ص1      الفهرس    المحور 

وجه الإدارة المغربية:

ملامح العبوس والبشاشة

حميد قهوي

1 ـ شغب تلك الذبابة التي ضبطها الجاحظ تحاول استفزاز أحد قضاة البصرة الوقورين، يعلن أن للإدارة بمفهومها العام أنفا يمثل الهيبة والجاه، وجهاز الاستعلام الذي كونه الحجاج على سبيل الذكر، لتحصين سلطاته الواسعة، يشي بأن لنفس الإدارة عيونا لا تنام، بتعبير أدب السلطة العربي. وتفترض الآية 188 من سورة البقرة الناهية عن أكل أموال الناس بالباطل توفر الإدارة على أسنان وقواطع من وظائفها القديمة الراهنة ما تعبر عنه مجموعة من تشكيات المدارين من قبيل: "أكلتني إدارة الضرائب". أما النموذج الأمثل الذي يستفاد منه أن للإدارة آذان تؤمن وظيفة السمع والإصغاء، فتقدمه في التاريخ العربي الإسلامي تلك الجولات التفقدية لأحوال الرعية من طرف الخليفة عمر (ض)، أو على النقيض منها ما جاء على لسان الراوي الأصلي في مسرحية الرأس المقطوع… للمرحوم سعد الله ونوس… وفي المغرب الحديث، سيسند دور الصرامة الإدارية بكل ملامح العبوس والتوجس لفترة طويلة إلى مجموعة من الجنود السينيغاليين والكومية والمخزن المتنقل والقوات المساعدة -فيما بعد- وأغلب أعوان السلطة المحلية، قبل أن ينخرط البلد في نادي حقوق الإنسان من منظورات توفيقية بين العالمي والخصوصي. ويوكل ببعض مكونات الإدارة دور البشاشة على مقاس مضيفات الطيران المدني وخلايا استقبال الودائع بالأبناك… وعليه، وإلى جانب الوجه بالمعنى الاعتيادي، والذي تحدد مجموعة من القواعد المكتوبة أو العرفية بعض مواصفاته الواجبة أو المستحبة، مثل القدرة على تمثيل الانضباط، والخضوع عن طريق الحلاقة اليومية، والأناقة المنسجمة مع الهندام الذي لا تزال بطاقات تنقيط الموظفين تأخذه بعين الاعتبار الخ… هناك وجه إداري مجازي يتعين البحث في تفاصيله ووظائفه بهدف يحمل بعض الابتداع والجرأة هو فهم الإدارة المغربية بأدوات غير إدارية، ذلك أن الإدارة بوصفها حاضرة في كل شيء، تستوجب أن تكون ضمانات نجاعة مقاربتها على أساس الشمولية وتعدد المعارف والمصادر.

