العولمة ومسألة الهوية بين البحث العلمي
والخطاب الإيديولوجي
2- العولمة وهاجس الهوية في الغرب
محمد عابد الجابري
تحدثنا عن "المصالح القومية" في الغرب المعاصر،
على مستوى الدولة والوطن والرأسمال والشركات "المتعددة الجنسية"، أما
على مستوى الأفراد فالارتباط بالوطن والرموز القومية والتاريخية وبالهوية ظاهرة
عامة متجذرة في الدول الكبرى، في الولايات المتحدة كما في أوربا.
سأترك فرنسا جانبا, فموقف زعمائها السياسيين، ومثقفيها
وصحفها وشعبها، من الاختراق الثقافي الأمريكي ومن تأثير العولمة على اقتصادها
ومناطق نفوذها موقف معروف. سأقتصر إذن على سرد معطيات واقعية تخص الولايات المتحدة
وبريطانيا وألمانيا، وهي المصنفة ضمن "الدول الكبرى". أما الدول الصغرى
في أوروبا الغربية وشمال القارة الأمريكية (كندا) فهي ما زالت موطن القومية
بامتياز: هي تعاني من تعدد القوميات وتنافسها داخل بلدانها، ولو أن معاناتها سلمية
في الغالب: كانتونات في سويسرا، قوميتان في بلجيكا، طائفتان دينيتان متصادمتان في
إيرلاندا، لغتان وبالتالي ثقافتان وميولان قوميان في كندا الخ. سنترك جانبا هذه
"الدول الصغرى"، التي تمتد النزعات القومية المعاصرة فيها إلى ما قبل
زمن العولمة، لنهتم بالدول الكبرى التي قد يظن بها أن التقدم الحضاري الذي تعيشه
والذي تجسمه العولمة فيها ربما يكون قد نتج عنه نوع من تخفيف حدة الشعور القومي؛
ولنبدأ بالولايات المتحدة الأمريكية.
يمكنني أن أقول حسب تجربتي الخاصة، وبناء على ما قرأت وسمعت،
إن الولايات المتحدة الأمريكية هي من أكثر البلدان التي تعيش هاجس الهوية. لقد زرت
هذا البلد قبل سنتين في إطار ما سمي بـ"الحوار العربي الأمريكي". كنت
واحدا من أعضاء وفد عربي يمثل الأقطار العربية. كانت لنا اتصالات ومحادثات واسعة
وغنية بجهات مختلفة، الجامعية وغير الجامعية، من المحيط الأطلسي إلى المحيط
الهادي، ومن سياطل شمالا إلى الحدود مع المكسيك جنوبا. وقد لاحظت في جميع هذه
المناطق أن لفظ "تراث" يثير عندهم شجونا، وأن كثيرا منهم، إن لم يكونوا
جميعا، مسكونون بهاجس إبراز شيء اسمه "التراث الأمريكي".
هذا شيء لاحظناه حتى على مستوى برنامج الرحلة. ذلك أن
الأماكن التي نص البرنامج على زيارتها لم تكن تلك التي تتجلى فيها الحداثة
الأمريكية، بل لقد انصرف اهتمام واضعي برنامج الزيارة إلى التنقل بنا عبر الأشياء
التي لها طابع تاريخي تراثي. لقد فوجئت من ذلك الاهتمام الذي يوليه المسؤولون على
الرحلة بتعريف الأجنبي بـ "كريستوف كولومب" مكتشف أمريكا، فهو يقدم
كمؤسس "أمة"، كـ"أصل" لهذه الأمة. أما عندما زرنا التكسس
واستمعنا إلى حاكمها فقد استمعنا إلى نغمة أخرى. لقد كان التركيز واضحا على خصوصية
هذه الولاية، على هويتها الخاصة المتميزة.
