ص1      الفهرس   المحور 

معهود العرب في تلقي الخطاب الديني

أحمد شيخ عبد السلام(*)

وبما أن اللغة انعكاس لأعراف أصحابها وتصورهم للعالم الخارجي حولهم، فإن اعتماد المعهود اللغوي الفصيح الحديث يعد جزءا من اعتبار الأحوال والقرائن المعاصرة في تلقي الخطاب وتطبيقه. وبما أنه ينبغي التوفيق بين المعهود حال التنزيل والمعهود في العصر الحديث مع جعل أولهما أساسا فإن الناتج يكون معهودا موسعا عن المعهود أيام ورود الخطاب

تمهيد:

شاع في الدراسات اللغوية والدينية تأكيد الالتزام بمعهود العرب في استخدام اللغة وتلقيها، وللغويين إسهام رائد في جمع المواد اللغوية المتداولة المألوفة لدى العرب في المواقع اللغوية المحافظة، ونقلها إلى عامة مستخدمي اللغة العربية ودارسيها. وربطت هذه المواد بأساس أولي للدراسات اللغوية يقاس به سائر كلام مستخدمي اللغة، وهو "السماع". وقد استقرى اللغويون والبلاغيون القواعد من المواد المسموعة لتكون معايير يقاس عليها في الاستخدام اللغوي الصحيح. وامتد اهتمامهم إلى تلقي اللغة وأساليبها، وتفهمها، واستخدامها، ودراسة سبل الالتزام بمعهود العرب فيها. ونقل عنهم الأصوليون والفقهاء والمفسرون، وقد اعتنى العلماء بصفة عامة بمعهود العرب في تلقي اللغة وتفهم نصوصها من خلال دراستهم للخطاب الديني القرآني والنبوي.

اعتنى الشافعي (ت 221هـ) بإبراز أهمية اعتبار معهود العرب في فهم الخطاب الإسلامي لوروده وفق عرف العرب في لسانها، وتعرض لجملة من مظاهر المعهود اللغوي، وزاد الشاطبي (ت.79هـ) توضيحا على ما قدمه الشافعي ضمن تناوله لعربية الشريعة وأميتها. وتناول الزركشي (ت.794هـ)، وابن تيمية (ت.728هـ)، والسيوطي (ت.911هـ)، وغيرهم ضوابط تفسير القرآن الكريم، ومظاهر اعتبار المعهود فيه. ويشار في الدراسات التي تناولت أوجه تلقي الخطاب الديني بصفة عامة إلى أهمية الالتزام بتلقي الخطاب الديني في ضوء معهود العرب في الخطاب وإلى الأسس اللغوية لهذا الخطاب. ولم تزل الحاجة ماسة إلى وضع ضوابط علمية لمراعاة هذا المعهود تضع في الاعتبار خصائص الخطاب الديني نفسه أيام تلقي العرب له، وتستوعب المؤثرات الحديثة في استنباط المفاهيم الدينية الحضارية منه، وتبرز جوانب التكامل بين معهود العرب أيام تنزيل الخطاب ووروده، ومعهودهم في واقعهم الحاضر الذي يطبق فيه الخطاب، وهو ما أسميناه في هذا البحث بالنظرة المعهودة.

ويتحدد هدف هذا المقال بمحاولة استنباط محددات علمية يرجى أن تساعد في التوفيق بين اعتماد معهود العرب في تلقي الخطاب أثناء نزول الوحي الإلهي وورود الحديث النبوي، والاعتداد بمعهود العرب الحديث في تلقي الخطاب، وهو معهود تعاد فيه صياغة رسالة الخطاب الديني، أو تفسر، أو تودع فيها مضامين هذا الخطاب بهدف تطبيقه في وقائع الحياة المعيشة. ويلحظ أن اعتماد معهود العرب في الخطاب ضابطا منهجيا في قراءة الخطاب الديني من الشروط الأساسية التي تحدد في ضوئها دلالات الألفاظ والتراكيب، وحدود المعاني في تطبيق هذا الخطاب، على الرغم من تأثير القرآن الكريم والحديث الشريف في اللغة العربية بما أضافا من دلالات عرفية، وأخرى شرعية لم تعرفها اللغة قبل التنزيل. وقد استند العلماء من أهل السنة إلى ضرورة اعتماد معهود العرب في الخطاب في رفض أي تفسير، أو تأويل باطني شيعي أو صوفي، أو غيرهما مما لا يخضع لمحددات المعهود، ولا للضوابط الشرعية(1).

وينبغي التنبيه في البدء إلى أن التزام معهود الخطاب لا يقتضي حصر فهم كلام الله تعالى وحديث رسوله الكريم أو تضييقهما فيما عهده المتلقون لهما، دون اعتبار لطريقتهما الخاصة في نقل التوجيهات إليهم، وذلك لأن الخطاب الديني منزل إلى الخلق لكي يفهموه، ولم يكن هذا الفهم ليتيسر لو لم يرد وفق معهودهم في تداول الخطاب فيما بينهم، وإلا لكانت مطالبتهم بفهم هذا الخطاب على خلاف ما تعارفوا عليه تكليفا بما لا يطاق. ولكنا نشير إلى خطورة شبهة قياس لغة القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بما اشتملا عليه من الحجج المعجزات على كلام البشر، وقد أكد سبحانه وتعالى طبيعة الوحي الإلهي القرآني والبيان النبوي في التفريق بينه وبين أباطيل الكفرة وضلالات الكهنة وأشباههم(2). ولهذا قرر العلماء أن فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله ليس متوقفا على الاستشهاد بما تكلمت به العرب لأن مرادهما لا يفهم بمجرد معرفة نظائر ذلك في كلام العرب، بل إن هناك أسسا ضرورية لفهم كلامهما.

ويعتمد المقال منهجا استنباطيا في قراءة الأعمال التي تتناول علاقة اللغة بفهم دلالات الخطاب ومقاصده بغرض استنباط المبادئ المتصلة بمراعاة معهود العرب في الخطاب، وأبعاده، وأثره في تلقي الخطاب الديني وتطبيقه.

مصطلح المعهود:

"المعهود" هو الشيء أو الأمر الذي عهد أو عرف. يقال: عهد الشيء عهدا، إذا عرفه. والعهد، مصدرا مسمى به، المنزل المعهود به الشيء(3). والمعهود هو المعروف في مجاله. وفي مجال الاتصال اللغوي يشمل المعهود جميع الأعراف والقواعد والخصائص والأساليب والمعاني اللغوية وجميع أوجه الاستعمال اللغوي وأنواع المجال اللغوي التداولي عليها بين مستخدمي لغة معينة. فالمعهود بذلك عرف شائع بين أهل اللغة شامل ملزم لهم ولمن يستخدم لغتهم، ويشتركون فيه من أجل تحقيق الاتصال فيما بينهم. ويعني "معهود العرب في الخطاب" مجموع الأنماط والأساليب الخطابية التي عهدها وعرفها العرب في الاتصال بلسانها العربي. قال الشافعي: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها"(4). وقد استعملت مصطلحات عديدة للتعبير عن معهود العرب في اللغة، منها: (المعهود)، و(ما عهد)، و(العرف)، و(المألوف)، و(العادات)، و(ما ألفت)، و(ما كانت عليه لغة العرب)، وما سواها مما يدل على العادات اللغوية التي درجت عليها العرب في استخدام لغتها وتلقيها.

ويقدم الشاطبي تحديده لمعهود العرب في الخطاب في مواقع من كتاب الموافقات، مرددا استخدام مصطلح (المعهود) ومشتقاته، ومن ذلك: "فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربي، وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها". ويقول: "فإن كان كذلك (أي كان منزلا على لسان الأميين) فهو معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها. فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذا أمية"(5).

ويفهم من توضيح الشافعي والشاطبي لضرورة اعتماد المعهود أنهما يقصدان العرف اللغوي لدى العرب أيام التنزيل. والعرف هو ما تعارفه الناس في أقوالهم، وتصرفاتهم. ويقتضي ذلك التوافق بين العرف اللغوي العربي العام والعرف اللغوي الذي ورد عليه الخطاب الديني، وأن يكون هذا الأخير مطردا شائعا لدى العرب، وأن يكون مندرجا في التعامل الخطابي اللغوي أيام التشريع. ولذا يقول الشاطبي: "لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة. وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه"(6).

تجدر الإشارة إلى أن آراء الفقهاء في المعهود واردة في سياق البحث في الأحكام الشرعية وأدلتها، وهي مجال يتطلب الضبط من جانب، والمرونة من جانب آخر، وتعكس آراء المتكلمين في المعهود الحاجة إلى الضبط المحكم في العقيدة لصعوبة الاطلاع على تفاصيل معتقدات الناس وتصوراتهم لعلاقة المفاهيم المستقاة من الخطاب بالعالم الخارجي من حولهم. وترد هنا إشارة ابن تيمية إلى أن الاختلاف في تفسير القرآن على نوعين –كما وقع مثله في الحديث-: ما مستنده النقل عن معصوم أو غير معصوم، وما يعلم بالاستدلال وهو ما يكثر فيه الغلط، ويأتي هذا الغلط من جهتين؛ فقوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، فراعوا المعنى الذي يريدون دون نظر إلى ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، وقوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به، وما يصح التكلم به، وسياق الكلام(7).

نظرة معهودة:

التعرف على معهود الخطاب من أضمن الوسائل للوصول إلى مقاصد المتكلم به، وقد اقترح الكاتب في بحث آخر تبني منهج لغوي مقصدي في التعامل مع نصوص الوحي، وهو منهج متكون من مرحلتين للتحليل: التحليل المعهودي الذي ينتهي إلى التحليل المقصدي(8). ويشمل التحليل المعهودي بيان الخصائص الصوتية العامة لقراءة النص، والخصائص الدلالية العامة، والدلالات المستفادة من التراكيب، والعلاقات بينها وبين عناصرها، والخصائص الأسلوبية التركيبية له، وأوجه استخدام تركيب النص، أو أجزائه وفقا لأوجه استخدامها المعهود في لغة العرب. وتستدعي المعهودية وجود مرجعية يمكن الاحتكام إليها في فهم النصوص القرآنية والنبوية، ويمكن أن توجه الباحث إلى أفضل تحليل للنص، وأحسن ربط له بالواقع. وقد تكون هذه المرجعية لغوية، أو موقفية، أو دينية.

وتتحدد المرجعية اللغوية بأنها أصل الاستخدام اللغوي كما كان يستخدمها أهلها في عصر التنزيل، والاستخدام اللغوي الحديث الفصيح المتطور عنه، مع التوفيق بينهما(9)، أما المرجعية الموقفية فهي الظروف المحيطة بورود الخطاب للاستهداء بها في العصر الحديث. والمرجعية الدينية هي المعتقدات التي تقضي بأن الخطاب من الله عز وجل، وهو علام الغيوب الذي لا يحيط بعلمه شيء، و"لا يدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، ومن المبعوث منه الذي "ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"، وتقضي بلزوم التصديق المطلق بنصوص القرآن والنصوص الصحيحة من الحديث. أما تفاسيرها وشروحها فتعبر عن مفاهيم أصحابها لهذه النصوص في مراحل تاريخية متعددة، ويستنار بها في تلقي الخطاب. وعلى الرغم من أن الأخذ بالمعهود يمثل ضبطا لتلقي الخطاب من جانب، فإن الاستهداء بالمفاهيم والتطبيقات السابقة يمثل عنصرا من الانفتاح في فهم الخطاب.

