ص1      الفهرس    المحور 

أضواء على هامش ما ورد في كتاب "في الترجمة"

محمد طواع

هذه الورقة محاولة ثانية، من أجل مقال في الترجمة يروم الاقتراب من متاهات هذه الأخيرة. أما منطلق هذه المحاولة، هو الدراسة التي صدرت للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي في الكتاب 40 من سلسلة شراع بعنوان "في الترجمة". هذا مع الإشارة إلى أن بؤرة التأمل ستكون هي الدراسة المتضمنة في الكتاب، والتي وسمها الأستاذ بـ"الترجمة والميتافيزيقا". وهي الدراسة التي خلصنا معها إلى ملاحظة أن عنوان هذا الكتاب لم يأت كاملا، إذ كان بالإمكان أن يأخذ صيغة: "في الترجمة والميتافيزيقا".

نستفيد منذ البداية مع هذه الدراسة إلى أن طرق مسألة الترجمة هو في الآن نفسه طرق لمسألة الكتابة والمعنى ولمسألة النص وتأويله.

أما التفكير في الترجمة كقضية، فهو تفكير يفتح الطريق لتأمل قضايا تنتمي في مجملها إلى المجال الذي اعتبرته الفلسفة مجالها الخاص كالوحدة والتعدد، الهوية والاختلاف، الأصل والنسخة. وهي كلها أزواج تتكلم بوصفها أزواجا متعارضة، لغة الميتافيزيقا.

وبما أن لكل دراسة مسألتها أوسؤالها، فإن ما يمكن ملاحظته مع دراسة مسألتها أو سؤالها، فإن ما يمكن ملاحظته مع دراسة الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، فيما يتعلق بقضية الترجمة، هو أنه يطرق كلاما في الترجمة وهو منشغل بمسألة مجاوزة الميتافيزيقا.

كان سؤال الدراسة الاستراتيجي هو: هل الترجمة عملية ممكنة؟ وهو سؤال كذلك، باعتباره يشق طريق التفكير بصدد إمكان تحقق الفعل الترجمي، والفرائض الأخلاقية لذلك التحقق. فإن الجواب على الشكل الآتي:

إذا ما طرحنا السؤال ذاته على الميتافيزيقا، سيكون الجواب بالإيجاب. يعني أنه إذا ما طرحنا سؤال إمكان أو لا إمكان قيام الفعل الترجمي على عباقرة الفكر الفلسفي من أفلاطون إلى هيجل، مرورا بديكارت ولايبنتز وكانط..، سيكون أمر الترجمة ممكنا مع الاحتفاظ بشرط واحد، وهو أن يكون المهم في الكتابة هو المعنى. وبهذا نلاحظ كيف أن السؤال الذي أريد به أن نطرق مسألة إمكان الترجمة، قد جرنا إلى التفكير في مسألتنا، في علاقة بتصور معين للكتابة يفهم المعنى بوصفه مدركا متعاليا قبليا، أو جوهرا "خارج" اللغة والكتابة، ومن ثمة، فهذا المدرك قد تتحقق ترجمته، بمعنى نقله من رأس إلى رأس آخر، بالكلام وفي الكلام، أو نقله من دال إلى آخر أو من نص إلى نص آخر.