هذا النوع من الهوس بالبحث عن الجذور مظهر عام من مظاهر
الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية متزعمة إيديولوجيا العولمة. وقد استبد
بناظري إلى درجة أنه جعلني أقول في إحدى مداخلاتي: "إن وضعنا معكم مقلوب: نحن
في العالم العربي شبعنا من التراث ونبحث عن المعاصرة، أما أنتم فيبدو أنكم شبعتم
من المعاصرة وتبحثون عن التراث! أنتم تبحثون عن الماضي ونحن نبحث عن
المستقبل"! وقد كان لهذه الملاحظة، التي صدرت مني بصورة عفوية تماما، وقع
كبير في نفوس الكثيرين منهم إلى درجة أن بعضهم أخذها كـ"نظرية" وسار
يستشهد بها في كل مناسبة.
وما زلت أتذكر شابا أمريكيا كان معنا وكان يتكلم
و"يمضغ" الحروف والكلمات على طريقة بعض الأمريكيين، إلى درجة يصعب معها
فهم ما يقول، حتى على الذي قضوا سنوات في ذلك البلد! قلت له: لماذا لا تتكلمون
بوضوح ولا تبينون عن الكلمات كما يفعل الإنجليز وهم أصحاب اللغة؟ فأجاب وهو يبتسم:
"هذا جزء من خصوصيتنا وهويتنا، وبه نكون "الأمريكان" وليس
"الإنجليز". يجب أن تكون لنا طريقتنا في الكلام".
وقبل بضعة أشهر فقط اتصلت بي باحثة أمريكية تطلب أن أمدها
بأية معلومات عما قد يكون هناك من تأثير لابن رشد في بعض فلاسفة أوربا في القرنين
السادس عشر والسابع عشر. فلما سألتها عن سر اهتمامها بابن رشد وتأثيره في فلاسفة
أوروبا في القرنين المذكورين، وهي تعيش في أمريكا، قالت إنها تهيئ رسالة جامعية
تحاول أن تثبت فيها تأثير ابن رشد في الفكر الأمريكي عن طريق تأثيره في بعض فلاسفة
أوروبا الذين كان لهم تأثير في أمريكا!
وإذا انتقلنا الآن إلى ألمانيا موطن الشعور القومي بامتياز
فإمكاننا أن نلاحظ أن أربعين سنة من الستار الحديدي والحواجز الأيديولوجية
والقطيعة البشرية والحرب الباردة الخ، كل ذلك قد انهار انهيارا أمام "وحدة
الأمة الألمانية" بمجرد ما سنحت الفرصة السياسية بذلك. ومع أن التفاوت في
النمو الاقتصادي وفي نمط النظام الاجتماعي كان كبيرا جدا فقد تحمل الطرفان، الشرقي
والغربي، التضحيات على مستو ى المصالح الاقتصادية لفائدة المصلحة القومية: الوحدة
الألمانية.
هذا فيما يتعلق بالوحدة القومية التي لم تنل منها لا الحرب
الباردة ولا اقتصاد العولمة. أما مسألة الهوية فيمكن أن نسجل انبعاث النزعة
العنصرية ذات الميول النازية. وإذا كانت هذه النزعة ضيقة ولا تعبر عن الاتجاه
العام للأمة الألمانية اليوم فهناك نوع آخر من التعبير عن مسألة الهوية في السياسة
الثقافية للدولة والمجتمع في ألمانيا.
من طبيعة الألمان أنهم يعملون في صمت، خصوصا بعد الحرب
العالمية الثانية. لقد استعادوا قوتهم الصناعية وبنوا قوتهم الاقتصادية بصمت،
وهاهم يعملون بجد في الميدان الثقافي بصمت كذلك. إن الإعلام العالمي يتحدث كثيرا
عن نشاط فرنسا في مجال "الفرانكوفونية" وعن هيمنة اللغة الإنجليزية على
الصعيد العالمي. هذا شيء معروف. ولكن يجب أن نضيف أيضا جهود ألمانيا الآن في نشر
لغتها في أوربا الشرقية التي تعتمد كثير من دولها العملة الألمانية (المارك) عملة
مرجعية لها.