وإذا كان الخطاب الديني (القرآني والنبوي) قد ورد على ما عهده العرب في كلامهم, فلم كانت الحاجة إلى الفحص عن معانيه أو التساؤل عنه، حتى ظهرت التفاسير؟ ويجيب السيوطي عن مثل هذا الفحص بتعليله للحاجة إلى تفسير كتاب الله ذاهبا إلى أن من المعلوم أن الله إنما خاطب خلقه بما يفهمونه، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتابهم على لغتهم، وإنما احتياج الناس إلى الشروح لأمور ثلاثة: أن الشرح يقصد إظهار المعاني الخفية التي يعبر عنها الكتاب في لفظ وجيز ربما عسر فهم مراده، وإغفال الكتاب لبعض تتمات المسألة أو شروط لها تتضح بالشرح، واحتمال اللفظ لمعان كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام(10).

المعهودية واتجاهات تلقي الخطاب:

تتجلى أهمية وضع مثل هذه الضوابط في إمكان اعتمادها في درء الانحرافات العقدية والفكرية المنطلقة عن الانحراف في تلقي الخطاب، ودرء التجاوزات الخطيرة في فهم هذا الخطاب بادعاء ربطه بوقائع حياة الناس، أو البحث عن المقاصد الشرعية فيه، واقتراح الحلول لما تكتنف هذه الانحرافات والتجاوزات من إشكالات.

لقد أكد المفسرون والفقهاء والأصوليون من علماء أهل السنة لزوم فهم الخطاب الشرعي في ضوء معهود العرب في لسانها أيام التشريع، وامتدوا بهذا المعهود إلى ما قبل الإسلام، وانطلقوا من هذا الأساس لاستنباط الأحكام وأدلتها. ولكنهم لم يجدوا محيدا من اعتبار المعهود في عصورهم وأعرافهم في إصدار الأحكام والفتيا واستنباط المفاهيم. وفي تنوع المعهود، وإمكان تغير الأحكام والمفاهيم المبنية على الخطاب الديني بتغير الأزمنة والأمكنة والأوضاع والأعراف دليل على أن الأولى أن يؤخذ بتكامل أنواع المعهود. فمثلا يتم فهم النصوص المتعلقة بالتعامل الربوي بالفحص في معهود العرب في إطلاق لفظة (الربا) على أنواع من المعاملات والأشياء في أيام التنزيل، ثم ينظر في المعاملات المماثلة لها حديثا، وما يطلق عليه من مصطلحات، مثل (الفائدة)، وما يستخدم له مصطلح (الربا) حديثا، ويوفق بينها في فهم هذه النصوص.

وحرص المعتزلة والأشاعرة على تقنين تأويل مصطلحات العقيدة وضبطه من أجل الدفاع عن القضايا العقدية التي يتناولونها، فاشترطوا فيه المواضعة. فالمجاز عندهم لا يكون من وضع الفرد واختياره، بل من وضع الجماعة طبقا لمعهودهم في الخطاب. ولم يكن مصطلح "التأويل" عندهم يعني أكثر من نقل اللفظ من معناه اللغوي الأصلي إلى المعنى الذي اعتادت العرب أن تصرفه إليه في تجوزها في الكلام. فقيدوا التأويل بحدود المجال التداولي للكلمة العربية، كما كان في الجاهلية وصدر الإسلام؛ إذ لم يروا اختراق حدود المجال التداولي الأصلي(11).

ولم يرتض المتصوفة والشيعة وغيرهم من الباطنيين بعدم اختراق المجال التداولي الأصلي، لأن التأويل يقوم عندهم على اختراق هذا المجال والانتقال باللفظ إلى حقل معرفي آخر هو الذي يعتبرونه "الحقيقة" بدلا من معهود الخطاب الظاهر(12). وقد نبه الزركشي إلى أن كلام الصوفية في تفسير القرآن الكريم لا يعد تفسيرا، وإنما هي معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" (التوبة: 123) إن المراد بالكفار النفس، فأمرنا بقتال من يلينا, لأنها أقرب شيء إلينا، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه(13). وأمثلة من باطنية المتصوفة تفسيرهم للمراد بلفظة (فرعون) من قوله تعالى: "اذهب إلى فرعون" (طه:24) بأنه (القلب)، ومن لفظة (بقرة) في قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" (البقرة: 67) بأن المراد به (النفس)(14).

أما الشيعة فلا يعتدون بالمعهود في تفسير الآيات التي يؤولونها لتأييد موقفهم العقدي، مثل تفسيرهم (النبأ العظيم) بالإمام علي رضي الله عنه في قوله تعالى: "عم يتساءلون عن النبإ العظيم" (النبأ: 1-2)، ومثله صرفهم للإيمان والكفر إلى الإيمان بولاية الإمام علي والبيعة له، وإنكار الولاية ورفض البيعة(15)، في قوله تعالى: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا" (النساء: 137). ومن جانب آخر تشريعي يحمل الشيعة قوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" (النساء: 24) على المعهود من فهم هذه الآية أيام التشريع، وهو نكاح المتعة، ثم يحاولون دحض الأقوال الراجحة الشائعة عن أغلبية علماء السنة في نسخ الحكم في هذه الآية(16). وقد جعل الشيعة التلقي المباشر للخطاب من خصوصيات الأئمة الإثني عشر، وادعوا أنه لا يعرف تفسير القرآن إلا الأئمة، فجعلوا التفسير باطنيا، والتأويل غريبا عن عقائد جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة.

وتتمثل خطورة التأويل الباطني في إدخال عناصر التأويلات الفاسدة في تفسير القرآن الكريم؛ لأنه يقتضي بطلان الثقة في وضع حدود دلالات الألفاظ، وهدم الدين وشريعته بهدم المعهود في فهم نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي، وحمله على الآراء والأهواء المذهبية. وهذا واضح في النمط الباطني لدى القرامطة الذين يدعون أن للقرآن والإسلام باطنا يخالف الظاهر، ففهموا الصيام بأنه كتمان الأسرار، والحج بالسفر إلى زيارة شيوخهم المقدسين، والجنة بالتمتع في الدنيا والآخرة، والنار بالتزام الشرائع والدخول تحت أثقالها(17).

يدعو الفكر الظاهري في المجال اللغوي إلى رفض القياس والتعليل، وذلك أن اللغة لا تثبت –وفقا لمذهبهم- بالقياس، وإنما تثبت مثلها مثل الشريعة والعقيدة بالأصول وحدها، والأصل في مجال اللغة والنحو هو السماع، لأن اللغة قائمة على المواضعة لا على البرهان. وقد دعا الاتجاه الظاهري إلى أخذ الأحكام الشرعية من ظواهر النصوص حسب ما عهدته العرب في كلامها دون ادعاء معاني باطنية أو سرية، أو استناد إلى مقاييس عقلية لا تتوافق مع ما ورد فيها. وقد جعل ابن حزم (ت 438هـ) من اللغة العربية الإطار المرجعي في فهم مضمون القرآن والسنة اللذين هما الأصلان في الأحكام الشرعية، ولا يبيح صرف معنى كلمة من المعنى اللغوي الظاهر المعروف إلى معنى آخر، إلا إذا أوجب ذلك نص، أو إجماع، أو بديهة حس أو عقل، فالنص القرآني يدل على ما فيه(18).

وتتجلى ظاهرية ابن حزم في إلحاحه على قراءة القرآن داخل مجاله التداولي الأصلي الذي يتحدد باللغة العربية وأساليبها التعبيرية ومضامينها المفهومية كما كانت متداولة زمن النبي(19)، وأن ذلك لا يقتضي مناقضة ما يخالف مضمونه. ويقدم ابن حزم نمطا ظاهريا في مراعات المعهود يتمثل في أن دلالات الألفاظ في اللغة محددة بالسماع، والاصطلاح، والاشتراك بين أفراد المجتمع اللغوي، وطالب بالتزام الفهم المتبادر المعهود من النص دون حمل المسكوت عنه على المنصوص عليه، "فكل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها، ولا تعطيك حكما في غيرها، لا أن ما عداها موافق لها، ولا أنه مخالف لها، ولكن كل ما عداها موقوف على دليله"(20).

مما يسند النظرة المعهودية في فهم الخطاب الديني القاعدة الأصولية القاضية بأن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، بحيث يفحص في ما عهدته العرب من المعاني والأوضاع في استخدام اللفظ، فيبنى عليها مثلها في الأعصار والأمصار والأحوال المتحددة. ولكن بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن، وتحديد القرائن الأصلية المباشرة في تحديد معهود العرب في فهم الخطاب، "فمعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"(21). ولا يعني هذا بأي حال حصر المفهومات في قرائن ورود الخطاب، بل يستأنس بها في تلقي الخطاب، فإن ورد تنصيص وتخصيص في الخطاب لشيء لا يجوز الامتداد بالنص إلى غيره حصر المذكور في التخصيص أو التنصيص، واستفيد المقصد العام له في معالجة القضايا المتعلقة بالأشياء المماثلة، وإلا اعتبر المعنى المعرفي المعهود، والمدلول المعهودي المعاصر للنص في تطبيقه على الواقع.

ويمنح التفسير اللغوي لمعاني الألفاظ والتراكيب والأساليب فرصة للأخذ بمقتضى معنى الخطاب من أجل تحديد معهود العرب في الخطاب؛ ذلك أن الدلالات الجائزة أو المحتملة في النص الواحد والمذكورة في كتب التفسير والفقه ينبئ عن تنوع المعهود وتطوره على الرغم من أن مراحل هذا التطور لم تكن تسجل في نسق تاريخي في الدراسات اللغوية العربية(22). ولا يقدح في المعهود التنوع الدلالي للخطاب، فالكلام كما ارتآه عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) على ضربين: "ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده… وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن بدلالة ذلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل إلى الغرض"(23).

ولعل اقتراح محددات معهود الخطاب مفيد في مراجعة نظرة محمد أبي القاسم في دعوته فيما أسماه بالنظرية العالمية الإسلامية الثانية إلى التعامل مع الخطاب القرآني في حدود الاستخدام اللغوي القرآني الخاص منعزلا عن معهود العرب في تلقي هذا الخطاب، ولاحظ أنه "استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح يتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي، ويصطدم كذلك بمرجعية الموروث"(24)!

