبرة في استعمالها بلزوم "العدل" أو "الجور"
عن الحق[35].
إن اعتبار الوسائل الإقناعية المنطقية جوهرا
للبلاغة في سياق الحديث عن الخطابة جدير بأن يُلحقَ بموقف ابن رشد من الشعر ليوضع
ذلك كله في إطار فلسفي تخليقي يسمو إلى النظر من أفق تاريخي: خيرية التاريخ البشري
بقطع النظر عن كل الانكسارات التي تمس مصائر الأمم لا مسار التاريخ. ومن المؤسف أن
هذا الموقف العميق لم يثر الانتباه، فظل على الهامش، في حين نلاحظ العناية الجمة
التي حظي بها منزع مماثل في العصر الحديث كما سيأتي.
أ.
2. 2 ـ البلاغة "العلم الكلي"
العبارة المحصورة في العنوان أعلاه لحازم
القرطاجني تفسر ما انتهى إليه مشروع
السكاكي وهو يحاول رسم حدود علم الأدب. فإذا كان السكاكي قصد تكميل (أو تتميم)
النحو والتصريف بعلم المعاني فحدث أن كان النحو والصرف مجرد تمهيد وأدوات أولية
لعلم المعاني، فإن حازم القرطاجني صرَّح بوضوح بأن البلاغة هي العلم الكلي لمعرفة
تناسب المسموعات والمفهومات، قال:
"ومعرفة طرق التناسب في المسموعات
والمفهومات لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم
البلاغة الذي تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب من التناسب والوضع، فيعرف حال ما خفيت
به طرق الاعتبارات من ذلك بحال ما وضحت
فيه طرق الاعتبار، وتوجد طرقهم في جميع ذلك تترامى إلى جهة واحدة من اعتماد ما
يلائم واجتناب ما ينافر"[36].
وهذا العلم يسمو فوق صناعات اللسان الجزئية.
والبلاغة التي بهذه الصفة هي "البلاغة المعضودة" بالمنطق والفلسفة[37]. وبرغم
توجه بلاغة حازم إلى الشعر (حتى صُنِّف المؤلف أحيانا ضدا على عنوان كتابه ضمن
نقاد الشعر) فإن بلاغته منفتحة على الخطااب التداولي من خلال المقارنة بين التخييل
والتصديق، وبيان مدى تداخلهما وتخارجهما في الخطابين الشعري والتداول. نقتطف فقرة
من كتاب: تاريخ البلاغة، بعنوان "تقاطع الخطابي والشعري" تبين وجهة نظر
حازم كيفيةَ إستثماره لجهود الفلاسفة المسلمين في قراءة البلاغة اليونانية في ضوء
معطيات الشعرية العربية:
"
تقاطع الخطابي والشعري
يقوم تفريق حازم بين الخطابة والشعر على أساس
المكون المميز لكل منهما. فالشعر مبني على التخييل، وقد يستعمل مكونات الإقناع الخطابي
ضمن هيمنة العنصر الذاتي. وعكس ذلك يصدق على الخطابة التي تنبني على العناصر
الإقناعية وتدخُل العناصر التخييلية في خدمتها. وقد استعمل حازم في المكون النوعي
عبارات مثل: العمدة والأصيل والقوام، وهي تستتبع أو تستدعي نعوت التابع والدخيل.
قال: "وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة، الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل
مخيلة، مؤكدة لمعانيها، مناسبة لها فيما قُصد بها من الأغراض، وأن تكون المُخيِّلة
هي العمدة. وكذلك الخطابة ينبغي أن تكون الأقاويل المخيِّلة الواقعةُ فيها تابعةً
لأقاويل مقنعةٍ مناسبةٍ لها مؤكدةٍ لمعانيها. وأن تكون الأقاويل المقنعةُ هي
العمدة"[38]
وينبغي ألا يُستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلا فيها
كالتخييل في الخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على
سبيل الإلماع"[39].
ومرد هذه
التداخلات في نظره إلى كون الشعر والخطابة يلتقيان في "الغرض"
و"المقصد"، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول
لتتأثر لمقتضاه". ولكنه يؤكد، مع ذلك، دور الغرابة في تحقيق الوظيفة
الشعرية. فـَ "محاكاة الأحوال المستغربة" تستهدف أحد أمرين: إنهاض
النفوس إلى الاستغراب أو الاعتبار فقط"، والمستغرب هو "ما لم يكن
معهودا". و على هذا الأساس قسم التشبيه إلى "مبتذل"
و"مخترع". والمخترع "أشد تحريكا للنفوس" لكونه غير معتاد يفجأ
النفوس "بما لم يكن لها به استئناس قط، فيزعجها إلى الانفعال بديها بالميل
إلى الشيء والانقياد إليه أو النفرة عنه والاستعصاء عليه"[40]."[41].
لقد وصلت
البلاغة مع حازم قمة الوعي بذاتها، غير أن المهمة التي حاول حازم إنجازها في
المنهاج مما تنوء به العصبة أولو القوة. ولذلك لم يجرؤ أحد على إعادة قراءة عمله
كما قرئ عمل السكاكي. فبقي مشروعه بعيدا عن الوصفة البلاغية التي اقترحها علماء
العربية في بداية هذا القرن للمدارس ثم للجامعات العربية،الوصفة التي ما زالت
مقدسة إلى اليوم: علوم البلاغة.
أ . 4 ـ تحنيط البلاغة:
علوم البلاغة
"علوم
البلاغة" هو عنوان أشهر كتاب في المجال المدرسي العربي من الخليج إلى المحيط
منذ الخروج من شروح التلخيص في بداية التأليف للمدرسة الحديثة (فرغ منه سنة
1334هـ) . والعلوم المقصودة هي المعاني والبيان والبديع حسب تصنيف السكاكي وشراحه.
كل ما فعله أحمد مصطفى المراغي هو إضافة مقدمة في "الفصاحة" مأخوذة عن
ابن سنان الخفاجي، سيرا في النهج الذي سار فيه بدأه السكاكي.
يقول أحمد مصطفى
المراغي في ظروف تأليف كتابه: "أنشئت المدارس العالية والثانوية بمصر في
نهاية القرن الغابر، وسلكت في التربية والتعليم طريقا سريا، لا مشاكلة بينه وبين
ما تقدمه في معهد العرفان، وكان في مقدمة تلك المدارس التي شيدت مدرسة العلوم من
نحو أربعين سنة ونيف. فألف أساتذتها مختصرات تناسب تلك البرامج المدرسية ويسهل على
الطلبة أن يحصلوا على بغيتهم منها، فحمد لهم الناس جميل صنعهم. وفي الحق أن تلك
الرسائل… وإن اختلف
ترتيبها وتنوع تبويبها تنحو، على الجملة، في أسلوبها منحى ما كتبه صاحب التلخيص
وشراحه وتسير على خطتهم وتحذو حذوهم وأفضل تلك المختصرات كتاب دروس في البلاغة…
ورأينا أن نضع كتابا
يجمع بين طريق المتقدمين من سعة الشرح والبيان والاعتماد على الأسئلة والشواهد … وطريق المتأخرين
من حسن الترتيب والتبويب وجمع ما تفرق من قواعد هذه الفنون…[42].