نستخلص مما تقدم، أن الحديث عن الترجمة جاء مرتبطا، ولا يمكنه إلا أن يكون كذلك، بالحديث عن الكتابة وما تقوم عليه من كيفية لتصور المعنى وماهيته. وأن إمكان تحقق الترجمة أو عدم إمكانها يتوقف على نوعية الأرض التي ننتمي إليها روحيا ونقيم فيها فكريا، إنها الأرض التي يمتد فضاءها الروحي من أفلاطون إلى هيجل؛ الأرض التي نمتح من تربتها هواءنا النقي الذي نتنفسه ونحن نفكر ونقيم علاقة بالموجود. هذه الأرض أين نقيم هي التي منحت التربة التي استنبتت فيها كيفيتنا في التفكير وفهمنا لماهية اللغة ومفهومنا للكتابة، ومنها كيف نفهم الدليل اللساني والنص والتأويل والترجمة…الخ. وبالجملة نقول، هذه الأرض أين نقيم فكريا وروحيا هي المسماة ميتافيزيقا، نموذجها الأول أفلاطون، أما الاسم الذي استنفدت معه إمكاناتها أو مشروعها هو هيجل. هذا ما يفسر اعتبار هيجل هو آخر اسم للميتافيزيقيين بالنسبة لمن يحدد الميتافيزيقا بهذا التصور كهيدجر مثلا. لكن من دون أن نفهم أن بعد هيجل لا وجود للميتافيزيقا. إنما المقصود بالنهاية مع هيجل هنا هو أن مرحلة من تاريخ الفلسفة بوضعها مرحلة من تاريخ الوجود قد أعلنت عن استنفاد إمكاناتها ليتحول معها التاريخ الكوني إلى عصر التقنية(1).

يقول هيدجر: "الميتافيزيقا، وهي تمكن من تأويل محدد للموجود، ومن فهم محدد للحقيقة، تكون بذلك قد حددت المبدأ الذي ستتشكل بناء عليه صورة عصر من العصور. إذ أن هذا المبدأ هو الذي سيحكم مختلف الظواهر التي تميز العصر". دروب موصدة، ص99.

الميتافيزيقا هنا ليست مبحثا من مباحث الفلسفة، إنها أكثر من كونها كذلك، إن معناها القوي يجعلها تتماها مع تاريخ الفلسفة ولحظات تجلي حقيقة الوجود في صورة عصور أو عوالم، كان آخرها هو العصر الذي يحكمنا روحيا أو ميتافيزيقيا اليوم، إنه عصر التقنية. أو لم نعد الآن نتحدث عن الترجمة التقنية.

مع هذه الميتافيزيقا، الفعل الترجمي ممكن. وهو كذلك، ضمن طقوس لا بد من أن يلتزم بها الترجمان فرائض لقيام عمله ويستقيم. وأهم هذه الفرائض: أن نترجم، بمعنى أن ننتج نصا يحاكي الأصل.

وإذا ما تأملنا الشرط الملزم لقيام الفعل الترجمي سنلفي أن الشرط عينه لقيام فعل الكتابة. ذلك لأن العمليتين معا تحضر سلطة "المعنى الأصلي" ومنطقه، ليمحي، بموجب ذلك، اسم الكاتب الذي هو عينه ترجمان أي ناقل هذا المعنى بحفظ وأمانة وناسخ له.

من هنا فسيان أن تقول الترجمان أو الكاتب، ما دام المهم بالنسبة لما هو المعنى كما يتراءى للنفس المفكرة.

وعليه، أفلا ترى معي أن في هذا الكلام صدى لظلال الدرس الأفلاطوني حول الكتابة والمعنى؟ لقد علمنا أفلاطون أن النفس تفكر، وما على الكتابة إلا أن تأتي لاحقا لكي تعمل على نقل المدرك الذي تفكر فيه النفس من أجل كتابته بمعنى تحبيره. وعلى هذا الأساس تنتج الترجمة أو الكتابة "نسخة أيقونة"، بينها وبين "صوت النفس المفكرة" مسافة ضيقة جدا. يقول النموذج الأول للميتافيزيقا: "(…) والآن، ففي وسعك أن تجد ما يطابق هذه الأقسام الأربعة في الأحوال الذهنية الأربعة الآتية: فالعقل أرفعها، والفهم هو التالي له، والاعتقاد هو الثالث، والتخيل هو الأخير. وفي وسعك أن ترتب هذه الأحوال، بحيث تعزو إلى كل منها درجة من الوضوح واليقين وتتناسب مع مقدار الحقيقة التي تملكها موضوعاتها" [الجمهورية، ت.فؤاد زكريا، ص243].