إن ما يدعو إليه محمد أبو القاسم يختلف عما عرف بتفسير القرآن بالقرآن، لأنه يدعو إلى عزل الاستخدام اللغوي القرآني عن معهوده الأول المرتبط بالسنة النبوية واللغة العربية بشكل عام. ونلحظ أن الدارس للقرآن الكريم في هذا العصر وفق تصوره، إن كان مقبولا، لا يمكن له أن يتجرد عن معهود الاستخدام الحديث الذي ينقل فيه مفاهيمه للخطاب القرآني، وستكون النتيجة استبعاد المعهود الأصلي بتبني المعهود الحديث الغريب عنه.

وعلى العكس مما ذهب إليه محمد أبو القاسم، تساعد دراسة محددات معهود العرب في الخطاب على بناء المرجعية في فهم الخطاب الديني وانتفاء الغرابة عنه، وتسهم الضوابط المنهجية للاعتداد بمعهود الخطاب لدى العرب في تحقق عصمة النص القرآني من التحريف، أو الخروج بالمعنى عما وضع اللفظ له، أو التأويل الفاسد، وتحقق عصمة النص النبوي من أجل عصمة النص القرآني. وتقتضي هذه الضوابط المحافظة على دلالات المصطلحات القرآنية والنبوية والعمل على تناقل توضيحاتها؛ إذ لا تتعارض هذه المحافظة مع الامتداد بدلالات هذه المصطلحات وتطورها، إذا تم استنباط المفاهيم الحديثة باستصحاب المعنى الأصلي المعهود إبان نزول القرآن(25).

قد تصبح مهمة الفحص في محددات التعرف على معهود العرب في تلقي الخطاب الديني غير سهلة في ضوء الانتقادات الموجهة إلى العودة إلى الأصل الموروث في فهم الخطاب الديني. ومن ذلك انتقادات محمد عابد الجابري لما أسماه سيطرة سلطات اللفظ، والأصل والتجويز، في التفكير العربي التراثي. فرأى أن العلاقة بين السلطات الثلاث تتمثل في أن سلطة اللفظ توجه الفكر إلى طلب المعاني من الألفاظ بدل البحث عن حقائق الأشياء، وتصرف العقل عن صياغة المفاهيم وتجعل نظامه تابعا لنظام الخطاب، ويستمد الخطاب قوته من التجوز في الكلام القائم على الملازمات بين المعاني، فيغيب نظام السببية بغياب التفكير في نظام الأشياء. وانتقد الجابري أيضا ما وصفه بمسلك الأقدمين في فهم النصوص الذي يقوم على الاستنباط، والتعامل مع الألفاظ وكأنها منجم للمعاني، وطلب الاستجابة منها لآراء مذهبية جاهزة، وتحويل العلاقة بين اللفظ والمعنى إلى علاقة جواز واحتمال(26).

ويجيب عبد الإله بلقزيز عن انتقادات الجابري بأن السلطات التي تناولها مرجعية ضمنت تماسك الثقافة العربية واستمرارها. وأن سلطة اللفظ لا تعني بالضرورة أن التعامل مع الكلمات يجري بوصفها كائنات مما يقود إلى الاندراج في نظام الخطاب بدل نظام الأشياء(27). ويتفق هذا الموقف مع طرف من تأكيد ابن القيم (ت751هـ) سلفا أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهرها وافعالها، وأن من تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه(28).

فمدار مقاصد الكلام على معرفة مقتضيات الأحوال، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه باختلاف الأحوال، والجهل بهذه الأسباب والأحوال موقع في الانحراف عن المقاصد في الظاهر، ومفض إلىالنزاع والاعتساف في استنباط المقاصد والأحكام وتطبيقاتها. وإن اعتماد المعهود وما قد يستدعيه من الاجتهاد في فهم الخطاب الديني داخل مجاله التداولي أيام وروده يقف حصنا من الحصون التراثية الأصيلة المنيعة ضد دعوة الجابري إلى التحرر من سلطات اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة التي تتكون منها جميعا المرجعية التراثية؛ من أجل تجديد العقل العربي وتحديثه حسب وجهة نظره(29).

وتتأكد الإشارة في هذا الصدد إلى ضرورة تأسيس محاولات البحث عن مقاصد الخطاب الديني على معهود الخطاب لدى العرب أيام التنزيل، ذلك لأن نتائج البحث عن المقصد قد تختلف باختلاف التطورات الفكرية والاجتماعية والحضارية، وفي العودة إلى المعهود الأول والتوفيق بينه وبين المعهود الحديث ضابط يوثق صلة المقاصد بنصوص الخطاب التي تستنبط منها. وقد كرر الشاطبي لزوم اعتبار المعهود حال التنزيل في تلقي الخطاب واستنباط المقاصد منه. ونرى أن اعتبار المعهود الخطابي الحديث جزء مكمل لاعتبار الأحوال والقرائن القائمة في تطبيق الخطاب في وقائع حياة الناس. ومن المجازفة أن يتجه متلقي الخطاب في العصر الحديث إلى البحث عن مقاصد الخطاب بالاستناد إلى المعهود الحديث في تلقي الخطاب؛ لما يلحظ من تباين نسبي في أوجه الخطاب بين المعهودين، وما لوحظ من تطور لغوي نسبي قد يفضي إلى فهم مختلف للقصد من الخطاب. وهذا اختلاف يؤكد ضرورة التوفيق بين المعهودين مع جعل أيام ورود الخطاب أساسا في ذلك.

من مسائل معهود الخطاب:

أنواعه: لمعهود العرب في تلقي الخطاب الديني أنواع، منها تقسيمه من حيث عملية الاتصال إلى قسمين: معهود في تلقي الخطاب، واستنباط المعاني التي يقصدها المتكلم منه، وطرق التوفيق بين مراد المتكلم والمعنى الظاهر أو المحتمل من الكلام، وصلة هذا الكلام بأحاديث أخرى سابقة، وتأثير القرائن والأحوال والأزمنة والأمكنة على تلقي هذا الخطاب. ويتعلق بهذا المعهود تأثير الذاكرة الإدراكية الجماعية لأصحاب اللغة الأصليين على تلقي الأفراد المشتركين في هذه الذاكرة لجميع أنواع الخطاب، وتأثير سبل السماع ووسائل تلقي الخطاب في تحديد المقصود من الخطاب، وتحديد آليات تلقي الخطاب الديني بصفة خاصة وتطبيقه في واقع المستقبلين للخطاب.

وثم معهود آخر في استعمال عناصر الخطاب متأثر بمعهود أصحاب اللغة في تلقي الخطاب، إذ توفر الجماعة اللغوية أنماطا خطابية نموذجية للمتكلم ليحتذيها في كلامه، ويقيس عليها، لكي يكون كلامه مفهوما. وقد ينبئ المعهود الاستعمالي عن صحة تلقي الخطاب، كما يفيد في تقديم بيان السامع للمقصود الذي استفاده من الخطاب، وتفسيره، وإعادة صياغته، وإعادة استخدام مصطلحاته في ضوء فهمه.

وينقسم المعهود من حيث زمن الاتصال في الخطاب الديني إلى ثلاثة أنواع: معهود سابق للإسلام يمثل أساس عرف الخطاب اللغوي للعرب الذين عاصروا نزول القرآن الكريم، وعاصروا تطبيقاته الأولى، وتلقوا البيان النبوي وتوجيهات الرسول لتطبيقات الرسالة الإسلامية. ولعل الشاطبي كان يقصد هذا المعهود حيث أكد ضرورة اتباع معهود الأميين العرب الذي نزل القرآن بلسانهم في فهم الشريعة. وأن القرآن الكريم أصبح معجزا لأنه كان على ما عهدوه وعرفوه، ولم يقدروا على الإتيان بمثله(30).

ومعهود خطابي إسلامي مستحدث في النصوص الإسلامية؛ إذ كان الإسلام سببا في إحداث تغيير جذري في حياة العرب وتقاليدهم ومعتقداتهم، وفي الوسيلة اللغوية المستخدمة للتعبير عنها. ولم تتحقق إسلامية العقول والشخصيات والتقاليد مجردة عن إسلامية اللغة العربية. فاستجدت أعراف لغوية وأساليب ومصطلحات ومعاني إسلامية جديدة خاصة بالخطاب الإسلامي لم تكن معروفة أو شائـعة قبل الإسلام، ولكنها لم تخرج عن المعهود العام للخطاب، بل كانت استصحابا له وتطويرا عليه. ويندرج في هذا المعهود ما توسع فيه العرب على ما وجد قبل الإسلام فنتجت عنه استعمالات مزدوجة لمفردات عامة يغلب فيها المعهود الخطابي الإسلامي على المعهود العربي العام مع بقاء الثاني في بعض المصطلحات، مثل لفظة (الصلاة) المستخدمة للتعبير عن عبادة مخصوصة، مع بقاء استخدامها للدعاء وطلب الرحمة وغيرهما في اشتقاقات مختلفة. ونحو منها كلمة (ربا) المستخدمة للتعامل المالي على نحو معين، مع بقاء استخدام اشتقاقته في الدلالة على (الزيادة) بصفة عامة.

ومعهود عربي ثالث حديث وارد مما يتوقع من اختلاف نسبي لمعهود الخطاب العربي الحديث الفصيح عن المعهود القديم، نظرا لاختلاف الظروف الثقافية المؤثرة في تكون المعهود، وبسبب تأثير التطور اللغوي الدلالي والفكري الحضاري. وإذا كان المعهود المقصود هنا ينصرف إلى معهود الخطاب في اللغة العربية الأدبية الفصيحة المستخدمة حديثا، فإنه لا يستبعد تأثير اللهجات الإقليمية الحديثة في هذا المستوى اللغوي، وهو تأثير ملحوظ في كتابات العرب في مختلف أقطارهم وأقاليمهم. ولا يناقض وجود هذا المعهود الثبات النسبي لدلالات الخطاب الديني الإسلامي، نسبة لعوامل مؤثرة منها حفظ الله لكتابه الكريم، وحفظه للغة العربية التراثية تبعا لحفظ كتابه العزيز، لأن خلود هذه اللغة من ثمرات المحافظة على معهود العرب في الخطاب وحماية النص الإلهي، ولقيام الهوية العربية الحديثة وبناء ثقافتها الموحدة على اللغة العربية الأدبية الفصيحة. ويؤثر في تكون هذا المعهود الخبرات التاريخية وتطبيقات الخطاب الديني عبر العصور الإسلامية المتعاقبة.