2 ـ هذا الوجه المجازي وإن كان بأجزائه وملامحه ووظائفه يمثل الأدوار الأكثر تقليدية من وظيفة النظر (نظر ووجه) التي عوضت العبارة التاريخية (صار بالبال)، مرورا بوظيفة القول والكلام والتذوق، إلى وظيفة الشم (حملات النظافة الموسمية). بمستطاعه الاستغناء عن بعض الأدوار وليس بمقدوره تعطيل وظائف وأدوار أخرى، فالمكفوفون وضعاف البصر لحس إنساني واجتماعي سياسي أيضا، كان بإمكانهم دائما ولوج الإدارة العمومية من باب الخطوط الهاتفية وعلى افتراض حدة السمع لديهم، غير أن قوانين الرعاية الاجتماعية للمعاقين، بما فيها تلك التي صدرت مؤخرا، لم تشر أبدا إلى فاقدي حاسة السمع أو البكم، لسبب بسيط جدا يتمثل في كون الإدارة بوظائفها السمعية الكلامية تتنافى مع نوع إعاقتهم، وبالتالي، يتعين الاحتفاظ بالخلاصة السريعة الآتية: كون وظيفة السمع والقول من أهم الوظائف الإدارية ومحور كل الأعمال والسلوكات الأخرى… وبالنسبة للبشرة، التجأت الإدارة في الأغلب الأعم إلى البيض خصوصا في إسناد الوظائف العليا، وهو الأمر الذي صاغه المثال العامي في عبارة "الفاسيون للإدارة والوزارة وأهل سوس للتجارة…"، وفي الحالات النادرة التي لم تتطلب هذه المواصفة، لم يكن من المتيسر دائما ارتقاء المركز الإداري إلى وجه إعلامي، دون أن ينطوي ذلك على أي اعتبار من اعتبار الميز والتمييز، مما يسهل شرح عدم ارتقاء البشرة غير البيضاء إلى وجه إعلامي من منطلق التقييد الذاتي لا غير في انتظار التأكد العليم من صحة المقولة التاريخية: "لا يوظف الخطيب إلا للون أسود أو لأصل أسود"… وبحثا عن الوجه الإداري الإعلامي، وإلى جانب الأسنان الصقيلة كمواصفة، أصبح من المقبول الالتجاء إلى اللحية المهذبة دون أن يعني ذلك أيضا أي غزو أصولي للمراكز الإدارية العليا. ويدخل الوجه الإداري الإعلام في الوقت الراهن من باب الحقوق الإنسانية وطيبوبة السلطة وتأنيث بعض مكوناتها مثل شرطة المرور والجمارك والإسعاف والقضاء… غير أن أكبر الدلالات على وجود الوجه الإداري المجازي تجعله مقترنا عند الجمهور/المشاهد بالمعنى المألوف، ذلك أن كل التحولات التي تطرأ على الوجه الإداري السياسي بعد التنصيب (الأناقة، الانتفاخ، الخ)، يفهمها هذا الجمهور كعلامات -غير مؤكدة في الغالب- على تنصل الوجه المجازي من التزاماته التي قطعها مع القاعدة الانتخابية مقابل السماح بصعوده أو صعود التيار الذي ينتمي إليه… وقد يؤول تراكم علامات التحول هذه إلى شعور بالغبن في الحالة التي يعجز فيها الإداري كلسان عن أداء دور الخطيب المتمكن من وسائل الإقناع البلاغي وإشباع الحاجات ذات المحتوى المادي بالآليات الخطابية.

3 ـ إن أهم وظائف مكونات الوجهين المجازي والمألوف، وسواء عند الإدارة أو المدارين، نمت حول ثنائية الإصغاء والوقر من جهة، وثنائية القدرات البيانية الخطابية والأمية الإدارية -بمعنى عدم التمكن من فنون القول والكلام- من جهة أخرى، وبطبيعة الحال، يحتاج هذا الافتراض إلى تأكيدات تاريخية واجتماعية، وسنحاول تقديم أهمها نظرا لإكراهات المقال والمقام.

