أطفــال الشــارع

 (رؤية نقدية نفسية اجتماعية وتربوية للظاهرة بأبعادها المختلفة)

 

محمد عباس نور الدين

"لو أعطى السلطة المطلقة في مجال التربية فإني سأغلق كل مؤسسات إعادة التربية (الإصلاحيات)، وأقيم بدلا منها مراكز مختلطة في مجموع البلاد، وأنظم تداريب لإعداد أطر أكفاء تعنى بهذه المراكز (أساتذة، منشطون…)، ولا يتقاضى هؤلاء تعويضات خاصة، ويأكلون من نفس الطعام الذي يأكله رواد هذه المراكز. وكلمة السر في هذه المراكز هي: الحرية، بحيث تصبح المراكز كمستشفيات وليس مراكز اعتقال… الفرق بين هذه المراكز والمستشفيات إنها لا توزع الأدوية، والعلاج الذي تقدمه هو نتيجة لما تثيره من الحب في الوسط الذي تعمل فيه".

 

تتنازع الإنسان منذ الولادة حاجتان رئيسيتان متعارضتان: الحاجة إلى الأمن والحاجة إلى الاستطلاع والإثارة والمجازفة. ويعبر عن الحاجة إلى الأمن برغبة الطفل في الارتباط بوالديه ولا سيما الأم, أما الحاجة إلى الاستطلاع والإثارة أو المجازفة فيعبر عنها برغبة الطفل في استكشاف المجال المحيط به والذي هو مصدر تعرضه لمخاطر عديدة. وهذه الثنائية في السلوك (رغبة البحث عن الخطر وتفاديه في نفس الوقت) تظهر في مختلف مراحل العمر بكيفية متفاوتة وفي مجالات متنوعة من الوجود الإنساني(1).

ففي مرحلة الطفولة يتماهى (يتقمص) الطفل بوالديه باعتبارهما مثالا للقوة والمعرفة, فوالده هو الأقوى دائما, وأمه هي الأجمل… ويعبر عن رغبته في أن يكون كوالديه في كل شيء. وفي مرحلة المراهقة يشعر المراهق أنه أصبح قادرا على أن يكون له ابنا بحكم بلوغه الجنسي, ويصبح قادرا على التفكير المنطقي, إلا أنه يكتشف أنه لا يستطيع أن يمارس سلوكه الجنسي بشكل طبيعي ومشروع, وغير قادر على ممارسة التفكير المنطقي بحرية بحكم تبعيته لوالديه, مما يجعله يصاب بنوع من الإحباط, وهذا ما يفسر توزع المراهق بين شعورين متناقضين: تماهيه بوالديه ورغبته في التميز عنهما. الأمر الذي يجعله يكبت شعوره العدائي  إزاء والديه. وجوهر الأزمة التي يمر بها المراهق في هذه المرحلة تكمن في أنه مطالب بأن يوفق بين عدوانيته إزاء والديه وحبه لهما واستمرار حاجته لهما. وما يصدر عن المراهق من تمرد وشغب أحيانا غالبا ما يرمي إلى إثارة انتباه والديه له, ويعتبر بمثابة خطاب موجه لهما ليعترفا بالتغير الذي طرأ على شخصيته وبأنه لم يعد مجرد طفل تابع لهما في كل شيء.

إن هذا الوضع يثير الكثير من المشاكل للمراهق ولوالديه, خاصة إذا كان الوالدان شديدي الحساسية نتيجة أوضاعهما غير الملائمة (بطالة, أمية, إدمان, شعور بالنقص وبعدم الكفاءة…) ونتيجة هذه الصدمة يجد المراهق نفسه وجها لوجه أمام والديه أو من يرمز إليهما, وقد يندفع في مواجهته إلى اللجوء إلى العنف, ويندفع إلى الشارع باحثا عن الأمن الذي افتقده داخل الأسرة. وعن الشعور بالانتماء, وراغبا في التحرر من فضاء الأسرة الرتيب والممل(2).

الشارع كفضاء رافض للطفل:

إن الشارع بطبيعته, وطبقا لتصور الجماعة عنه, هو مكان عمومي مخصص للمواصلات سواء من طرف الراجلين أو العربات والدراجات… وبالتالي فلا مكان للطفل في الشارع, بل إن الشارع صمم على أساس رفض الطفل على اعتبار أن الطفل إما أن يكون في رعاية والديه أو يكون في المؤسسة التعليمية أي المدرسة, والجماعة لا تعترف إلا بهذين البعدين بالنسبة للطفل, وتعتبر أن الطفل عندما لا يكون في المدرسة يجب أن يكون في رعاية والديه والعكس صحيح, وهذا يفترض ضمنيا رفض وجود الطفل وحده في الشارع. بل إن عبارة "أطفال الشوارع" تعني في نظر الجماعة الأطفال الذين حرموا من الوالدين, أو من رعايتهما, وبالتالي حرموا من المدرسة بحيث لم يعودوا يتوفرون على أية حماية ويتعرضون للانحراف.

وهكذا فلا مكان للطفل في الشارع يتحرك فيه بكيفية مشروعة, وهذا ما جعل المسؤولين عن تخطيط المدن والأحياء الحديثة لم يعطوا اهتماما كبيرا لمسألة توفير المساحات المخصصة للأطفال والمراهقين, سواء على شكل حدائق ألعاب أو أماكن لممارسة بعض الهوايات والأنشطة الرياضية… وكثيرا ما يضطر الأطفال والمراهقون إلى مغادرة أماكن تجمعهم نتيجة تدخل الكبار الذين غالبا ما يعترضون على تجمعاتهم ويعتبرونها مصدرا للإزعاج والفوضى والتخريب… لذا كان على المعنيين بتخطيط المدن اعتبار المساحات المخصصة للأطفال والمراهقين بمثابة جزء من مكونات المدينة مثلها كمثل المنازل المخصصة للسكنى والمنشآت العمومية(3).

الشارع كمتنفس للطفل والمراهق:

إن جو الأسرة, بالنسبة للطفل والمراهق, يظل جوا رتيبا ومغلقا يغلب عليه الروتين مما يشعر الطفل والمراهق بالملل وبرغبة الانفلات من رقابة الأسرة, خاصة عندما يسود الأسرة جو من السلطوية المبالغ فيها. وفي الشوارع, ومع الرفاق, يتحرر الطفل أو المراهق من جو الأسرة الممل, ويقيم علاقات مع أمثاله لا يمكن أن يقيمها داخل الأسرة، مرتبطا بالواجبات المدرسية وبأوامر ونواهي الوالدين وبالقيام ببعض الأعمال المنزلية… وقلما يتيح جو الأسرة ممارسة الأطفال والمراهقين لهواياتهم, وإن مورست بعض هذه الهوايات فإنها تبقى خاضعة لمراقبة الوالدين مما يقلل من متعتها.

إن استمرار الأسرة في معاملة المراهق كطفل, وعدم مراعاتها للتغيرات الفيزيولوجية والنفسية التي طرأت على جسمه وشخصيته تجعله يضيق ذرعا بالمنزل وبعالم الأسرة بصفة عامة, ويبحث خارج المنزل عن علاقات جديدة مع أمثاله من المراهقين مما يعطيه شعورا بالأمن ويساعده على بناء هويته المستقلة(4). والتغيرات المفاجئة التي تنتاب المراهق وما يرافقها من مشاعر القلق والخوف, بالإضافة إلى توتر العلاقات بين المراهق وأسرته بسبب عدم تفهم هذه الأخيرة واقع المراهق ورغباته وحاجاته… كل ذلك من شأنه أن يدفع المراهق إلى خارج منزل الأسرة, أي إلى الشارع, هربا من جو الأسرة وبحثا عن الرفاق من أمثاله الذين يتقبلونه ويتبادلون معه المشاعر والخبرات بعيدا عن أية سلطوية, مما يتيح له فرصة للحوار وتأكيد الذات والثقة بالنفس. ويجب أن يتفهم الآباء هذه الرغبة لدى المراهق, رغبة الخروج من المنزل, ولا يبالغون في إبداء مشاعر الخوف والقلق عندما يخرج, إذ من شأن ذلك أن يعطي المراهق مبررا جديدا للإصرار على الخروج من المنزل, خاصة إذا علمنا أن المراهق يميل إلى تحدي سلطة الكبار وإلى التحرر من أوامرهم ونواهيهم.

