ص1      الفهرس    المحور 

من أجل تعميم الوعي الفلسفي بحقوق الإنسان(*)

كمال عبد اللطيف

يمكن أن يتخذ العمل من أجل ترسيخ مبادئ ومفاهيم حقوق الإنسان عدة أشكال. وكلما تنوعت هذه الأشكال وتعددت استطعنا أن نسرع بوتيرة تحويل الوعي بهذه الحقوق من مشروع سياسي قانوني إلى مشروع تاريخي مجتمعي قادر على توليد كل ما يساعد على تطوير الممارسة الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

وفي المغرب تشكل واجهة الجمعيات الحقوقية وجمعيات الدفاع عن حقوق ومصالح القطاعات المجتمعية المختلفة مظهرا بارزا من مظاهر العناية المتواصلة بهذه الحقوق. ولا يمكن الاستدلال على هذا الأمر بالتنظيمات المتعددة التي تعنى بقضايا حقوق الإنسان. بل يمكن أن نضيف إليها المؤسسات المدنية الأخرى التي تتجه للدفاع عن قضايا المرأة وقضايا الشباب والطفل، ثم الجمعيات التي نشأت في العقدين الأخيرين بهدف العناية بمشاكل بعض الفئات المقصية أو المهمشة من عمليات الاندماج الاقتصادي والاجتماعي مثل المعطلين والمكفوفين وكذا الفئات التي تتعرض لأشكال من الحيف الاجتماعي أو الاقتصادي والسياسي. ففي مختلف هذه الشرائح الاجتماعية تتخذ المشاكل المتعلقة بحقوق الإنسان مظاهر عينية مشخصة، مظاهر تشير إلى أشكال الخلل الاجتماعي والقانوني السائدة، كما تعكس بصورة أو بأخرى بعض معضلات الاختيارات السياسية القائمة وتدعو إلى إعادة النظر فيها للتمكن من المساهمة في مزيد من العمل على تحقيق آدمية الإنسان. برعاية حقوقه والعمل من أجل مزيد من التكافؤ الاجتماعي الذي يعتمد المبادئ الكبرى الناظمة لحقوق الإنسان.

نفترض أن يواكب العمل الجمعوي الحقوقي والاجتماعي الهادف إلى ترسيخ قواعد حقوق الإنسان عمل تربوي مواز له، وعمل فكري يسنده بالدعائم النظرية التي تتجه لاستيعاب مقدمات هذه الحقوق ومفاهيمها الرئيسية في تاريخيتها وبصورة نقدية. ذلك أن المواكبة الفكرية المفترضة كخلفية مدعمة للممارسات الحقوقية تساهم في إعادة تركيبها بما يجعل الوعي في خدمة العمل. ويجعل العمل وسيلة من وسائل تطوير النظر فيحصل ما أطلقنا عليه ترسيخ الوعي بمبادئ ومفاهيم هذه الحقوق.

إن حقوق الإنسان ليست مجرد إطار للحركة السياسية والقانونية يكتفي باستعارة لغات ومفاهيم وشعارات ومواثيق دولية لتحقيق أهداف مرسومة سلفا، إن هذه الحقوق في نظرنا تعد أولا جزءا من الفعالية النظرية السياسية للإنسان، وهي ثمرة تاريخ طويل من مواجهة مختلف أشكال العبودية والاستعباد، ومن هنا أهمية وضرورة المزاوجة بين العمل الجمعوي والعمل النظري ثم العمل التربوي المتجه نحو تحويل هذه المبادئ والحقوق إلى فضاء للتفكير الجماعي بل العمل على إنشاء وإعادة إنشاء المرتكزات والأسس النظرية لمبدأ اللاعودة أو اللاتراجع في الدفاع عنها، ولن يتحقق هذا الأمر دون إشراك المؤسسات التربوية في العمل على تحويل مادة حقوق الإنسان إلى جزء من البرنامج التعليمي، ثم تشجيع البحث والكتابة في قضايا حقوق الإنسان في الجامعة ومراكز البحث العلمي من أجل إعادة بناء منظومة الحقوق في ضوء التطورات الفلسفية والتاريخية العامة المؤطرة لحركة وصيرورة تطور هذه المنظومة.

