ص1      الفهرس    المحور 

 

1- مسرح "الحكمة الخالدة"… ومسألة النمذجة

محمد عابد الجابري

وإذن فسيكون علينا أن نعمل بادئ ذي بدء على تحويل هذا "اللانظام"، الذي يطبع مجال القيم في ثقافتنا، إلى نظام، أو على الأصح الكشف عن النظام الثاوي خلف ذلك الكم الهائل من "المرويات"، التي يتجسد فيها موت المؤلف وجمود الزمان ونهاية التاريخ، والتي تملأ كتب "الأدب" التي يراد منها أن تكون مخزونا لا ينضب لـما به يكون "أدب النفس" و"أدب اللسان".

 

عندما كنت بصدد كتابة السطور الأخيرة من خاتمة كتابي "العقل السياسي العربي"، الذي أصبح الجزء الثالث من "نقد العقل العربي"، انتابني شعور عميق بأن موضوع البحث في العقل العربي سيبقى مفتوحا، وكنت أفكر حينذاك فيما بقي ينتظر الإنجاز، فكتبت أقول: "الفكر العربي مطالب إذن بنقد المجتمع ونقد الاقتصاد ونقد العقل، العقل المجرد والعقل السياسي…". ثم أمسكت القلم، وفضلت وضع ثلاث نقط مكان الكلام.

لقد كنت أشعر أن علي أن أضيف إلى القائمة المذكورة: "العقل الأخلاقي". ذلك أن طرح مسألة الأخلاق والقيم، بعد الفراغ من البحث في المسائل النظرية التي تخص الوجود والمعرفة، تقليد جرى به العمل في التأليف الفلسفي منذ أرسطو. وإذا كان جانب الأخلاق يؤجل في الغالب إلى نـهاية المطاف، فليس ذلك لأن مسألة الأخلاق والقيم تأتي بطبيعتها في النهاية لتكون بمثابة "الثمرة" -حسب تعبير القدماء- فحسب، بل أيضا لأنها من القضايا الصعبة الشائكة التي يصعب معالجتها بتجرد. فالأخلاق والقيم من الأمور التي ليس من الممكن دوما اتخاذ موقف نيتشوي بصددها، أعني "التحرر" من سلطتها حين البحث فيها.

لم يكن هذا الاعتبار هو الذي جعلني أضع النقط بدل الكلام، مفضلا السكوت عن موضوع "الأخلاق والقيم في الثقافة العربية"، بل لقد أحجمت خوف أن يفهم القارئ أن هناك جزءا رابعا قيد الإعداد يكون موضوعه "العقل الأخلاقي العربي". لقد كنت أعي تمام الوعي جنس الصعوبات التي ستعترضني، إذا أنا أقدمت على العمل في مشروع يتناول بالتحليل والنقد "نظام القيم في الثقافة العربية". إن المنهج النقدي الإيبستيمولوجي الذي اتبعته في الأجزاء السابقة من "نقد العقل العربي" كانت تبرره وتقبله المادة التي تعاملت معها من حيث إنها مادة منظمة "مبنية": لقد كان الأمر يتعلق بقطاعات معرفية ألفت فيها كتب تتعامل مع مادتها بوصفها "علما"، أي جملة من المعارف تشكل جسما منظما أو لنقل "معمارا"، فيه السابق واللاحق، والأساس والفرع، والمقدمات والنتائج الخ، مما يجعل عملية النقد والتفكيك ممكنة. ومع أن مادة "العقل السياسي العربي" لم تكن كلها مبنية مثل هذا البناء، فلقد كان من السهل نسبيا إعادة تشكيلها في بنائين، يخص أحدهما "المحددات" (القبيلة والغنيمة والعقيدة)، ويتناول الثاني "التجليات" (ميثولوجيا الإمامة، الحركة التنويرية، الآداب السلطانية وفقه السياسة).