الشارع كفضاء للبحث عن الهوية:

بخروج المراهق إلى الشارع والتحاقه بزمرة الرفاق يبحث عن هويته الجديدة كمراهق والتي لم يتمكن من تلمسها داخل الأسرة. وكثيرا ما نرى تجمعات للمراهقين في بعض الشوارع أو الساحات العمومية أو مداخل العمارات يتبادلون الأحاديث والنكات أو يغنون ويصرخون أو يركبون الدراجات النارية, أو يمارسون الألعاب الرياضية في أماكن خالية… وكأنهم بأعمالهم هذه يريدون إثارة انتباه الكبار إليهم وانتزاع الاعتراف بهم من طرف الكبار. وقد يلجأ المراهقون إلى العنف أحيانا لمجرد رغبتهم في تحدي الكبار وفي أن يعترف بهم وبهويتهم المستقلة.

ومن المعلوم أن المراهق ينتابه شعور بالبحث عن الهوية, فهو يرغب في تجاوز مرحلة الطفولة من ناحية, ومن ناحية أخرى يرغب في الاندماج بعالم الكبار. فالتغيرات الفيزيولوجية والنفسية التي طرأت عليه تشعره بأنه لم يعد طفلا وأن عليه تخطي مرحلة الطفولة… إلا أن استمرار تبعيته لوالديه وعدم توفره على وسائل الاستقلال عنهما تجعله يعيش وضعا متأرجحا يبحث فيه عن هويته كإنسان له رغباته وشخصيته وآراؤه… إنه في هذه المرحلة أشبه "بمسافر فقد جواز سفره على الحدود. فلا هو استطاع التخلص من الطفولة وبراءتها وقلة خبرتها, ولا هو أصبح راشدا مقبولا وسط الراشدين"(5). لذلك نرى أن المراهق يميل إلى الخروج إلى الشارع للانضمام إلى جماعة الرفاق التي تعتبر الوسط الضروري للتخلص من مشاعر القلق التي يعاني منها بسبب وضعه المتأرجح. وجماعة الرفاق هي بمثابة المرآة التي من خلالها يتعرف المراهق على ذاته كإنسان, ويتاح له تأكيد ذاته, وممارسة الحوار مع أمثاله من المراهقين مما يشعره بالانتماء والثقة بالنفس. وفي المجتمعات القديمة كانت تمارس شعائر خاصة للتعبير عن انتقال المراهق إلى عالم الراشدين. أما اليوم فإن المراهقين يحاولون خلق شعائر جديدة بلجوئهم إلى أنواع مختلفة من السلوك. فقد يلبسون ألبسة متميزة, أو يحملون شارات خاصة بهم, ويمارسون هوايات معينة حتى أنه يمكن أن نتحدث عن "ثقافة المراهقين" أو "ثقافة المراهقة"(6).

أطفال الشارع واقتصاد العولمة:

يكاد يكون من المسلم أن الفقر هو السبب الرئيسي لتشرد كثير من الأطفال في الشارع. وعلى سبيل المثال يستفاد من البحث الميداني الذي أجرته "الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال ذوي الحالة غير المستقرة" أن والدي (أو أحدهما) غالبية أطفال الشارع موضوع الدراسة (98%) ما يزالون على قيد الحياة, وأنهم يدفعون أبناءهم إلى الشارع للقيام بأي عمل يمكن أن يدر عليهم بعض الدخل. لذا يلجأ هؤلاء الأطفال إلى أنشطة عديدة مثل: التسول, بيع السجائر بالمفرق, بيع أكياس البلاستيك أو علب الكلينكس, مسح الأحذية, مسح زجاج السيارات, حمل الصناديق أو مشتريات المستهلكين..الخ. واعترف بعض الأطفال أنهم لا يجرؤون على العودة إلى منازلهم خوفا من تعرضهم لسوء معالمة والديهم بسبب عدم حصولهم على الدخل المنتظر منهم. كما تبين أن 82% من هؤلاء الأطفال يأكلون في الشارع, وأن 63% ينامون في الشارع كذلك(7).

بيد أن ظاهرة أطفال الشارع التي عرفت أخيرا انتشارا في معظم دول العالم الثالث, بل وحتى بعض الدول المتقدمة صناعيا, باعتبارها إفرازا للفقر, هي جزء من الثمن الذي يجب أن تدفعه الدول التي تتبنى العولمة كنظام لحياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ونتيجة نظام العولمة انقسم العالم إلى مجموعتين رئيسيتين: الدول الغنية والدول الفقيرة, على الرغم من وجود فوارق بين هذه الدول من حيث غناها أو فقرها.

إن الإحصائيات والأرقام التي تنشرها المنظمات الدولية المتخصصة تبرز هذه الحقيقة بشكل لا يدع مجالا للشك. فتقرير الأمم المتحدة عن التنمية الصادر سنة 1994, وكذلك التقرير الذي أصدره معهد التنمية الاجتماعية التابع للأمم المتحدة سنة 1995, يؤكدان بأن "عشرين بالمائة من دول العالم الأكثر ثراء تستحوذ على 87,7 بالمائة من الناتج الإجمالي للعالم, وعلى 84,2 بالمائة من التجارة الدولية, ويمتلك سكانها 85,5 بالمائة من مجموع مدخرات العالم". والمساعدات التي تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة لم تغير في واقع الأمر شيئا, بل إن الهوة ازدادت اتساعا بين الدول الغنية والدول الفقيرة, أو بين الشمال والجنوب(8).

هذا على الصعيد العالمي, أما على الصعيد الوطني لكل دولة فإن الصورة تتكرر وبشكل أكثر وضوحا, خاصة في دول العالم الثالث حيث نجد أن عشرين بالمائة من السكان, على أكثر تقدير, هم الذين يستحوذون على ثروات البلاد ويسخرون إمكانيات الدولة لضمان مصالحهم, على حساب مصالح الغالبية العظمى من السكان والمتمثلة على الخصوص في الحق في التعليم والصحة والعمل وحرية التغير… وغيرها من الحقوق.

ويذهب منظرو العولمة إلى أننا وصلنا إلى مرحلة الاقتصاد العالمي الموحد بعد أن ألغيت جميع الحواجز والحدود أمام رأس المال الذي أصبح يتحرك في مختلف أنحاء العالم بحرية كبيرة, بل أصبح رأس المال يفرض على الدول التي يرغب في أن يستثمر فيها شروطه الخاصة والتي تستهدف تحقيق أكبر قدر من الربح على حساب مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية وأحيانا على حساب السيادة الوطنية.

وأمام الدعوة إلى تحرير السوق والانفتاح على الاقتصاد العالمي, وهي الدعوة التي يتبناها صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية, اضطرت الدول إلى أن تتبنى سلسلة من الإجراءات والتدابير أبرزها تفويت معظم المشاريع التي كانت تديرها الدولة وتشرف عليها إلى القطاع الخاص, بالإضافة إلى تخلي الدولة عن التزامها بتوفير العدالة الاجتماعية لمواطنيها على أساس أن مصلحة رأس المال تتقدم على جميع الاعتبارات الأخرى, ولو أدى ذلك إلى الزيادة في نسبة البطالة وإلى تخفيض الأجور وتدني القوة الشرائية للمواطنين وانتشار الأمية وتشريد أعداد كبيرة من الأطفال في الشوارع… الخ. ويزعم دعاة العولمة أن التنظيم الذاتي للسوق العالمية سيوفر قدرا كبيرا من الفوائد للأفراد على أساس قدراتهم الشخصية ومساهمتهم في الإنتاج.