يفيد هذا القول أن "المعنى" حقيقة مرتبطة بالنفس وأحوالها أي بالعقل أو الخاطر، ويكون بلغة الجاحظ، محجوبا ومستورا، في مكان ما، ينتظر من يكشف القناع ويهتك الحجب "متى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله" = [البيان والتبيين، ج1، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1986، ص42 وما بعدها].

على الأرض الأفلاطونية، وما تم وضعه من أسس للفكر وللعلاقة بالموجود ولفهم الحقيقة، غدت مهمة الترجمة أو الكتابة، تفترض وجود "نص أصل"، تريد أن تتشبه به، تروم استنساخه وتثبيته في رسم الحروف، مع احتراس شديد من أجل الشفافية والأمانة في النقل ما أمكن. وصيغة "ما أمكن" تفيد أن عملية النقل، سميها ما شئت الآن ترجمة أو كتابة، كيف ما كانت طهارتها لا بد وأن تتضمن هامشا من الخيانة.

ونحن نقيم على أرض الميتافيزيقا/الأفلاطونية، يكون الترجمان أمام مستويين من الكتابة: كتابة الحقيقة كما هي مرتسمة في النفس، وكتابة اليد بوصفها محاكاة تتحقق على الورق تحبيرا. وكأن هناك "مدلولا متعاليا" يتهوى مع نفسه، حاضرا أمام ذاته جوهرا ماثلا كحقيق متجانسة خارج كل مغايرة أو تباعد. وبالجملة، يكون الترجمان قائما بين أصل ونسخة تريد أن تكون الشبيه الشديد الشبه إلى حدود التماهي مع الأصل.

أرض الميتافيزيقا التي نتنفس هواءها ونحن نفكر في أمر الترجمة، كما نتحدث عن الكتابة وشرائط تحققها، تجعل من كلامنا كلام الهوية؛ هذه الهوية التي تتجسد في شكل "وعي بالذات" أو في صورة "مدلول متعال-قبلي" يحتجب في جهة ما خلف اللغة أو الخطاب أو كلام النص. مع كلام الهوية هذا، ثم اختزال ماهية اللغة إلى مجرد وسيلة لحصر هذا المدلول الباطني، والقبض عليه من أجل ترجمته بمعنى نقله كتابة وبالكتابة. وهو الاختزال عينه الذي جعلنا نعتقد في أن الدليل اللساني هو مجرد مناسبة لحضور المعنى، وليس فضاءا تفاضليا محكوما بلعبة التأويلات.

ومع ذلك، فعلى الرغم من كل محاولة لحصر هذا المعنى الأصل من أجل نقله أي ترجمته وكتابته، سوف لا تنتهي مهمتنا سوى في إنتاج نسخة تتأرجح بين بين، بين الجيد وما يظهر كذلك. هذا ما جعل الميتافيزيقا تقيم الفعل الترجمي بلغة الجيد والردئ أو بالحديث عنه بلغة الأمانة أو الخيانة. وفي جميع الأحوال، يكون هذا اعترافا ضمنيا بصعوبة المهمة، مهمة الترجمان، ويجعل استئناف طرح السؤال متجددا: في إطار أية حدود يكون الفعل الترجمي ممكنا؟

فنقول، لقد تبين لنا أنه ممكن وغير ممكن في الآن نفسه: هو ممكن، إذا ما اعتبرنا، مع الميتافيزيقا، أن المهم في الكتابة هو المعنى ومنطقه. كما أنه غير ممكن إذا ما اعتبرنا "المقاومة" التي تحول دون تحقق فعل الترجمة أو الكتابة كما يفهمنا إياهما الدرس الفلسفي. ذلك لأن هذا الدرس يحسب الحساب، كل الحساب للمعنى أو للوجوس، ومن بعد يفكر في "الملحقات" كاللغة والكتابة؛ ومن ثمة يغدو كل منهما (= اللغة والكتابة) سوى وسيلة للنقل والتثبيت والبيان.