كانت شروح التلخيص
ومختصراته وخاصة الإيضاح والتلخيص منتهى ما يطمح العلماء في النصف الأول من هذا
القرن إلى فهمه وتفهيمه، كما يقول حامد عوني في مقدمة كتابه : المنهج الواضح. قال
بعد عرض موجز لتاريخ البلاغة:
"وبقي الأمر على هذه الحال حتى جاء فارس
الحلبة أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626 فوضع كتابه مفتاح العلوم"
"ثم جاء المتأخرون من بعده،فلم يستطيعوا أن يزيدوا عليه شيئا من أصول
البلاغة. وكان قصارى جهودهم أن تناولوا كتابه بالاختصار تارة وبالشرح أخرى".
"وقد بلغ من اعتراف العلماء بهذين الكتابين (التلخيص والإيضاح للقزويني)
وجليل نفعهما أن عدوهما آخر ما وصل إليه الإتقان والإبداع في هذه الفنون، فلم
يحدثوا أنفسهم بالزيادة على ذلك أو التبديل فيه أو الخروج عليه، ووقفت همتهم عند
ما انتهى إليه هذا الإمام الجليل وقصروا جهودهم على البحث في كتبه"[43].
ثم ظهرت ( بعد علوم البلاغة والمنهاج الواضح) كتب
كثيرة على نفس النمط،تحذوها حذو النعل بالنعل، وغاب ذلك الإشكال الذي عاشته
البلاغة العربية بين الخطابين الشعري والتداولي طوال تاريخها. وكان علم المعاني قد
فقد حواريته الناتجة عن التفاعل بين التركيب والمقام في شراح السكاكي من النحاة
الذين لم يتبينوا الإشكال المتوخى من تلك الوصفة المعقدة التي حبكها، فحل الحديث
عن المقولات النحوية محل تخريج الوظائف البلاغية. وهذا الواقع رَديفٌ لضعف النظر
الفلسفي[44].
وكان من نتائج هذا
الواقع ضياعُ استراتيجية تدريس البلاغة في الجامعة العربية من الخليج إلى المحيط: هل هي للتاريخ أم للتوظيف؟ وصارت
مادة مكملة، أي يكمل بها "مؤرخو
الأدب" حصصهم. فيعيدون على طلبة منهكين "مصالحين" بل
مستسلمين الدروسَ الرثة التي تلقوها في الثانوي منذ سنوات، أو ينقلون نفس الأمثلة
المكرورة من الكتب إياها. ولا تستطيع أن تخرج من هذا الواقع حتى ولو قاطعت الخلق
كله، والله غالب على أمره[45].
ولهذا الواقع ظهر بجانب
البلاغة في المقررات مواد أخرى، منها: الأسلوبية، وسميائيات النص الأدبي
والتداوليات، وتحليل النصوص، والعروض والقوافي، والشِّعرية أو الشعريات، ثم مادة
المنطق (في شعب الأدب)..... لا يسأل هذا عن هوية ذاك.
ب ـ في الثقافة الغربية
لا يتسع
المقام للحديث عن البلاغة الغربية القديمة إغريقية ولاتينية، بل ليست هناك ضرورة
كبيرة للعودة إليها مستقلة عن البلاغة الغربية الحديثة التي استوعبت ما سبق بـ
"التنسيق" والنقد، ثم البناء، ولذلك ستحضر البلاغة الغربية القديمة من
خلال القراءة الحديثة. وهذا الوضع بخلاف ما عليه الحال في المجال العربي حيث ما
تزال البلاغة القديمة ناطقة باسمها غير مستوعبة في الدرس البلاغي الحديث.
حين نرجع إلى أحدث
معاجم البلاغة والأسلوبية الغربية نجد كلمة ريطورية تدل على معنيين أساسيين، وقد
تدل على معان ثانوية وعارضة. ففي معجم ألفاظ الأسلوبية (VOCABULAIRE
DE LA STYLISTTIQUE)
لِجون مازاليغا وجورج مولينيي JEAN MAZALEYARAT ET GEORGE MOLINIER) ) ثلاثة معانٍ (ثالثهما ثانوي وعارض)[46]:
1 ـ البلاغة مبحث قديم
يهتم بفن الإقناع في مكوناته وتقنياته: استنباط الحُجج ومعالجتها وبثها. "ومن
هذه الزاوية نجد البلاغة اليوم في ارتباط بالتداولية".
2 ـ البلاغة مجموعة من
صور التعبير منفصلةً عن نوع الخطاب الذي استعملت فيه.
3 ـ وقد تعني الكلمة
أحيانا المقاييس المعيارية لفن الكتابة.
نعتبر المعنى الثالث
عرضيا مرتبطا بانكماش البلاغة وتقوقعها على نفسها لاستهلاك رصيدها وإحراق شحومها،
هذا فضلا عن الوظيفة التعليمية الموكولة لها في المجال الثقافي، وهذه لا دخل لها
في تحديد هويتها وإن كانت مؤثرة فيها، إذ تعطي قيمة لما هو جاهز ومتداول وتُكرسه[47]. وبذلك
يبقى للبلاغة في التقليد الغربي معنيان كبيران: المعنى الحجاجي الإقناعي الذي يصب
في التداولية الحديثة، والمعنى التعبيري الشعري الذي يصب في الأسلوبية. وهذه
الثنائية تغري باسترجاع ثنائية البديع والبيان في نشأة البلاغة العربية.
المعنى الأول، ذو البعد
التداولي، هذا المعنى متصل بنشأة البلاغة في الغرب، فقد ركز بارت في خلاصته
المشهورة المركزة من تاريخ البلاغة الغربية على نشأتها في إطار الحجاج من أجل
الأرض، حيث عمل كوراكس وتلاميذه على تعليم الناس تقنية الدفاع عن الأرض. وهذا التفسير الأحادي لظاهرة
معقدة مقبول من الناحية الرمزية، أي من حيث التأكيد على الطبيعة الحجاجية للخطابة،
وإلا فالخطابة كما صاغ أرسطو أدبياتها التي تراكمت إلى عصره جديرة بأن تفسر من
ثلاث زوايا، وفق ما اقترحه روبول[48].
1 ـ الزاوية الحجاجية
القضائية
2 ـ الزاوية الأدبية
3 ـ الزاوية الفلسفية
وهذا المنحى في التفسير تؤيده القراءات اللاحقة للبلاغة
اليونانية، خاصة القراءة العربية حيث نجد الخطابة تدرج في الأرغانون عند الفلاسفة،
ثم يصاغ جانبها الأدبي كبلاغة معممة عند الأدباء، على نحو ما رأينا في أسرار
البلاغة. بل كان البعد القضائي الذي اعتبر أصلاً لنشأتها أول مُتخلىًّ عنه.
2 ـ والمعنى الثاني مرتبط بعملية الاختزال التي تعرضت لها
البلاغة عبر تاريخ طويل، وسنعرض لها.