إلا أن الواقع يشهد بأن رأس المال الذي يدخل في تنافس محموم لتحقيق أكبر قدر من الأرباح ويخضع لضغوط عديدة يفرضها عليه نظام العولمة, لن يكون في وضع يؤهله للاهتمام بالتحديات التي يواجهها المجتمع كالبطالة والأمية والرعاية الصحية وتشرد الأطفال وغيرها من التحديات بل أكثر من ذلك سيجد نفسه –تحت تأثير هاجس المنافسة والرغبة في الربح- مضطرا لتسريح نسبة كبيرة من العمال وتخفيض أجور ما تبقى منهم في العمل وتقليص فرص الشغل… انطلاقا من مقولة أن تنمية رأس المال لا تحتاج إلى هذا العدد الكبير من اليد العالمة, والمهدد بالبطالة الدائمة والذي عليه أن يتدبر أموره بالاعتماد على جهده الخاص وعلى المساعدات التي تقدمها بعض المؤسسات بكيفية تطوعية في إطار أعمال البر والإحسان.

وما لم تمارس الحكومات سيادتها الحقيقية على اقتصادها الوطني بحيث توظف إمكانياتها البشرية والمادية بكيفية عقلانية وعادلة, وتعمل على أن يخدم رأس المال أهداف التنمية التي تحددها هي استنادا إلى حاجاتها وتطلعات مواطنيها, فإننا سنكون أمام رأس مال جشع همه الوحيد الربح, وعولمة منفلتة تكون الغالبية العظمى من السكان أولى ضحاياها. وظاهرة أطفال الشارع التي تعرف انتشارا لم يسبق له مثيل في دول العالم الثالث ليست سوى إحدى إفرازات هذه العولمة المنفلتة أو المتوحشة.

وأخشى ما نخشاه هو أن تنقسم مجتمعاتنا إلى شريحتين متباينتين: شريحة استوعبت مقتضيات الحداثة وقيمها ومعاييرها, واحتكرت –بحكم مؤهلاتها وظروفها- امتيازات الحداثة ومكاسبها, في مقابل شريحة عريضة من المجتمع تتحايل على العيش لتوفر الحد الأدنى الذي يضمن لها الاستمرار في الحياة. وما أطفال الشارع إلا إحدى مكونات هذه الشريحة(9).

أطفال الشارع والحرمان الثقافي:

تؤكد الأبحاث الميدانية التي تناولت بالدرس ظاهرة أطفال الشارع, سواء في المغرب أو في باقي  دول العالم الثالث, أن غالبية أطفال الشارع إما أنهم أميون أو انقطعوا عن الدراسة في سن مبكرة, كما أن معظم آباء أطفال الشارع هم من الأميين. وعلى سبيل المثال يستفاد من الدراسة الأولية التي قامت بها كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة بالمغرب أن نسبة 50% من أطفال الشوارع بمدينة تطوان (التي اختيرت كحالة نموذجية) والذين تتراوح أعمارهم بين 6 و18 سنة هم من الأميين, وأن 45% انقطعوا عن الدراسة في السنوات الأولى من التعليم الأساسي. أما نسبة الأمية لدى آباء هؤلاء الأطفال فتبلغ 94,54 بالمائة(10). كما تبين من بحث ميداني أجرته "الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال ذوي الحالة غير المستقرة" بمدينة الرباط, تتراوح أعمارهم بين 11 و17 سنة, أن 46% من أطفال الشارع لم يسبق لهم أن دخلوا المدرسة وأن 54% من هؤلاء الأطفال تركوا المدرسة في السنوات الأولى من الدراسة بحيث لم يتعدوا السنة الثالثة ابتدائي(11).

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المجال هو: لماذا فشلت الأسرة في تحبيب الطفل بالتعليم بصفة عامة؟ ولماذا لم تنجح المدرسة في إعداد هؤلاء الأطفال للاندماج في المجتمع؟ وفي اعتقادنا أن هذا الفشل, سواء من جانب الأسرة أو المدرسة يعود إلى عدة عوامل أهمها:

أولا – الأسرة الفقيرة ثقافيا لا تعزز الرغبة في التعليم:

غالبا ما يكون الأبوان في الأوساط الفقيرة لا يعرفان القراءة والكتابة, أو لديهما معرفة بسيطة بالقراءة والكتابة ويمارسان أعمالا لا علاقة لها بالقراءة والكتابة, مما يجعل الجو الأسري بعيدا عن كل ما له علاقة بالكتاب والثقافة بصفة عامة. وينعكس ذلك على الطفل الذي يعيش في مثل هذا الجو, حيث لا يشعر بوجود حوافز مادية أو معنوية تبعث لديه الرغبة في التعليم.

وشيوع التفكير الخرافي واللاعقلاني داخل الأسرة لا يساعد على تعزيز الرغبة في التعليم لدى الأطفال. فقد يلجأ الآباء في بعض الأحيان, وخاصة في البوادي والأرياف, إلى إرغام أبنائهم على الانقطاع عن المدرسة بعد سنوات قليلة من دخولها رغبة منهم في أن يساعدهم الأبناء في أعمالهم, وكتعبير عن عدم ثقتهم بالعلم واقتناعهم بأن العلم الحقيقي هو الذي يمارسه الأولياء والمشعوذون.

ومما يعزز عدم الرغبة في التعليم البطالة التي يعاني منها كثير من المتعلمين وأصحاب الشهادات الجامعية, وهي بطالة تزداد حدتها يوما بعد يوم في عدد من دول العالم الثالث, بما فيها الدول العربية, وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية التي تنعكس آثارها على مختلف القطاعات. ونتيجة لهذا الوضع يشعر الآباء بأن الجهود التي يبذلونها لتعليم أبنائهم غير مضمونة النتائج, خاصة إذا كانت القدرات العقلية للأبناء متوسطة, أو كانت نتائجهم المدرسية عادية.

وقد أكدت عدة دراسات نفسية وتربوية أن التركيب الذهني لطفل الفئات المحرومة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا يتميز بفقر في اللغة مما يجعله لا يميل إلى التفكير النظري والمجرد. فالبيئة التي يعيشها هذا الطفل فقيرة ثقافيا بالنظر لأمية الوالدين, وفقيرة لغويا حيث يغيب بين أفرادها الحوار –لا سيما بين الأبوين والأبناء- ويتم التواصل من خلال عبارات تفتقر إلى المرونة ويغلب عليها الطابع القمعي, ولا تستعمل إلا للتعبير عن مواقف معاشة في الواقع أو على شكل أوامر ونواهي ولوم وتحقير وتخجيل… الخ. يضاف إلى ذلك أن المحيط الذي يعيش فيه طفل الفئات المحرومة محيط فقير من حيث الأدوات والأشياء المتواجدة فيه, وهذا الفقر في الأدوات والأشياء ينعكس على الحصيلة اللغوية للطفل, وهي حصيلة تظل متخلفة عن الحصيلة اللغوية لطفل الطبقة الوسطى والميسورة الذي تتاح له فرصة أكبر للاحتكاك بالكثير من الأشياء المتواجدة في محيطه, بالتالي تتاح له فرصة أكبر لتنمية حصيلته اللغوية.

ونتيجة للحرمان الثقافي يميل طفل الفئات المحرومة إلى التعبير الحركي عن انفعالاته ومشاعره. وبما أن جو الأسرة غالبا ما يسوده انعدام الحوار والتواصل فإن الطفل يجد في الشارع المجال الطبيعي للتعبير عن مشاعره وانفعالاته. وفي الشارع, حيث لا رقابة ولا توجيه, يتعرض الطفل لمختلف أنواع الانحراف.