ضمن هذا التصور المتشبع بأهمية مبادئ حقوق الإنسان والهادف في الوقت نفسه إلى تعميم الوعي الفلسفي والتربوي بخلفياتها النظرية العامة أصدر الأستاذان محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي في إطار سلسلة الدفاتر الفلسفية التي يشرفان عليها مجموعة من النصوص المختارة تحت عنوان حقوق الإنسان، وهو الكتاب السابع ضمن السلسلة المذكورة التي تهتم بتقديم نصوص المفاهيم الفلسفية الكبرى اعتمادا على تاريخ الفلسفة وتاريخ الفكر بمعناه العام.

اهتم هذا الإصدار المخصص لموضوع حقوق الإنسان بالمرجعية الفلسفية التي أنتجت مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان.

احتوى المصنف الذي جمع بين ترجمة واختيار وترتيب ما يزيد عن أربعين نصا ضمن أربعة محاور كبرى على تصور معين لسياق تشكل المرجعية الفلسفية لحقوق الإنسان، وقبل إبراز طبيعة هذا التصور نشير إلى أن المحاور التي تم تبويب النصوص في إطارها جاءت بالتتابع الآتي:

1ـ التأصيل الفلسفي لمفهوم الحق:

وقد شكل هذا المحور الأرضية النظرية الكبرى الجامعة لأغلب نصوص الكتاب، وذلك من خلال استدراج نصوص تنتمي إلى تاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى هيجل ومرورا بأعلام الفلسفة السياسية الحديثة هوبز، لوك، سبينوزا، منتسكيو، روسو …

2 ـ في انتقاد المفهوم:

جاءت مواد هذا المحور في صورة نصوص تتجه لمناقشة الأسس النظرية المؤطرة لنصوص المحور الأول، وضمت نصوصا لفلاسفة معاصرين ولبعض المهتمين بتشريح ونقد فلسفات حقوق الإنسان.

3 ـ المرجعية المغربية:

أعدت نصوص هذا المحور بهدف الإحاطة ببعض النصوص التي يمكن أن تشكل مرجعية عامة للوعي بالحق والحرية والدستور في الفكر المغربي المعاصر، وهي تعكس جهودا فكرية مغربية في تأويل المرجعيات الفلسفية لحقوق الإنسان.

4 ـ وأخيرا ضم الكتاب نموذجا لبيان من البيانات التي تتجه لإبراز الخصوصية الإسلامية في النظر إلى حقوق الإنسان، ويتعلق الأمر بالبيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان.

إن قيمة هذا الكتاب في نظرنا تتجلى في كونه اختار الجانب المتعلق بالمخاضات الفلسفية الرئيسية التي مهدت لميلاد الوعي بحقوق الإنسان، وهو الجانب الذي غالبا ما يتم إغفاله لمصلحة عناية مستعجلة وعملية بالمحتوى العيني للحقوق في جدليتها التاريخية الفعلية، رغم أنه يصعب إدراك محتوى هذه الحقوق دون الوعي بنواظمها الفكرية وموجهاتها الفلسفية العامة، وهي نواظم وموجهات تبلورت أساسا في إطار الفلسفة السياسية الحديثة.

يضاف إلى ذلك أن الهاجس التربوي الذي يقف وراء عمليات التصنيف والتقطيع التي اتخذتها النصوص داخل متن الكتاب يعبر عن إرادة في تعميم الوعي بالمبادئ الفلسفية الكبرى وبطريقة مبسطة، طريقة يسهل إدماجها في المناهج والبرامج التعليمية للمساهمة في عمليات الترسيخ والتعميم التربوي عندما تتوفر الإرادة السياسية المقتنعة بأهمية تكوين تربوي وتعليمي لا يغفل القيمة الكبرى لنشر الوعي المتدرج بأهمية حقوق الإنسان باعتباره وسيلة من وسائل تعزيز الممارسة الديمقراطية في بلادنا.

وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن تبويب النصوص يبرز المرجعية الفكرية المتفتحة التي التزم بها الباحثان، فقد تضمن الكتاب الأصول الفلسفية الكبرى للمشروع السياسي الليبرالي، كما تضمن في محوره الثاني أهم الانتقادات التي وجهت لهذا المشروع في سياق تطور الفلسفة الحديثة والمعاصرة، إضافة إلى القراءات المغربية الساعية إلى بلورة جهد في التأويل وإعادة التركيب، وهذا المحتوى أضفى على الكتاب صبغة نقدية مضمرة وفتح نصوصه ومحاوره على أسئلة وإشكالات نظرية مما جعله بحق ورغم صغر حجمه مصنفا منفتحا على أصول فلسفة حقوق الإنسان وكذا على إشكالاتها الراهنة.