***
كيف
صيغت التعاريف الحديثة للبلاغة؟
حاول
بلاغيون غربيون، بعد الحرب العالمية الثانية ـ ظهرت أعمالهم خلال الستينات في
الغالب ـ استثمار الأفق العام الذي تفتحه الريطورية القديمة في الواجهتين: في اتجاه
الحجاج والجدل، وفي اتجاه الأسلوب والشعر، وذلك قبل أن تظهر صياغات عامة ذات طابع
سميائي في اتجاه الخطاب عامة.
عادت البلاغة القديمة
محاورا جديا في بناء بلاغة جديدة وحديثة لعدة أسباب. يرى أوليفي روبول أن من
المفارقات كون البلاغة القديمة استدعيت لعلاج قضايا حديثة لا تعود إلى مجال الخطاب
واللغة (بالمعنى الخاص)، بل تعود إلى مجالات أخرى كعلم النفس والموسيقى والصورة،
ومن هذه القناة عادت إلى مجال اللغة: "وعموما فإن البلاغة عادت إلى مجال
اللغة عبر مباحث غير لسانية"[49]. و يُجمل
هنريش بليت تلك الأسباب في ازدهار البحث التداولي (في اللغة والخطاب) ونظريات
التواصل والنقد الأيديولوجي، والشعرية اللسانية. يقول، (بعد التذكير بتردي البلاغة
وسوء سمعتها قبل نهضت علوم اللغة في العصر الحديث):
" ثم تغيرتْ هذه الوضعية (وضعية التردي)
بشكل يكاد يكون مفاجئا في الستينات من هذا القرن. وكان باحثون ألمان قد حاولوا،
قبل ذلك، إعادة الاعتبار إلى البلاغة: دُوكهورن Dock-horn (1944-1949) بتأسيسه لعلم جمال بلاغي قائم على التأثير، وكورتيوس
(1956) بتبريره للتحليل التاريخي للمعاني المشتركة[50]، و
لَوَسْبِيرك (1960-1967) باستقصائه المنهجي الواسع لمواد البلاغة الكلاسيكية.
ونلاحظ حالياً كثرة مفرطة من الأعمال المرصودة للبلاغة تنظيراً وتأريخاً، في أوربا
والولايات المتحدة في وقت واحد. إن سببَ هذه "النهضة" البلاغية يرجع، في
مجال التنظير، إلى الأهمية المتزايدة للسانيات التداولية، ونظريات التواصل والسميائيات
والنقد الأيديولوجي، وكذا الشعرية اللسانية في مجال وصف الخصائص الإقناعية للنصو
وتقويمها. ونتيجة لهذه الأهمية يجب أن سنجل، أولاً، أن البلاغة قد صارت عِلماً،
وأننا نهدفُ من جهة ثانية إلى إقامة نظرية بلاغية، وأن البلاغة من، جهة ثانية،
ليست محصورة في البُعد الجمالي بشكل صارم، بل إنها لتنزع إلى أن تُصبح عِلماً
واسعاً للمجتمع. إن روادَ هذه البلاغة الجديدة في فرنسا[51] هم رولان
بارثْ وجِيرار جِينت وَ ب. كونتر و كبدي فاركا، ومجموعة Mu بلْييجْ و بيرلمان و
تودوروف. لقد استطاع هؤلاء الباحثون وباحثون آخرون كثيرون في بلاد أخرى أن يجعلوا
من البلاغة مبحثاً علمياً عصرياً"[52].
لم يعُد الرجوع للبلاغة
القديمة يستتبع أية عبارة من عبارات القدح بالمحافظة والرجعية، بل صار دليلا على
الإحاطة بالإشكالية الخطابية والإمساك بخيوطها. لقد صار استحضار البلاغة القديمة
حجة على نجاعة المنهج وملاءمته لموضوعه. ومن هنا وجدنا الحديث (بل الاعتزاز)
بوراثة البلاغة القديمة وتمثيلها. فتودوروف (وديكرو بالتضامن) يرى أن الأسلوبية هي
الوريث الشرعي للبلاغة[53]، ويصرح
بيرلمان ومن معه بأن الوجهة الصحيحة لحجاج فعال وناجع في البيئة الديمقراطية
الحديثة هي وجهة بلاغة أرسطو[54]. كما يصرح
رائد علم النص، فان ديك، أن علم النص هو الممثل العصري للبلاغة[55]. وتجاوزَ
جان كوهن فتوى المشروعية فوضع يده على الميراث البلاغي مباشرة فسجله وحفظه تحت اسم
اللغة الشعرية في كتابه: بنية اللغة الشعرية.
من كل هذا التنوع في
الاهتمام بالبلاغة وإعادة صياغة نظرية حديث في حوار مع التراث البلاغي الضخم تكشفت
توجهات ثلاث:
1 ـ التوجه الحجاجي/
المنطقي (أو الفلسفي)
2 - التوجه الأسلوبي/
الأدبي (إو الشعري)
3 – التوجه الخِطابي/
السميائي (أو النصي)
في حين يبدو التوجهان 1
، 2 نزوعين متعارضين: أحدهما يجر البلاغة نحو المنطق عبر الجدل، والثاني يجرها نحو
الشعر عبر الأدب، فإن الاتجاه الثالث حاول تجاوز هذه الازدواجية طامحا إلى تغطية
المجال التواصلي بشكل عام، معتمدا الخطاب.
من الكتب
المعالم في مسار هذا التحول،الكتب التي حددت ملامح الاتجاهات الثلاثة، (الكتب التي
نطمئن إلى أن القارئ سيجد فيها ما تعجز هذه المقالة عن الإحاطة به):
1 ـ كتاب مشترك بين
بيرلمان وأولبريشت تيليكا بعنوان:
مصنف في الحجاج، البلاغة الجديدة
TRAITE DE L’ARGUMENTATION, LA NOUVELLE RHETORIQUE
2 ـ وكتاب
مشترك بين أفراد مجموعة مي بِ لييج (GROUPE Mu DE LIEGE) بعنوان:
البلاغة العامة: LA
NOUVELLE RHETORIQUE[56]
3 البلاغة والأسلوبية Rhétorique
et stylistique لهانريش بليت. Henreih
Plett
1 – التوجه الحجاجي
المنطقي:
البلاغة حجاج والحجاج
بلاغة[57]
العنوان المزدوج
لكتاب بيرلمان وأولبريشت تليكا (مصنف في الحجاج، البلاغة الجديدة) جدير بالتأمل،
فهو إذ يسعى إلى ضبط العلاقة بين الحجاج والبلاغة؛ يعطي إمكانية قراءتين:
أ ـ الحجاج هو البلاغة الجديدة.
ب ـ الحجاج من البلاغة الجديدة[58].
وإذا وضعنا الكتاب في السياق
المعرفي العام حيث مُدت البلاغة نحو الجدل في سياق قراءة خاصة تساهم فيها أعمال
أخرى للمؤلفين (منها كتاب امبراطورية البلاغة لبيرلمان) جاز أن نرجح الاعتبار
الأول: الحجاج هو البلاغة. إذا ما ليس حجاجا بالمعنى الذي يرتضيه المؤلفان
سينتميإلى أحد القطبين: السفسطة أو البرهان.
