ص1      الفهرس    المحور 

اليوتبيا: بين الخيال المتعالي وتقدم الإنسانية

العلمي الإدريسي رشيد

إن الإشكالية الرئيسية التي تتمحور حولها هذه المقالة هي التالية: هل كانت الكتابة اليوتوبية في صالح التقدم أو مسايرة له أم كانت مناقضة للتقدم؟

قد يبدو هذا التساؤل غريبا في حد ذاته، حيث أن اليوتوبيا تحمل في أغلب الأحيان معنا إيجابيا، ففي الرأي المتداول تعني رؤية تفاؤلية حيال العالم وتقترن بالخيال الجامح، المغالي في المثالية، وبالتالي كيف يمكن أن تكون اليوتوبيا في تعارض وتضاد مع التقدم؟ صحيح أن الرأي الشائع يضفي على اليوتوبيا أحيانا طابعا سلبيا، حيث يربطها بالخيال العقيم والرومانسي الحالم، البعيد عن الواقع والعديم الجدوى. وهذا المعنى هو المتداول أساسا في السجال السياسي بين الخصوم السياسيين، فاليوتوبيا وإن كانت متعالية على الواقع، غير مكترثة بضراوته، تبقى حاملة لرؤية تفاؤلية تجاه مسيرة الإنسان.

مما يلفت النظر أن الكتابة اليوتوبية تطورت تطورا ملحوظا في القرنين السادس والسابع عشر، وبدت في أغلب الأحوال، معارضة للتقدم الحضاري الذي كانت تعرفه أوروبا حينذاك، معارضة لحركة التصنيع، ولرأس المال، ولقوى الإنتاج الحديثة، ومناهضة للتحولات الثقافية.

كيف يمكن تفسير أو تأويل هذه المفارقة؟ إن فرضية العمل التي سنعتمد عليها في هذه المقالة هي التالية: إن اليوتوبيا برومانسيتها وخيالها الجامح، تحمل قوة دلالية ورمزية، قابلة لتفعيل الواقع والتأثير فيه، بل لتغييره تغييرا كليا وجذريا.

كيف ذلك يا ترى؟

في البدء، يتحتم علينا أن نقوم بتحديد المفاهيم واستخلاص معانيها بإرجاعها إلى أصولها وبداياتها الأولى.

وبالتالي، يتعين ربط المفاهيم بتاريخيتها.

I - اليوتوبيا بداية أخرى للإنسانية:

عرفت اليوتوبيا التجليات الأولى لها عند اليونان، وتحديدا في كتاب التواريخ لهرودوت وكتاب الجمهورية لأفلاطون. على أن العلاقة الملتبسة والإشكالية بين مفهوم اليوتوبيا ومفهوم التقدم برز في العصر الكلاسيكي (في القرنين السادس والسابع عشر) وبالتالي سننتقي ثلاثة نماذج من الفكر اليوتوبي:

1 - مدينة يوتوبيا لتوماس مور؛

2 - مدينة الشمس لتوماس كامبانيلا؛

3 - ومدينة أوسينا لجمس هارينتون.

1 - مدينة يوتوبيا لتوماس مور(1):

يعد توماس مور مبتكر يوتوبيا، وتعني "لا مكان"، أو "المكان الذي لا وجود له" (LE NON-LIEU) وكتاب يوتوبيا يحكي قصة مغامر من أصل برتغالي اكتشف جزيرة، بالصدفة، في إحدى رحلاته.

ومن ضمن المبادئ العامة التي تخضع لها هذه المدينة الغريبة، يمكن ذكر مبدأ الانتخاب: انتخاب الأمير الحاكم، انتخاب أعضاء مجلس الشعب، مبدأ المساواة المطلقة: ملكية جماعية للأراضي، اقتصاد زراعي ينبني على الاكتفاء الذاتي، ثقافة بدوية قريبة من الحياة الطبيعة، هندسة معمارية تخضع لمنطق التماثل والتساوي والتواصل، مبدأ الحرية: دين طبيعي متسامح، معاداة الطغيان بكل أشكاله، الاعتراف بشرعية الاختلاف وحق التمايز الفكري.