غير أنه إذا ما أنصتنا إلى الثورة الفرويدية في حديثها عن "صوت النفس" و"المقاومة" التي يعيشها الأنا الذي يريد لمبدأ اللذة أن يمحي ليترك المكان لمبدأ الواقع أن يكون في الواجهة؛ أو إذا ما استندنا إلى الثورة ذاتها، يمكن أن نتساءل كيف تكون الترجمة، وكذلك الكتابة، ممكنتين مع لغة المكبوت وفي ظل هذه المقاومة؟

هذا ما جعل ج.دريدا يذهب إلى القول بأن الفكر الذي يمنح الوعي والحضور، بوصفهما "أوسيا"، امتيازا، يكون قد أعلن عن إقامته ومأواه داخل الهواء الذي تتنفسه الميتافيزيقا(2). والمفكر نفسه، يستند على فرويد لكي يخلص إلى أن ليس هناك "ذات" كاتبة تتمتع بكامل الوعي متفردة بسيادتها؛ ذلك أن "ذات" الكاتب في الواقع، هي نظام من العلاقات، منها ما يعود إلى اللاشعور وآلياته أو إلى إطار علائقي بالآخرين؛ كما أن علاقة "الآنا" بما يقرره هي علاقة إرجاء وتأجيل إلى أن تكون الظروف مناسبة للقول؛(3) ومن ثمة تغدو "الأعراض" فضاءا مكثفا للمعاني، وليست دلائل لمعنى أصلي(4)، لذلك يأتي المفهوم ملتقى لأحكام.

استنادا على ما تقدم، إذا ما أخذنا الدلائل اللسانية بنفس المآخذ لدى دريدا وهو يستند على تأويل فرويد للأعراض، فكيف تكون الترجمة، بوصفها نقلا ونسخة أمينة، ممكنة إذن؟ خاصة وأن كل متكلم منا لا يتكلم لغة واحدة موحدة؛ بقدرما "يعيش لغات في اللغة"، ذلك أنه على الأقل يعيش بين بين، بين لغة الرغبة ولغة القانون، بين لغة الأب ولغة الأم، هذا فضلا عن كون اللغة عموما هي التي تفكر من خلالنا وتتكلم "بلساننا"، وإلا من منا لا يكرر العبارات السكوكة؟ هذا ما جعل الأستاذ بنبعد العالي يقول "(…) فكل نص، حتى وإن ظل غير مترجم، فهو ترجمة، وليست الترجمة عملا ثانويا يأتي ثانية، بعد كتابة النص" [في الترجمة، ص16].

***

أما إن أردنا أن نفكر بشكل أصيل في الترجمة، وفي ارتباط بها، في الكتابة واللغة، فلا بد من مجاوزة الميتافيزيقا باعتبارها تجربة في تاريخ الوجود تأسس معها نمطا واحدا في التفكير، ساد بوصفه مجرد "لوجيا" أي آليات منطقية للتجريد والتحليل والتركيب والإحصاء والحصر. وهو نمط التفكير نفسه الذي تحول لحظة نهاية الميتافيزيقا إلى فكر كوني، يقوم على إشكالية تمثل الموجود وموضعته(5)، واختزلت معه ماهية اللغة إلى وسيلة لتنفيذ آليات العقل هاته، وللإفصاح عما يدور بخلد النفس وحصره(6). لذلك اعتبر التصور والمفهوم هما أساس الفكر وما يحوله إلى "موضوع" للتأمل.

مع هذه التجربة في التفكير أصبحت قضية الفلسفة الأساس، هي المعنى ومنطقه، كيف يتعين حصره أو حده والقبض عليه بكلتا اليدين من دون ما خيانة لوضوحه ووهجه؛ كل هذا من أجل ترجمته بمعنى نقله وتحبيره كتابة.