وحين توضع البلاغة في
سياق منازعة المنطق الصوري في استنباط المعرفة تصبح مبحثا فلسفيا. يقول روبول:
"أن تكون البلاغة بيداغوجيا هذا أمر قد لا يكون محل نزاع، ولكن ألا يمكن أن
نذهب بعيدا فنجعلها أداة من أدوات االفلسفة؟ هل يمكن أن تعتمد الفلسفة على
البلاغة؟ في الاستكشاف والبرهنة؟"[59].
يعترض البعض بكون
الفلسفة تهتم بالحقيقة في حين تقوم البلاغة على قيم من قبيل: العادل والنافع
والجميل. هذا أيضا لا يحرج نظرية الحجاج البلاغي لأنها ترى أن الفلسفة إنما وقعت
في الحرج بسبب عدم قدرتها على الخوض بكفاءة في هذه المجالات نتيجة المأزق الذي
وضعتها في الفلسفة الوضعية والعقلانية فيه. والحال أنها مضطرة للخوض في مجال القيم
بمجرد ما تعطي معنى للوجود الإنساني: "وهل هناك مناهج عقلانية مقبولة تسمح
باختيار الخير من الشر، والعدل من الظلم، والديمقراطية من الدكتاتورية؟…"[60].
وبقدر ما حاول بيرلمان
إثبات عجز المنطق الصوري والفلسفة الوضعية في المجال القيمي بقدر ما حرص على إبعاد
الأحكام الانفعالية والاعتباطية عن البلاغة. "فالبلاغة صالحة عنده لأن تكون
منطقا لأحكام القيمة، أي للفلسفة، على شرط التخلي عن التعارض التبسيطي بين منطق
مختزل في البرهنة الشكلية والبلاغة مختزلةً في إجراءات إقناعية غير عقلية.
وباختصار فالفلسفة يمكن أن تظل عقلية حتى
وهي تؤسس أحكامها القيمية على البلاغة"[61].
[يعرض بيرلمان في مقدمة
إمبراطورية البلاغة "قصة" لقائه بالبلاغة، ذلك العلم العتيق الذي عالج
مسألة القيم بكفاءة تثير الإعجاب. لقد كان منطلقه هو البحث عن "منطق
للقيم" قال: "إن العمل الطويلل النفس الذي خضت فيه مع أولبريشت تيتيكا
هو الذي قادنا إلى نتائج غير متوقعة إطلاقا. نتائج كانت بالنسبة إلينا كشفا لأمر
كان محجوبا عنا ألا وهو أنه لا يوجد منطق
للقيم وأن ما نبحث عنه كان قد عولج من طرف مبحث ضارب في القدم، منسي حاليا
ومستهجن، هو البلاغة، أي فن الإقناع والاقتناع[62].."
ليس مما يناسب سياق هذا
الحديث مناقشة هذه النظرية في جوهرها ، فهذا من اختصاص جيرانها من المناطقة
والتداوليين الذين اهتموا بها طوال العقود الخمسة التي مضت على ظهورها[63]. الذي
يهمني هو امتدادها التأويلي في توجيه التراث البلاغي لصياغة نظرية ذات عمق حواري
فلسفي، نظرية قرئت على نطاق واسع وأثرت في المسار البلاغي أعمق الأثر، وأبسط دليل
على ذلك رواج كتاب بيرلمان وأوليرشت ـ تيتيكا الذي ترجمته طبعاته المتعددة برغم
حجمه الكبير[64].
وتمثل هذه الصياغة أحد
تخوم البلاغة التي تتعرض باستمرار للاقتحام من طرف المناطقة، غير أن دخول المناطقة
إلى هذه الأرض لم يكن مقرونا على الدوام بالنظر في زواياها الملتبسة حيث يختلط
العقل والعرف والجمهور بالخيال والبدعة والفرد، على الترتيب. ولذلك كثيرا ما
تستهويهم إقامة المتارس والحدود، وصبغ الأخضر بالأحمر! فتتحول الأدوات الشعرية
المرصودة للبس وإطلاق الذات من عقالها إلى أدوات لتقييد النظر وتجفيف الفكر.
ويتحول المنطقي إلى منفذ من الضلال. يلقي القبض على البلاغي من سكان ضفة الشعر
ويقطر في عينيه عصير أوراق "الفهم الصحيح" التي مضغها فأحسن مضغها، وبعد
أن يطوق عنقه بذراع الحق يجرعه غصص الصواب، علَّ الله يفتح بصيرته فلا يفعل. وهذا
انطباعي عن حوار سنوات مع بعض الزملاء الأعزاء من المناطقة.
2
ـ الاتجاه الأسلوبي: البلاغة هي الأسلوب
القطب الآخر للبلاغة
الحديثة هو قطب بلاغة العبارة وقد كرس هذا الاتجاه نفسه كبلاغة عامة أو معممة عبر
تاريخ طويل امتد من القرون الوسطى إلى العصر الحديث. لقد أدت بلورة سؤال
"الأدبية" مع الشكلانيين الروس في إطار لساني وكرد فعل على الاهتمام
بالمكونات الخارج-أدبية إلى تقوية هذا المسار الاختزالي[65] وتعميمه
باعتباره بلاغة عامة كافية لفهم الخطاب وتفسيره. غير أن توسع نظرية الخطاب عرض هذا
التوجه إلى النقد خاصة حين تابع الحركات الطليعية في مجال الشعر فاختزل البلاغة
(الشعرية) في صور دلالية خاصة ثم في صورة واحدة: الاستعارة. وقد اشتهر مقال جيرار
جنيت البلاغة المختزلة في انتقاد هذا التوجه، ولذلك نكتفي في هذه المناسبة بخطوطها
العامة.
في أوائل السبعينات نشر
جرار جينيت مقالا يُعتبر رد فعل إزاء هيمنة العبارة (بل الشعرية) على البلاغة، قال
في مستهله، (وأهل مكة أدرى بشعابها):
"عرفت الفترة
الممتدة بين 1969-1970 ظهور ثلاثة نصوص تكاد تكون متزامنة، ومع اختلاف أحجامها فإن
عناوينها تشي بأمر ذي اعتبار. نقصد بذلك: البلاغة العامة لجماعة لييج Rhétorique) générale
du Groupe de Liege)
، الذي نعلم أن عنوانه الأصلي هو : البلاغة المعممة Rhétorique
généralisée))، ونقصد (ثانيا) مقال
ميشيل دوكي Michel Deguy:
نحو بلاغة لصورة التعبير المعممة (Pour une rhétorique de la figure généralisée) ، ونقصد (ثالثا) مقال جاك سوشرJaques
sojcher: الاستعارة المعمَّمة (La métaphore génénalisée). هكذا [يتقلص الموضوع] من البلاغة إلى صورة التعبير إلى الاستعارة"[66].
وحين نفحص كتاب البلاغة
العامة المذكور نجد أن ما يقدمه إنما هو بلاغة لصور التعبير لا تمس الجوانب الأخرى
من البلاغة، بمفهومها العام عند أرسطو، أي أنها لا تهتم بمبحثي الإيجاد(اجتلاب
الحجة) والتنظيم. ولذلك تحول المركزي في البلاغة القديمة إلى الهامش. يقول جينيت
:"ها نحن اليوم نطلق اسم بلاغة عامة على مصنف في صور التعبير. إن إحساسنا
بالحاجة إلى "التعميم" ناتج عن إفراطنا الواضح في الاختزال. إن تاريخ
البلاغة، من كوراكس إلى اليوم، هو تاريخ اختزال مُعمَّم"[67].