ومدينة يوتوبيا مدينة المثل العليا، ومدينة العلم والمعرفة، لا غرابة في ذلك، ومؤسسها ملك فيلسوف يدعى "إيتوبوس"(2).

2 - مدينة الشمس لتوماس كامبانيلا(3):

وهي مدينة من اكتشاف بحار مغامر كذلك، قيل أنه ساعد كريستوف كلومب في رحلاته. ويأتي الوصف في صيغة حوار بين الفارس هوسبتال والبحار المغامر.

ومدينة الشمس هي مقسمة إلى سبع دوائر مسماة بأسماء الكواكب، يحكمها أمير قديس يدعى "الشمس" (= الفيلسوف أو الميتافيزيقي)، بمساعدة ثلاثة أمراء PON و SIN و MOR وهي أسماء تعني بالتتابع القوة، العقل، المحبة، وعلى جميع حوائط المدينة وجدرانها نجد صورا عالية تمثل جميع الكائنات الحية، وجميع فروع المعرفة، وترسم تاريخ البشرية، وتاريخ الأديان، وجميع الاكتشافات العلمية.

وترتكز المدينة على اقتصاد زراعي مخطط للاكتفاء الذاتي، وتسودها قيمة عليا في المجتمع، وهي المساواة بين الناس، فالملكية مشتركة، والمنازل مشتركة، والمآدب مشتركة. أما العلاقات الجنسية فهي مؤطرة وموجهة على النمط الأفلاطوني. وهناك ضباط منتخبون يحافظون على الفضيلة فهناك ضابط بالنسبة لكل قيمة أخلاقية، ضابط في الحرية، ضابط في العدالة، ضابط في الحقيقة…(4).

وفضلا عن شغفهم بالعلم والمعرفة، يتعاطى "الشمسيون" فن الزراعة وفن الصناعة وفن الحرب. وتمارس كل سلطة على أساس قيمي وفلسفي.

3 - جمهورية أوسيانا لجمس هارينتون(5).

يبدو جمس هارينتون أقرب إلى التنظير السياسي منه إلى اليوتوبيا لذا نراه يبحث عن العوامل التي تحظى بفعالية حاسمة في الحفاظ على التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي.

يرى هارينتون أن الدول في عهد الإقطاع وفي عهد الملكيات المطلقة كانت تخضع لمرجعية دينية، وتسعى إلى محاكاة الطبيعة، لأن الطبيعة انسجام وترابط وتراتب. وهكذا نظر لها كل من جان بودان وروبير فيلمر.

وتبدو هذه الدولة مستقرة لأن شرعيتها السياسية كانت متينة طالما ساد الإيمان بضرورة ربط السياسة بالدين والطبيعة.

أما الجمهورية، أي الديموقراطية، فهي غير مستقرة لأن شرعيتها منبثقة من المجتمع ذاته، والمجتمع في تغير دائم.

وإذا كانت الملكيات تعتمد على العناية الإلهية للحفاظ على ذاتها (LA PROVIDENCE) فإن الجمهورية يتحتم عليها ضبط الآليات الاجتماعية للتحكم في عدة متغيرات يصعب التنبؤ بكل نتائجها (LA FORTUNE). إن الجمهورية تستمد قوتها من ذاتها (LA VIRTU)، فهي تشترط الفضيلة السياسية أكثر من أية دولة أخرى، بل إن الفضيلة السياسية هي روح الديموقراطية: الفضيلة كأخلاق، الفضيلة كقوة فاعلة.

ويبدو جيمس هاريتون جد متأثر بنظرية مكيافلي حول الجمهوريات(6).

وينتقد بشدة ج. هاريتون السياسيات الحديثة، سيما تلك التي دعا إليها توماس هوبز، والتي تهدف إلى التغلب والسيطرة وتنبني على المنفعة والمصلحة(7).

وإذا بدا كتاب أوسيانا وكأنه تحليل واقعي لاتجاهات سياسية كانت متصارعة في إنجلترا في أواسط القرن السابع عشر(8)، فإنه يحمل مناحي فكرية لا يمكن إنكار طابعها اليوتوبي(9). فالجمهورية الديموقراطية تسعى إلى إحياء المعرفة المتبصرة، والحكمة القديمة والعقل العملي الذي يهدف إلى تحقيق الخير وتحصيل السعادة.