باختصار هناك في الغرب الآن ثلاث مجموعات ثقافية متصارعة
داخل العولمة، من أجلها وضدها في آن واحد: المجموعة الإنجليزية وتضم بريطانيا
والولايات المتحدة الأمريكية والقسم المتحدث بالإنجليزية من كندا، والمجموعة
الفرنسية التي تضم خمس دول(دول التلفزة الفرنسية الدولية تي.في.5)، والمجموعة
الجرمانية التي تتوسع نحو أوربا الشرقية.
لنترك جانبا المجموعة اليابانية والمجموعة الصينية ولننتقل
إلى مظهر آخر من مظاهر التعصب القومي في الغرب، فنحن نتحدث هنا عن الغرب والعولمة.
***
تريد العولمة تجاوز الحدود القومية والتعامل مع فضاء جغرافي
لا يعترف بالحدود، فضاء الكوكب الأرضي، فضاء الرأسمال الذي يقال عنه إنه "لا
وطن له". ولكن العولمة بمسعاها هذا تخلق حدودا جديدة، حدودا تفصل داخل الدول
الكبرى نفسها بين السكان "الأصليين" والسكان "الطارئين".
في عصر الاستعمار، في القرن الماضي وحتى منتصف هذا القرن،
كانت الهجرة مباحة -ومفروضة بالقوة حتى- وفي الاتجاهين معا: من الشمال إلى الجنوب
ومن الجنوب إلى الشمال: يهاجر المعمرون من أوربا (الشمال) إلى المستعمرات (الجنوب)
حيث يحتلون الأراضي بالقوة ويقيمون اقتصادهم وسيطرتهم السياسية بالقوة كذلك.
ويُهّجرون بالقوة وبالإغراء أبناء المستعمرات ليعملوا في الجيوش الأوربية كمجندين
في "اللفيف الأجنبي"، تأكلهم الحروب الأوربية-العالمية، أو ليشغلوا في
المناجم والطرقات والمصانع لتشييد عظمة "الشمال" وتعويض ما قوضته الحرب.
أما اليوم، في عصر العولمة، فالهجرة من الجنوب إلى الشمال
تقام دونها الحواجز والموانع. أما الذين هم هناك من أبناء الجنوب سواء من
المتسربين الجدد أو من الجيل الثاني والثالث فهم يعيشون وضعية المهاجر الذي فرضت
عليه الغربة. قد تكون له جنسية البلد الأوروبي الذي يعيش فيه عضوا منتجا وأيضا
مستهلكا، ومع ذلك فهو يعامل معاملة الغريب الذي يقع مكانه خارج الحدود، ليس الحدود
الجغرافية وحسب بل الحدود الحضارية كذلك، من لون ولكنة ودين ولباس الخ. قد لا تظهر
هذه المحددات الحضارية على الشخص كأن يكون ذا لون أوروبي "أصيل" وذا
لكنة باريسية أو لندنية متميزة، وعلمانيا حتى النخاع، ولا يعرف جسمه غير الهندام
الأوروبي العصري، ومع ذلك فقد ينوب اسمه وحده عن جميع تلك المحددات، وإذا كان هناك
اشتباه في الاسم فـ"الأصل" هو الفصل.