اعتبر الدارسون لزمن
طويل ـ وربما ما يزالون كذلك ـ أن أحسن
مَسرَد لتاريخ "اختزال البلاغة الغربية" (بإهمال أبعادها الحجاجية
والمعرفية) هو الذي قدمه رولان بارت؛ فقد اعتمده جل الدارسين وأفتوا به، ومنهم
جيرار جينيت[68] وبيرلمان[69]، مع تركيز
كل على ما يهمه.
وهكذا ركز جيرار جينيت
على لحظات الاختزال الكبرى. فذكر من الأعمال التي كرست تحويل البلاغة نحو صور
التعبير عامة والمجاز، خاصة كتاب ديمارسيDumarsais: المجازات Les tropes. "لقد ساهم هذا المؤلَّف في تقوية الاهتمام بصور التعبير
المعنوية القائمة على المجاز، وبذلك وضع التعارض بين المعنى الحقيقى والمعنى
المجازي في مركز التفكير البلاغي … كما جعل البلاغةَ
تفكيرا في التصوير التعبيري…"[70].
وقد اعتبر فونتاني عمله
امتدادا لعمل ديمارسي وتكميلا له.
يقول جينيت رابطا بين
العملين: "لاشيء يمكن أن يجسد أثر هذا الاختزال المجازاتي (tropologique ) في تطور البلاغة الفرنسية كما جسده عمل (فونتاني)"[71]. كان عنوان
منجزه في الأول: شرح نسقي للمجازات (1818 (Commentaire raisonné des tropes .، ثم عدل إلى: مصنف عام في
صور الخطابTraité général des figures du discours.(1821-1927)) . لقد وسع فونتاني لائحة الصور مستوعبا المجازات وغيرها. ونظرا
لما يطبع الكتاب من استقصاء وحسن تصنيف فقد لعب دورا أساسيا في تحديد مفهوم
البلاغة المعاصرة عامة[72].
وهذا" التعميم" من البلاغة الفرنسية إلى البلاغة المعاصرة ليس حيلة
خطابية من جيرار جينيت لتعميم حكم غير معمم، بل إن الملابسات التاريخية تشهد لهذا
الحكم.
وقد تمثلت الخطوة اللاحقة،
بعد عملية الجرد والتصنيف، في عملية الاختزال عن طريق الدفع بالقيمة المجازية إلى
أقصى الحدود؛ ففي مرحلة أولى أرجعت التحويلات الدلالية إلى علاقتين: مشابهة
ومجاورة كما صاغ ذلك ياكوبصون مستفيدا من تراث الشكلانيين الروس ، ثم أعطيت
الاستعارة مفهوما واسعا وعاما لتستوعب كل صور التغيير الدلالي. وفي هذا السياق،
ومسايرة للإبداع الشعري الحديث، أمكن لبلاغي مثل جاك سوشر أن يحسم الاختيار لصالح
الاستعارة وحدها قائلا دون تحفظ: "إذا كان الشعر فضاء ينفتح في اللغة، وإذا
كانت الكلمات تتكلم من جديد والمعنى يتمعنَنُ من جديد بواسطتها، فذلك لوجود تحويل
للمعنى بين اللغة المستعملة والقول المتوصل إليه، أي وجود استعارة. وفي هذا
المنظور لا تبقى الاستعارة مجرد صورة من الصور بل تصير صورة الصور، ومجاز
المجازات"[73].
هذا الرأي هو نفسه الذي
وصل إليه ميشيل جوكي برغم أن عنوان مقاله يوحي بتوسيع المجال، قال: "إذا تعلق
الأمر بإخضاع نوع من الأنواع لجنس ما، فإن الاستعارة،أو صورة الصور، هي المؤهلة
للعب دور الجنس… لا يوجد غير جنس أعلى واحد هو جنس صورة التعبير أو الاستعارة… الاستعارة والكناية
تنتميان، رغم اختلافهما الثانوي، إلى بُعْدٍ واحد، هذا البعد الذي يمكن التعبير
عنه عامة بعبارة الاستعارية"[74].
وبعد تتبع لمسار عملية
الاختزال حيث يتضح أن البلاغة وقعت أسيرة الشعرية يختم جينيت مقاله بعبارة فيها الكثير من المداعبة، أو السخرية
البيضاء من ذلك التابع الذي يريد أن يصير متبوعا، مسجلا تعجبه من ادعاء الشعر
والقدرة على تغيير العالم المهمة التي تعتقد البلاغة أنها من اختصاصها قائلا:
"من البديهي، فيما آمل، أننا لا نقترح هنا لا على الشعر ولا على الشعرية
التخلي عن استعمال الاستعارة أو عننظريتها. بل الصحيح بالمقابل هو أن الاستعارية
أو المجازية أو نظرية صور التعبير هي التي لا تتركنا وشأننا فيما يخص البلاغة
العامة، وأكثر من ذلك فيما يخص هذه " البلاغة الجديدة" (إذا شئنا) فهي
التي تنقُصُنا(من بين أشياء أخرى) من أجل "التأثير في محرك الكون"، وهي
التي ستكون سميائيات للخطابات، لجميع الخطابات"[75].
لعل هذه العبارة
الكاشفة لكثير مما وراء الخطاب أحسن تمهيد للتوجه الثالث.
3
ـ التوجه الخِطابي: السميائيات وعلم النص
يتجسد البحث عن بلاغة
لكل الخطابات كما تمناها جينيت، البلاغة المؤهلة "للتأثير في محرك
الكون"، في البحث عن صيغة تجمع بين الاتجاهين 1 وَ 2 في ربقة، وصهرهما في
بوتقة. فبذلك نخرج البلاغة من أن تكون بلاغة معمَّمة أو مؤمِّمة (أي يصادر مكون من
مكوناتها المكونات الأخرى ويؤممها) إلى بلاغة عامة ينصهر فيها المكونان الشعري
والتداولي الخُطبي وتتجاوز اللغة الطبيعية إلى عالم العلامات. بلاغة تقع عند تقاطع
أجناسالقول وأشكال التواصل. رائدها التأثير والتفعيل. إنها صيغة قد تظل هدفا تهفو
نحوه القلوب وتقصر دونه المشاريع المضبوطة
علميا وهذا ليس عيبا نظرا لطبيعة الموضوع المتحركة. لقد شكر جينيت مسعى رولان بارت
وكبدي فاركا نظرا لكونهما خرجا بالبلاغة عن حدود صور التعبير واهتما بالأبعاد
الأخرى التي أغفلتها الشعرية.
وأرى أن أجرأ محاولة
للخروج من الثنائية، فيما اطلعت عليه، هي التي اقترحها هنريش بليت في مقاله
المطول: البلاغة والأسلوبية Rhétorique et stylistique.