وهذا لن يتسنى إلا إذا تمسكت الجمهورية بما أسماه ج.هاريتون "بميزان الملكية"(10) (LA BALANCE DE PROPRIETE) ويعني به توزيع الأراضي الفلاحية بالتساوي. إن ما يوحد بين المدن الفاضلة هو إيمانها الثابت بالكمال المطلق. لذا تسعى جاهدة إلى التعالي على الواقع المدنس، وكأنها تعبر عن رفض قطعي للنظام الرأسمالي ولقوى الإنتاج الحديثة، وما يترتب عنها من تراتبية اجتماعية حديدية ومن صراع طبقي في احتدام متواصل.

وتبدو اليوتوبيا وكأنها تنادي بالعودة إلى الفطرة الطاهرة، وكأنها تدعو إلى تقدم الإنسانية في مسيرة أخرى، بديلة، متعارضة مع مسيرتها الواقعية.

II - التقدم، مسيرة متواصلة نحو مستقبل أفضل:

1 - التقدم العلمي وصعود البرجوازية:

إذا كانت اليوتوبيا تشترط بداية أخرى للإنسانية، وفعلا مؤسسا آخر لها، فالتقدم يوحي بتواصل الأزمنة فيما بينها، بترابطها، ويوحي بالتراكم الحضاري.

إن مفهوم التقدم يحمل بين ثناياه الإيمان بأن حضارة الإنسان هي سائرة حتما نحو مستقبل أفضل، وهو مستقبل مرغوب فيه ومنشود.

ويدل عليه التعبير اللاتيني "VERITAS FILIA TEMPORIS" والذي يعني "إن الحقيقة وليدة الزمن".

وتزامن مفهوم التقدم بتطور الصناعة والآلية (LE MACHINISME ET LA MECANIQUE). ذلك أن الآلة يمكن تفكيك وحداتها وتغيير مكوناتها وتحسين فعاليتها.

وانتقل هذا المفهوم من المجال الأدبي، لما احتدم الخلاف بين دعاة التقليد ودعاة الحداثة(11) (La querelle des Anciens et des Modernes) إلى المجال العلمي والتقني ثم إلى مجال الاجتماع والسياسة.

وتزامن كذلك مع صعود البورجوازيات التجارية والصناعية الحاملة لثقافة سياسية حديثة ولمشاريع سياسية تغييرية.

وذهب جورج صوريل في كتابه أوهام التقدم إلى أن البورجوازية كانت توهم الشرائح الاجتماعية الأخرى بأن التقدم محايث لها، ورهين بوصولها إلى الحكم(12).

ومن المنطقي أن تنادي طبقة اجتماعية طامحة في الحكم وساعية إلى تغيير المجتمع بحتمية التقدم التاريخي.

وبرز المفهوم الحديث للتقدم في خطاب ألقاه توركو (TURGOT) في جامعة السربون، سنة 1750، عنوانه: "خطاب في التقدم المتواصل للعقل البشري" (Discour sur les progrès succéssifs de l'Esprit Humain).

يقول توركو: "إن الإمبراطوريات تتنامى ثم تختفي، والقوانين وأشكال الحكومة تتابع وتتعاقب، أما العلوم والفنون فهي في تقدم متواصل…"(13).

2 - أنماط التقدم الاجتماعي:

يمكن القول إن هناك أنماطا مختلفة للتقدم الاجتماعي. هناك أولا النمط التعاقدي للتقدم، مفاده أن تقدم المجتمعات البشرية يبقى رهينا بتطور سياسي يتمثل أساسا في تعاقد اجتماعي، يحدد غايات السلطة وحقوق وواجبات المواطن.