وقد حلل العالم "برنشتاين" ظاهرة الفقر اللغوي لدى أبناء الفئات المحرومة حيث لاحظ أن اللغة التي يستعملها أبناء الطبقات الدنيا تتميز بنوع من التصلب والقطيعة, وتظل مرتبطة بالواقع المحسوس وغياب العلاقات السببية. ويشير إلى أن أبناء هذه الطبقات قلما يستعملون الصفات والمصادر وكلمات الوصل, ويتميز كلامهم بالتكرار والتردد(12). وطغيان اللغة الحركية لدى طفل الفئات المحرومة يعرضه لأنواع مختلفة من السلوك المنحرف, لذا نرى أن نسبة كبيرة من الأفعال الجانحة التي يرتكبها الأحداث في مجتمعنا تتمثل في السرقة والضرب والجرح… الخ. وأمام غياب الحوار داخل الأسرة, وعدم استعداد الطفل للتعبير اللغوي عن مشاعره وانفعالاته, يلجأ إلى الجنوح كبديل عن الحوار الحقيقي. وفي حديثه عن "المناخ الأسري الاجتماعي وتكافؤ فرص التعليم" يبرز مصطفى حجازي كيف أن سلوك أطفال الفئات المحرومة يتميز "بسيادة اللغة الحركية في التعامل مع العالم ومع الآخرين, وسرعة إفلاس الحوار الذي يتحول إلى اشتباك بالأيدي مرورا بالشتائم والمهاترات… والعجز عن عمليات التفكير المجرد, والتوقف عند حدود المحسوس وما يمكن الحصول عليه الآن على حساب استشفاف المستقبل…"(13).

ويعقب "غودايي" الأستاذ بجامعة السوربون على الفقر اللغوي الذي يعاني منه أبناء الطبقة الفقيرة بفرنسا, والذين يسكنون في الغالب بضواحي المدن, فيقول بأن هؤلاء يعيشون ليس فقط في "غيتو ثقافي" وإنما أيضا في "غيتو لغوي" Ghettos linguistiques. وبحكم الظروف الصعبة التي يتخبطون فيها فإنهم لا يمكن إلا أن يكونوا في علاقة سيئة مع اللغة الفرنسية التي تذكرهم باللغة الأكاديمية, لغة السلطة, تلك السلطة التي يشعرون بأنهم مبعدون عنها. ولهذا السبب –يقول "غودايي"- لم يبق لهؤلاء سوى أن "ينهشوا الكلمات بكل الاتجاهات وذلك بتقطيعها. وقلب معانيها, وبإدخال أشكال طفيلية عليها مكونة بأساليب مختلفة أو مأخوذة من لغات أخرى. بهذا الشكل سيستحوذون على اللغة, لغتهم, مما يتيح لهم أن يتحدوا فيما بينهم, وأن يقاوموا ويفلتوا من الوصاية". ويشير بأن الأمر يتعلق بظاهرة عالمية إذ أن لكل مجتمع محرمات Tabous مما يفرض على الأفراد تحوير اللغة من خلال لهجات عامية لتفادي تدخل السلطة التي لا تسمح بالاقتراب من هذه المحرمات. ويعطي كمثال على ذلك كيف أن الطلبة والمثقفين الذين تمردوا على السلطة في تشيكسلوفيا سنة 1968 كانوا يستعملون لغة سرية فيما بينهم لكي لا تفهمهم الشرطة السياسية(14).

وفي الوقت الذي تريد فيه الأسرة من الطفل أن ينجح في دراسته لا توفر له المناخ الملائم الذي يحبب له العلم ويشجعه على التفكير العقلاني والمنطقي: إنها تقمع في الطفل الرغبة في المعرفة, فلا تجيب بصراحة وموضوعية على تساؤلاته من العالم المحيط به وعلى ما يتعرض له من مواقف يتعذر عليه فك رموزها. وقد تلجأ في إجاباتها إلى الخرافة مما يعطي للطفل صورة مشوهة عن ذاته وعن العالم الخارجي, ويعطل لديه ميله للمعرفة وللتعامل المنطقي مع العالم. وغالبا ما تكون الأسرة المحرومة ثقافيا واقتصاديا غير قادرة على توفير هذا المناخ لكونها مشغولة طوال وقتها بكسب لقمة العيش, ولكونها غير مؤهلة لتتبع الجهد الذي يبذله الطفل في المدرسة, ولمراقبته وتوجيهه…

ثانيا – المدرسة تعمق شعور أبناء الفئات الفقيرة بالإقصاء والاغتراب:

عندما يلتحق طفل الفئات الفقيرة, ثقافيا واقتصاديا, بالمدرسة يتبين له أن المعرفة التي يتلقاها في المدرسة لا علاقة لها بواقعه المعاش, مما يجعله يشعر بالغربة داخل المدرسة وعدم التجاوب مع مضامين المواد التي يدرسها. وهذه الغربة لا يشعر بها طفل الطبقة الوسطى والميسورة حيث يسود المدرسة, سواء من خلال الكتب المدرسية أو من خلال تصرف المعلمين والإدارة…, خطاب يعتبر استمرارا للخطاب الذي تعود عليه داخل الأسرة بما يحمله هذا الخطاب من قيم ومعايير هي نفس القيم والمعايير السائدة لدى الفئات الميسورة وهذا ما أشار إليه كل من بورديو وباسيرون في كتابيهما إعادة الإنتاج والوارثون عندما أكدا بأن العملية التربوية –بالشكل الذي تمارس فيه في المجتمعات التي يسودها تمايز طبقي بين الأفراد- هي عملية مفروضة من طرف الفئات المتحكمة في المجتمع وتستهدف إعادة إنتاج ثقافتها لتستمر في بسط سيطرتها على غالبية أفراد المجتمع(15).

ومما يؤكد دور المدرسة في إقصاء وتهميش أبناء الفئات الفقيرة أن المدرسة تجعل طفل القرية أو البادية الذي أتيح له أن يرتادها غير راض عن الواقع الذي يعيشه وذلك نتيجة ما تنقله المدرسة للطفل من قيم وأفكار وصور ذهنية لا علاقة لها بالبيئة التي يعيش فيها. وغالبا ما ترتبط هذه القيم والأفكار والصور الذهنية بالحياة في المدينة, بحيث يصبح الطفل مهاجرا "بالقوة" ينتظر الفرصة عندما يتقدم به السن ليهاجر إلى المدينة. واحتكاك الأطفال بالأفكار الحديثة التي توفرها المدرسة, ووسائل الإعلام –ولا سيما التلفزيون-, يجعل هؤلاء  الأطفال يكتشفون سلبية الحياة في القرية, ويحملون بحياة المدينة بما فيها من مغريات لا تتوفر في القرية.

إن الغربة التي يشعر بها طفل الفئات الفقيرة داخل المدرسة تدفعه إلى الانقطاع عن الدراسة في سن مبكرة لينضم إلى طابور الأميين أو شبه الأميين في المجتمع. وهذا ما أكده كل من "بودلو" و"استبلي" بقولهما: "عندما تفرض المدرسة على الجميع لغة البعض وتاريخهم وعالمهم الاجتماعي, وعندما تكبت كل العناصر التي من شأنها أن تسمح للآخرين بأن يفهموا واقعهم الاجتماعي الفعلي, فإنها لا تنتج فقط تلاميذها الممتازين وإنما تنتج أيضا وخاصة تلاميذها الأغبياء"(16).

ويلعب الكتاب المدرسي دورا هاما في شعور الطفل, لا سيما في القرية, بأن ما يلقن إليه من خلال هذا الكتاب لا علاقة له بواقعه وباهتماماته. فغالبا ما تدور موضوعات الكتاب المدرسي حول جوانب من الحياة في المدينة أو جوانب من التاريخ… وقلما يحاول الكتاب المدرسي تناول موضوعات تسمح للطفل أن يتفتح على بيئته الطبيعية ومحيطه الاجتماعي ويتعرف على ذاته… يتجلى هذا التباعد بين الكتاب المدرسي وبين اهتمامات الطفل في النصوص التي يتضمنه هذا الكتاب والتي غالبا ما تكون نصوصا قديمة أو لكتاب تقليديين… وفي النهاية يظل الكتاب المدرسي في واد والتلميذ في واد آخر, ويصبح الكتاب عبئا ثقيلا على التلميذ يزيد في غربته عن واقعه وابتعاده عنه.