أما موضوع "نظام القيم في الثقافة العربية" فهو ميدان لم يكن موضوعا لعملية بناء، لا عند القدماء ولا عند الذين جاءوا بعدهم. إن المراجع في هذا الميدان تنحو منحى خاصا في التأليف، قوامه حِكَم ومواعظ وأمثال وأخبار من هنا وهناك. وهكذا -وباستثناء النصوص التي ترجمت بأمانة أو بتصرف أخلاق أرسطو وأفلاطون- يجد الباحث نفسه أمام كمّ من الحكايات والمرويات و"الكلمات القصار"، نثرا وشعرا، محشورة بعضها إزاء بعض، ينقلها اللاحق عن السابق، منسوبة إلى فلان أو علان، أو إلى مصدر غير محدد الهوية من قبيل "بعض البلغاء" أو "بعض الحكماء" أو "بعض الشعراء" الخ. نذكر من هذه المراجع على سبيل المثال فقط : "عيون الأخبار لابن قتيبة"، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"الحكمة الخالدة" لمسكويه، و"التذكرة الحمدونية"، و"المستطرف من كل فن مستظرف" للأبشيهي الخ، هذا فضلا عن كتب لابن المقفع والجاحظ والماوردي الخ. وتمتد القائمة المستعصية عن الحصر إلى العصر الحديث، إلى "مجاني الأدب في حدائق العرب" للأب لويس شيخو اليسوعي ومن سلك مسلكه من مصنفي "المختارات".

تتميز مادة هذه المراجع بجميع خصائص المادة غير المبنية: قطع لا يعرف لها مؤلف وإن عرف فلا شيء يدل على صحة نسبتها إليه، والغالب ما تكون منحولة. أما الزمن فهي لا تتحدد به بل هي تقدم نفسها، أو يقدمها جامعها، فوق التاريخ. وأكثر من ذلك تقدَّم كحقائق لا مجال فيها للتعدد ولا للنسبية ولا للاختلاف. هي تقرر رأيا واحدا بصيغة واحدة، وإذا اختلفت الصيغة ففي اللفظ فقط. أما المعنى، وخصوصا المغزى، فواحد. هنا لا مجال للتصنيف إلى فرق أو أحزاب، بل الأصناف كلها تحضر بدون تمييز: لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين فقيه وفيلسوف، ولا بين مسلم وغير مسلم. وحتى أولئك الذين يصنفون عادة ضمن "الكفار" و"الزنادقة" يجدون مكانهم في هذا المسرح الفريد، مسرح "الحكمة الخالدة" الذي يتميز بخصائص يمكن إجمالها في كلمة واحدة هي: اللانظام. والبحث النقدي في "نظام القيم"، في الثقافة العربية أو في غيرها من الثقافات، يتطلب وجود مثل هذا "النظام". وإذن فسيكون علينا أن نعمل، بادئ ذي بدء، على تحويل هذا "اللانظام"، الذي يطبع مجال القيم في ثقافتنا، إلى نظام، أعني الكشف عن النظام الثاوي خلف ذلك الكم الهائل من "المرويات"، التي يتجسد فيها موت المؤلف وجمود الزمان ونهاية التاريخ، والتي تملأ كتب "الأدب" التي يراد منها أن تكون خزانا لا ينضب، لـما به يكون "أدب النفس" و"أدب اللسان".

***

وإذن، فلقد كان لابد، أمام هذا الوضع الذي يطبع مراجعنا، من التريث طويلا قبل القيام بالمغامرة أو الإعلان عن النية في القيام بها. ومع ذلك فالفكرة لم تفارق الذهن. وهل يستطيع من انقطع للبحث والكتابة أن يبقى بدون مشروع للتفكير؟

ومهما يكن من أمر، فقد كان فيما عرفته السنوات الأخيرة من مستجدات في هذا المجال -مجال الكلام في القيم- ما دفع بنا في مستهل السنة قبل الماضية إلى تسجيل التزامنا بالعمل على إنجاز الجزء الرابع من "نقد العقل العربي"، بعنوان (العقل الأخلاقي العربي: نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية).