هذا التعاقد قد ينتج عن إدارة طوعية، عن توافق بين أطراف اجتماعية وسياسية (لوك LOCKE) أو عن انقلاب سياسي أو فعل ثوري (كوندرسي CONDORCET وجان جاك روسو J.J ROUSSEAU). وهناك ثانيا نمط تدريجي وتطوري للتقدم، مفاده أن تطور المجتمعات البشرية لا يستدعي بالضرورة فعلا انقلابيا لطليعة ثورية أو فعلا تعاقديا بين قوى اجتماعية متنافسة. فالتقدم قد يتحقق بصورة طبيعية وتلقائية، وبصفة تدريجية ومرحلية لما يرتفع الوعي السياسي وينتشر الفكر الأنواري في المجتمع.

هذا الاتجاه الفكري برز في جامعة إدانبورغ (EDINBOURG) وجامعة أبردين (ABERDEEN) في اسكتلاندا، وتجلى في كتابات أدام فركيسون (ADAM FERGUSON) ودافيد هيوم (DAVID HUME)(14).

وساد هذا المفهوم للتقدم بصفة خاصة في القرن التاسع عشر بظهور الوضعية و"الداروينية الاجتماعية"(15).

وهناك ثالثا نمط جدلي للتقدم، وهو ذلك الذي تجلى في كتابات هيجل وماركس. فهيجل يرى أن تقدم البشرية مسألة حتمية وأنطولوجية ويتم بفعل التناقضات المحايثة للوجود البشري، ويظهر التقدم على مستوى الوعي بالحرية. أما ماركس فيرى أن تقدم البرجوازية في عصر الرأسمالية هو وحيد الجانب، متناقض البنية. فتقدم رأس المال وقوى الإنتاج يقابله استغلال العمل وتفقير الطبقات العاملة. أما التقدم المتجانس البنية، التقدم الكلي والشامل للمجتمع، هو ذلك الذي يتم بعد الثورة الاشتراكية.

ونطرح هذا التساؤل: هل كان للمجتمعات الأوروبية أن تتكون وتتقدم تاريخيا بدون تأثير نظريات ذات منحنى يوتوبي؟

III - اليوتوبيا وأثرها في تقدم الإنسانية:

1 - التعارض الظاهري بين اليوتوبيا والتقدم:

إن التقدم يحيل إلى امتداد زمني، إلى تواصل تاريخي بين الأزمنة، ويحيل إلى التمرحل والتدرج، وهو لصيق بالزمان والمكان(16). وللتقدم علاقة حميمية بالإيديولوجيا، حيث أن هذه تبقى مرتبطة بشكل أو آخر بالواقع، سواء كانت مشروعا سياسيا أو نظرية في المجتمع. ومع أن كارل منهايم ذهب إلى أن اليوتوبيا والإيديولوجيا نوعان من الفكر المعارض للواقع(17)، فإن الإيديولوجيا تبقى مشروعا يتوخى التحقيق الفعلي، أما اليوتوبيا فلا تروم ذلك. إذ تبدو اليوتوبيا مفارقة للواقع، لا علاقة لها بالزمان وبالتاريخ. وذهب البعض إلى اعتبارها وكأنها في "حياد" فلسفي مطلق حيال الوجود المتعين(18).

وانطلاقا من محنة الفلاسفة اليوتوبيين ومعاناتهم، وتعرضهم للاعتقال والسجن، وأحيانا للقتل والإعدام، يمكن القول بدون مجازفة إن اليوتوبيا كما تجلت في القرنين السادس والسابع عشر، كانت ترفض الواقع رفضا كليا وقطعيا. وتبدو المدن اليوتوبية وكأنها تخفي إنسانية متغربة، إنسانية في غربة مطلقة، لا زمان ولها مكان لها.

هذا الموقف الرافض لكل مظهر من مظاهر الوجود التاريخي يتجلى بكل وضوح على المستوى السياسي. فرفائيل الذي يحكي مغامرته ويصف مجتمع يوتوبيا لا يثير قضايا سياسية، لا يتحدث عن السياسة بل لا ينطق بكلمة "السياسة"، كما لو كانت "يوتوبيا" مدينة بدون سياسة أو مدينة ضد السياسة. صحيح أن توماس مور تحدث عن الأمير وعن الحكومة وعن مجلس الشيوخ وعن مجلس الشعب. على أن هذه المؤسسات، فضلا عن كونها كلها منتخبة، تبدو ذات صلاحيات محدودة للغاية، وتماثل إلى حد ما "المجالس المحلية" -في عصرنا-، التي تقوم بوظائف إدارية وتدبيرية أكثر مما هي سياسية. ولما يسأل الفارس هوسبتال البحار المغامر عن طبيعة النظام السياسي السائد في مدينة الشمس، يجيبه بطريقة غريبة، ويحدثه عن النظام الاجتماعي للمدينة والقيم السائدة فيها وعن بناياتها وهندستها دون أدنى إشارة إلى السياسة.