يقول الصديق الأستاذ محمد أركون بصدد الطريقة التي تعاملت
بها أوربا مع ثقافة "الوافدين" من السكان "غير الأصليين" :
"إن تجربتي الشخصية المبنية على معاشرة طويلة لأوساط مختلفة تفرض علي القول:
إنه في هذا الموضوع تسود أشكال من المقاومة الوطنية تمنع ليس من إلحاق
الأفراد-المواطنين بل من قبول منظومات ثقافية أجنبية، منعا يتخذ شكل رفض صريح في
البرامج السياسية ويتخذ صورة أعمق وأعم على مستوى المبادلات غير المشخصة التي
تتحكم فيها التمثلات الخاصة بكل ثقافة". ويستشهد الأستاذ أركون بتجربته
الشخصية فيقول: "وهنا لن أقمع ذكرى مؤلمة عن التعبير عن نفسها بل استدعيها
أمام شهادة شهود، هم أعضاء لجنة الثقافة والتربية في البرلمان الأوروبي المجتمعين
في أنطاليا من 6 إلى 9/9/1997. فبعد العرض الذي قدمته [في اللجنة المذكورة] والذي
كان موضوعه: الدين والديموقراطية واللائكية، مقاربة نظرية، ساءلني جاك
بوميل، البرلماني الفرنسي وعضو اللجنة مستعملا عبارات" قال فيها: "كيف
جاز لك أن تندد بقصور تعليمنا وأبحاثنا وممارساتنا الثقافية، بينما أنتم في
بلدانكم الإسلامية تعملون على تكريس استمرارية النزعات الوثوقية الدوغمائية الأكثر
ظلامية وأنواع التعصب الأكثر تخريبا، وأنواع الرفض والمحرمات والممنوعات الأكثر
تعارضا مع جميع المبادئ التي تزعمون أنكم علمتموها لنا والتي غرفتموها من تقاليدنا
الفكرية والثقافية"؟
ويعقب الأستاذ أركون على هذه العبارات قائلا: أما أن أكون
مواطنا فرنسيا وبالتالي مواطنا أوروبيا مثله، وأما أن أكون أستاذا في جامعة
السوربون حيث حصلت على شهادات جامعية تسمح لي بالتعامل مع الفكر الأوربي بنفس
الروح النقدية التي دأبت على التعامل بها مع الفكر الإسلامي، فهذا وذاك ما لا قيمة
له في نظر النائب المحترم الذي يمثل بالفعل واحدا من أهم التيارات السياسة في
فرنسا. هكذا وجدتني أشعر مرة أخرى، كما شعرت في الجزائر المستعمرة، وقد
"أرجعت إلى دواري الأصلي" –[ الدوار: حي من أحياء البادية، مدشر]- حسب
العبارة التي كانت تستعملها الإدارة الاستعمارية لإبعاد الشخص غير المرغوب فيه من
الدائرة المحمية [ الحي الخاص بسكنى الأوربيين ]. لقد تعودت على جدلية
الـ"نحن"، [نحن ] المسيطر، ناشر الحضارة، القدوة المستأهل لكل احترام،
الذي يعيد إلى وضعيته كتابع، إلى تفاهته، إلى تخلفه التاريخي، بل إلى قصوره
الموروث، مخاطبَه الـ "أنتم"، الذي يتجرأ على التطاول على لغة وفكر
وثقافة مراقبة في أسمائها واستعمالاتها. إن مثل هذه التصرفات العنفية توجد في
أوربا التي تريد أن تكون في الوقت نفسه إنسانية وديموقراطية وليبرالية. لقد
صادفتها في كل مكان، حيثما حاولت بكل قناعة وحماس، القيام بأكثر ما يمكن من الجدية
والإخلاص بمهمة الوسيط الثقافي والفكري بين التجارب الثقافية المتعددة التي ترعرعت
ونمت في سياق الحضارة الإسلامية، وبين التجارب المجددة والمبدعة حقا والحاملة
للتاريخ المحرر والتي كانت أوربا فعلا هي وحدها التي أنتجتها ونشرتها في بقية
العالم".
***
لقد حرصنا في هذا القول على اعتماد الشهادات التي تعبر عن
معطيات واقعية، شهادات صحيحة لا مجال للشك فيها. والتزمنا في عرضها أسلوبا موضوعيا
فتجنبنا التحزب ولم نضخم المضمون ولم نفقره، ولم نتسرع في استخلاص النتائج. وتلك
هي الخطوات الأولى في البحث العلمي. أما الخطوة الأخيرة فهي استخلاص النتائج، وهي
ما سنتفرغ له الآن.