تتلخص هذه المستجدات فيما لاحظناه في السنوات الأخيرة من انبعاث الاهتمام، على الصعيد الدولي، بمسألة القيم. لقد عاد الحديث عن الأخلاق والأخلاقيات (الإيتيك) كما يعود المكبوت أو المهجور، بعد أن كان الحديث عن "العلم و"الإيدولوجيا" وحده السائد طوال هذا القرن. أما اليوم، ومنذ ما لا يقل عن عقد من السنين، فقد غدت المسألة الأخلاقية مطروحة في كل مجال:

- في مجال الطب والبيولوجيا: أصبح السؤال التالي مطروحا اليوم وغدا بإلحاح: ما هي الحدود الأخلاقية -وبالتالي القانونية- التي لا يجوز تخطيها في مجال التطبيقات الطبية، خاصة ما يتعلق منها بالهندسة الوراثية؟ لم يعد مجال الطب محصورا في "حفظ الصحة حاصلةً واستردادها زائلةً" كما كان موضوعه منذ أبقراط إلى اليوم، بل لقد غدا في مقدوره تغيير "الخريطة الوراثية" للإنسان، على صعيد الخُلُق أو النفس كما على صعيد الخِلْقة أو الجسم. وهذا يطرح بطبيعة الحال مسألة الأخلاق والقيم، سواء منها ما جرت به العادة، أو ما جاء به الدين، أو ما شرعه العقل.

- في مجال التنمية تركز الاهتمام في السنوات الأخيرة على ما يعبر عنه بـ"التنمية البشرية" التي تهتم بالإنسان كقيمة في ذاته، وليس كمجرد أداة للإنتاج. كانت "التنمية" تقاس من قبل بمعايير مادية اقتصادية محض. أما اليوم فالاهتمام بالشأن الاجتماعي والإنساني يتزايد، فأصبح التعليم والشغل والصحة قيما أساسيا في حساب الدرجة على سلم التنمية.

- أما الديموقراطية وحقوق الإنسان -بما في ذلك حقوق المرأة والطفل والعجزة الخ- فقد أصبحا اليوم على كل لسان. ومع ما يشوب التلويح بهما من قبل هذه الجهة أو تلك من شوائب الدعاية الاستهلاكية و"الكيل بمكيالين"، فإن نمو الوعي بهما بوصفهما من القيم التي تتوقف عليهما إنسانية الإنسان شيء لا يمكن تجاهله. ومع ذلك يبقى أن غرس قيم الديموقراطية و حقوق الإنسان في جسم مجتمع من المجتمعات يتطلب أولا، المعرفة العلمية الصحيحة بالقيم السائدة فيه. كيف يمكن ،مثلا، غرس قيم الديموقراطية في مجتمع تهيمن على ثقافته قيم الاستبداد؟

- وأخيرا، وليس آخرا، لابد من الإشارة إلى الجانب القيمي في شعارات ومفاهيم أخرى تملأ الساحة الدولية اليوم، مثل الهوية والخصوصية والعالمية والعولمة الخ، وهي مفاهيم وشعارات محملة بقيم معينة أو تصدر عن نظام معين من القيم.

كل هذه المستجدات، التي عرفتها الساحة العربية والعالمية في السنوات الأخيرة، جعلت التفكير في "العقل الأخلاقي العربي" (الجزء الرابع من نقد العقل العربي) مبررا بل مطلوبا. وهكذا بادرت وغامرت في أواخر سنة 1996 وأوائل 1997 بإلقاء محاضرتين في نفس الموضوع، أردت منهما تقييد النفس بذلك النوع من الالتزامات الأخلاقية التي تتعزز فيها مراقبة الضمير بالشعور بثقل "الدين" إزاء الذين تلقوا الوعد.

كان من المفروض أن يكون "الوعد" قد أنجز اليوم. غير أن الإعلان في السنة نفسها، أعني سنة 1997، عن اتخاذ السنة الموالية 1998 سنة دولية خاصة بابن رشد، احتفاء بمرور ثمانية قرون على وفاته، جعلني انخرط في مشروع توليت فيه مهمة الإشراف على إعداد طبعات جديدة لمؤلفاته الأصيلة -أي التي كتبها ابتداء وليس تلخيصا أو شرحا. وكانت مناسبة بذلنا فيها بعض ما يستحقه فيلسوف قرطبة من الجهد لتقريبه للقارئ العربي، نصوصا وسيرة وفكرا.