وينقسم معهود العرب في الخطاب من حيث مجال الاتصال إلى معهود لغوي ورد به الخطاب من معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، ومن ذلك أوجه المخاطبة التي تورد في كتب علوم القرآن الكريم والأصول(31). ومعهود عرفي مستند إلى أعراف العرب في حياتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم فيما بينهم وببيئتهم وبالطبيعة والكون والوجود من حولهم، وكيفية استعانتهم باللغة في التعامل معها جميعا. ومعهود ديني شرعي، فقهي أو عقدي متعلق بالمعاني والمفاهيم الفقهية والعقدية المستفادة من الخطاب الديني نفسه، ويشتمل على ألفاظ استخدمت لتصبح مصطلحات تحمل المفاهيم الدينية، وألفاظ وعبارات أصبحت مصطلحات في الدراسات الشرعية والعقدية، وأساليب للتعامل مع الخطاب القرآني والنبوي من حيث التلقي والتطبيق وإعادة صياغة المفاهيم والتفسير واستنباط الأحكام. وإذا كانت الحاجة ماسة إلى التزام المعهود في الدراسات الفقهية فإن الدراسات العقدية أحوج إلى هذا الالتزام من أجل عصمة المفاهيم والمعتقدات التي يؤثر تأثيرا مباشرا في استنباط الأدلة، وتطبيق الأحكام.

حدوده: للمعهود حدود زمنية، ومكانية، ولغوية، وعرفية، واستقبالية موقفية. فالحد الزمني يعني أن يؤسس فهم الخطاب على عادة العرب في التخاطب أيام التشريع، وليس على ما آلت إليه اللغة بعد ذلك من تطور في مدلول ألفاظها، أو نظمها، مع الإفادة من ذلك التطور واستثماره في الفهم. وفهم الشرع بغير معهود العرب أيام التشريع في حدود معهود اللغة العربية المعاصرة وما لحقها من تطور سيؤدي حتما إلى خطورة فصم عرى العلاقة بين تطبيق المجتمع الإسلامي الأول، والمجتمع الحديث الذي يستند إلى المعهود الحديث فقط.

وقدم الشاطبي ضبطا دقيقا للحد اللغوي بقوله: "إن هذه الشريعة المباركة عربية، لا مدخل فيها للألسن العجمية..، فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة"(32). ويقتضي هذا أن تراعى الخصائص اللغوية العربية أيام التشريع في محاولات فهم هذا الخطاب، وتطبيق رسالته، وأن تستبعد التطورات الأجنبية التي استجدت في اللغة العربية من جهة اللفظ، أو المعنى، أو العرف اللغوي.

ويتحدد المعهود ضمن الحد العرفي في تلقي الخطاب بمعهود العرب الذين تعاملوا بالعربية الفصحى، والذين يتعاملون بها حديثا ويظلون على فصاحتهم، وعلى التزامهم بالمستوى الفصيح في تعاملهم اللغوي إنتاجا واستقبالا. والأولى أن تراعى المضامين المعهودة للخطاب لديهم، وأعرافهم وتقاليدهم، وتصوراتهم للأمور والأشياء والعالم الخارجي حولهم. وقد أشار الشاطبي إلى أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم. وهذا المعهود جار في المعاني والألفاظ والأساليب(33). ويقتضي الحد الاستقبالي الموقفي أن يتعرف على المعهود في حدود المواقف الخطابية التي ورد فيها الخطاب الديني، والمواقف المماثلة لها المستجدة في حياة الناس على مر العصور، من خلال ما عهدته العرب في لغتها.

عناصره: ينظر في وضع ضوابط المعهود في تلقي الخطاب الديني إلى عناصر هي نوع الخطاب، وطبيعته، ولغته، والمخاطب به، والمخاطب، والرسالة، والمواقف. أما من حيث نوع الخطاب فيكون معهودا خطابيا قرآنيا ونبويا، ويكون من حيث طبيعة الخطاب مقصورا على التعامل مع نصوص القرآن والحديث ملتزما بشروط تلقيهما(34)، كما يكون من حيث لغته معهودا منطلقا من اللغة العربية التراثية الفصيحة معتبرا لما قد يستجد من التطورات اللغوية المتصلة بهذا المستوى اللغوي. أما من حيث المخاطب فيكون وفق المعهود القرآني والنبوي في التخاطب، فضلا عن معهود التخاطب لدى الصحابة والتابعين والعلماء القدامى الذين تحدثوا في الخطاب الديني أو كتبوا فيه، ويكون من حيث المخاطب معهودا متفقا مع أعراف العرب في لغتها أيام ورود الخطاب، دون إهمال لتأثير معاهيد العرب في الخطاب عبر العصور إذا لم تتناقض مع المعهود الأول والروح العام للخطاب، ومن المعلوم أن الناس جميعا على اختلاف أجناسهم وأعرافهم مخاطبون بالخطاب القرآني والنبوي. ومن عناصر المعهود أيضا الرسالة التي ينقلها الخطاب وهي رسالة توحيدية إنسانية عالمية شاملة مرنة، والمواقف الخطابية التي هي ظروف ورود الخطاب في العهد الإسلامي الأول، ومطابقاتها في العصور التاريخية الإسلامية المتعاقبة إلى قيام الساعة.

فمعهود الخطاب شامل للدلالة التي يتضمنها الخطاب، وكيفية تلقي أصحاب اللغة لدلالته. وتتحدد هذه الدلالة، بقدرة المتكلم به على إفهام السامع بمراده من كلامه، وكيفية فهم السامع وإدراكه لدلالة هذا الكلام، وهما أمران عقليان. ومن المعلوم أن أصحاب اللغة متفاوتون في إدراك هذه الدلالة ووعيها، ويزداد التفاوت باختلاف طبيعة الخطاب، وخصائص بنائه، وطريقة توظيفه، وما يكتنفه من المؤثرات الثقافية والنفسية والاجتماعية، ومدى استيعاب متلقي الخطاب لها، ومواقفهم منها. "وما تفاوت السامعون في إدراك وفهم ووعي كلمة مثلما كان ذلك مع الكلمة الإلهية المعجزة، ثم من بعده الحكمة النبوية… ولم يحظ قول بتكاثر الفهوم والإدراكات مثلما حظيت الآيات البينات في الذكر الحكيم، على الرغم من أنه بلسان عربي مبين، فهو حمال ذو وجوه، والفقه الأكبر هو القدرة على حمله على أحسن وجوهه"(35).

ترد هنا الإشارة إلى أهمية التعرف على قصد المتكلم من الخطاب وفق ما عهده أهل اللغة الذين تواصلوا معه، وعاصروا خطابه، لأنه معين على دقة استنباط المعنى المستفاد من خطابه، وعلى تفادي تفاوت المعاني وتعددها ومعرفة أوجه احتماليته، على الرغم مما يكتنف التعرف على مراده من صعوبة في حالة غياب هذا المتكلم، كما كانت الحالة بالنسبة للخطاب الديني، حيث يستحيل حاليا العودة إلى منزل الكتاب العزيز، أو مورد السنة المطهرة، فيستعان في الوقوف على المراد الحقيقي من نصوص هذا الخطاب بالتعرف على القرائن الخطابية المتوفرة المماثلة لقرائن ورود هذا الخطاب، وبالنظر في معهود العرب أيام تنزيل الخطاب في استعمال ألفاظه وتراكيبه وأساليبه من أجل فهم نصوصه. لهذا لا يلزم اشتراط معرفة إرادة المتكلم بالخطاب الديني لفهم معانيه(36)، بل يعول أساسا على المعهود في استخدام نصوص هذا الخطاب لدى العرب المستخدمين للغته، في ضوء العلم بقرائن وضع عناصره وأوجه استعمالها. فإن تمكنا من التعرف على المراد من الخطاب من خلال البيانات المتوافرة جعلناه الأصل في فهم الخطاب، وإن ما يتيسر لنا ذلك عولنا على معهود الخطاب.

ولا يعني التوضيح السابق إغفال اشتراط إرادة المتكلم وقصده في فهم كلامه في العلاقات الاجتماعية والمعاملات، والعقود المبنية على هذا الخطاب، فضلا عن معرفة معهود العرب في استعمال أنماط الخطاب التي تجري بين الناس في المواقف الخطابية المعنية(37). ويذهب ابن تيمية إلى وجوب الأخذ بالألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة مع دلالاتها، ويرى أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسول الله بها من أجل اتباعه في تطبيق هذه الدلالات. ويقدم أمثلة لأوجه اختلاف بعض اصطلاحات المتكلمين والفقهاء عن المراد بهذه الألفاظ في كلام الله ورسوله، مثل القديم، والمحدث، والقضاء(38).

مظاهره: نبه الشافعي إلى جملة من مظاهر معهود العرب في الخطاب(39)، ونقلها عنه الشاطبي بتوضيح، كما عدد غيرهما بعض مظاهر المعهود. وتحتوي هذه المظاهر أوجه أداء الدلالة التي تناولها الاصوليون في القواعد اللغوية الدلالية في علم الأصول. وفي عرض الشاطبي لهذه المظاهر يشير إلى أن العرب فيما فطرت عليه من لسانها "تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام، أو وسطه، أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد. وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها"(40).

وتجدر الإشارة إلى أن مظاهر المعهود تمتد من الخصائص الدلالية إلى الخصائص اللفظية مثل الاختلاف الصوتي في القراءات القرآنية، والخصائص النظمية التي يعدها العلماء من النظم القرآني الموحى به، ومنها التقديم والتأخير، والتأكيد، والتعليق، والخصائص الأسلوبية، مثل أساليب الإخبار، والاستفهام، والتشبيه، والاستعارة، والمحكم، والمتشابه، والموهم، والمختلف، والحذف، وغيرها مما تكون معهود العرب في تلقي الخطاب. والمعلومات السياقية التي تؤثر في تحديد المعاني المقصودة من الخطاب، وما سواها من مظاهر المعهود. وتستفاد مظاهر أخرى خطابية من كتابات الأصوليين منها عناية العرب بجعل الألفاظ خادمة للمعاني والمقاصد من الخطاب، وعدم القصد إلى تعقيد المعاني المأخوذة من النص، وجعل المعاني المأخوذة من نصوص الخطاب سهلة المأخذ، دون التماس غرائب المعاني تأكيدا لخصائص البيئة البسيطة التي ورد فيها الخطاب وطبق. وتدخل في هذه المظاهر وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن التي أوردها مؤلفو علوم القرآن، ومنها وجوه العموم، والخصوص، والعدد، والجنس، والنوع، والمكانة، والقصد من الحديث(41).

أسس التعرف على المعهود:

يتطلب التعرف على معهود الخطاب الديني درجة من الإجادة والمعرفة في خصائص اللغة العربية ودقائقها، وحياة العرب، وعاداتهم، وأثر التعبيرات اللغوية في تفكيرهم، واعتقادهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، والوقوف على دلالات مكونات الخطاب حسب مواقف استخدامها في اللغة، والاستهداء بسياقات الخطاب نفسه وأسباب وروده. "إن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة, فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، فمن أراد تفهمه، فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة"(42). فمن الضروري مراعاة خصائص لغة الخطاب من حيث دلالته اللفظية المعجمية، والتركيبية، والأسلوبية، فإن كانت الخصائص النظمية المعجزة أو الرفيعة جزءا من مميزات الخطاب الديني، فإن الأهم هو المعاني والمقاصد التي تستفاد من النصوص، والتي تترجم إلى وقائع عملية. ومن الممكن إعادة صياغة نصوص الخطاب بهدف تقديم المفاهيم المأخوذة منها لتكون حلولا للقضايا الإنسانية المتجددة.