وهنا لابد من التقيد بما يمكن أن يستخلص من الشهادات
المعروضة، دون غيرها. والشهادات التي عرضناها تعبر كلها عن معطيات واقعية استقيناه
من الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا. أعني من الغرب الذي هو موطن العولمة وحامل
لوائها. وهناك في هذا الغرب نفسه لاحظنا وجود ردود أفعال ضد العولمة باسم الهوية
والدفاع عنها، كما في فرنسا وإنجلترا وألمانيا، أما في الولايات المتحدة فالبحث عن
الهوية والعمل على إخصابها مستمر، ليس على صورة رد فعل ضد العولمة وحسب، بل أيضا
على صورة تأسيس الهوية وطلب الخصوصية من طرف دعاة العولمة أنفسهم.
والنتيجة الأساسية التي تفرض نفسها هنا هي التالية: إن
التعارض بين العولمة ومسألة الهوية ظاهرة يعيشها الغرب نفسه، موطن العولمة
ومصدرها. وبالتالي فمن الخطأ الجسيم النظر إلى هذا التعارض على أنه، فقط، تعارض
بين الغرب/الشمال بوصفه مصدر العولمة المستفيد منها، وبين بقية العالم/الجنوب
بوصفه المدافع عن الهوية والخصوصية ضدا على العولمة واجتياحاتها.
وإذا جاز لنا أن نطلق اسم "الهُوِيَّانِيَة" على
النزعة التي ترفع شعار الهوية، قومية كانت أو إثنية أو طائفية الخ، وهذا ما قصدناه
هنا بعبارة "مسألة الهوية"، إذا جاز لنا هذا وجب القول إن التعارض بين
العولمة والهويانية هو مظهر من مظاهر الصراع في عصرنا، وهو صراع يعيشه العالم ككل
كما يعيشه كل بلد على حدة، "متقدما" كان هذا البلد أو
"متخلفا". وإذا كان هذا الصراع يبدو في بعض الأحيان، وعلى السطح، في
صورة صراع بين "الشمال" داعية العولمة والمستفيد الأول منها، وبين
الجنوب "موضوع العولمة" والمستهدف بها، فليس هذا سوى مظهر واحد من جملة مظاهر
متعددة.
هذا ما تنطق به الشهادات التي عرضناها. هناك معطيات أخرى لا
تدخل في موضوعنا وقد سكتنا عنها. ولكن بما أنها يشبه أن تكون المعبر عن الوجه
الآخر من العملة فلا بد من الإشارة إليها ولو بكلمات حتى لا تبقى المعطيات التي
عرضنا والنتائج التي خرجنا بها هي وحدها "الحقيقة".
نريد أن تستحضر هنا جوانب أخرى في العولمة لا بد من التنويه
بها وفي مقدمتها التطبيقات العلمية في مجال الإعلام، عبر القنوات الفضائية وعبر
الأنترنيت خاصة؛ وهي التطبيقات التي أخذت تقلل من دائرة الاحتكار في مجال المعرفة.
ثم هناك العمل الإنساني الذي تقوم به معظم المنظمات غير الحكومية التي نشطت في
"عصر العولمة" بصورة غير مسبوقة. و لابد من الإشارة كذلك إلى الضغط
الديموقراطي الذي يمارس على الصعيد العالمي، والذي يعمل على تكريس قيم الحرية
والديموقراطية وحقوق الإنسان الخ. ومع أنه يمكن التنقيص من جدوى هذه الجوانب
الإنسانية في العولمة بسبب كونها متواضعة من جهة، وأيضا خاضعة هي الأخرى لحساب
المصالح القومية والإمبريالية، فإن النقص الذي يلابسها لا يفوق بكثير الاستثناءات
التي يمكن ذكرها بصدد الوقائع التي سجلناها أعلاه كسلبيات عصر العولمة.
العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية ليست إذن علاقة وحيدة الاتجاه,
وهي لا تطرح مشكلة واحدة يمكن حلها بل هي تنسج إشكالية لا يمكن حلها إلا بتجاوزها.
وعملية التجاوز تتطلب هنا مقاومة هذه الإشكالية بـأقوى أسلحتها، أقصد تعميم
المعرفة العلمية. إن التغلب على مساوئ العولمة لن يفيد فيه الهجوم عليها ولا
محاولة حصارها. إن السبيل القويم إلى الحد من آثارها على الهوية والخصوصية، والتي
تتجلى قبل كل شيء في ما عبرنا عنه بـ"الهويانية"، هو الرفع من مستوى
الهوية إلى الدرجة التي تستطيع بها الصمود الإيجابي المملوء بالثقة بالنفس. إن
الوسائل التقنية التي توفرها العولمة على مستوى الاتصال خاصة هي خير مساعد على نشر
المعرفة العلمية وتعميم الروح النقدية. إن في العولمة سلبيات؛ ولعل أكبر سلبياتها
ومخاطرها هي أنها تدفع إلى الوقوع فريسة للهواجس الهويانية، سواء داخل البلدان
المتقدمة داعية العولمة أو البلدان الضعيفة المتخوفة منها. إن النقد العلمي وحده يحرر
من الاستلاب العولمي والتقوقع الهوياني.
***
جميع ما تقدم يخص العلاقة بين العولمة والهوية كما تبدو على
سطح الحياة الواقعية التي اعتدنا أن نتعامل معها لحد الآن. غير أن هناك وجها آخر
للمسألة التي نحن بصددها لابد من الوقوف عنده قليلا.
ليست العولمة مالا واقتصادا وحسب ولا هي ثقافة بالمعنى
السائد لحد الآن للثقافة فقط، بل هي أيضا وفي الأساس اتصال عبر فضاء لا جغرافية
فيه ولا تاريخ، فضاء شبكة الاتصال المعلوماتية (الأنترنيت). لقد أخذ هذا العالم
الجديد يشكل نوعا جديدا من "عالم الغيب"، مع هذا الفارق وهو أنه
"غيب" يتم التحكم فيه عن بعد، مما يجعل منه عالما واقعيا، ولكن لا
واقعية العالم الذي اعتاد الإنسان التعامل معه منذ وجد، بل واقعية جديدة نسميها:
اعتبارية.
لقد عاش الإنسان منذ وجد بين عالمين يشكل أحدهما
"ظلا" للآخر، أعني قرينه الملازم له الذي يحاكيه بصورة ما، وقد تعامل
الناس مع هذين العالمين بأشكال عدة: فعلى مستوى الدين هناك "عالم الغيب"
أو الآخرة من جهة، وهناك "عالم الشهادة" أو الدنيا من جهة أخرى. ومع أن
الديانات السماوية تقرر أن الله وحده يعلم الغيب فقد شيدت "الديانة
الشعبية" لنفسها صورا مفصلة عن عالم الغيب إلى درجة غدا معها بعض منتجيها
ومروجيها "يعرفون" عن عالم الغيب ذاك أكثر مما يعرفون عن عالم الشهادة:
عالم الواقع الذي يعيشون فيه. ويناظر هذين العالمين في الفلسفة –خاصة عند أفلاطون
ومن سار على نهجه- عالمان: أحدهما "عالم المُثل" وهو عالم الغيب، والآخر
"عالم الحس"، وهو عالم الشهادة. الأول هو "الحقيقي"، أما
الثاني فهو مجرد "أشباح"! وفي التصوف مثل هذا التصور. أما العلم
"الحديث" فقد ابتكر بعض رجاله أو المنتسبين إليه عالما خياليا، أطلقوا
فيه العنان للخيال العلمي، يستبقون فيه الزمن ليجعلوا من الممكن العلمي الخيالي،
الذي يسمح به سياق تطور العلم، عالما لـ" الغد".