وتجدر الإشارة بداية إلى صعوبة التمييز الدقيق بين وظيفتي السمع والقول وبين ملامح وأدوار العبوس والبشاشة حينما يتعلق الأمر بالوجه الإداري المجازي، ومن الممكن تعليل هذه الصعوبة بذلك التداخل الذي بلغ مداه الأقصى بين هويات المغرب الفرعية. إن المغرب هو من جهة أولى بلد إسلامي، وفي الثقافة الإسلامية سواء من حيث مصادرها المنزلة أو الموضوعة، هناك ما يؤكد دائما أولوية الوظيفة السمعية، فالله سميع بصير، والرسول أُذْنُ خير، والكلمة الطيبة أو القول السديد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلها واجبات حكومية إدارية في المقام الأول تفرعت عن واجب السمع والطاعة. غير أن أهمية الوظيفة السمعية سرعان ما تنازعها أهمية القول والكلام بتذكر موجبات الانتماء العربي للمغرب، وقد تم وصف العرب دائما بأنهم أمة شاعرة بامتياز. أما الموقف القرآني الذي يحتج به عادة لتحييد هذا الصنف من الكلام، فلا يعدو كونه ترهيبا من سلوك المعارضة السياسية بالشعر، نظرا لما أبانت عنه من مؤهلات في المجتمع الانقسامي الذي تجاوزه الإسلام… أما الانتماء الثالث، فهو بالأساس انتماء إلى مجتمعات الندرة بكل تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية، من ندرة وسائل إشباع الحاجات المعبر عنها ماديا، إلى ندرة مصاعد الترقي الاجتماعي من تعليم ومصاهرة وتوظيفات وملكية عقارية وفلاحية، إلى ندرة الأحداث المكسرة للرتابة الاجتماعية السياسية. وقد فرضت واقعة الندرة هذه استمرار الإدارة عبر مختلف الحقب كأهم مصعد اقتصادي اجتماعي. وأمام ندرة في الترقي بواسطة الإدارة الإدارية نفسها، كان من اللازم جدا التشدد في المواصفات المطلوبة سياسيا لولوج الإدارة بهدف التميز الاجتماعي ومراكمة الامتيازات الاقتصادية والرمزية، ويمكن العثور على أهم هذه المواصفات في مؤسسة الخطيب الإداري… إن الخطيب الإداري هو أولا خادم للحاكم، وتتطلب خدمة هذا الأخير -للتعرف على مؤهلات النهوض بها- طرح السؤال التالي: ماذا يريد المخدوم إداريا أن يسمع؟ إنه في التجربة العربية الإسلامية مستمع تاريخي بالدرجة الأولى يريد من المؤرخ الإداري أن يبرهن له سلامة قواعد الإدارة التي تترجم إرادته وتمظهراتها السياسية الرمزية بإواليات واعية من قبيل تنميط السيرة النبوية والشرف والتشريف. فحتى الحاكم البربري المغربي كان عليه أن يوظف المؤرخ الإداري القادر على إثبات نسبته إلى بيوت الشرف… هكذا تمت خدمة السياسي إداريا بواسطة التاريخ والفقه. وبالمناسبة، فإذا كان الأستاذ عبد الله العروي قد نفى في معرض شرحه لأسباب موضوعية المؤرخ المغربي أي ارتباط بين البلاطات والتاريخ(1)، فإنه سيبرهن فيما بعد من خلال "مفهوم الدولة"(2)، على أن المغرب ابتلي دائما "بمؤرخي المناسبات" وأولئك الذين أرادوا عقلنة الدولة من الداخل. ويؤكد هذا الاعتراف الثاني، وبالنسبة للمغرب الحديث، كون مصلحة الفنون الجميلة التي أسندت إليها إبان فترة الحماية مهمة التاريخ، تبعث خلال فترة طويلة لمديرية الداخلية(3). وتتعدد الأسماء التي جمعت بين صفتي المؤرخ والإداري بحيث لا تقتصر اللائحة على المرموقين من أمثال لسان الدين ابن الخطيب أو ابن عبدون أو ابن صاحب الصلاة أو الفشتالي وزير المنصور واليحمدي وزير المولى اسماعيل والضعيف الرباطي والناصري وغيرهم، بل تتعداهم إلى كثير ممن لم ينجحوا في جلب الانتباه السياسي بواسطة التاريخ وإعادة بناء الأحداث أو صنع الوثيقة التاريخية الإدارية… وهكذا، يمكن اعتبار أغلب التاريخ المكتوب حكيا للإدارة عن نفسها، وبالتالي، لا بد من أخذ ذلك في الاعتبار عندما يتعلق الأمر بإحدى مشاريع إعادة كتابة هذا التاريخ.

4 ـ ثم إن الخدمة الإدارية كانت تستلزم أيضا التمكن من الوسائل البلاغية، والبلاغة عند عبد الحميد الكاتب -وكان وزيرا لمروان آخر الخلفاء الأمويين- هي ما فهمته العامة/الجمهور أو المدارون، ورضيته الخاصة/الحكام. وقد كان للرسول (صلعم) ما يقارب 26 كاتبا من أبلغ الناس. وفي المغرب، وعبر مختلف الحقب، كان السلطان إذا ما ارتاح لرئيس كتابة رقاه إلى مرتبة وزير(4).