هذا ويجد ابن الفئات الفقيرة نفسه أحيانا في نفس الفصل الدراسي مع ابن الطبقة الوسطى والميسورة الذي يبدو متميزا بلباسه وأدواته المدرسية ومشترياته وهواياته… الخ. وهذا التمييز ينعكس أحيانا على تعامل المعلمين والأساتذة والإداريين معه إذ غالبا ما يكونون أكثر ميلا للتسامح والتعامل المرن معه. أما ابن الفئات الفقيرة فقد لا يقابل بنفس التسامح والمرونة وخاصة من طرف أقرانه أبناء الفئات الميسورة(*) بحيث يجد نفسه غير قادر على تكوين صداقات حقيقية مع غيره من التلاميذ الأمر الذي يبعث فيه الملل من المدرسة التي لا يرى فيها ذاته سواء في تعامله مع معلميه أو رفاقه أو في محتوى المواد التي يدرسها. وهذا الوضع يزيد من تعميق الشعور بالغربة والإحباط لدى أبناء الفئات المحرومة, وقد يكون من بين العوامل التي تدفعهم إلى النفور من المدرسة والهروب منها, والانضمام إلى الأعداد المتزايدة من الأميين الذين ينوء بهم المجتمع.

ثالثا – أسلوب التلقين في الأسرة والمدرسة لا يساعد على تحبيب الطفل بالعلم:

إن الطريقة التي يعامل بها الطفل في مجتمعاتنا, في السنوات الأولى من طفولته, غالبا ما تعتمد أسلوب التلقين الذي يقتل لديه روح الإبداع والتجديد ومواجهة الواقع والطبيعة. وتلعب الأسرة هذا الدور قبل أن ينتقل الطفل إلى المدرسة التي تفرض عليه تلقينا صارما ومنظما. فالطفل داخل الأسرة –يطلب منه في البداية أن يردد أصواتا وكلمات ثم جملا وعبارات دون أن يكون قادرا على فهمها. وعندما يصبح قادرا على الفهم, بحكم نموه العقلي, نستمر في أسلوب التلقين ونفرض عليه أن يكتفي بترديد ما يسمع وتقليد ما يرى. بل إن الأمر يصل ببعض الآباء إلى درجة أنهم يحولون دون قيام الطفل بأي مجهود لاكتساب التجارب والخبرات ويقدمون له عادة هذه الخبرات جاهزة, وما عليه إلا أن يأخذ بها دون فهم أو تمثل حقيقي, أو قد يمنعون الطفل من تكوين هذه الخبرات بحجج مختلفة(17).

وفي المدرسة يكتسي التلقين صبغة صارمة وتقوم به, بكيفية منظمة, مؤسسة اجتماعية هي المدرسة. وغالبا ما تلجأ المدرسة في مجتمعنا إلى تلقين الطفل مجموعة من المعلومات الجامدة والمجردة, وفي جو من التخويف والتعديد, وما على الطفل إلا أن يحفظها ويردها وإلا تعرض للعقاب بأشكاله المختلفة بما فيها العقاب الجسدي. بل قد يعاقب الطفل بمزيد من الحفظ الشيء الذي يبرز الطابع العقابي والقمعي للحفظ. ولا يراعى في التلقين الفهم وحرية النقاش, أو أن تكون المعلومات التي تلقن مرتبطة باهتمامات الطفل وواقعه بحيث تساعده على مواجهة هذا الواقع والتكيف معه. وكأن التعليم في مجتمعنا يرمي إلى تكوين ذهنية مقوماتها الأساسية الامتثال والخضوع والطاعة والتقبل السلبي والاستسلام… وتعتبر هذه الذهنية استمرارا للذهنية التي شرعت الأسرة في تكوينها قبل أن يدخل الطفل إلى المدرسة.

والتلميذ المجتهد ليس هو التلميذ الذي يناقش معلميه ويطرح عليهم الأسئلة ويستفسر عما لا يفهمه أو لا يعرفه… وإنما هو التلميذ المطيع الذي يردد الأجوبة الجاهزة ولا يحاول الاجتهاد أو الإبداع, ويمتثل لكل ما يصدر عن معلمه باعتباره المصدر الوحيد للمعرفة. هذا التلميذ هو مواطن الغد الذي لا يميل إلى "الشغب" وإلى "إزعاج السلطة", إنه نموذج "المواطن الصالح" الذي تريده السلطة(18).

والتلقين الذي تمارسه الأسرة والمدرسة على الطفل يقترب من العنف. فالطفل الذي يتعلم بطريقة التلقين لا يبذل مجهودا عقليا لفهم المادة التي لقنت له وللتأثر بها من الناحية العملية, وإنما يتركز جهده على عملية الحفظ ذاتها التي تصبح عملية مرهقة ومملة. ويلاحق الحفظ الطفل حتى خارج المدرسة حيث يطلب منه أن يحفظ ليلا أو أيام عطلته ليعود إلى المدرسة ويجتر ما حفظ. وبذلك يحرم الطفل حتى من إمكانية ممارسة أي نشاط يساعد على تفتح شخصيته ونموها نموا متوازنا.

أطفال الشارع وثقافة الخوف

إن أطفال الشارع, أو الأطفال المشردين, غالبا ما يعانون من شعور دائم بالخوف وانعدام الأمن. ويعتبر بحثهم عن الأمن من أهم العوالم التي دفعتهم إلى مغادرة أسرهم التي لا توفر لهم هذا الشعور, ولا تضمن لهم الحد الأدنى من الشروط لإشباع حاجياتهم ورغباتهم. وهؤلاء الأطفال, وقد استسلموا إلى فضاء الشارع, يخافون من مطاردة رجال الأمن لهم, أو ملاحقة بعض الكبار الذين يتخوفون من السلوكات المنحرفة لأطفال الشارع (سرقة, تخريب, إثارة الفوضى… الخ), أو من اعتداء بعض المنحرفين من الكبار لا سيما المنحرفين جنسيا. وفي محاولتهم للتغلب على مخاوفهم يلجأ أطفال الشارع إلى ارتكاب أفعال معينة بقصد تخويف الآخرين منهم. فكأنهم, بسلوكهم هذا, يحاولون التخلص من مشاعر الخوف التي يعانون منها بإثارة الخوف لدى الآخرين الذين يحتكون بهم في الشارع.

إن تخويف الآخرين, بالنسبة لطفل الشارع, هو بمثابة خطاب موجه للآخرين للاعتراف به كإنسان لا يختلف عن غيره من البشر, فكأنه يريد أن يقول للآخرين: إذا لم أحظ بحبكم واحترامكم, فلتخافوا مني على الأقل. وهذا ما جعل عالم النفس الفرنسي لاكان يعتبر جنوح الحدث في الشارع بمثابة حوار عنيف مع الآخر يحاول الحدث من خلاله انتزاع الاعتراف به كإنسان(19). وهذا ما يفسر لنا بعض سلوكات أطفال الشارع التي تبدو سلوكات لا مبرر لها وتعكس رغبة مجانية في الاعتداء والتخريب وإثارة الفوضى.

وهذه النزعة التدميرية لدى أطفال الشارع هي انعكاس للقلق الذي يعانون منه بسبب إقصائهم وتهميشهم: إقصاء من طرف أسرهم التي نبذتهم أو تخلت عنهم أو أهملتهم أو تعمدت دفعهم إلى الشارع, وتهميش من طرف المجتمع الذي لا يأبه لوجودهم في الشارع حيث لا يشعرون بالأمن ويتوقعون المطاردة والاعتداء في أية لحظة.