جميع هذه العوالم التي تقف كالظل للعالم الواقعي الذي نعيشه،
والتي تقدم المثال الذي يتحقق فيه الكمال الذي يخلو منه عالمنا الأرضي الواقعي، هي
عوالم تصورية، أعني أن تعاملنا معها، سواء في إطار الدين أو الفلسفة أو العلم،
يقوم على مجرد التصور، لا غير. أما العالم الجديد الذي أنتجته العولمة، أو تقدمه
وسائل الاتصال في إطار العولمة، فهو عالم جديد تماما. ذلك أن التعامل معه يتم لا
على مستوى مجرد التصور بل يتم بواسطة الصورة الحية، والصوت الحي، والاتصال الحي،
والتواصل الحميمي. والفرق الوحيد بينه وبين عالمنا الواقعي الذي اعتدناه هو أنه
عالم متحرر من المسافة الزمانية والمكانية، وبالتالي من المحددين الأساسيين
للهوية: الجغرافيا والتاريخ
هذا العالم الجديد، عالم الأنترنيت، يضم جميع أنشطة عالمنا
الواقعي المعتاد، أو في إمكانه أن يضمها جميعها ويضم أشياء جديدة أخرى، فقط مع هذا
الفارق وهو أن جميع أشيائه وأنشطته تسمى بأسماء يسبقها أحد المقطعين، سيبر cyber، وتلي tele. الأول يدل على التحكم، والثاني معناه عن بعد. أما هوية الأشياء
التي يحتويها والأنشطة التي تتم فيه فتتحدد بالوصف اعتباري: virtuel. ونحن نترجم هذه الكلمة بـ "اعتباري"، وليس بـ
"افتراضي" أو "وهمي" حسب المعنى الأصلي للكلمة، لأن الأمر هنا
يتعلق، ليس بمجرد وجود تصوري من صنع الخيال أو الوهم، بل بوجود واقعي مشاهد عبر
الصورة والكلمة وجميع الرموز، ولكنه مع ذلك "اعتباري" (من العبور
والاعتبار معا)، بمعنى أن الاتصال فيه يتم عن بعد وعبر رموز.
هذا العالم، عالم الأنترنيت، يستحق منا وقفة أطول، قد يتسع
لها الوقت قريبا. لنكتف الآن بالإشارة إلى النتيجة التي يمكن استخلاصها بصدد
موضوعنا: العلاقة بين العولمة والهوية.
أشرنا قبل إلى الإنسان ظل يتعامل، منذ وجد، مع عالمين: عالم
الواقع المحسوس، وعالم آخر قرين له يتصوره دينيا أو فلسفيا أو علميا. وهوية
الإنسان تتحدد ليس فقط بمعطيات عالم الواقع الذي يشيعه حسيا بل تتقوم كذلك بمعطيات
عالم "الغيب" الذي يحياه روحيا. والعولمة نفسها قد تركب معطيات العالم
الواقعي، كالاقتصاد وتقنيات الاتصال، وقد تركب معطيات العالم الغيبي، كما كان
الشأن في الماضي زمن الإمبراطوريات التي حققت عولمتها باسم الدين في الغالب. أما
اليوم فإن العولمة والهوية معا تتحددان، بصورة أو بأخرى وعند هذا الفريق من الناس
أو ذاك، بواسطة عالم ثالث هو العالم الاعتباري الذي أشرنا إليه والذي ينافس
العالمين "التقليديين" ويمكن أن ينوب عنهما كلية.