والنتيجة كوننا نستطيع بدون عناء ملامسة وفهم أبرز ظواهر التاريخ الإداري المغربي من ظاهرة الوزير الأديب والموظف البليغ إلى ظاهرة المادح الإداري (محمد بن إدريس وزير المولى عبد الرحمان وشاعره نموذجا)، والعائلات المكتبية التي تمكن بعضها من التلاعب بمصائر كثير من الأمراء الخ… وإذا كانت الحاجة الإدارية إلى توظيف البليغ عبر الاستكتاب تشرحها مثلا قولة المنصور السعدي الشهيرة: "أريد أن تكون كتبي وكتب الناس إلي خلاف كتب بعضهم إلى بعض"، فإن الموظف البليغ في معرض بحثه عن احتكار سمع القمة الإدارية في مواجهة المنافسين والكائدين، كان عليه أن يؤمن امتيازاته بسلوك ما نسميه هنا بالتسييد لامتلاك السيادة، ويكون التسييد صاعدا أي موجها إلى الأعلى بكافة الوسائل البيانية الخطابية المتاحة -كما بينها الأستاذ محمد عابد الجابري في مشروع نقده للعقل العربي- للحصول على الحل الأمثل أو النسبي لمعضلة الندرة الاقتصادية والاجتماعية. وقد مارسه الكاتب المخزني باتباع نفس المناهج المتعارف عليها في الثقافة الإدارية العربية الإسلامية، ومن بينها الإنشاء الإداري والوصف والمحسنات البديعية مع إحداث تخصصات جديدة هي أدب البيعة والظهائر، ويتقدم محمد ابن ادريس المشار إليه آنفا كأهم الأمثلة المؤيدة لفكرة استحسان الأسلوب/الاستكتاب/الاستوزار ثم النكبة…ومقابل التسييد الصاعد، يتلقى الخطيب الإداري الموظف لحاستي السمع والأسماع تسييدا نازلا من لدن القمة الإدارية، ويجد هذا النوع من التسييد سنده الأصلي في الواقعة الدينية التي تم بموجبها استخلاف الله لآدم على الأرض. فالاستخلاف يقتضي أولا نقل المعرفة البيانية إلى المسيد: (علم آدم الأسماء كلها)، وعدم الإخلال ببعض رموز الانصياع: (لا تقربا هذه الشجرة)، والقدرة على الإقناع بالتوبة في حالة الإخلال بشروط الاستخلاف. وفي المجال الذي يهمنا، كان الإخلال بشروط الاستكتاب أو الاستوزار -في الحالات التي يقع فيها فعلا أو تتصور القمة الإدارية أنها وقعت بناء على إحداث "تاريخ المكائد"- على علاقة دائمة بوظيفة السمع والقول. وتجيب القمة الإدارية عادة عند سماع ما لا تريد أن تسمع بأسلوب مغاير هو التنكيل، وقد استعمل هذا المسلسل على الخصوص في مواجهة العلماء، ومن تمظهراته قولة المولى سليمان للعلماء الذين لم يستطيعوا التأقلم سياسيا: "اختبرتكم فوجدت همتكم في بطونكم.."، ومن غاياته تحييد المنافسين المؤهلين لخلق الرموز الدينية…

5 ـ أما من حيث الأدوار، فقد كان على الوجه الإداري المجازي عبر مختلف الحقب أن يتأقلم مع ظروف الرخاء الاقتصادي بواسطة البشاشة، وفي ظروف الشدة بواسطة تمثيل دور العبوس والتوجس. هكذا تم الالتجاء في الحالة الأولى إلى الاحتفال، ومن وسائله الإبهار وإظهار مقومات التميز عن العامة والكرم الإداري والإقطاع والهبات والصلات والتنفيذة والإعفاء الجبائي وبيع الوظائف المحلية… ومن غاياته تكسير الرتابة الناتجة عن ندرة الأحداث التي تجمع الإدارة المركزية بالمدارين. أما في الظروف المعاكسة، فقد كان على الإدارة بمفهومها العام أيضا، أن تلتجيء إلى ملامح العبوس، وغالبا ما كان دور العبوس يمثل على خشبة الحْرْكَة، ومن أهدافها التاريخية جباية الضرائب اللازمة لاستمرار الدولة، وهو الهدف الذي حاول المؤرخ المخزني أن يقرأه كتطويع للقبائل السائبة. إن الحْرْكَة اقترنت دائما بالضرائب، وإذا كانت هناك موجات من السيبة يحتفظ بها التاريخ الإداري المغربي، فإنها لم تكن سوى ردود فعل محلية على الجور الضريبي…