وقد يعبر أطفال الشارع عن نزعتهم التدميرية من خلال المشاجرات التي تقع بينهم والتي قد تؤدي بهم إلى ارتكاب أعمال عنف ضد بعضهم البعض. وكأن نزعة التدمير –في هذه الحالة- تسقط على الذات عندما يحال دون توجيهها نحو الآخرين. وتتخذ المشاجرات طابعا حادا حيث يجدون في المشاجرات فرصة للتعبير عن حالة القلق التي يعيشونها والتنفيس عن شعورهم الدائم بالخوف والضياع.

وتحت تأثير الشعور بالخوف فإن أطفال الشارع لا يستقرون في مكان محدد, ويتنقلون من شارع إلى آخر, ومن حي إلى حي. وغالبا ما لا يكونون من نفس الحي الذي يسكنون فيه, وبالتالي فإن معرفتهم بطبوغرافيا الحي تظل محدودة مما يزيد من شعورهم بالغربة والخوف.

وتسيطر على أطفال الشارع رغبات آنية تتغير حسب الظروف التي يواجهونها والمليئة بالمفاجآت. إنهم يعيشون ببعد واحد هو الحاضر. ونتيجة لذلك فإنهم قلما يشعرون بالندم على أفعال ارتكبوها, أو يميلون إلى أهداف يعتزمون تحقيقها في المستقبل. إنهم عاجزون عن وضع أهداف لحياتهم بسبب تدني, إن لم يكن انعدام, مستوى طموحهم واستسلامهم لواقعهم, وغير قادرين على اللجوء إلى الوسائل المشروعة لتغيير هذا الواقع. لذا فإنهم غالبا ما لا يقدرون مسؤولية ما يرتكبونه من أفعال, ويغلب على سلوكهم طابع المغامرة والميل إلى التحدي الذي يعطيهم الفرصة لتأكيد الذات أمام ما يتعرضون له من إقصاء وتهميش وإحباط.

إن هاجس الخوف الذي يسيطر على أطفال الشارع يشكل العقبة الرئيسية أمام الجهود التي تبذل لإعادة إدماجهم داخل المجتمع. وتحررهم, ولو نسبيا, من هاجس الخوف من الآخرين يعتبر شرطا ضروريا لاستجابتهم لأي برنامج يستهدف إدماجهم وتأهيلهم. وقد يكون خوف أطفال الشارع من الآخرين هو استمرار للخوف الذي انغرس في شخصياتهم داخل أسرهم قبل أن يتجسد هذا الخوف بشكل أكثر وضوحا عندما يلقى بهم إلى الشارع. ففي داخل الأسرة عادة ما يعودون أن يتخوفوا من الآخر, سواء كان هذا الآخر الطبيعة أو الناس. فالطبيعة ينظر إليها على أنها مسكونة بقوى غيبية لا سبيل إلى فهمها فهما منطقيا. ولا يتاح للطفل, عادة, أن يحتك بالطبيعة بكيفية سليمة وعقلانية ليتعرف على ظواهرها بإرجاعها إلى أسبابها الحقيقية والمباشرة. كما يتخوف الطفل من الآخرين باعتبارهم يشكلون مصدر خطر دائم, خاصة إذا تعرض الطفل داخل أسرته إلى سوء المعاملة من طرف والديه أو من ينوب عنهما. وعندما يلقى بالطفل إلى الشارع يأخذ الخوف طابعا مأساويا, إذ عليه أن يتحايل على العيش ليضمن اللقمة التي تسمح له بالاستمرار في الحياة, وفي نفس الوقت عليه أن يتعايش مع خوفه من الآخرين الذين لا ينتظر منهم سوى المطاردة والاعتداء, وفي أحسن الأحوال اللامبالاة والإقصاء.

ونتيجة للوضعية التي يعيشها طفل الشارع, والتي تفرز أحيانا سلوكات لا عقلية (تدمير, تخريب, اعتداء مجاني على الآخرين أو ممتلكاتهم… الخ), فإنهم يبدون كما لو كانوا متخلفين ذهنيا, وغير قادرين على إدراك الجانب اللاعقلاني في سلوكهم. وما يبدونه من "تخلف ذهني" ظاهري غالبا ما يكون انعكاسا لشعورهم بالفراغ لا سيما الفراغ العاطفي. وإذا ما أتيح لهؤلاء الأطفال أن يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم ويلمسوا قبول المجتمع لهم من خلال ما يقدم لهم من المساعدة لإخراجهم من عزلتهم, فإننا قد نكتشف أنهم لا يختلفون عن الأطفال العاديين من حيث قدراتهم العقلية وميولهم ورغباتهم. ومما يؤكد ذلك أن هؤلاء الأطفال يظهرون قدرا من الاستعداد للتكيف والاندماج مع المجتمع عندما تعطى لهم فرصة تعلم مهنة والقيام بعمل يدر عليهم بعض الدخل ويتيح لهم إشباع حاجاتهم الأساسية وإشعارهم بأنهم قادرون على الإنتاج والعيش الكريم.

أطفال الشارع: هل من علاج؟

اهتم مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المذنبين الذي عقد بمدينة ميلانو الإيطالية خلال شهر سبتمبر من سنة 1985 بموضوع أطفال الشوارع, وذلك في إطار البند السادس من جدول أعمال المؤتمر والمتعلق بـ الشباب والجريمة والعدالة. وتمهيدا لهذا المؤتمر عقدت عدة حلقات دراسية في عدد من العواصم شاركت فيها منظمات حكومية وغير حكومية، بالإضافة إلى  أطفال شوارع كان منهم من يعمل مثلا في مسح الأحذية أو غسل السيارات… الخ.

وسجل المؤتمر أن لظاهرة أطفال الشارع أسبابا متشابكة ومعقدة, وأن الحلول الخاصة بها –بخلاف المؤسسات الإصلاحية الخاصة بالأحداث الجانحين- هي "حلول متعددة الأبعاد ومتداخلة التخصصات". ونوه المؤتمر بمبادرة بعض الدول والهيئات غير الحكومية التي أخذت بأسلوب "مربي الشارع". ومربو الشارع عبارة عن متطوعين تم إعدادهم وتوجيههم لإقامة علاقات مع أطفال الشارع وكسب ثقتهم وإرشادهم وتوثيق الصلة بهم للحصول على عمل يوفر لهم بعض الدخل ولو كان قصير الأجل ومؤقتا. ودعا المؤتمر الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى اتخاذ التدابير اللازمة لحماية أطفال الشارع باستخدام نظم ووسائل تختلف عن تلك التي تستخدم في التعامل مع الأحداث الذين لهم مشاكل مع القانون والذين يتم إيداعهم في المؤسسات الإصلاحية. كما حثها على إجراء المزيد من البحوث لدراسة هذه الظاهرة من جوانبها المختلفة(20).

ويستفاد من مناقشات مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المذنبين التي تناولت موضوع أطفال الشارع ما يلي:

1 – إن الظاهرة عالمية وليست خاصة بدولة دون أخرى وإنما تزداد انتشارا مما يبعث القلق لدى المسؤولين لما يمكن أن يترتب عنها من سلبيات.

2 – إن الظاهرة معقدة ومتداخلة الأسباب والعوامل وتحتاج إلى المزيد من الدراسات التي يقوم بها خبراء ذوو اختصاصات مختلفة (اقتصاد, تربية, اجتماع, علم نفس… الخ).

3 – لا توجد حلول جاهزة لمواجهة الظاهرة, وإن لكل مجتمع خصوصيات (اجتماعية, ديمغرافية, اقتصادية, عقائدية…) يجب أخذها بعين الاعتبار عند البحث عن حلول ممكنة للتخفيف من انتشار الظاهرة ومحاصرتها.