هذه التجربة في التفكير إذن، هي ما يتعين مجاوزتها من أجل التفكير في الفكر بشكل أصيل. والمجاوزة تعني هنا، في العمق، أن نفكر من "خارج" "المنطق" الذي ينظر إلى الفكر على أنه تمثل للموجود في وجوده. لكن من دون أن يذهب بنا الفهم إلى أننا ضد المنطق لصالح اللامنطق. وإنما نفكر في ماهية اللوجوس كما تجلت للفكر في عصره الأول مع الإغريق الأوائل. أي مع مفكري الوجود. ذلك أنه مع هؤلاء، لم يحدث أن تحددت ماهية الفكر واللغة والكتابة من داخل نظرية المنطق والنحو. ومعهم أيضا لا تأتي الحقيقة صوب الإنسان إلا بالقدر الذي يحصل به نور الوجود انفتاحا وإشراقة. لقد علمتنا الفلسفة أن المنطق هو على الفكر الحق والأساس الوحيد للتفلسف.

الوجود والحالة هذه، هو قدر النور والانفتاح الذي ينادي الإنسان ليأتي كلامه جوابا، وموقفه استجابة لكلام اللغة بوصفها المأوى/أين تتحدد الإقامة في رحاب الحقيقة. أما النور هنا فليس وضوح الرؤية أو تميز رؤية التمثل كما تفهمهما الديكارتية. النور هو ما يفتح الطريق ويحرر المسلك للفكر لكي يتساءل ويتكلم(7).

وفي الختم، نقول مع هيدجر، إن من يختزل فعل الكلام إلى مجرد تلفظ يعبر عن صوت النفس، واللغة إلى مجرد نظام من العلامات، وينظر إلى المتكلم باعتباره حيوانا ناطقا يعتد بقدراته المنطقية وبنيته الذهنية المقولية ذات البناء المنطقي في إنتاج القول، يكون تفكيره محكوما بظلال الأفلاطونية، أي بالميتافيزيقا التي حدث معها قطع جذور الإنسان من التربة-الأم أو من بيت الإقامة الأصيل؛ ذلك الذي يهبنا القدرة على الكلام في أبلغ صوره وأبهاها أي شعرا. الفكر بموجب ذلك ليس مسألة سيكولوجية أو ذاتية وإنما هي شيئا آخر. إنها مسألة هذا الذي تتكشف حقيقته من دون أن يعلن عن ذاته كينبوع أصل. ذلك لأن ماهيته تتكشف فيما هي تنحجب، لذلك سماها اليونان الأوائل = "الأليثيا".

يقودنا هذا التأويل إلى القول، إن مجاوزة كيفية التفكير المحكومة بالأفلاطونية، تلك التي تتجلى ظلالها في تناولنا للغة وتعريفنا للإنسان ولكلامه، هي عينها مجاوزة مفهوم الترجمة والكتابة بوصفه مجرد نقل للفكرة من رأس إلى رأس آخر، أو نقل مضامين فكرية جاهزة مدركة من نظام لغوي إلى آخر. مثل هذا التفكير ينسى أن عملية الترجمة لا تقدم نفسها إلا تأويلا وفهما؛ وإلا كيف يمكن أن ننصت من دون أن نترجم، وأن نترجم من دون أن نفهم، والفهم عملية تأويلية؟ هذا وحتى إن تكلم النص المراد ترجمته في لغتنا الأم(8).

المجاوزة إذن هي ضد الفكر الذي أسس بيت الإقامة عالما روحيا، يجد الإنسان نفسه فيه، تتقادفه النسخ. لذلك جاءت لغة الميتافيزيقا لغة شمسية، تتحدث عن الحقيقة من خلال مدارج من التجلي والوضوح، قياسا على درجة وضوح ضوء القمر والنجم والجرم أو الشمس والشهب اللامعة. كذلك تتحدث الميتافيزيقا عن وضوح نسخ ترجمات النص الواحد. إذ أن كل محاولة للترجمة أو للتأويل تقاس بمدى قربها أو بعدها عن نور "الأيديا"-النور الأصل. ولكن هل يمكن أن تقبض على ما يأتي كالشهب اللامعة من أجل ترجمته؟