6 ـ بهذه الملامح التاريخية إذا، استطاع الوجه الإداري المجازي أن يستمر مع ضرورة الإشارة إلى تلك الخاصيات المهمة التي اكتسبها عند الاصطدام اللامتكافئ في مطلع القرن الحالي مع آليات ما نود تسميته هنا بالسلوك الإداري المحاكاتي على طريق للحماية والاحتماء. ومن نتائج هذا الاصطدام الذي لم يأت مأساويا بالدرجة التي يصورها به البعض، التجاء الخطيب الإداري إلى أسلوب تبيين المحاكاة، ومن أهم نماذج التبيين تحويل الأرقام إلى محاور لصنع البلاغة، وتديير الاقتصاديين ورجال الإحصاء، والتجنيد الإداري للسوسيولوجي الوطني والأجنبي لإثبات مقولة "الإدارة الجيدة" بتعبير ميشيل فوكو أو إخراج التوصيات المحتملة لبلوغها، وتأصيل كل الواردات السياسية من قبيل اللامركزية وعدم التركيز والعقلانية الإدارية وحماية البيئة وحقوق الإنسان الخ… وبذلك استطاع الخطيب الإداري فرض التعايش على ثنائيات لم يكن لها أن تتساكن لولا براعة التبيين، غير أن التعايش مثلا بين الخطابة والآلة الكاتبة أو الحاسوب، أو بين المكتوب والشفهي، أو بين المساطر القانونية والتعليمات، أو بين الترييف والتحضير الخ، يبقى من النوع التنازعي وعلى مستوى ثالث إداري مشترك بين نمطين البياني والمحاكاتي، يقوده ناطق رسمي باسم الإدارة البيانية، على عكس الإدارة المحاكاتية التي لم تتمكن من إيجاد وترسيم الناطق الرسمي بمصالحها. من هنا فقط، يمكن تبرير كل ذلك التوسع البشري الذي تحقق لإدارة الداخلية عندنا مقابل الإكراهات التي عاشتها من الناحية المؤسسية والمادية والبشرية إدارة الصناعة بمختلف تسمياتها منذ الاستقلال. وفي هذه الظروف التنازعية، سيتم تحيين لائحة المواضيع والمحاور البلاغية مجددا، وإسناد مهمة الخوض فيها إلى شبكات معرفية مرسمة، مع ضمان تام لحق الموظف الفعلي أو النظامي(5) في التعامل البلاغي مع هذه المحاور عبر خطاب السلطة أو المضادة بمجهودات فردية. وتحتل اللامركزية والعدالة بمفهومها الجبائي أو القضائي الإداري والتنمية بمدلولاتها القطاعية-مركز الصدارة في اهتمامات البلاغة الإدارية الجديدة، وتتم صناعة هذه البلاغة عبر المحاور السابقة وبالدرجة الأولى شفهيا بواسطة المناظرات والأيام الدراسية والاجتماع الموسع واستضافة أهم الأسماء الخارجية الفاعلة في هذه المجالات(6). ويستغل الوجه الإداري المجازي والمألوف هذه الفرص عادة للظهور بمظهر إعلامي بشوش… كما تتم صناعة البلاغة الإدارية الجديدة كتابيا بواسطة مقالات تأصيلية على صفحات مجلات ودوريات متخصصة أو بواسطة مؤلفات وأعمال جامعية، وبالتالي، تصبح اللامركزية أو المشاركة بمعنى لا مركزية في التأليف وصناعة البلاغة المتصلة بهذا المحور، وتصبح العدالة بمعنى عدالة في الاستفادة من الإضاءة التي كانت هذه المواضيع تتيحها لفئة جد مقلصة في الماضي، كما تصبح التنمية حديثا في التنمية والإصلاح أدبا إصلاحيا…

7 ـ وبالعودة إلى مكونات الوجه الإداري، نستطيع بناء على ما سبق الجزم بأن مهمة اللسان الإداري، وإن ظلت مهمة قولية بلاغية، فإنها أجبرت على مواجهة مجموعة من التحديات العلمية الراهنة سواء من حيث المبدأ: (الرقم) أو المبتغى: (تأصيل الحداثة). أما الأذن الإدارية، فقد احتفظت بوظيفتها التاريخية مع تحسينات في الأداء بواسطة استراق السمع إلى تجارب الآخرين وتقارير المنظمات الحكومية وغير الحكومية في المجالات الاقتصادية والمالية(7) والسياسية والانتخابية(8) والحقوقية والبيئية(9) الخ. وقد فرض استراق السمع خارجيا على اللسان الإداري مهمة مستحدثة، لها شرعية وطنية هي الرد الأكثر بلاغية على الهفوات القولية والتشهيرية الصادرة في حق الإدارة المغربية بمفهومها العام… أما العين الإدارية، وإن كانت لا تزال منفتحة بملامح الصرامة الضرورية، على كل البؤر المحتمل إخلالها بالتصور الأمني السائد، فإنها أرغمت على توسيع مجال رؤيتها ليشمل كل البؤر الجديدة على المستوى الدولي أو الخارجي(10)… ومن حيث أدوار العبوس والبشاشة، تم سلوك الطريقة الأكثر ذكاء بتوزيعها بهدف الحفاظ على أهم التوازنات الضرورية للاستمرار. هكذا يتعايش محليا دور العبوس والتوجس المسند إلى السلطة المحلية مع دور البشاشة المسند إلى ممثلي السكان أو العكس، وعموديا، قد يسند دور العبوس إلى رجل السلطة والبشاشة إلى رئيسه المباشر أو التسلسلي، وعلى المستوى المركزي، يوظف أو يدير الوجه العبوس إلى جانب الوجه البشوش بالاشتغال الذكي على ثنائية الوزير/الكاتب العام، أو المدير/رئيس القسم، أو مراكز القرار/مكاتب الشكايات، أو الإدارات/المحاكم الإدارية، أو الإداري/النقابي الخ…