وينبغي أن يراعى اصطلاح الشارع في كثير من الأسماء التي تصرف في معانيها العربية، فالمفردة العامة الواردة في العرف اللغوي العربي قبل الإسلام قد تحمل معنى عاما، فتستخدم في الخطاب الديني بمعنى اصطلاحي، مثل (الصلاة)، أو (يصلون)، أو (الزكاة)، أو (يزكي). وينبغي أن يراعى مدى تأثير المقام في نقل المعنى من معناه اللغوي الوضعي إلى معنى يقصده ويريده المشرع(43)، والفروق والخصائص اللهجية التي اعتمدت في الخطاب القرآني والنبوي، وأن تعتبر الاحتمالات الواردة في القراءات المتواترة والشاذة في نصوص القرآن من أجل الوقوف على المعاني المتضمنة في الآيات، وأن تراعى الروايات المختلفة المسجلة لمتون الحديث النبوي للتأكد من صحة الاستدلال بالحديث على المعاني المستفادة منها.

ولعل الأسس التالية تمثل محددات يرجى أن توجه إلى الاستناد إلى معهود العرب في تلقي الخطاب الديني:

ـ اسقتراء معهود استخدام الكلمة في القرآن والحديث واللغة العربية الفصحى التراثية بشكل عام: فيفسر اللفظ، أو التركيب بحسب ما تدل عليه اللغة العربية التراثية واستعمالاتها، وما يوافق قواعدها، ويناسب بلاغة القرآن الكريم. ولكن الاعتماد على الخصائص اللغوية وحدها دون اعتبار الوسائل الأخرى قد يوقع في زلل في تحديد المعهود؛ إذ لا بد من مراعاة المخصصات والقيود التي أثرت عن النبي (ص)، وعن الصحابة، والتابعين في النص الذي يدرس أو الذي يستنبط منه الحكم. قال الزركشي: "للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة، أمهاتها أربعة: الأول النقل عن النبي(ص). الثاني الأخذ بقول الصحابي. الثالث الأخذ بمطلق اللغة. الرابع التفسير بالمقتضى من معنى الكلام"(44).

وينبغي أن يتفطن عند الأخذ من اللغة في فهم الخطاب لأمور، منها الحذر من تفسير اللفظ المشترك بكلا معنييه، ومعرفة ما يظن أنه حقيقة وهو مجاز، والفرق بين دلالة المطابقة والتضمن والالتزام(45). وللحديث النبوي وظيفة مزدوجة في تحديد المعهود، فهو نوع من نوعي الخطاب الديني، ولكنه يؤدي وظيفة البيان للنص القرآني. قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" (النحل:44)، وتتأكد أصالة الخطاب النبوي في التشريع والإرشاد الدينيين الإسلاميين في أن مضامين الحديث ومتونه نوع من أنواع الوحي الإلهي غير المباشر بشهادة القرآن الكريم نفسه، قال تعالى: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" (النجم: 3-4).

ـ استقراء معهود تلقي الخطاب عند الصحابة والتابعين لهم: فينبغي أن يستقرى هذا المعهود، لأنهم الذين عاصروا نزول القرآن وتلقوا البيان النبوي. وقد تشدد ابن تيمية في تأكيد هذا الأساس قائلا: "وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الله"(46). "فمن أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن، فإن أعياه طلبه من السنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، فإن لم يجده من السنة رجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله، ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح"(47). ويلزم الاهتداء بتفسير الصحابة والتابعين للخطاب لما امتازوا به من مشاهدة أسباب النزول وقرائن الأحوال، مع عراقتهم في اللغة بالسليقة والنشأة، وصفاء في الفهم، ولا سيما إذا أجمعوا على هذا التفسير. فإذا كان الحديث النبوي خطابا دينيا يؤدي وظيفة البيان للقرآن، فإن لأفهام الصحابة وتطبيقاتهم وظيفة تقديم التحديدات النموذجية الأولى المباشرة للخطابين القرآني والنبوي. ويضم إلى هذا المعهود ذلك الذي كان عليه السلف الصالح في القرون الإسلامية الأولى.

ـ معرفة أساليب الخطاب وأوجه المخاطبة في القرآن والحديث، وقد اهتم الزركشي بعرض جملة من أوجه الخطاب والمخاطبة في القرآن الكريم. وإذا علم أن معهود الخطاب في القرآن الكريم كان وفق المعهود العام لتلقي الخطاب لدى العرب، وأن لغة الحديث النبوي كانت متفقة أو مقاربة للغة القرآن الكريم، فإن الوجوه التي أورده الزركشي تصلح أن تمثل وجوه المخاطبة في الخطاب الديني بوجه عام(48). وتعد مظاهر المعهود المذكورة سلفا جزءا من أوجه المخاطبة.

ـ معرفة التطبيقات العملية السابقة للمفاهيم المستفادة من الخطاب الديني، ولها أهمية في إيجاد تحديد دقيق لمعهود العرب في فهم الخطاب. فتلك التطبيقات تمثل الخبرات التاريخية لمتلقي هذا الخطاب على مختلف العصور المتعاقبة، ولا يعقل أن يدعي أن هؤلاء المتلقين لم يفهموا كل الخطاب، أو أنهم أخطأوا فهم شيء منه(49)، بل الأقرب أن يقال إن أفهامهم للخطاب وتطبيقاتهم له كانت متأثرة بيئاتهم، ووفق معاهيدهم في عصورهم في تلقي هذا الخطاب. فمعرفة هذه المعاهيد مهمة وضرورية في ضبط معهودنا في العصر الحديث في تلقي هذا الخطاب. فإذا تيسرت معرفة معهود الخطاب أيام التنزيل فإن التطبيقات العملية لرسالة هذا الخطاب في العصور المتعاقبة تساعد في تحديد هذا المعهود في العصر الحديث.

ـ معرفة القرائن المقالية والحالية والعادات الخطابية العربية: فمن الضروري في تحديد معهود الخطاب معرفة المقام الذي يحيل إلى مجموعة من القواعد المحددة للاستعمال اللغوي في الفترة الزمنية التي ورد فيها الخطاب، ويشمل ذلك العناصر المكونة لمقام الخطاب التي يندرج فيها مقام المقال نفسه، ويشمل حال المخاطب والمخاطب وجميع مقتضيات الأحوال، والأمور الخارجية التي تدخل ضمن مقام الحال، بما في ذلك معرفة أسباب ورود الخطاب، ومعرفة العادات الخطابية العربية المصاحبة لورود نصوص هذا الخطاب، وهي كلها أمور تسهم في التعرف على عناصر المعهود(50). وفي هذا الصدد يقول الشاطبي: "لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن والسنة من معرفة عادات العرب في أقوالها ومجاري عاداتها حالة التنزيل من عند الله والبيان من رسوله (ص)، لأن الجهل بها موقع في الإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة"(51). ومن أوجه معرفة القرائن المقالية تحكيم السياق في تحدي المقصود من نص الخطاب، فتربط الآية، مثلا، بالسياق الذي وردت فيه، ولا تقطع عما قبلها وما بعدها، ولا تجر جرا عن قصد لإفادة معنى، أو تأييد حكم. ومثله وضع النص في موضعه الصحيح عند الاستدلال أو الاحتجاج به.

ـ الخلفية الثقافية عن حياة العرب وعاداتهم اللغوية وثقافاتهم، وهي مفيدة في الوقوف على الأنماط الثقافية المتضمنة في نصوص الخطاب، فاللغة وعاء محتواه ثقافة أصحاب اللغة. ففي قوله تعالى: "فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة". (النساء: 24) تدل لفظة (استمعتم) على معان ثقافية معهودة أيام التنزيل تفيد عقود الزواج المؤقتة. وتستفاد استثناءات أو تحديدات كثيرة لجملة من المعاني المقدمة في المسائل التاريخية، بل إن الحياة العربية "التقليدية" الحديثة تصلح أساسا في فهم الخطاب؛ لأنها انعكاس نسبي للعادات والتقاليد القديمة.

ـ اعتبار الغايات والمقاصد من نصوص الخطاب، ويتم بالانتقال في مراعاة مقاصد الشارع من الخطاب من العلاقة بين التركيب، وبين ما يدل عليه من أشياء أو أحداث أو مواقف، أسوة بالمتلقين الأوائل له الذين جمعوا بين العلم والعمل به معا. فعندما يأمر الرسول (ص) أصحابه بالإسراع إلى بني قريظة يوم الأحزاب، وموعد الصلاة قريب، فيقول: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(52) فإن جماعة منهم آثروا أداء صلاة العصر في أول وقته، ثم مواصلة المسيرة، وآثر آخرون أداءها في موعدها المتسع بعد وصولهم إلى بني قريظة. فالمقصد هو الوصول بسرعة قبل خروج موعد صلاة العصر المحدد شرعا، دون أن يتضمن الحديث تعديلا لهذا الموعد المقرر. وينبغي الانطلاق من مصدرين مزدوجين في تحديد مقاصد الخطاب حديثا: معرفة الأحوال الحاضرة، ومعرفة التطبيقات التاريخية لمعاني النص ومقاصده.

ـ معرفة العوامل النفسية والاجتماعية والفكرية المؤثرة في تلقي الخطاب وصياغته. فنوعية مستحقي الزكاة في قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله" (التوبة: 60) تعرض جزءا من مشكلات عصر التنزيل والمواطن التي يفيد فيها التكافل بين أفراد المجتمع وطبقاته، فتطبق الآية في النوعية المماثلة في هذه الخصائص حديثا. وكأني بالشاطبي وهو يعتبر العوامل النفسية والاجتماعية والفكرية بتأكيده لأمية الشريعة، وتأكيده للزوم فهمها وفق فهم الأميين، وحياتهم الاجتماعية، وأحوالهم النفسية، ومستوياتهم الفكرية، على الرغم من الاعتراضات التي أوردت على القول بأمية الشريعة. وبما أن حياة متلقي الخطاب وعاداتهم قد تطورت وتعقدت وتنوعت، فمن الضروري مراعاة الأحوال النفسية والاجتماعية الحاضرة في تلقي الخطاب الديني.