واليوم وبعد سنتين كاملتين قضيناهما في صحبة ابن رشد وحده -وأنْعِمْ بها من صحبة- نعود إلى "نظام القيم في الثقافة العربية". وغني عن البيان القول إننا لا نقصد في هذه السلسلة من المقالات نشر أجزاء من الكتاب الذي ننوي الانكباب عليه. فالكتاب لم يكتب بعد، اللهم إلا في الدماغ حيث يتموج على شكل "الكتابة الشبح"، لا غير. وإذن فكل ما نطمح إليه ههنا هو تقديم نوع من "دراسة الجدوى" لمشروع يستحق فعلا أن يسبقه هذا النوع من الدراسة قبل المغامرة فيه. ونحن نطمح في أن يشاركنا القراء والنقاد في "التقويم" فلا يبخلوا علينا بآرائهم واقتراحاتهم واعتراضاتهم، على صفحات هذه المجلة أو بمراسلات شخصية. إن "دراسة الجدوى" التي سنقدمها هنا، في هذه السلسلة من المقالات، مشروع نضعه في خدمة الجميع. وأن يكون هناك أكثر من رأي لأفضل ألف مرة من رأي واحد. فالحقيقة لا تظهر إلا بالاختلاف. أما "الخلاف" الذي يأتي بعد، والذي لا يقوم على أصل من الاختلاف فهو صيحة في فراغ.

***

في مقدمة "تكوين العقل العربي" كتبنا، منذ خمسة عشر عاما، نشتكي من كون المكتبة العربية تخلو من مؤلفات في نقد العقل العربي. لقد كنا نتمنى أن "يستفيد –كتابنا- من الأعمال السابقة له: يتعلم منها ويتجنب تكرار أخطائها ويجتهد في إضافة لبنة إلى صرحها"، ولكن واقع الحال كان على عكس ذلك : والنتيجة هي أننا عانينا في عملنا ذاك ليس فقط "من غياب محولات رائدة وأخرى متابعة ومدققة، بل عانينا أيضا وبدرجة أكبر من آثار هذا الغياب وانعكاساته على الموضوع نفسه…". واليوم ونحن بصدد الإقدام على تمديد تلك المغامرة إلى "العقل الأخلاقي العربي" نجد أنفسنا أمام نفس الوضعية وبالتالي نعاني مما عانينا منه قبل!

والواقع أننا قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن المكتبة العربية تخلو، تماما أو تكاد، من كتاب أو دراسة في نقد "العقل الأخلاقي العربي"، أو في تحليل نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، تحليلا موضوعيا نقديا. هناك كتاب واحد -حسب علمنا- كان قد أثار ضجة في وقته، إذ هوجم صاحبه من طرف شيوخ الأزهر، هو كتاب "الأخلاق عند الغزالي" للدكتور زكي مبارك، وهو نص رسالته لشهادة العالمية والدكتوراه قدمها سنة 1924 إلى الجامعة المصرية بإشراف الدكتور منصور فهمي أستاذ الفلسفة بها يومئذ. والملاحظ أن هذا الكتاب لم ينل من الشهرة ما ناله كتابان نقديان آخران صدرا بعده، الأول هو كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وقد صدر عام1925، والثاني هو كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين وقد صدر سنة 1926. ويبدو أن الضجة التي أثارها هذان الكتابان الأخيران قد غطت سريعا على الضجة التي أثارها قبلهما كتاب الدكتور زكي مبارك.

والواقع أن هذا الكتاب، كتاب "الأخلاق عند الغزالي"، ليس كتابا نقديا بالمعنى الذي نقصده هنا، كما أنه ليس فيه ما يبرر تهمة الزندقة والكفر التي رمي بها صاحبه. فكل ما فعله هذا الأخير هو أنه تعرض بالنقد لبعض آراء الغزالي الأخلاقية التي بثها في كتبه، وبالخصوص منها في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين". وحتى في هذا المجال يتركز كل ما أنكره عليه زكي مبارك حول ما يطبع تلك الآراء من نزعة اتكالية صوفية استسلامية، ليس غير.