8 ـ إن العبوس والبشاشة تزامنا في كل اللحظات التاريخية الإدارية، كما أن سيادة الخطيب الإداري اقترنت دائما بامتلاك الحل البلاغي لمعضلة الندرة. غير أن المدار الذي لم يعد بالضرورة يغترف من الإناء الإعلامي الداخلي، أصبح أكثر ملحاحية على توسيع أدوار البشاشة الإدارية وتعطيل وظائف العبوس ورموزه. إن الإشراك والمشاركة هما في مواجهة يومية ونفسية مع حرج الوقوف أمام السلطة والتعامل البريء معها. ومؤسسة الخطيب، رغم هيمنتها الظاهرية، تشتغل في مواجهة مدار صامت على العموم يسلك النوع الأكثر غموضا من اللاأبالية مع اندفاعية في بعض الحالات الاستثنائية التي تصنعها في الغالب أحداث دولية. وكل ذلك وغيره، يطرح على النظرية السياسية الإدارية ضرورة استعجالية مقترنة بتجديد المناهج ومصادر المعلومة المناسبة، كما يطرح على صعيد الممارسة تدخلات جراحية تجميلية لجعل الوجه الإداري المجازي أكثر ألفة وقدرة على جلب الثقة وإشاعة الاطمئنان، وإلا استمر المدار في تعامله مع الأوراش المفتوحة حاليا -لدخول القرن المقبل- بوصفها مجرد كلام بليغ…n

 

الهوامش:

1 ـ عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ط.2، البيضاء، 1985، ص87.

2 ـ عبد الله العروي، مفهوم الدولة… ط.2، لبنان، 1984، ص107 وكذا مجمل تاريخ المغرب، ص43.

3 ـ نفس المرجع.

4 ـ عبد الرحمان بن زيدان، العز والصولة… ص43، ج1.

5 ـ الموظف بمعناه النظامي هو الذي يشير إليه الفصل الثاني من ظهير 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، ج.ر.عدد2372، بتاريخ 11 أبريل 1958، ونصه: "يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة". وهو تعريف قاصر لم يسايره القانون الجنائي المغربي الذي انطلق من العمل المستوجب لقيام المسؤولية الجنائية لا الصفة، وحتى بالنسبة لهذا التعريف الثاني يلاحظ نوع من القصور، مما يحتم ضرورة اعتبار مفهوم الموظف الفعلي بمثابة خانة احتياطية لإدخال كل الوظائف التاريخية والراهنة التي تؤدى لفائدة الدولة دون تفرقة بين العام والخاص أو بين السلط أو بين الإداري والسياسي.

6 ـ العميد فوديل بالنسبة للمراجعات الدستورية، والأستاذ ميشيل روسي فيما يتعلق بالإدارة والمؤسسات العامة وكذا وزراء الوظيفة العمومية الأفارقة في إطار الكافراد، والمرحوم بول باسكون فيما يتصل بالتنمية القروية الخ.

7 ـ تقارير البنك الدولي خصوصا منها التقرير الذي تم إنتاجه سنة 1995 والذي ربط بين الإدارة والاقتصاد والمالية كمحاور لا يزال الأدب الإصلاحي لحد الآن يعتمد عليها.

8 ـ الخارجية الأمريكية على الخصوص.

9 ـ يعتزم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إدخال متغير البيئة في تقاريره السنوية المقبلة الخاصة بالتنمية البشرية في المغرب.

10 ـ خصوصا حينما يتعلق الأمر بتهمة ترويج المخدرات، وبهذا الصدد، نذكر بأن المغرب تمكن في الآونة الأخيرة من استصدار إدانة قضائية تاريخية ضد جريدة لوموند الفرنسية التي أساءت للمغرب بنشرها معلومات مغلوطة بناء على مصادر خبر واهية في هذا المجال.