أما ج.هارينتون، فعندما يتحدث عن السياسة نراه يفضل استخدام مفهوم "LA PRUDENCE" أو "PHRONESIS"(19) على مفهوم السياسة. و"PHRONESIS" في المعنى الأرسطي تفيد المعرفة التي تسعى إلى معاينة العارض والمتغير في الوجود(20).

لماذا هذا الرفض للسياسة يا ترى؟

في القرنين السادس والسابع عشر، كان المجال السياسي ينحو نحو الاستقلال بذاته، وكانت الدولة تطمح إلى التعالي على المجتمع. فصارت السياسة تقترن بالعقلانية النفعية وبتقنيات السيطرة. وتبلورت نظريات تؤسس لمفهوم السيادة. فصار هذا المفهوم يحدد ماهية الدولة (جان بودان/JEAN BODIN)(21). وبرز مفهوم آخر، مرتبط بالتوجهات الحديثة للدولة، وهو "LA RAISON D’ETAT" أو "المصلحة العليا للدولة"، ونلتقي به في كتابات مكيا فلي، وكيتشياردني (GUICHIARDINI)، وبوتيرو (BOTERO)(22). ولعل هذه المفاهيم الحديثة، وما يترتب عنها من نتائج، هي التي قادت الفلاسفة اليوتوبيين إلى تفادي استخدام مفهوم السياسة، بل إلى تغييب السياسة وإبعادها عن المدن الفاضلة.

2 - اليوتوبيا منتجة لخيال سياسي ثوري ولفضاء إبستمولوجي جديد:

يمكن القول بداية إن اليوتوبيا لها علاقة هي الأخرى بتطور الآلية. فإذا كانت الآلة تحيل إلى الاصطناع، فاليوتوبيا تعبر، بمعنى من المعاني، عن فكر اصطناعي، حيث أنها تبتكر إنسانية أخرى، وتعيد بناء المجتمع البشري(23).

وهناك من ذهب إلى أن المجتمعات اليوتوبية في تنظيمها الدقيق والمحكم(24)، تبدو وكأنها "آلة اجتماعية" (Une Machine Sociale) ومن سمات الفكر في بدايات الحداثة، كونه يميل إلى الابتكار والاصطناع ويسعى إلى الفصل بين الطبيعة والاجتماع البشري(25). ففي فقرات من كتابه اللفيتان، يذهب توماس هوبز إلى أن الدولة هي من صنع البشر وهي "جسم اصطناعي" وإن كانت تحاكي في تكوينها الجسم البشري(26).

وسعى باحثون ينتمون إلى حقول معرفية مختلفة إلى تفسير "ظاهرة" اليوتوبيا. فهناك من أرجعها إلى أسباب نفسية، بدعوى أن اليوتوبيا تمثل سلوكا تعويضيا(27)، أوإلى أسباب تاريخية واجتماعية بدليل أن اليوتوبيا تظهر في الأزمنة القاتمة وفي عصر الأزمات(28). وهناك من اعتبر أن اليوتوبيا تمثل نمطا من التفكير رافق البشرية منذ القدم، ويميل إلى الانغلاقية والشمولية وإلى النمطية والتماثلية(29). واليوتوبيا قد تعبر لدى البعض عن نزعة بدائية، عن حنين إلى ماض ذهبي مفترض(30). وإذا كانت عدة دراسات تضفي على اليوتوبيا طابعا سلبيا، فهناك دراسات أخرى ترى أنها وضعت اللبنات الأولى للفكر الاشتراكي، انطلاقا من رفضها للنظام الرأسمالي وللملكية الفردية.