يأخذ هنريش بليت على
التوجه الثاني (الشعري) إهمال البعد التداولي للخطاب هذا التوجه الذي اغتنت به
البلاغة القديمة قبل أن تختزل، قال:
"لقد اعترف منظرون
محدثون مثل ج.ن.ليش (1969،1966)، و ت. تودوروف (114-117: 1967)، ومجموعة لييج (ج. ديبوا
وَ ج.م. كلانكبيرك وَ أل 1970) بدقة فن العبارة القديم(élocution)، وأسلوبية الانزياح، وحاولوا إدماجهما اعتمادا على اللساانيات
البنيوية. كانت النماذج المحصلة بهذه الطريقة أحيانا أكثر تماسكا من البلاغة
الكلاسيكية، غير أنها، بخلاف الأخيرة، تتخلى بشكل يكاد يكون تاما عن التوجه
التداولي"[76].
يستند مقترح هنريش بليت
في أساسه النظري إلى منزع سميائي ينطلق من المقام التواصلي ويراعي ثلاثة أبعاد في
بناء الخطاب: التركيب. الدلالة. التداول[77].
وهذا النموذج يتعامل مع
في الخطابات المختلفة حسب مقاماتها ابتداء من الخطاب اليومي وانتهاء بالخطاب
الناقص عبر الخطابين الخُطْبي والشعري، وتتدخل المقاصد في تحديد طبائع الخطابات،
ويقوم التمييز بينها على الهيمنة، حسب مفهومها عند ياكوبسون لا على الانفصال
والقطيعة. نأخذ فقرة من المقال المذكور تعالج هذه القضية القديمة الجديدة، قضية
التداخل والتخارج بين الخطابات:
"وإذا مال التواصل
الخُطبي نحو التواصل الشعري فإن الصورة البلاغية تتحول إلى صورة شعرية. وهذا يتضمن
تغييرا في الوظائف، ففي حين يررتبط التواصل الخطبيي (مثل التواصل الليومي) بوظيفة
مقصدية ملموسة لا بوظيفة لسانية فإن الغرض من التواصل الشعري ـ بحسب ياكوبصون ـ
ليس إلا غرضا في ذاته (الغائية الذاتية)، أي أن الدليل اللساني الثاني يحيل على
نفسه. من هذه الزاوية فإن التواصل الشعري لا يرتبط بعناصر خارج اللغة بل يكون
نظامه التواصلي الخاص. ومع ذلك فإن هذه المعالجة لا تعني أن هناك رجوعا إلى تصور
عتيق وعازل للأدب، بل إنها أكثر تعقيدا في الواقع. فالوظيفة الشعرية لا تلغي
الوظائف الأخرى، بل تكتفي بالهيمنة عليها. فالواقع أن النص الشعري يحتوي أيضا على
عناصر إقناعية وعناصر حمالة للأخبار. كما أن النص الإقناعي يحتوي عناصر شعرية
وعناصرر إخبارية. وإذا وقعت انزلاقات في تراتبية الوظائف النصية، تبعا لتغير في
نمط التلقي، فقد ينتج عن ذلك شعرنة نص أو ضياع شاعريته. وينبغي ترتيب الصور
اللسانية حسب الهيمنة الوظيفية، وبذلك ستنتمي حينا إلى تصور أسلوبي شعري، وحينا
إلى تصور خطبي، وحينا إلى تصور يومي"[78].
ويأسف هنريش بليت لكون اسلوبية
السجلات لم تطور برغم كونها مؤهلة لتجاوز النقص المترتب عن اقتصار الأسلوبيات
الأخرى التي تركز على جانب من جوانب مقام التواصل(المرسل، المتلقي، السنن) دون
الآخر. فبرغم كون التكيز على جانب دون الآخر "ضروري لإبراز الطابع الخاص
لتوجه متميز، غير أنها (أي التوجهات الجزئية) تمنع من رؤية مجموع ظاهرة التواصل
الأسلوبي في مجملها. ولذلك كانت النظريات التي تستوعب عدة عوامل تواصلية مفضلة على
غيرها: كما هو الشأن بالنسبة لنظرية السجلات . والسجل يعني "تنوع الأدب بحسب
الاستعمال" الذي يسمح بتقسيم ثلاثي ملائم لكل مقام، كما يلي:
1 ـ حقل الخطاب:
العلاقة بين النص والموضوع،
2 ـ نوع الخطاب:
العلاقة بين اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة.
3 ـ فحوى الخطاب:
العلاقة بين المرسل والمتلقي في بعض مقامات التواصل الاجتماعي"[79].
ويبدو أن الصياغة
السميائية حسب التصور الذي قدمه هنريش بليت أكثر انسجاما وأوضح دلالة من توجه علم
النص الأدبي الذي بدا لي ـ في حدود فهمي ـ تلفيقيا وغير دال؛ يسوده الكثير من
التكرار، وتضع فيه الخصوصيات النوعية.
هذه خطوط عامة لرسم
تخوم البلاغة وما تتعرض له من اقتحام، مع بيان المحاولات المتكررة من طرف الشعوية
والحجاج للاستيلاء على مركزها وعاصمتها، وقد اتضح كيف أن الخطابة كانت على الدوام
نقطة تقاطعهما حتى التبست كإنتاج نصي بالصناعة التي تتناول الخطاب أي بلغته
الواصفة: البلاغة. كما التبست البلاغة بالمعرفة أي بالرصيد الثقافي للخطاب n
[1] ـ لا أريد
أن أشوش على مسار العرض باستعراض صور من الخلط لدى بعض الدارسين المختصين في هذا
المجال، ويكفي أن تجد داخل خطة لتحليل الخطاب عبارات من قبيل: "المستوى
البلاغي" و "المستوى التركيبي" و "المستوى الحجاجي"
وجنبا بجنب... لتتساءل عن انسجام الكلام.
[3] ـ توفي
الخليل سنة 170هـ وسيبويه سنة
180هـ .
[4] ـ وقد صرح
أحيانا بانتماء البديع إلى مجال الشعر كما يفهم من عنوان أسامة بن منقذ: البديع في
نقد الشعر.
[5] بعد انتهاء
ابن المعتز من عرض صور البديع حسب مفهومه و اختياره (وهي الاستعارة و التجنيس و
المطابقة ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي) قال: "قد قدمنا
أبواب البديع الخمسة … ونحن الآن نذكر بعض محاسن الكلام والشعر، ومحاسنها كثيرة لا ينبغي
للعالم أن يدعي الإحاطة بها… فمن أحب أن يقتدي
بنا ويقتصر بالبديع على تلك الخمسة فليفعل… " والمحسنات
المقصودة هي: الالتفات، الاعتراض، الرجوع، حسن الخروج، تأكيد المدح بما يشبه الذم،
تجاهل العارف، حسن التضمين، التعريض والكناية،الإفراط في الصفة،حسن التشبيه، إعنات
الشاعر نفسه فيي القوافي، .(البديع).
[6] - Dictionnaire encyclopédique. (Rhétorique)
(Oswald Ducrot/Tzvetan Todorov- Dictionnaire
encyclopédique des sciences du langage. Edition du Seuil 1972)
[7] ـ انظر
تفصيل ذلك في كتابنا : البلاغة العربية. ص.200.
(محمد العمري. البلاغة
العربية أصولها وامتداداتها. طبع إفريقيا الشرق.بيروت/ الدار البيضاء 1999)
[8] ـ انظر
تفصيل ذلك في الكتاب المذكور.ص.431 – 441 وما حولهما. والصفحة 291 . وقارن بِ ص
271.