ذلك هو الكتاب الوحيد الذي تناول الأخلاق عند مؤلف إسلامي من زاوية نقدية. نعم، هناك بضع مؤلفات تتناول "الأخلاق" في الإسلام، في هذا المجال أو ذاك، بمنهج يطغى فيه العرض والتعريف والتنويه… ونحن هنا، في هذا المشروع الذي نقترحه، لن ننحو هذا المنحى. إن طريقة عملنا ونوع التحليل والنقد الذين سنقوم بهما لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية ككل، هو امتداد مباشر لما قمنا به في الأجزاء الثلاثة التي صدرت في موضوع "نقد العقل العربي": امتداد مباشر على صعيد طريقة العرض ومنهجية التحليل والنقد، ولكن مع اختلاف في التصنيف والنمذجة. وهذا تفرضه طبيعة الموضوع.

في نقد "العقل المجرد"، في الثقافة العربية، الذي خصصنا له الجزأين الأول والثاني من "نقد العقل العربي"، كان الأمر يتعلق بدراسة النظم المعرفية في الثقافة العربية، دراسة تحليلية نقدية. وقد صنفنا هذه النظم إلى ثلاثة: بيان، عرفان، برهان. وذلك تصنيف يستجيب لنوع النقد الممارس، أعني النقد الإيبستيمولوجي. لقد اخترنا هذا التصنيف لأنه مناسب ملائم، أعني أنه يفي بالغرض وليس لأنه التصنيف الوحيد الممكن. وقد رجح هذا التصنيف عندنا أنه معرفي محايد، غير إيديولوجي، من جهة، ولأنه معمول به لدى بعض المؤلفين القدامى مما يجعل منه تصنيفا أصيلا، لفظا ومعنى، من جهة أخرى.

وعندما بدأنا نشتغل في إعداد كتاب "العقل السياسي العربي"، الجزء الثالث من "نقد العقل العربي"، وجدنا أنفسنا مرة أخرى أمام مشكل التصنيف والنمذجة، فالعقل السياسي غير العقل المجرد. ومع أنه كان بالإمكان توظيف التصنيف السابق نفسه، بالحديث عن الجانب السياسي في كل من الفكر البياني والفكر العرفاني والفكر البرهاني، فقد فضلنا البحث عن تصنيف آخر أكثر ملاءمة. ذلك أنه لو فعلنا ذلك، لكنا قد فرضنا على موضوع البحث تصنيفا لا يستوعبه تمام الاستيعاب، وقد يشوهه تشويها... لقد كان لابد إذن من تصنيف آخر ونمذجة أخرى.

وهكذا، وبعد عملية استكشاف واسعة لتضاريس الموضوع، ارتأينا أن ننظر إلى العقل السياسي العربي من خلال مستويين: مستوى "المحددات" التي كانت تحرك الفعل السياسي، في الحضارة العربية الإسلامية، وما تزال. ومستوى التجليات التي تقدم له ما يلزم من الأغطية والتبريرات، وهما مستويان يعكسان بصورة ما بنية المجتمع العربي، بنيته العميقة (المحددات)، وبنيته السطحية (التجليات). وهكذا حصرنا المحددات، على المستوى الأول، في ثلاثة: القبيلة، الغنيمة، العقيدة. بينما ميزنا في التجليات، على المستوى الثاني، بين التعبيرات التالية: إيديولوجيا الملك السياسي، ميثولوجيا الإمامة، "الكلام" التنويري، الآداب السلطانية وفقه السياسة، وهي المجالات التي يدور الكلام فيها حول عناصر البنية السطحية للمجتمع العربي، أعني: الخليفة، الخاصة، العامة.

كان ذلك عن العقل العربي المجرد، والعقل العربي السياسي، فكيف سنعالج العقل الأخلاقي، العربي الإسلامي، أو ما نسميه هنا بـ "نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية"؟

لاشك أن المهمة ستكون سهلة -نسبيا على الأقل- لو أننا اعتمدنا أحد النموذجين السابقين، فصنفنا الأخلاق في التراث العربي الإسلامي إلى: الأخلاق البيانية والأخلاق العرفانية والأخلاق البرهانية؛ أو ميزنا فيها بين أخلاق القبيلة وأخلاق الغنيمة وأخلاق العقيدة، أو بين أخلاق الخليفة وأخلاق الخاصة وأخلاق العامة. غير أننا لو نحونا هذا المنحى الذي يبدو سهلا -ظاهريا على الأقل- فإننا سنكون قد فرضنا على موضوعنا تصنيفا لا يستوعبه ونمذجة لا تغطي جميع نواحيه، كما سنتبين بعد.