ـ التوفيق بين معهود استخدام مكونات النص في التراث ومعهود استخدامها حديثا، فلا يتيسر لقارئ الخطاب قراءة واعية لغرض تطبيقه في الواقع أن يتجرد من التأثيرات الثقافية والفكرية والاجتماعية والنفسية والتاريخية في عالمه الخارجي، ولكن عليه ألا يجعل فهم الخطاب الديني متوقفا على المعهود الحديث، بل عليه أن يجعل من الاستخدامات الواردة في التراث مرجعا أساسيا في تلقي الخطاب، وفي صياغة رسالته بغرض ربطه بالواقع. ويلقانا موقف صارم من ابن تيمية تجاه اعتماد المعهود المستحدث فقط في فهم الخطاب الديني، فيقول: "ومن أعظم الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها"(53). وعلى الرغم من هذا الموقف المتأثر بالدفاع عن الموقف السلفي في التعامل مع الخطاب الديني، فإن الواقع أن المتلقين للخطاب الديني حديثا يحاولون فهم القرآن الكريم والحديث الشريف بالاستناد إلى معهودهم في استخدام العربية الفصحى الحديثة، وفي ضوء التطبيقات المتعارف عليها في عصرهم وبيئاتهم، وإنما يعودون إلى المعهود القديم، أو المفاهيم والتطبيقات الواردة في التراث إذا أعوزهم فهم معنى نص من نصوص هذا الخطاب. ويرد الإشكال هنا من جهة أن متلقي الخطاب الديني ينبغي أن يستشعر أنه منزل عليه مباشرة، أو أنه خوطب به دون واسطة، حتى تتوثق صلته به، فيطبق توجيهاته على أفضل وجه يقتنع به.

ـ استبعاد التأويلات الباطنية الشيعية والصوفية وغيرها، لأنها ليست مبنية على معهود العرب في تلقي الخطاب، بل تستند إلى خصائص دلالية خارجية عن المجال التداولي للألفاظ التي تستخدمها هذه الطوائف. فمعهود الشيعة في الخطاب مبني على عقيدتها ومنطلق من رغبتها في الاستدلال لها من الخطاب القرآني والنبوي، وهو معهود غير منسجم مع العرف اللغوي العربي. وليست الدلالات الصوفية الباطنية معتبرة في معهود العرب في الخطاب المبني على أعراف ظاهرة حقيقية متعارف عليها.

ـ الخلفية العقدية الصحيحة المعينة على تصور الخبرات التي خاضتها العرب مع الخطاب الديني، وهي خلفية ترشد في حمل دلالات الخطاب على المقاصد المعروفة للمتكلم بالخطاب، أو ما يقرب أن يقصده. فإذا كان الخطاب اللغوي محتملا بصفة عامة، وقد علم أن نصوص القرآن حمالة أوجه، وأن متون الحديث الصحيحة قد تختلف في موضوع واحد أو حادثة واحدة، لأسباب وضحها العلماء، وأن متلقي الخطاب اللغوي لا يتجرد من التأثر بمعتقداته، فإن التحوط في التعامل معها، وصحة الاعتقاد في رسالة الخطاب الديني من أهم أسس التعرف على المعهود الصحيح عن العرب في تلقي الخطاب الديني. قال الزركشي: "أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر، واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمدا قول مفسر ليس عنده إلا علم بظاهر، أو يكون راجعا إلى معقوله، وهذه كلها حجب موانع.."(54).

ولتقوى الله في تحديد المعنى المعهود أثر كبير في تلقي كتاب الله وحديث رسوله الكريم؛ إذ إنها تعصم من الهوى، والانحراف، والضلال. وتعين على التحوط في التفسير والحرص على مطابقة النص المفسر(55). قال الإمام أبو طالب في آداب المفسر: "اعلم أن من شرطه صحة الاعتقاد أولا ولزوم سنة الدين، فإن من كان مغموصا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا فكيف على الدين، ثم لا يؤتمن في الدين على الإخبار عن عالم، فكيف يؤتمن في الأخبار عن أسرار الله تعالى، ولأنه لا يؤمن إن كان متهما بالإلحاد أن يبغي الفتنة ويغر الناس بلينه وخداعه كدأب الباطنية وغلاة الرافضة، وإن كان متهما بهوى لم يؤمن أن يحمله هواه كلما يوافق بدعته، كدأب القدرية فإن أحدهم يصنف الكتاب في التفسير ومقصوده منه الإيضاح الساكن ليصدهم عن اتباع السلف ولزوم طريق الهدى، ويجب اعتماده على النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم"(56).

المعهود في دلالة الخطاب:

لمعرفة المعهود أهمية في تشكيل المفاهيم المستنبطة من النصوص الدينية، ولا يكفي فيها، كما ذكرنا سلفا، معرفة الألفاظ ومعانيها مجردة عن سياقات معينة، بل إن المعرفة اللغوية تتضافر مع جميع عناصر المعهود وضوابطه. ولقد كان من صنيع الصحابة رضوان الله عليهم الاستعانة في فهم القرآن الكريم بمعرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها، ومعرفة عادات العرب، ولهجاتها.

إن الاستخدام اللغوي في القرآن الكريم متميز، ولكنه تميز يخالف ما ارتآه محمد أبو القاسم بأنه يرقى إلى مستوى المصطلح ويتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي، ويصطدم بمرجعية الموروث اللغوي، ويتعالى على السياق وأسباب النزول والبناء اللفظي المجرد، ولا أن لكل مفردة قرآنية معنى واحدا لا يتعداه. وتوضيحاته في التفريق بين لفظتي (لمس) و(مس) في الاستخدام القرآني لا تكفي دليلا على انفرادية دلالة الألفاظ القرآنية، إن كانت توضيحاته صحيحة وفقا للمعهود العربي في الخطاب(57). ويترتب على القول بمباينة الاستخدام اللغوي القرآني للاستخدام اللغوي العربي العام القول بقصور أفهام العرب عن إدراك تام صحيح لمعاني هذا القرآن، ويترتب على ذلك التشكيك في صحة التطبيقات المبنية على المفاهيم التي استفادوا من القرآن الكريم. ولم يجد محمد أبو القاسم غضاضة في التصريح بهذه المحصلة الخطيرة في صدد محاولته التفريق بي لفظتي (لمس) و(مس) في القرآن وتحريم بعض العلماء للمس القرآن أو مسه لغير الطاهر بأن: "علماء المسلمين قد ارتكبوا هذا الخطأ ليس نتيجة جهلهم باللغة العربية ولكن نتيجة لعدم تدقيقهم في لسانها"!(58).

مما يخرج على مراعاة معهود العرب في تلقي الخطاب الديني نظرة الجابري في اللغة العربية في تمثيلها للفكر الحضاري العربي؛ إذ رأى أن اللغة العربية التي جمعها النحاة واللغويون من الأعراب في البوادي، بدلا من المراكز الحضارية والقبائل المتحضرة، جاءت فقيرة جدا وأقل اتساعا ومرونة وتحضرا من لغة القرآن الكريم، وأنه كان طبيعيا أن ينعكس هذا البون على فهم القرآن من طرف العرب أنفسهم، لأن كثيرا من الكلمات الواردة في الكتاب المبين لا توجد لها دلالات مضبوطة في هذه اللغة التي جمعت من الأعراب، فظلت محل خلاف متواصل دائم. ورأى أن اللغة العربية الفصحى، لغة المعاجم والآداب والشعر، ولغة الثقافة العربية ظلت وما تزال تنقل إلى أهلها عالما يزداد بعدا عن عالمهم، عالما بدويا يعيشونه في أذهانهم، بل في خيالهم ووجدانهم، وهو عالم يتناقض مع العالم الحضاري التقني الذي يعيشونه والذي يزداد غنى وتعقدا(59).

ولعلنا نجيب عن اعتماد معهود العرب بأن اللغة التي جمعت عن الأعراب لم تكن مباينة للغة المراكز الحضارية كثيرا، وأنها كانت تفي بالاحتياجات الحضارية في العصور الإسلامية المتعاقبة، وأن لغة المعاجم العربية كانت تضم المفردات القرآنية والنبوية، بل إن أصحاب المعاجم يعطون الأولوية للاستخدامات القرآنية والنبوية في توضيح معاني المداخل المعجمية، وهذا واضح في صنيع ابن منظور في لسان العرب، كما أنهم يستشهدون بالآيات والأحاديث في توثيق المعاني وفي الأوجه اللغوية التي ينقلونها. وتجدر الإشارة إلى أن فهم المسلمين للقرآن لم يستند في المقام الأول إلى لغة الأعراب، بل يفحص في القرآن من أجل فهم معانيه الحضارية، ثم يستعان بالسنة القولية والعملية، فتطبيقات الصحابة والتابعين، ويستند بعد ذلك إلى عموم لغة العرب، وعاداتهم، ومفاهيمهم في ضوء المقاصد العامة للخطاب الديني، ووفقا للمقتضى العام لمعنى هذا الخطاب.

ويصور الشاطبي طرفا من معهود العرب في لسانها في التراوح بين المعاني، والألفاظ، والأساليب، قائلا: "مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني، وإن كانت تراعيها أيضا، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم، بل قد تبني على أحدهما مرة، وعلى الآخر أخرى، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته. ومما يدل ذلك: خروجها في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة، والضوابط المستمرة، والاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها، وإهمال بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبر على الجملة، وأن الصحيح من كلامها ما يكون عاما مشتركا لجميع العرب، وأن المقصود الأعظم من كلامها هو الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب"(60).

وتوجد أنواع من الدلالة المعهودة في اللغة العربية ينبغي مراعاتها في استنباط دلالات الخطاب، ومنها ما عرف بالدلالة الأصلية والتابعة، فالدلالة الأصلية مستفادة من الألفاظ والعبارات المطلقة الدالة على معان مطلقة يشترك فيها جميع الألسنة، ولا تختص بأمة دون أخرى، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين في أحاديثهم. ويمكن التعبير عن هذه الدلالة أو نقلها إلى أي لغة مهما اختلفت خصائصها ومعاهيد الخطاب فيها. والدلالة التابعة مستفادة من الألفاظ والعبارات المقيدة الدالة على معان خادمة للمعاني الأصلية، وفيها تتميز اللغات فيما بينها. فإذا أمكن الإخبار عن حدث "القيام" مثلا في كل لغة، فإن المعاني التابعة الخادمة لهذا الإخبار قد تختلف باختلاف المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، والإخبار نفسه من حيث حاله، وسياقه، ونوع أسلوبه، من حيث الإيضاح، والإخفاء، والإيجاز، والإطناب، والتأكيد، وبحسب تعظيم المخبر عنه، أو تحقيره، أو التصريح به، أو الكناية عنه، وغير ذلك. فإذا أمكن استفادة الأحكام الشرعية من المعنى الأصلي، فإن المعنى التبعي يستفاد منه آداب شرعية، وتخلقات حسنة يقر بها العقل السليم(61).