[9] ـ أقصدُ
بالجدة عدم ظهوره قبلُ عنوانا لكتاب في وصف الخطاب الشعري والتداولي.
[10] نشير بذلك
إلى استغلال الخطيب للمعطيات المنطقية و الشعرية (موسيقية وسردية) و السيكولوجية
والأخلاقية… إلخ ذلك لغرض التأثير و التفعيل.
[11] ـ وهذا
الفهم يبعدنا عن كثير من الحرج الذي يؤدي إليه الحديث عن البيان باعتباره صفة
للعقل العربي، حتى ولو قيد ذلك بمرحلة تاريخية. أضف إلى ذلك ارتباط البلاغة
باعتبارها صفة للكلام بالنثر كما يظهر من الكتب التي ألفت تحت العنوان مثل: نهج
البلاغة، لابن أبي الحديد، وكمال البلاغة لعبد الرحمن اليزدادي (وهو رسائل شمس
المعالي قابوس بن وشمكير).وهناك مع ذلك بلاغات النساء من الشعر وغيره.
[12] ـ كانت قد
بدأت مع علماء الإعجاز: الباقلاني على وجه الخصوص، ثم كان الإطلاع على القراءة
العربية لنظرية المحاكاة مسعفاً للوصول بعملية الاختزال إلى نهايتها، بإرجاع الشعر
إلى صور المشابهة دون غيرها، ولاشك أن هذا المنحى سيذكر المطلعين على إشكالات
البلاغة الغربية بالعرض الذي أنجزه جيرار جينيت لمراحل اختزال البلاغة الغربية
وسيرد ذكره لاحقا.
[13] ـ دلائل
الإعجاز 34. (تحقيق محمود محمد
شاكر.مطبعة المدني مصر ودار المدني بجدة 1992.)
[14] ـ نفسه 43
.
[15] ـ قال:
"والفرق بين الفصاحة والبلاغة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة
لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني...وكل فصيح بليغ وليس كل بليغ فصيحا". (
سر الفصاحة 59). وهذا التعريف سيخلق مفارقة بين عنوان الكتاب كمشروع وبين منجزه
المتحقق.(انظر تاريخ البلاغة418-420).
[17] ـ ميز
بيرلمان بين صورة التعبير الحجاجية والصورة التحسينية بقوله: " نعتبر صورة
التعبير حجاجية إذا كان استتبعت تغييرا في الأفق فبدا استعمالها عاديا
بالنسبة للمقام الجديد المقترح. أما إذا كان الخطاب، على خلاف ذلك، لا يستتبع
انخراط المستمع في هذا الشكل الحجاجاي فإن الصورة ستظهر كمحسن، أي كصورة أسلوبية.
بوسعها أن تثير الإعجاب، ولكن ذلك يظل في المستوى الجمالي، وقد تدل على أصالة
الخطيب". ( Ch.Perelman et Olbrechts –Tyteca. La nouvelle rhétorique’
traité de l’argumentation (Paris 1976).p.229 . ونقله في L’empire rhétorique.p.13 أيضا.
[18] ـ أخذنا
هذه الفقرة والخطاطة الآتية بعدها من كتاب: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها
488. انظر تفصيل الكلام هناك.
[20] ـ نفسه
432.
[21] ـ نفسه
416.
[22] ـ المثال
الأول هو قول الفرزدق:
وما مثله في
الناس إلا مملكـا أبو أمه حي، أبــوه
يقاربـــه
وهو من أمثلة مداخلة الكلام(ابن سلام.
طبقات1/364 ـ365). و"التعسف الشديد و وضع أشياء في غير مواضعها" . (المرزباني.
الموشح 134)
والمثال
الثاني قول أبي تمام (في مفتاح العلوم 416):
ثانيه في
كبـد السماء ولـم يكــن كاثنيــن
ثــان إذ هما في الغـــار
[23] ـ نفسه
485-486.
[24] ـ انظر
مقال فان ديك، وهو من أعلام علم النص: "النص؛ بنياته ووظائف" ترجمة محمد العمري. منشور ضمن كتاب نظرية
الأدب في القرن العشرين. دار إفريقيا الشرق . الدار البيضاء 1997.
[25] ـ حاولنا
بناء هذا القسم في آخر كتابنا: البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها. ص 512-518.
[26] ـ ومن
البديهي أن عمل ابن رشد امتداد لعمل الفلاسفة خاصة الفارابي في حديهم عن المكون الجوهري
المعتمد (أو العمد’) في كل من الشعر والخطابية : التخييل أو التصديق. والحديث عن
"عمود الخطابة" في هذا العصر يذكر من الناحية المنهاجية بمشروع ابن وكيع
التنيسي في البحث عن بلاغة للنثر على نمط بلاغة الشعر التي تناولها القدماء.
[27] - تلخيص
الخطابة 10.
(
تلخيص الخطابة . ت. عبد الرحمن بدوي . دار العلم بيروت . 1959.)
[28] ـ نفسه 11.
وهذا يرجع إلى أن "المقصود بهذه الصناعة، مِنَ الذي يُرادُ إقناعُه، إنما هو
الفعل أو الانفعال".(ص14). وقوله "الذي" = الشخص.
[29] نفسه 4 –
5.
[30] ـ نفسه 11.
[31] ـ نفسه 11.قال:
المقدمات المحمودة التي ليست دلائل". (ص 23.) "المحمودة عند الأكثر أو
الجميع على نحو ما تستعمله صناعة
الجدل".( ص20). "المقدمات المحمودة أعني المقبولة" (ص20).
[32] ـ تلخيص الخطابة
11.
[33] ـ نفسه 12.
[34] - نفسه 12.
[35] ـ نفسه 12 ـ 13.
[37] ـ نفسه
231.
[38] ـ نفسه
362.
[39] ـ نفسه.
[40] ـ نفسه 96. انظر أيضا حديثه عن المتداول والمخترع من
المعاني في ص 192-196.
[41] ـ البلاغة
العربية ، أصولها وامتداداتها 510.
[42] ـ علوم
البلاغة 13.
[43] ـ المنهاج
الواضح 10-13.
[44] ـ سبق أن
عرضنا لواقع البلاغة العربية بعد المراغي في مقالة بعنوان: "البلاغة
المأسورة".نشرت ضمن سلسلة مقالات بعنوان: مراصد الخطاب، ظهرت بجريدة الرياض
سنة 1996.
[45] ـ تناولت
واقع الدرس الأدبي (وضمنه الدرس البلاغي) في الجامعة المغربية في عرض قدم في ندوة
العلوم الإنسانية الجامعة والشراكة. نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية نونبر
1998.
[46] ـ اعتمدنا
هذا التعريف لاختزاله وتأخره ، وكون صاحبه من المختصين المشهورين في هذا المجال.
ويمكن دعمه بالرجوع إلى موسوعة علوم اللغة
encyclopédique
des sciences du langage Dictionnaire لتودوروف وديكرو. حيث يوسعان التعريف المعتمد حتى ليبدو مأخوذا
عنهما.