وإذا سعينا إلى تأويل الكتابات اليوتوبية اعتمادا على الفهمية والقصدية، بعيدا عن النصية الضيقة، سنصل إلى نتيجة مفادها أن اليوتوبيا تعبر في عمقها عن إيمان قوي بقدرة الإنسانية على تحقيق الخير والسعادة، شريطة أن تتبع طريقا آخر، مغايرا للطريق المتبع في المجتمعات الواقعية. ذلك أن اليوتوبيا لا تقترن باللامعقول، وليست خيالا جنونيا، عبثيا، يناقض العقل، بل إنها تبقى نظريا قابلة للتحقيق الفعلي. وفي الواقع، إن اليوتوبيا حملت خيالا ثوريا أثر بالفعل على حركات ثورية في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا. فاليوتوبيا هي دعوة صامتة لمقاومة الطغيان بكل أشكاله، سواء كان اقتصاديا أو سياسيا(31).

إن الدراسات الذي ذهبت إلى أن اليوتوبيا معادية للحرية والاختلاف، اعتمدت على قراءة نصية وحرفية لهذه الكتابات. في حين، كان يجب تجاوز النصية، والاستناد على التأويل الذي يسعى إلى استخراج المعنى الباطني. وتبدو دراسات بول ريكور، في هذا المجال، في غاية من الأهمية(32).

إن البعد الثوري الذي تخفيه اليوتوبيا ينحدر من كونها ترفض المفهوم التطوري للتقدم، وترفض كل "تسوية" مع المجتمع الواقعي. وعلى نقيض هذا النمط الثوري من اليوتوبيا سعت اليوتوبيات التي ظهرت في القرن التاسع عشر إلى التطبيق الفوري أحيانا. فإيتيان كابي (ETIENNE CABET) على سبيل المثال، صاحب رحلة إلى إيكاريا، كان يؤمن بإمكانية إقناع المجتمع بقيم ومبادئ "أيكاريا"، المدينة الفاضلة لديه، وبأن تتحقق اليوتوبيا بتدرج وتمرحل(33). وأكد ماركس على عبثية هذا التصور، واعتبر أن كل انتقال إلى نمط اجتماعي آخر يشترط فعلا مؤسسا له، ومرحلة تاريخية انتقالية(34).

فاليوتوبيا كانت ثورية في العصر الكلاسيكي ليس باعتبار أنها كانت مناهضة للنظام الرأسمالي، بل لكونها دعت إلى فعل مؤسس لإنسانية جديدة(35). وبالتالي يمكن القول بكل يقين أن الفلاسفة اليوتوبيين كانوا من دعاة التقدم، وصنفوا بالفعل من ضمن رواد التقدم(36). على أن التقدم الحقيقي لديهم والذي يتعارض مع التقدم الزائف، لا يمكن أن يحصل إلا بعد القطيعة النهائية مع النظم السائدة، وبناء نظام اجتماعي جديد وبديل. وثورية اليوتوبيا تكمن كذلك في دعوتها إلى التفكير والتأمل مجددا في مفاهيم وقيم ليس بارتباطها بالتاريخ والواقع، أو بمنفعة أو مصلحة، ولكن في علاقاتها بالإنسان، لما تنجلي إنسانيته الحقة ويتحرر من المجتمع المفروض عليه قسرا.

فاليوتوبيا، بالتالي، وضعت فضاء إبستمولوجيا جديدا(37) n

 

الهوامــش

1 - THOMAS MORE, "L 'utopie ou le traité de la meilleure forme de Gouvernement". Traduction de MARIE DELCOURT, présentation et Notes, par: SIMONE GOYARD-FABRE G.F. Flammarion 1987.

2 - "UTOPUS ", cf. THOMAS MORE, op.cit., p. 138.

3 - TOMMASO CAMPANELLA, "La cité du soleil ", Texte intégral dans ADELIN CHARLES FIORATO, "La cité heureuse" QUAI VOLTAIRE; 1992.

4 - "Pour chacune de nos vertus, ils ont un officier: l'un s'appelle Libéralité, un autre Magnaninité, d'autres, Chasteté, Force d'Ame, Vérité, Bienfaisance ", T. CAMPANELLA, op.cit., pp. 156 ets.