ويقسم النص من حيث احتماليته الدلالية إلى مقطوع الدلالة، وظني الدلالة، وتبرز احتمالية الخطاب الديني من خلال مستويين: مستوى كونه خطابا لغويا، ومستوى كونه خطابا مجسدا لإرادة الشارع ومقصده. وتفسر هذه الاحتمالية بأن المتكلم بهذا الخطاب إنما يقصد معنى محددا يتوجب على المتلقي أن يفهمه من أجل أن يستدل به على المقاصد والأحكام. ولا يكفي لتحديد الدلالة المقصودة من الخطاب الاقتصار على صيغته اللغوية، إذ إن الخطاب اللغوي، ومنه الخطاب الديني، قد يحتمل الدلالة على وجهين دلاليين لدى المستقبلين له(62). وقد نبه الشاطبي إلى خاصية الاحتمال (أو الظنية) في الاستدلال بالخطاب الديني، فأشار إلى جملة من الأمور كلما وجدت تكاثرت الاحتمالات في المراد من الخطاب، منها: نقل اللغات، وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، والتقديم والتأخير، وما يستفاد من المفردات من إحالات، وإيحاءات، ومن التراكيب من حقيقة ومجاز، وعموم وخصوص، وتواطؤ واشتراك، وما سواها(63).

ولا يقدح في فهم القرآن وفق معهود العرب في الخطاب احتمالية دلالات نصوصه؛ لأن الاحتمال خاصية من خصائص الدلالة، ولا يقضي عليه محاولة فهم معاني القرآن الكريم في حدود الاستعمالات اللغوية القرآنية والنبوية؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب من أجل أن يستوعبوا معانيه حسب عاداتهم الخطابية والثقافية الاجتماعية؛ لذا كان في مشروع العالمية الإسلامية الثانية لمحمد أبي القاسم إغفال لوظيفة البيان النبوي وهدر لعطاء التراث اللغوي العربي الإسلامي في القرآن الكريم. فقد دعا إلى حصر فهم القرآن في حدود القاموس القرآني واستخداماته دون الاستخدام اللغوي العربي العام، ودون العودة إلى لغة السنة النبوية، ورأى أن المفردة وفق هذا القاموس لا تحمل أكثر من معنى واحد محدد دون ترادف، أو اشتراك، أو أي احتمال، على خلاف خصائص اللغة العربية، ويقتضي دوره انقضاء دور الارتباط بين القدوة النبوية، والتطبيقات المبنية على الخصائص العربية المكونة لمواقف ورود الخطاب القرآني، ولزم بذلك فهم المعنى القرآني في ضوء المنهج الذي يقترحه هو لفكرته العالمية(64). وإن جعل القرآن مرجعا لنفسه ينفي أي مرجعية أخرى في فهم القرآن مثل السنة النبوية، والمواقف الأولية لورودهما وأفهام الصحابة وتطبيقاتهم للرسالة الإسلامية، كما ينفي مرجعية التطبيقات والمفاهيم الإسلامية الأخرى في العصور الإسلامية المتعاقبة، بل إنه يحيل القرآن إلى أن يكون كتابا نظريا تتحدد معانيه بحدود طياته، ويبعده عن الحياة العملية على المدى القريب والبعيد.

لقد أقدم العلماء على تأويل نصوص الخطاب وتفسيره بغية توضيح معانيه وبيان مفاهيمه. وليس ذلك غريبا على هذا الخطاب، ولا قدحا في مصداقية معهوديته؛ إذ اعتبر الحديث النبوي بيانا للقرآن، ودرج الصحابة رضوان الله عليهم على استيضاح معانيه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدموا بدورهم التوضيحات والتفسيرات والتمثيلات لنصوص القرآن وأحاديث رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام. ويعلل السيوطي للتفسير والتأويل –في عصره- بقوله: "إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي (ص) في الأكثر…، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك ما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير". ويقول في الموضع نفسه: "وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول (ص)، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل، فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل"(65). ومن المقرر لدى العلماء أن الأصل هو إبقاء النصوص على ظواهرها التي تعكس المعهود المتبادر من الخطاب، وأنه لا تأويل إلا بدليل. ويقدم ابن تيمية مفهوما للتأويل يقضي بأن المقصود به عند السلف "هو بيان احتمال في لفظ الآية بجواز أن يراد ذلك المعنى بذلك اللفظ"(66).

لقد وضع العلماء للتأويل ضوابط تضمن الحفاظ على معهود الخطاب لدى العرب في فهم النصوص، ومن المسلم به لديهم أن الأخذ بالظواهر أسلم، ولا يطرق باب التأويل إلا في الأمور الاجتهادية (الفرعية)، وأما فيالمسائل الاعتقادية فلا مجال للاجتهاد فيها، بل الأخذ بظواهر النصوص مع تفويض المعاني المرادة فيها، وما قد تدل عليه من كيفيات، هو الأسلم دائما، وهو موقف السلف رضوان الله عليهم. أما عند الاضطرار إلى التأويل فلا بد من فهم النص فهما جيدا وتحليله في ضوء هذا الفهم، ومعرفة سائر أوجه دلالته التي تشهد اللغة لها، وتدعمها مقاصد الشريعة وتساعد عليها كلياتها وقواعدها العامة، وألا يرفع التأويل ظاهر المعنى المفهوم من اللفظ حسب الخصائص اللغوية، وأعراف العرب في التخاطب بهذه الألفاظ(67).

يقتضي الاستناد في استنباط دلالات الخطاب إلى المعهود أن تكون هذه الدلالات كلها معروفة غير خافية على العرب الذين تلقوا الخطاب، والذين هم أمثالهم في لغتهم عبر العصور. ويرد هنا النظر في الحكمة من وجود المتشابهات في القرآن الكريم، كما ورد في قوله تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به". (آل عمران:7). وقد ذهب ابن تيمية إلى أن المعنى الصحيح أن التشابه أمر نسبي، فما يتشابه على شخص قد لا يتشابه على غيره، وهناك آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد. وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، وبذلك يكون القرآن كله محكما كما قال تعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت" (هود: 1)(68). وأجاب ابن قتيبة (ت 276هـ) عن التساؤل عن مراده تعالى من إنزال المتشابه في القرآن مع إرادته به الهدى والتبيان، بقوله بأن "القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، وإغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلا اللقن، وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي… وعلى هذا المثال كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام صحابته والتابعين وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء، ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف الذي يتحير فيه العالم المتقدم، ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز"(69). ورأى أن الله لم ينزل شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده، ويدل به على معنى أراده، وأن حصر علم المتشابه في الله يرده أن الرسول يعرف المتشابه، وقد علم تأويله لأصحابه. ولم يحدث أن توقف المفسرون عن شيء من القرآن بحجة أنه من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله(70).

يلزم في دراسة معهود العرب في الخطاب الديني التحوط في اعتبار التطورات اللغوية المتصلة بالدلالة والمفاهيم الحضارية. ويذكر النجار أنه ينبغي أن يكون فهم الأحكام في إطار عادة العرب في التخاطب أيام التشريع، وليس في إطار ما شهدته اللغة بعد ذلك من تطور وتوسع وتنام، سواء في مدلول ألفاظها، أو في مدلول نظمها، وأن هذا الموقف لا يغفل جوانب الاستفادة من ذلك التطور واستثماره في الفهم، إذ تكون الاستفادة في حدود دائرة استخدام اللغة العربية على عهد نزول الوحي(71). فمن الممكن التوفيق بين المعهود عصر نزول الوحي والمعهود الحديث الفصيح بعد حدوث تطور نسبي في اللغة العربية الفصحى؛ إذ إن قوة المؤثرات الحضارية والمقومات الثقافية قد ساعدت في تجاوز التباين بين المعهودين. وقد اختار العلماء منطلقا مرنا في توجيه تطبيقات الخطاب المتجددة بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، فكان الفقيه يستند إلى المعهود، ويعتبر مظاهر التطور اللغوي والفكري والحضاري في استنباط الاحكام، والاستدلال لها، وتطبيق مفاهيم الخطاب في طرح الحلول للقضايا الاجتماعية والفردية.

ولاحتواء تطورات عناصر المعهود وأثرها في تلقي الخطاب محك آخر متمثل في القرائن النموذجية لورود الخطاب، والتطبيقات المثالية الأولى له، وما حمل عليها من تطبيقات مماثلة. فإذا كان الخطاب صالحا لأن يطبق دون تقيد باختلاف الأعصار والأزمان، فإنه تطبيقاته توازن بالتطبيقات الأولى التي تمت في ضوء المعهود الأول للخطاب، ومقاصده العامة، وبذلك توفق بين المعهود والتطور، ويتجاوز ما قد يحتمل من تباين، وأمكن التدليل على صلاحية الخطاب للتطبيق في كل الأوضاع. ويتحقق من خلال التدقيق بين المعهودين هدف لغوي حضاري هو توثيق صلة العربية الفصيحة المستخدمة حديثا بالفصحى التراثية، ويفضي ذلك إلى إحياء القيم الدلالية الحضارية الإسلامية ومصطلحاتها.

خاتمـة:

يستند تطبيق الخطاب على وقائع الحياة إلى فهم هذا الواقع، واستيعاب معهود أهله في تلقي الخطاب، وتعتبر تطبيقات الخطاب في حقيقتها ترجمة لإعادة متلقي الخطاب صياغته حسب معهودهم في تلقي الخطاب بصفة عامة. وبما أن اللغة انعكاس لأعراف أصحابها وتصورهم للعالم الخارجي حولهم، فإن اعتماد المعهود اللغوي الفصيح الحديث يعد جزءا من اعتبار الأحوال والقرائن المعاصرة في تلقي الخطاب وتطبيقه. وبما أنه ينبغي التوفيق بين المعهود حال التنزيل والمعهود في العصر الحديث مع جعل أولهما أساسا فإن الناتج يكون معهودا موسعا عن المعهود أيام ورود الخطاب.

ويساعد التوفيق بين المعهودين على توجيه المفاهيم الحديثة من الخطاب الديني لتكون استمرارا للمفاهيم التراثية، غير مناقضة لها، ومن ثم يتحقق فهم حديث للخطاب وفق معهود قديم، على الرغم من تعقد الانتقال من لغة اتصالية معاصرة إلى لغة قديمة تراثية من أجل فهم النصوص ثم العودة للتعبير عن مفاهيمها ومقاصدها باللغة المعاصرة. وتلك عملية نفسية لغوية داخلية مركبة قد تثمر مفاهيم متطورة تضمن صحة التلقي عن الخطاب القرآني والنبوي. وقد يعلل لاعتبار المعهودين معا بأن الاقتصار على تلقي الخطاب حسب فهمه أيام نزوله يعني تلقيه في ضوء تصور القدامى لوقائع حياتهم ومتطلباتها من أعرافهم اللغوية والاجتماعية في فهم الخطاب، وهو أمر يؤكد أهمية الاستفادة من التطور اللغوي في استنباط مفاهيم متحددة من الخطاب تستجيب للقضايا المعاصرة.

وتوضح صلة معرفة المعهود بنقل رسالة الخطاب الديني إلى لغات أخرى، وتطبيقه في جماعات أخرى غير عربية بأن عربية القرآن تعني أنه يفهم من خلال معهود العرب في الخطاب، على الرغم من أن الرسالة الإسلامية جاءت عامة للناس. وإذا كانت الأقوام الأخرى لا تعرف العربية، ولا بد من قراءة القرآن بالعربية، وفهمه من خلال معهود العرب في الخطاب، فإنما يتم التوفيق بين عربية لغة القرآن وعموم الرسالة وتحقيق مسؤولية تبليغ الرسالة إلى أقوام أخرى بترجمة معاني القرآن، ومقاصده، وتطبيقاته ووسائل تطبيقه في وقائع الحياة المتجددة إلى لغات هؤلاء الأقوام(72).