هذا العالم له لغة خاصة ورؤية للعالم خاصة وقيم خاصة. كان
الرجل الذي صعد أول مرة للفضاء قد حظي باسم خاص ما زال مستعملا هو
"استرونوت" (=الفضائي، أو بالأحرى :النجومي)، وعلى هذا القياس يسمى
اليوم المتعامل مع هذا العالم الاعتباري بـ"سيبرنوت"، أو
"انترنوت"، أو "المواطن الأنترنيتي"، لنقل اختصارا وتعريبا:
"المُوانيت". هذا الشخص الذي له اسم خاص يكتسب هوية خاصة ليس ها هنا
مجال البحث في مضمونها. ولكن بالإمكان القول إنها هوية تتحدد من كونه شخصا يحيا
عالمين: عالم الواقع الذي يعيشه مطلق الناس -إلى اليوم على الأقل- والعالم
السيبراني أو الأنترنيتي، تماما كما يحيا الشخص العادي، لنقل التقليدي، عالمين:
العالم الواقعي المشترك والعالم الغيبي، الديني أو الفلسفي أو الخيالي العلمي.
وفي بلداننا العربية حيث أقلية قليلة هي التي تملك وسائل
التعامل مع العالم السيبراني يمكن أن نتوقع انقساما خطيرا جدا على صعيد الهوية:
هوية يدخل في تكوينها العالم السيبراني العولمي، وهوية يدخل في تكونها "عالم
الآخرة" كما تصورها الثقافة الدينية الشعبية المستقاة من الإسرائيليات، التي
تتحدث عن عذاب القبر ووقائع الصراط والميزان حديث المشاهد المجرب، وتعرف عن
"عالم الغيب" أكثر كثيرا من تعرفه عن عالم الشهادة، وتقدم معرفتها تلك
على أنها الدين نفسه، والدين منها برآء، فعالم الغيب يعلمه علام الغيوب وحده لا شريك
له.
وبعد، فقد كنا لحد الآن نتحدث عن هويتين: هوية تقليدية وهوية
حداثية، فهل سنواجه قريبا هوية سيبرانية تحل محل الحداثية؟ وإذا كان الأمر كذلك
فكيف سينعكس ذلك على حاضرنا ومستقبلنا؟
قد يكون من بين شبان العالم العربي من "رزق مالا
وفيرا" يسمح له بحجز مكان له في أحد الكواكب، ولدى وكالة من الوكالات المختصة
بأمريكا فيكتسب هوية "النجومي". أمثال هذا الشخص –إذا طاروا- لا يطرحون
مشكلا في المجتمع العربي، لا على مستوى الهوية وعلى على مستوى العولمة! ولكن الذي
"يبحرون" كل يوم في العالم الاعتباري الشبكي، عالم الانترنيت، وهم
جالسون في منازلهم أو في المقاهي السبرانية، يكتسبون كل يوم، سلوكات فكرية وعملية،
وقيما ورؤية للعالم، تتشكل منها هوية الكائن البشري الجديد "الموانيت"،
هم الذين يجب التفكير في شأنهم بالمقارنة مع الآخرين الذي يشغلهم حديث "عذاب
القبر"، كما ترويه الإسرائيليات القديمة والجديدة. وما يشغل اهتمامي ليس نوع
هذه الهوية الجديدة ولا هذا العالم الجديد، بل ما يشغل بالي هو أن الذين هم اليوم
على اتصال بهذا العالم الجديد هم أقلية قليلة ستكون حاكمة علميا وبالتالي اقتصاديا
في إطار رؤية للعالم تؤطرها العولمة، في مقابل أغلبية غالبة ستكون بدورها حاكمة
عدديا وبالتالي اجتماعيا في إطار رؤية للعالم لا يمكن أن تنظر للعولمة نظرة أخرى
غير كونها تجسم "عالم الشيطان".
فجوة، بل هوة سحيقة!
كيف نجسرها، كيف نجتازها؟
لا أجد جوابا غير تعميم التعليم وتقليص الفوارق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية بين المدينة "المتحضرة"، والأرياف
"البادية". إن إشكالية العلاقة بين العولمة والهوية لن تجد حلها في
العالم العربي، وفي عالم "الجنوب" عموما، إلا عبر حل صحيح لمشكلة
التناقض الذي يزداد استفحالا بين عالم "حاضرة المدينة" وعالم الأرياف
والبادية.