5 - JAMES HARRINGTON, "OCEANA", avec Notes et présentation de J.G.A POCOCK; BELIN, 1995.

6 - J.G.A. POCOCK, "Le moment MACHIAVEILIEN"; PUF, 1997, pp. 384 ets.

7 - cf. "préliminaires" in "OCEANA", op.cit., pp. 229 ets.

8 - ANTONIO NEGRI; "Le Pouvoir Constituant ", PUF; 1997, p. 151.

9 - J. HARRINGTON, "OCEANA", op.cit. pp. 232 ets.

10 - GILLES LAPOUGE; "UTOPIE ET CIVILISATIONS" GF-FLAMMARION; 1978, p. 112.

11 - GEORGES SOREL, "LES ILLUSIONS DU PROGRES " ed. Marcel Rivière, 1921; pp. 15 ets.

12 - "La doctrine du progrès devait sortir tout naturellement des aspirations d'une classe conquérante qui avait pleine confiance dans son avenir, qui se croyait parfaitement préfacée à prendre le pouvoir et qui avait en tête de grands projets de réformes. "GEROGERS SOREL, op.cit., pp. 137 ets.

13 - G. SOREL, op.cit., p. 222.

14 - BERTRAND BINOCHE, "LES TROIS SOURCES DES PHILOSOPHES DE L'HISTOIRE (1764-1798) "; PUF, 1994, pp. 79 ets.

15 - PATRICK TORT; "DARWINISME ET SOCIETE"; PUF, 1992, pp. 135 ets.

16 - FREDERIC ROUVILLOIS, "L'invention du Progrès ", KIME, 1997, pp. 79 ets.

17 - KARL MANNEHEIM, "Idéologie et Utopie "; Librairie Marcel Rivière, 1959, pp. 125 ets.

18 - LOUIS MARIN; "UTOPIQUES, JEUX D'ESPACE "; Minuit, 1973, pp. 15 ets.

19 - يمكن ترجمة مفهوم "PHRONESIS" بالتبصر أو "التعقل" انطلاقا من شرح الفارابي لكتاب "أخلاق نيكوماخوس".

20 - PIERRE AUBENQUE, "LA PRUDENCE CHEZ ARISTOTE", PUF, 1986, pp. 33 ets.

21 - Simone GOYARD-FABRE, "JEAN BODIN ET LE DROIT DE LA REPUBLIQUE " PUF, 1989, pp. 79 ets.

22 - YVES CHARLES ZARKA, "RAISON ET DERAISON D'ETAT", PUF, 1994, pp. 11 ets.

23 - FREDIRIC ROUVILLOIS, "L'invention du Progrès", op.cit, pp. 38 ets.

24 - RAYMOND RUYER, "L'UTOPIE ET LES UTOPIES", GERARD MONFORT, 1988, pp. 41 ets.

25 - CLEMENT ROSSET , " L'ANTI-NATURE" PUF / QUADRIGE; 1990, pp. 80 ets.

26 - THOMAS HOBBES, "LEVIATHAN" SIREY, 1971, pp. 5 ets.

27 - JEAN SERVIER, "HISTOIRE DE L 'UTOPIE ", GALLIMARD, 1967, pp. 381 ets.

28 - IDEM, pp. 381 ets.

29 - RAYMOND RUYER, "L'UOPIE ET LES UTOPIES", op.cit., pp. 41 ets.

-THOMAS MOLNAR, "L'UTOPIE, ETERNELLE HERESIE " Paris, 1975, pp. 10 ets.

30 - CHRISTIAN MAROUBY, "UTOPIE ET PRIMITIVISME", Seuil, 1990, pp. 95 ets.

31 - ANDRE PREVOST, "THOMAS MORE ET LA CRISE DE LA PENSEE EUROPEENNE", MAME, 1969, pp. 94 ets.

32 - من ضمن الدراسات القيمة لـ PAUL RICOEUR نذكر على سبيل المثال:

DU TEXTE A L'ACTION - ESSAIS D'HERMENEUTIQUE, II Esprit Seuil, 1986, pp. 333 ets.