4 – لا يميل الخبراء الذين تدخلوا في مناقشة الظاهرة وتحليلها إلى الأخذ بأسلوب المؤسسات المغلقة أو شبه المغلقة الذي يطبق بالنسبة للاحداث الجانحين. ويعتقد هؤلاء أن أي حل يقترح في هذا المجال يجب أن يطبق داخل البيئة التي يعيش فيها أطفال الشارع, وأن انتزاع هؤلاء الأطفال من الشارع وإرغامهم على العيش في مؤسسات خاصة بهم لم يؤد إلى النتائج المتوخاة.

5 – لا بد من إشراك مؤسسات المجتمع المدني, على اختلافها, بالمساهمة في الحد من الظاهرة, وليس بالإمكان الاعتماد فقط على الجهود الرسمية, إذ لا بد من تظافر جهود الجهات الرسمية وغير الرسمية في مواجهة الظاهرة.

6 – الاعتماد على متطوعين يتم إعدادهم للتعامل مع أطفال الشارع بحيث يتمكن هؤلاء المتطوعون من اختراق عالم أطفال الشارع للبحث عن حلول يستطيع أطفال الشارع بواسطتها أن يعيدوا ارتباطهم بالمجتمع بكيفية إيجابية. ويستحسن أن يكون هؤلاء المتطوعون من نفس بيئة أطفال الشارع ليسهل عليهم اختراق عالم هؤلاء الأطفال والتعامل معهم عن قرب بعيدا عن الطابع الرسمي الذي قد ينفر أطفال الشارع ويؤدي إلى نتائج عسكية.

7 – محاولة إيجاد حلول لظاهرة أطفال الشارع تستدعي التعامل مع أسر هؤلاء ومحاولة إشراكها في البحث عن حلول, وإرشادها ومساعدتها لتتمكن من المساهمة في تنفيذ الحلول المقترحة.

مبادرات تمت تجربتها في مواجهة ظاهرة أطفال الشارع

تمشيا مع توجهات الأمم المتحدة فيما يخص معالجة ظاهرة أطفال الشارع طبقت عدة مبادرات يمكن الاستهداء بها في البحث عن تطويق الظاهرة والحد من انتشارها. ومن المبادرات التي تمت تجربتها في عدد من الدول وأسفرت عن نتائج إيجابية ما يلي(21):

أولا – تبنت جمعية "مكان للقاء" (Salao de Encontro) Lieu de Rencontre بمدينة ريودو جانيرو البرازيلية برنامجا خاصا لمواجهة الظاهرة, وهو من إبداع أحد رجال التعليم السابقين. ويقوم البرنامج على أساس فكرة محورية وهي أن مشاركة أطفال الشارع في عمل منتج من شأنه أن يمنح الطفل تقديرا لذاته ويشكل حافزا هاما لنمو شخصيته. ويتمثل المشروع في إنشاء ورش لصناعة الأثاث والسجاد والأغطية وأشياء أخرى. وتفتح هذه الورش في وجه أطفال الشارع الذين يرغبون في أن يتم إعدادهم للعمل فيها مقابل أجر يتيح للطفل أن يعيد تنظيم حياته بشكل جديد. وتوفر هذه الأوراش للأطفال وجبات غذائية وعلاجات للأسنان. وتستوعب 350 طفلا. وتمول في معظمها من مبيعات منتوجات الأطفال بالإضافة إلى بعض المساعدات التي تتلقاها من جهات مختلفة.

ثانيا – تبنت الكنيسة في البرازيل برنامجا خاصا لمساعدة أطفال الشارع للاندماج في المجتمع ويقوم البرنامج بتكوين متطوعين من الشباب يسكنون في نفس أحياء أطفال الشارع, ويتعامل هؤلاء المتطوعون مع مجموعات من أطفال الشارع تتشابه ظروف حياتهم ويحاولون إيجاد حلول للمشاكل التي يواجهها الأطفال. وتتم الاتصالات الأولى مع أطفال الشارع من خلال مطعم يديره البرنامج ويقدم وجبات غذائية لأطفال الشارع بأسعار رمزية. كما يوفر البرنامج بعض الأنشطة الترفيهية لفائدة أطفال الشارع. ويمول البرنامج من مبيعات الأشياء المستعملة التي تجمعها البلدية وتعيد بيعها للمعوزين, بالإضافة إلى التبرعات التي تقدمها بعض الجهات, ويشمل البرنامج 800 طفل و50 متطوعا.

ثالثا – تتحدث "ستفانيلي" وهي مربية أطفال شوارع عن تجربة شاركت فيها بالبرازيل تستهدف إعادة إدماج أطفال الشارع بمدينة ريودو جانيرو من خلال الأنشطة الرياضية(22). أجريت التجربة خلال سنوات 1986-1987-1988, وشملت أطفالا ومراهقين تتراوح أعمارهم بين 6 – 17 سنة. وتقوم التجربة على تنظيم أنشطة رياضية مجانية لأطفال الشارع يؤطرها مربون ومنشطون محترفون. وتوفر للأطفال وجبتا طعام في اليوم. شملت التجربة عشرين ألف طفل, وأسفرت عن إعادة إدماج خمسة آلاف طفل في المجتمع إذ تم إيجاد عمل لهؤلاء الأطفال نتيجة تجاوب عدد من القطاعات مع الدعوة لمعالجة هذه الظاهرة, حيث تبرعت بعض المؤسسات بوجبات طعام وأخرى وفرت المبيت, كما قامت مؤسسات أخرى بتشغيل عدد من هؤلاء الأطفال.

وتشير ستفانيلي في حديثها عن هذه التجربة إلى أنه يجب أخذ رأي الأطفال في الأنشطة الرياضية التي تقترح عليهم, لكي يقبل الأطفال بحماس على ممارستها. وتقول بأن الشارع بالنسبة للطفل, في هذه الحالة, هو الفضاء الذي يشعر فيه بالحرية التي لم يجدها في الأسرة. وإذا كان الطفل يجد في الشارع أحيانا بعض العنف إلا أنه يجد أيضا الحب الذي يتبادله مع رفاقه وأصدقائه, كما أنه يعيش جوا مليئا بالمغامرة والمخاطرة. والأنشطة الرياضية التي تنظم لأطفال الشارع تشعرهم بأن المجتمع لم يتنكر لهم ولم يتخل عنهم, وتشكل هذه  الأنشطة فرصة للاحتكاك بهم والحديث معهم عن مشاكلهم وبالتالي إمكانية إيجاد حل لهذه المشاكل.

رابعا – تبنى المجلس الوطني لإسعاد الأطفال بالهند برنامجا لفائدة أطفال الشارع في مدينة بنغالور الهندية. وتتراوح أعمار الأطفال المستهدفين بين 5 و14 سنة, وهم في غالبيتهم من الأميين ولا مأوى لهم ويعيشون في الشارع, وقد فروا من منازلهم ولم يحاولوا العودة إليها. وكان هؤلاء الأطفال يجمعون الفضلات من صناديق القمامة (خضر, أكياس بلاستيكية وقطع من الزجاج أو الحديد…الخ) ليبيعوها بأثمان زهيدة لسد رمقهم. ويستهدف البرنامج إعداد الأطفال لممارسة أعمال بديلة تدر عليهم دخلا وتخرجهم من الوضعية المزرية التي يوجدون فيها. وفي المركز التابع للمجلس المشار إليه كانت تقدم لهؤلاء الأطفال وجبات غذائية, والعلاجات الصحية… وبواسطة متخصصين في ميدان العمل الاجتماعي كان يتم الاتصال بأرباب أسر الأطفال لحثهم على الاهتمام بأبنائهم وللتعرف على أسباب فرار هؤلاء الأبناء من منازلهم. وشيئا فشيئا أخذ الأطفال يبدون اهتماما بالأنشطة التي يقدمها المركز المذكور ويتخلون على جمع الفضلات من صناديق القمامة ويقبلون تتبع حصص في التكوين المهني ومحاربة الأمية. واستطاع عدد كبير من هؤلاء الأطفال أن يتقن بعض المهن (صناعة الأثاث والألعاب…) وأن يضمن من خلال هذه المهن دخلا قارا. ومن بين 124 طفلا خضعوا لبرنامج المجلس الوطني لإسعاد الأطفال تخلى معظمهم عن جمع الفضلات, ولم يبق سوى 13 طفلا يمارسون هذا العمل(23).