ويبدو مما سبق أن المحددات المقدمة لمعهود العرب في تلقي الخطاب الديني مستقاة من المراجع التراثية، كما يلحظ أن هذا الخطاب مشتق من الخطاب اللغوي العام مشارك له في خصائص منها إمكان تحديد معهوده، وارتباط المعهود بالدلالة، واحتمالة هذه الدلالة، وإمكان تأويله. ولعل تبني النظرة المعهودية يرشد إلى فهم أصيل صحيح للخطاب الديني وتطبيق مثالي له، على الرغم من أن إشكالات البحث في الأخذ بالمعهود ستظل مستمرة، كما يعين على تحقيق التوفيق بين المعهودين مع جعل أولهما أساسا.

وترد مخاطر إهمال معهود العرب في تلقي الخطاب من جوانب منها حصر فهم الخطاب القرآني بشكل خاص في حدود المفاهيم التي تستفاد من القاموس القرآني فقط، مع تجاهل العرف اللغوي العام والضوابط المأخوذة من تطبيقات هذا الخطاب. ومنها تجاهل معهود العرب أيام التشريع كلية، وبناء الخطاب على المعهود الحديث في تلقي الخطاب بدعوى تتبع مقاصد الخطاب، مما يعني انتفاء المرجعية التراثية المعهودة؛ نظرا لإمكان تبدل المعاهيد المستفادةمن الخطاب بسبب تغير الأوضاع والأحوالn

 

 

هوامش

(*) الجامعة الإسلامية العالمية – ماليزيا.

(1)  انظر: عمر عبيد حسنة، من فقه التغيير: ملامح من المنهج النبوي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1995، ص130-131.

(2)  راجع: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد قاسم العاصمي، 1398هـ، مج 12، ص17-18. (اقرأ: الشعراء، 192-203).

(3)  انظر: جمال الدين بن مكرم بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1995، مادة: (عهد).

(4)  محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة، ط2، 1979، ص51-52، فقرة 173.

(5)  أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الفكر العربي، بيروت، ج2، ص65، 70.

(6)  الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص82.

(7)  أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج 13، ص344-345.

(8)  أحمد شيخ عبد السلام، (مدخل إلى منهج لغوي مقصدي في التعامل مع نصوص الوحي)، في: التجديد، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، السنة 3، عدد 5، فبراير 1999م، ص139-168.

(9)  نرى إمكان التوفيق بين المعهودين على الرغم من تباعد ما بينهما من عصور؛ إذ إن التطور اللغوي النسبي في العربية الفصيحة المعاصرة متولد عن تراكمات لغوية حضارية عبر العصور الإسلامية المتعاقبة، فكان لزاما العودة إلى المعهود الأصلي لتلقي الخطاب من أجل ربط المعهود الحديث بفهم هذا الخطاب، مع الاستئناس بالمظاهر التطورية المسجلة في المراجع المصنفة في تلقي هذا الخطاب.

(10)  عبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار المعرفة، بيروت، 1978، ج2، ص174.

(11) قد يعترض على هذا الموقف بالقول بأن الوحي منزل لينقل الكلمة من حدود الحقل المعرفي البياني الأصلي لدى العرب، من أجل نقل عقيدة سماوية جديدة، وشريعة إلهية تعلم البشرية ما لا يعلمون من خيري الدنيا والآخرة، ولا ينبغي الحكم على الخطاب الديني بخصائص مرئيات طوائف المتكلمين في المصطلحات التي يتداولونها في أدبياتهم.

(12) انظر: محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط4، 1992، ص274.

(13) محمد بن عبد الله الزركشي،البرهان في علوم القرآن، تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت 1972،ج2، ص170-171.

(14)  أحمد بن عبد الحليم تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج13، ص238.

(15) انظر: إحسان إلهي ظهير، الشيعة والسنة، إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، ط3، 1976، ص41-42.

(16)  راجع: محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967، (تفسير الآية: النساء: 24).

(17)  أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج 13، ص236.

(18)  راجع: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ج9، ص30 وغيرها. وانظر: أنور خالد الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي: نظرية المعرفة ومناهج البحث، المعهد العلمي للفكر الإسلامي-مكتب الأردن، عمان، 1996، ص115-125.

(19)  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، (نقد العقل العربي –1)، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط4، 1991، ص309-310.

(20)  أبو محمد علي بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، مج2، ج7، ص323.

(21)  راجع: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص29-30.

(22)  أورد القرطبي في تفسير قوله تعالى: "وجاهدوا في الله حق جهاده" (الحج: 78) التفسيرات المتعددة للجهاد في هذه الآية، ومنها جهاد الكفار، أو امتثال جميع أوامر الله والانتهاء عن منهياته، أو جهاد النفس في طاعة الله وردها عن الهوى، أو جهاد الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم.

(23) انظر: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، مكتبة صبيح، القاهرة، 1360هـ ص202-203.

(24)  محمد أبو القاسم حاج أحمد، العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، Inernationa Studies & Researsh bureau, British West Indies, ط2، 1996، ج1، ص56.

(25)  انظر: عمر عبيد حسنة، من فقه التغيير: ملامح من المنهج النبوي، ص128.

(26)  محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص565-599.

(27)  عبد الإله بلقزيز، إشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1، 1992، ص131-142.

(28)  بن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، د.ن.د.ت.، ج3، ص63.

(29)  انظر: محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص572.

(30)  الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص70-71، 82.

(31)  راجع: الشافعي، الرسالة، ص51-52 (فقرة 173)، والشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص66.

(32)  الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص64.

(33)  راجع: الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص82.

(34)  للوقوف على ضوابط التعامل مع القرآن الكريم والسنة الشريفة، راجع: محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، الولاليات المتحدة الأمريكية، 1991. ويوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط، دار الوفاء، المنصورة، 1990. وصلاح عبد الفتاح الخالدي، مفاتيح للتعامل مع القرآن، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، 1985.

(35)  محمود توفيق محمد سعد، دلالة الألفاظ عند الأصوليين: دراسة بيانية ناقدة، مطبعة الأمانة، مصر، 1987، ص23. (وانظر: ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج1، ص354-355، ج1، ص83 للاطلاع على قضايا متصلة بمضمون هذه الفقرة).

(36)  محمود توفي محمد سعد، دلالة الألفاظ عند الأصوليين: دراسة بيانية ناقدة، ص35-37. (ملحوظة: كان متيسرا للصحابة رضوان الله عليهم التعرف على إرادة الشارع أيام ورود الشرع بالعودة إلى رسول الإسلام، أما بعد عهدهم فيتأكد الأخذ بالأسس المقترحة للتعرف على المعهود في هذا البحث، وبصفة خاصة الاستعانة بفهم الصحابة، والخلفية والعقدية الصحيحة، وتقوى الله في تحسس قصد المتكلم بالخطاب الديني من أجل فهمه. ومن المعروف أن بين سلامة العقيدة والروح وسلامة الفكر تأثرا وتأثيرا).

(37)  راجع: ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج1، ص218-220 وج3، ص95 وما بعدها.

(38)  أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج 12، ص113-115، 105-107.

(39)  (قال الشافعي: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها. وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه") الرسالة، ص51-52 (فقرة 173).

(40)  الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص65-66. (وتندرج تحت هذه المظاهر بعض الموضوعات الأصولية، منها: المعنى العام والخاص، والظاهر والخفي، والظني والقطعي، ودلالة المطابقة والإشارة، والترادف والاشتراك اللفظي، وما سواها مما يتعلق به البحث في هذه من الموضوعات).

(41)  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص217-253.

(42) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص65-66.

(43) نشير إلى أنه إذا ورد معنى المصطلح أو التركيب على خلاف المعهود، أو تعلق بما هو فوق المعهود، فإن صاحب الخطاب يوضحه. وقد أدى البيان النبوي هذه الوظيفة للقرآن الكريم، وتقدم توضيحات الصحابة في الأحاديث النبوية بيانات للظروف المحيطة بالأحاديث، وقد درج الصحابة على الاستفسار من الرسول عما لا يفهمونه من أحاديث الرسول (ص) من ألفاظ، وتراكيب، وأساليب، ومعان.

(44)  انظر: عبد الرحمن السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار المعرفة، بيروت،، 1978، ج2، ص178-179.

(45) انظر:يوسف القرضاوي، المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة:ضوابط ومحاذير في الفهم والتفسير، مكتبة وهبة القاهرة 1992،ص56-58

(46)  أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج 13، ص243.

(47)  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص175-176.

(48) راجع: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص217.

(49) حذر ابن تيمية من القول بأن السلف لم يفهموا معنى من الآية وقف عليه المتأخرون. فالسلف مع اختلافهم في بعض الأوجه لا يقولون قولين كلاهما خطأ، والصواب قول ثالث لم يقولوه. ويترتب على هذا القول أن تكون الأمة كلها قبل القائل به كانت جاهلة بمراد الله ضالة عن معرفته، وانقرض عصر الصحابة والتابعين وهم لم يعلموا معنى الآية. وفي ذلك ما لا يخفى من الزيغ (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج 13، ص59-60).

(50) انظر: الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج3، ص347-348. وإسماعيل الحسني، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيندن، الولايات المتحدة الأمريكية، 1995، ص333-338.

 (51)  الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج3، ص251.

(52)  عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم". (صحيح البخاري، كتاب المغازي، الحديث رقم 4119، ترقيم فتح الباري).

(53)  أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج 12، ص106-107.

(54)  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص180-181.

(55)  الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص176.

(56)  السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص176.

(57)  محمد ابو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية، ج1، ص55-57 وج2، ص157-159 و482.

(58)  محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية، ج2، ص159.

(59)  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص87-88.

(60)  الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص82-88.

1(61) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج2، ص66-67 وص95-103.

(62) إسماعيل الحسني، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، 327-331.

(63) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج1، ص35-36 وج2، ص6. وانظر: فخر الدين الرازي، المحصول في علم الأصول، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج1، ص172.

(64)  انظر: محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية، ج1، ص58، 68، 69 وغيرها.

(65) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص174.

(66)  أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج 13، ص59-60.

(67)  طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام، ص39-43.

(68)  أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مج13، ص143-144.

(69) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص62.

(70) ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، ص72-73.

(71) عبد المجيد النجار، فقه التدين فهما وتنزيلا، كتاب الأمة، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، المحرم، 1410هـ. ح1، ص91-92.

(72)  محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، ص238.