33 - LOUIS MARIN, UTOPIQUES: JEUX D'ESPACES", op.cit., p. 343.

34 - FRIEDIRICH ENGELS, KARL MARX: "LES UTOPIESTES" MASPERO, 1976, pp. 75 ets.

35 - "Faut-il rappeler aussi que l'Utopie est en règle générale un récit de Fondation?

UTOPUS guide son peuple vers une terre promise, tout comme Pévarus ou le Fondateur de la cité de soleil de Campanella".. JEAN MARIE GOULEMOT, "LE REGNE DE L'HISTOIRE ", ALBIN MICHEL, 996, p. 269.

-مما يلفت النظر، أن جان ماري كولمو هذا، تناسى على ما يبدو أن الفعل التأسيسي لا يتعلق بمدينة من المدن فقط، بل يرمز في الواقع إلى الإنسان قاطبة.

36 - JUILES DELVAILLE, "ESSAI SUR L'HISTOIRE DE L'IDEE DE PROGRES JUSQU'A LA FIN DU XVIII siècle ". SLATKINE REPRINTS Genève, 1969, pp. 121 ets.

37 - NICOLE MORGAN, "LA SIXIEME CONTINENT, L 'UTOPIE DE THOMAS MORE," VRIN, 1995, pp. 87 ets.

المراجع المعتمد عليها في هذه الدراسة

1 - AUBENQUE (PIERRE): La prudence chez Aristote, PUF, 1986.

2 - BINOCHE (BERTRAND): Les trois sources des philosophes de l’histoire (1764-1789), PUF, 1994.

3 - CAMPANELLA (TOMMASO): La cité du soleil dans Adelin Charles Fiorato, la cité heureuse, Quai Voltaire, 1992.

4 - DELVAILLE( JULES): Essai sur l’histoire de l’idée de progrès jusqu’à la fin du XVIII siècle, Slatkine Reprints, Genève, 1969.

5 - ENGELS (FRIEDERICH); MARX (KARL): Les Utopistes, Maspero, 1976.

6 - GOULEMOT (JEAN MARIE): Le règne de l’histoire Albin Michel, 1996.

7 - GOUARD - FABRE (SIMONE): Jean Bodin et le droit de la république, PUF, 1989.

8 - HARRINGTON (JAMES): Oceana avec présentation et notes de J.G.A Pocock, Belin, 1995.

9 - LA POUCGE (GILLES): Utopies et civilisations, G-F- Flammarion, 1978.

10 - MANNHEIM (KARL): Idéologie et utopie, Librairie Marcel rivière, 1959.

11 - MARIN (LOUIS): Utopiques: Jeux despacé, Minuit, 1973.

12 - MAROUBY (CHRISTIAN): Utopie et primitivisme Seuil, 1990.

13 - MOLNAR (THOMAS): L’Utopie, Eternelle heresie, Paris 1975.

14 - MORE (THOMAS): L’utopie ou la meilleure forme de gouvernement. G.F. flammarion, 1987.

15 - MORGAN (NICOLE): Le sixième continent, l’Utopie de Thomas More, Vrin , 1995.

16 - NEGRI (ANTONIO): Le pouvoir constituant, PUF, 1997.

17 - PREVOST (ANDRE): Thomas More et la crise de la pensée Européenne Mame, 1969.

18 - POCOCK (J.G.A): Le moment machiavelien PUF, 1997.

19 - RICOEUR (PAUL): Du texte à l’action. Essai d’hermeneutique, II Esprit / Seuil, 1986.

20 - ROUVILOIS (FREDERIC): L’invention du progrès, Kime, 1997.

21 - ROSSET (CLEMENT): L’anti-nature PUF. Quadrige, 1990.

22 - RUYER (RAYMOND): L’utopie et les utopies, Gerard Monfort, 1988.

23 - SERVIER (JEAN): Histoire de l’utopie, idées / Gallimard, 1967.

24 - SOREL (GEORGES): Les illusions du progrès, librairie Marcel Rivière , 1921.

23 - TORT (PATRICK): Darwinisme et société, PUF, 1992.

24 - ZARKA (YVES CHARLES): Raison et déraison d’état, PUF, 1994.