لابد إذن من تصنيف آخر يستجيب لطبيعة الموضوع. وموضوعنا هنا ليس "العقل" وليس "السياسة"، بل "الأخلاق"، فما الأخلاق؟

ليس هاهنا مجال الدخول في التدقيقات والتفاصيل، حسبنا أن نقول: إن ثمة معنيين لكلمة "أخلاق"، متداخلين ومتكاملين، ولكن لا بد من التمييز بينهما خصوصا ونحن نتحدث في إطار النمذجة. في اللغة العربية هناك "أخلاق" (جمع خلُق) وهناك "آداب" (جمع أدب). وليس هنا مجال الخوض في معناهما كما "تطور" عبر العصور. أما في اللغات الأوروبية فهناك "مورل" وهي كلمة لاتينية الأصل، وهناك "إيتيك" وهي يونانية الأصل. والكلمتان تدلان في أصل معناهما على شيء واحد هو العادات الأخلاقية.

وإلى حدود النصف الثاني من هذا القرن كانت كلمة "مورل" هي السائدة في الكتابات الفلسفية والأخلاقية الأوروبية. أما اليوم، وخاصة منذ بضعة عقود، فقد تراجعت هذه اللفظة لفائدة "إيتيك" التي يكثر استعمالها في الوقت الراهن إلى درجة باتت معها تغطي على مرادفتها. وعلى العموم يمكن القول: إن الفرق بين الاصطلاحين، كما يستعملان في الفكر الأوروبي اليوم، هو أن "مورل" تحيل إلى سلوك الفرد البشري، أعني إلى الخصال التي يتحلى بها الفرد في سلوكه والتي تجعل هذا السلوك مقبولا ممدوحا، بينما تحيل الـ"إيتيك" إلى القيم التي تخص المجتمع، أعني منظومة القيم التي تستمد منه الجماعة التوجيه في حياتها العملية واختياراتها الفكرية وتصدر عنها في أحكامها المعيارية العامة، الأخلاقية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ومع أن كلمة "أدب" و"آداب" أقرب، في معناها القديم -كما عند ابن المقفع مثلا- إلى "الإيتيك" بمعناها المعاصر فإن هناك ميلا، في الخطاب العربي المعاصر، إلى ترجمة هذا المصطلح الأخير بـ"أخلاقيات". غير أن هذا يثير التباسا عندما يتعلق الأمر بقواعد السلوك الخاصة بمهنة من المهن، كـ"أخلاقيات الطب" (واجبات الطبيب إزاء مهنته ومرضاه)، والتي لها لفظ خاص في اللغات الأوروبية déontologie

لنختصر الطريق، بعد هذا التوضيح المختزل ولنقل إن موضوعنا هنا أقرب إلى المعنى الذي تستعمل اليوم فيه "الإيتيك" منه إلى معنى "مورل". ومع ذلك، ومن أجل سلاسة التعبير فقط، سنستعمل اللفظين معا، "الأخلاق" و"الأخلاقيات"، دون تمييز، ونحن نقصد نظام القيم في الثقافة العربية: النظام الذي يعكس بنية المجتمع وفي نفس الوقت يستمد منه المجتمع التوجيه. إن موضوعنا ينتمي إلى فضاء الفضيلة الاجتماعية وليس فقط إلى مجال الفضيلة الفردية.

كيف نحدد "نظام القيم في الثقافة العربية"؟

لنقتصر هنا على ملاحظتين:

الملاحظة الأولى هي أن صيغة المفرد في عبارة "نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية" هي في الحقيقة محصلة لعدة نظم من القيم عرفتها الثقافة العربية، تعايشت فيها وحصل بينها نوع ما من التداخل.