خامسا – من المبادرات المتميزة التي تم تطبيقها لفائدة أطفال الشارع مبادرة مدرسة في الشارع لأطفال الشارع التي قامت بها وزارة الأمن الاجتماعي والتنمية في الفيلبين بمساهمة هيئات دولية (اليونسيف) وجمعيات غير حكومية. يهدف المشروع إلى إحداث مدارس متنقلة تحت الخيام لفائدة أطفال الشارع الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و15 سنة. وفي هذه المدارس يدعى أطفال الشارع إلى ارتيادها باختيارهم ليتابعوا دروسا خاصة وتكوينا مهنيا مناسبا بحيث تراعى ظروف كل طفل من النواحي النفسية والاجتماعية والبيولوجية. وتقدم وزارة التعليم الأطر التي تتولى التعليم في هذه المدارس بالإضافة إلى التجهيزات المدرسية, بينما تتولى وزارة الصحة الجانب الصحي من حلال مطعم يقدم وجبات غذائية مجانية, وتنظم أنشطة ترفيهية لفائدة الأطفال. وحسب المصادر الفيلبينية الرسمية لقي هذا المشروع نجاحا كبيرا ورحبت به اسر أطفال الشوارع واعتبرته مبادرة جيدة لإعادة إدماج أبنائها في المجتمع.

ونستخلص من التجارب السابقة التي تم تطبيقها في إطار مواجهة ظاهرة أطفال الشارع الأفكار التالية:

1 – عدم اللجوء إلى الإجراءات الزجرية كأن يزح بأطفال الشارع في مؤسسات خاصة بهم لإعادة تأهيلهم كي يندمجوا من جديد في المجتمع, والأخذ بعين الاعتبار رغبات الأطفال المستهدفين.

2 – محاولة علاج ظاهرة أطفال الشارع تتم في الشارع وفي نفس الفضاء الذي يعيش فيه الطفل.

3 – اعتماد التجارب المذكورة على المتطوعين والتبرعات والمساعدات التي تقدمها جهات تجاوبت مع الدعوة إلى مواجهة الظاهرة.

4 – توفير العمل لأطفال الشارع يخرجهم من وضعية الإقصاء والتشرد التي يعانون منها ويعيد ربط صلتهم بالمجتمع.

5 – تجاوب أطفال الشارع مع المبادرات الرامية إلى إعادة إدماجهم في المجتمع, الأمر الذي يكشف استعدادهم للمساهمة في إنجاح الجهود المبذولة لفائدتهم...

ولعل أفضل ما نختم به هذا البحث تلك الفقرة المأخوذة من كتاب أطفال سمرهيل لعالم التربية البريطاني الدكتور ألكسندر سذرلند نيل والتي يقول فيها: "لو أعطى السلطة المطلقة في مجال التربية فإني سأغلق كل مؤسسات إعادة التربية (الإصلاحيات)، وأقيم بدلا منها مراكز مختلطة في مجموع البلاد، وأنظم تداريب لإعداد أطر أكفاء تعنى بهذه المراكز (أساتذة، منشطون…)، ولا يتقاضى هؤلاء تعويضات خاصة، ويأكلون من نفس الطعام الذي يأكله رواد هذه المراكز. وكلمة السر في هذه المراكز هي: الحرية، بحيث تصبح المراكز كمستشفيات وليس مراكز اعتقال… الفرق بين هذه المراكز والمستشفيات إنها لا توزع الأدوية، والعلاج الذي تقدمه هو نتيجة لما تثيره من الحب في الوسط الذي تعمل فيه"(24).

 

 

 

 

 

 



  (1) ASSAILLY (Jean-Pascal), Les jeunes et le risque. Ed. VOIGOT. 1992, p31.

 (2) LE  SOURD (Derge), «Agressivité et extérieur, forces constructives de l'adolescent». In : La jeunesse et la rue. Ed. Epidesclée de Brouweer. Paris1994, p133-140

 (3)  VAULBEAU (Alain), « L'espace public de la jeunesse », in : Les 15-25 ans, acteurs de la cité. Institut de l'enfance de la famille, 1995, p76        

(4)   LESOURD (Serge), in: La jeunesse et la rue. Epi/Desclée de Brouwer. 1994, Paris, pp138-139.

(5) العبد سالمي, "مكانة المراهق في نظامنا التعليمي", صحيفة العلم, 23 ظ 10 ظ 98, ص6.

(6)   FIZE (Michel), Le peuple adolescent. Ed. Julliard. Paris, 1994, pp140-151.

(7)  Enfants des rues de Rabat: Enquête qualitative (AMESIP), op.cit.

(8) بيتر مارتين هانسن, شوفان هارالدو، فخ العولمة, الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية, سلسلة عالم المعرفة, الكويت, أكتوبر 1998, ص70.

(9)  GOUGUET (J.J), Pauvreté et Exclusion, 1997. Encyclopedia universalis, France.

(10) كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة. خلاصات حول دراسة أولية لأطفال الشوارع, الرباط 1999.

((11   Enfants des rues de Rabat : Enquête qualitative Rabat, 12 Avril 1997.

(12)  BERNESTEIN (Basif). Langage et classes sociales. Ed. De Minuit, Paris, 1975.

(13) حجازي مصطفى, "المناخ الأسري الاجتماعي وتكافؤ فرص التعليم"، مجلة الفكر العربي الصادرة عن معهد الإنماء العربي. بيروت, العدد 24 سنة 1981, ز ص 10.

(14)    GOUDALLIER (Jean Pierre), «Des ghettos linguistiques ». Journal Le FIGARO du 24-10-1996.

(15 BOURDIEU (P), et PASSERON (J.e), La reproduction, Minuit 1970.

BOURDEIU (P.), et PASSERON (J.e), Les héritiers, Paris, Minuit 1994.         

(16) حجازي مصطفى, مرجع سابق.

(*) يذكر مدير مؤسسة تعليمية أن أما جاءت إليه تشتكي من تعامل التلاميذ مع ابنها الذي يعيرونه بفقره ويصفونه بأنه "ابن الجوع" لكونه لا يشتري الحلوى مثلهم ولا يرتدي الألبسة الجديدة مثلهم ولا ينتعل الأحذية الجديدة مثلهم… مشيرة إلى أنها غير قادرة على توفير مثل هذه الأشياء لابنها رغم حرصها الشديد على استمرار ابنها في دراسته.

(17) شرابي هشام, مقدمات لدراسة المجتمع العربي, الدار المتحدة للنشر, بيروت, 1975, ص47-50.

(18) زكريا فؤاد, خطاب إلى العقل العربي, دار مصر للطباعة, القاهرة 1990, ص74.

(19) حجازي مصطفى, الأحداث الجانحون, دار الحقيقة بيروت, 1975, ص45.

(20) وثائق مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المذنبين, اللجنة الثانية, البند السادس من جدول الأعمال "الشباب والجريمة والعدالة", ميلانو 1985.

(21)  MEYRS (William), « Services commuautaires pour les enfants de la rue: la solution Brésilienne ». In : BEQUELLE (Assela), BOYDEN (Jo.), L'enfant au travail. Bureau international du travail. Ed. FAYARD. Traduit de l’Anglais. 1990, p224-226.

(22)  STEFANELLI (Maria Lucia), « Le projet Recrianca », in : La jeunesse et la Rue. Ed. Desclée de Brouwer. 1994, Paris, p169-170.

(23) BEQUELLE et BOYDEN, L'enfant au travail. P262-265.

(24)   NEIL (A.S), Libres enfants de Sumerhill. Ed. Maspero, Paris, 1974, p13.