[47] ـ رُكز
أحيانا على هذا المنحى في البلاغة الغربية لكونه طبع البلاغة بالمعيارية فكان ذلك
سببا في الثورة عليها. وهذا منحى عرفته البلاغة العربية أيضا بعد القرن الخامس
الهجري. ومن أهم الأعمال التي استهدفت تعليم البلاغة في مجال الكتابة: المثل
السائر في أدب الكاتب والشاعر. لابن الأثير.
[48] ـ انظر تفصيل ذلك في كتابه: La
rhétorique. منشور بسلسلة Que
sais-je?.
PUF.
Paris .1984
[49] ـ Olivier
Reboul. La Rhétorique. P.32-33.
[50] ـ ترجمة
لكلمة topique
، وسيأتي بيان معناها في
الحديث عن الإيجاد (المترجم).
[51] ـ لعله
يقصد في أوربا، فمن بين هؤلاء من ليس فرنسيا (المترجم).
[52] ـ البلاغة
والأسلوبية 15. وتكتسي عودة البلاغة في نظر هنريش بليت مشروعية تاريخية ومنهاجية.
ص16.
[53] Dictionnaire Encyclopédique: Rhétorique
[54] L’empire rhétorique. P. 14.
[55] - النص
بنياته ووظائفه.(المقدمة).
[56] ـ
ولبيرلمان كتاب آخر مشهور في بسط سلطة البلاغة الحجاجية، وهو كتاب إمبراطورية
البلاغة L’EMPIRE
RHETORIQUE كما خصصت جماعة مي كتابا
للشعر بعنوان: بلاغة الشعر: RHETORIQUE DE LA POESIE. لقد أشرنا إلى الطابع الجماعي لهذه الأعمال آملين أن يستخلص
القارئ بنفسه دلالة ذلك.
[57] - نحيل هنا
على كتاب جماعي بعنوان: أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى
اليوم. من إنجاز فريق البحث في البلاغة والحجاج. جامعة الآداب والفنون … تونس1. كلية
الآداب منوبة. تونس1998.
تحت إشراف حمادي صمود وتقديمه (مقدمة في الخلية
النظرية للمصطلح). ومشاركة الباحثين : هشام الريفي (الحجاج عند أرسطو)، وعبد الله
صولة(الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته من خلال مصنف في الحجاج، الخطابة الجديدة،
لبيرلمان وأولبريشت تيتيكا) وشكري المبخوت (نظرية الحجاج في اللغة)، ومحمد علي
القارصي (البلاغة والحجاج من خلال نظرية المساءلة لميشال مايير)، ومحمد النويري
(الأساليب المغالطية مدخلا لنقد الحجاج). (عدد صفحاته 547)
[58] ـ انظر في
هذا السياق مقال أوليفي روبول: هل يوجد حجاج غير بلاغي؟ ترجمه محمد العمري. في
مجلة علامات. جدة 1996.
[59]. Olivier Reboul
. La Rhétorique .p. 109.
[60] ـ نفسه ص.
110.
[61] ـ نفسه.
[62] L’empire rhétorique . P.
9.
[63] ـ انظر
تقويما موجزا لعمل بيرلمان وأولبريشت تيتيكا في مقال عبد الله صولة ضمن كتاب: أهم
نظريات الحجاج 348- 350.
هذا،
وكثيرا ما استعمل هذا التوجه نحو "أبلغة" المنطق و "منطقة"
البلاغة في التشويش على العقلانية في البيئة العربية المتخلفة، ففكان ذلك كالحق
الذي أريد به باطل. ويكمن الباطل في الوقوف عند الخطوة الأولى من الإجراء: الأخذ
بالاحتمال، وعدم الانتقال إلى الخطوة الثانية في الترجيح؛ ترجيح القيم الإيجابية
في ضوء المسار التاريخي للإنسانية، على نحو ما قصد أرسطو ووضح ابن رشد وبيرلمان.
[64] ـ ذكر الزميل
عبد الله صولة خمس طبعات لكتاب Traité de l’argumentation, La
nouvelle rhétorique.
1958. 1970. 1976. 1988. 1992.
[65] ـ عرضنا
للتوجهات العامة لهذه البلاغة الشعرية في مقدمة كتابنا: تحليل الخطاب الشعري
البنية الصوتية. وتحدثنا هناك عن شعرية لسانية (إكوبسون)، وشعرية بلاغية (جان
كوهن) (وكنيدي فاركا) وشعرية سميائية (لوتمان).
[66] ـ “Rhétorique
restreinte” في Figure3. .ص21 .
Gérard Genette. Figure 3.
Editions du Seuil, Paris.1972.
[67] ـ نفسه 22.
[68] ـ قال
جيرار جينيت: "من أجل تفصيل هذه النظرة المسيطرة وإصلاحها يلزمنا القيام بفحص
تاريخي واسع يتجاوز طاقاتنا بكثير، وقد كان رولان بارت قدم الخطوط العامة له في
ندوة بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا. ولا نطمح هنا لأكثر من الإلحاح على
المراحل الأساسية لهذه الحركة؛ المراحل التي سجلت الانتقال من البلاغة الكلاسيكية
إلى البلاغة الجديدة المعاصرة، مع التساؤل عن دلالاتها". (La
rhétorique restreinte.p. 22)
وأشـتار في الحاشية إلى المنحى المخالف الـذي سار فيه كبدي فاركا Kibédi Vrga في كتابهRhétorique et littérature حيث اعتمد مؤلفات مغايرة تظهر الاهتمام بالأبعاد الأخرى للبلاغة
مما لا يتسع المقام لذكره. و وجد بيرلمان ضالته،وهو بصدد بيان هيمنة الاتجاه
الأسلوبي على البلاغة، فيما كتبه جيرار جينيت، فاستأذن القارئ في نقل فقرات من
مقاله(الصفحتان21-22 من مقال جينيت).
[69] ـ قال في
إمبراطورية البلاغة : "برغم أن رولان بارت لا يرى في البلاغة القديمة أكثر من
موضوع تاريخي، أي أنه متجاوز حاليا، فإنه يؤكد أن حصر البلاغة في صور التعبير يجافي المنطق". L’empire
rhétorique.p.11.
[70] ـ 23 L’empire rhétorique.p..
(ch. Perlman. L’empire rhétorique, rhétorique et
argumentation. Librairie Philosophique j. Vrin. Paris. 1977)
[71] ـ نفسه.
[72] ـ نفسه24.
[73] ـ نقله
جينيت في figures3.p.33. من المقال المذور سابقا.
[74] ـ نقله
جينيت في 3figures
ص34.
[75] ـ نفسه 40.
[77][77] ـ قال:
"إذا ما تبنينا وجهة نظر سميائية تستلهم نموذج موريس ch. w. Morris فإننا نميز ثلاثة أصناف
من الانزياحات:
انزياح
في التركيب (العلاقة بين الدلائل)، 2) وفي التداول (العلاقة بين الدليل والمرسل
والمتلقي)،3) وفي الدلالة (العلاقة بين الدليل والواقع).
يرتبط بكل مجال من هذه المجالات صنف من الصور
التعبير". (البلاغة والأسلوبية 41).
[78] ـ البلاغة
والأسلوبية 64-65.
[79] ـ نفسه39.