أما الملاحظة الثانية فتتعلق بمسألة "البداية": بداية تعايش وتداخل هذه النظم في الثقافة العربية. إن البداية التي سنختارها هنا في "العقل الأخلاقي العربي" هي نفس البداية التي اخترناها في "تكوين العقل العربي": وذلك لنفس الأسباب التي شرحناها في الفصل الثالث منه، الذي جعلنا عنوانه: "عصر التدوين: الإطار المرجعي للعقل العربي"، فلا داعي لتكرار ما قلناه هناك.

وإذن،فسيكون مجال بحثنا، في البداية، هو عصر التدوين: العصر العباسي الأول (أي ما بين سنة 100 وسنة 200 أو 250 هجرية). ففي هذا العصر سنبحث عن نظم القيم التي كانت محايثة للموروث الثقافي المدون، أو الذي كان يجري تدوينه. ثم نتتبعها في تعايشها وتداخلها عبر العصور. سنترك الآن جانبا مسألة هامة سنناقشها في ثنايا الكتاب، مسألة نظام أو نظم القيم التي وجهت عملية التدوين وتحكمت فيها. سنقتصر الآن على النظر إلى أنواع الموروث الذي كان يجري تدوينه. وفي هذا الصدد يفرض علينا الواقع التاريخي التمييز فيما كان يدون بين خمسة أنواع من الموروث الثقافي:

1- الموروث الثقافي العربي السابق للإسلام، مع امتداداته في العصور الإسلامية، ويتمثل هذا الموروث فيما جمع ودون من أشعار العرب وأخبارهم وحروبهم ومفاخرهم ومكارمهم الخ، في الجاهلية والإسلام.

2- الموروث الإسلامي ويتمثل خاصة في البحث في معاني القرآن وفي التفسير بأنواعه، وفي الحديث وأخبار السيرة النبوية الخ.

3- الموروث الفارسي، وكان منه نصوص ترجمت إلى العربية ترجمة نصية أو مع تصرف، إضافة إلى نقول وأخبار و مرويات…

4- الموروث اليوناني سواء منه الهيلينستي الذي ينتمي إلى العصر اليوناني -الروماني، أو الهيليني الذي ينتمي إلى العصر الإغريقي الخالص.

5- الموروث الصوفي بأنواعه المختلفة.

وغني عن البيان القول إن كل واحد من هذه الأصناف كان يمثل ثقافة بأكملها. وغني عن البيان القول كذلك إن مما تتميز به كل ثقافة ويشكل جانبا أساسيا من خصوصيتها هو وجود نظام للقيم خاص بها: نظام للقيم الأخلاقية (والسياسية والاجتماعية) يقدم لأهل تلك الثقافة المعايير الشعورية واللاشعورية التي بها تحكم على السلوك والتصرفات بالحسن أو بالقبح، وعلى أساسها تحدد الخير والشر الخ…

سيكون علينا إذن أن نبحث في خمس منظومات للقيم ساهمت بصورة أو بأخرى، وبهذه الدرجة أو تلك، في تأسيس ما نطلق عليه هنا: "العقل الأخلاقي العربي". و هذه المنظومات هي: منظومة القيم العربية قبل الإسلام، منظومة القيم الإسلامية، منظومة القيم التي من أصل فارسي، منظومة القيم التي من أصل يوناني، منظومة القيم الصوفية، لننتقل بعد ذلك إلى البحث في تداخلها وتشابكها.

لا يتسع المجال هنا لعرض مفصل لخصائص ومكونات هذه النظم جميعها، ولذلك سنقتصر على رسم خطاطة عامة، أو قل على نوع من النمذجة لهذه القيم، مع التركيز على ما نعتبره القيمة المركزية التي تتمحور حولها سائر القيم في كل نظام. وقد نسمي كل واحدة من هذه المنظومات باسم القيمة المركزية فيها مع استعمال "أخلاق" بدل منظومة القيم، تخفيفا للعبارة فقط. هذا مع الاحتفاظ لكلمة "أخلاق" بمعناها الاجتماعي السياسي، لأن الأمر يتعلق هنا، كما قلنا، بالقيم التي تنظم العلاقة بين الناس في المجتمع، وليس فقط بالأخلاق الفردية وحدها.