وعليه، فمن "خارج" الميتافيزيقا، نقول، إن الإنسان في صميم ماهيته مترجم فيما هو يفكر، بمعنى ينصت مستجيبا لكلام اللغة باعتبارها مقطن حقيقة الوجود وماهية الإنسان في الآن نفسه؛ الحقيقة التي تأتي صوبنا كانكشاف وانفتاح. هذا ما يتعين أن نفكر فيه من أجل المجاوزة، مجاوزة الأرض التي انتهت بالفكر إلى تقنية وبالإنسان إلى الإقامة في عالم تقني.

ولكن، قد يتساءل معي صاحبي، نعم، نعمل من أجل المجاوزة، لكن، المجاوزة إلى أين؟ هل إلى هاوية؟ أم إلى أرض معينة؟ أقول له: سوف لا نتعلم فعل التفكير بالفعل، إلا بتعلم نسيان ما تعلمناه ماهية للفكر مع النظرية التقليدية للفكر.

هوامش:

1 - Heidegger (M), Questions IV. nrf Gallimard, 1976, p.118

2 - Derrida (J), marges de la philosophie, ed. de Minuit, 1972, p.17.

3 - Freud (S), nouvelles conférences sur la psychanalyse, idées - Gallimard, 1936, p.101-105.

4 - Ibid, le rêve et son interprétation, idées - Gallimard, 1925, p.53.

5 - Heidegger (M), Sérenité, in QIII, nrf, Gallimard, 1966, p.190.

6 - ibid, p.209.

7 - Questions IV, ed. Gallimard, 1976, p.127.

8 - Questions IV, ed. Gallimard, 1976, p.127.

ـــــــــــــــــ

ندوة:

مع الروائي اللبناني حسن داوود:

التحولات الثقافية في لبنان بعد الحرب الأهلية

باريس: فيصل جلول

نظم المركز الثقافي المصري في باريس مائدة مستديرة مع الروائي اللبناني حسن داوود حول موضوع "التحولات الثقافية في لبنان بعد الحرب الأهلية". شارك في الندوة الأستاذ أسامة خليل ممثل المركز والكتاب والمثقفين العرب: د.جواد باشرة (عراقي)، أ.فيصل جلول (لبناني)، د.محمد حافظ يعقوب (فلسطيني)، د.هاشم صالح (سوري)، د.رباب الحسيني (مصرية)، أ. عالية ممدوح (عراقية)، سعد زغلول فؤاد (مصري)، أ.نائلة ناصر (لبنانية)، د.صبحي توما (عراقي)، أ.سلام الكندي (عماني)، د.محمود العزب (مصري)، خالد زغلول (مصري)، أ.عبد الله حسن (مصري)، الفنان عبد الرازق عكاشة (مصري)، د.رابح صادق (جزائري)، د.حسن الجوهري (مصري)، أ.محمد فهري (مغربي).

وافتتح الأستاذ خليل الندوة بقوله: يمكننا أن نبدأ من مدخل العمد الأساسية للثقافة وهي الأديان والإيديولوجيات والعقائد التي تشكل قلب الأنساق الثقافية. وقد تعرضنا لهذا المدخل في أبريل الماضي في ندوة مع المطران جورج خضر حول القيم الروحية الدينية والقضايا الاجتماعية.

هناك أيضا إمكانية تناول الثقافة من مدخل المنتجات الثقافية كأنواع وفروع الفكر والآداب والفنون وظهور أنواع وإهمال أنواع أخرى من الأغراض الأدبية والأساليب الفنية.

هناك كذلك مدخل سيكولوجيا الإبداع لدى الذات أو الفرد المنتج للعمل الثقافي، وكثيرا ما يتصل هذا المدخل بسوسيولوجيا تفاعل الأنساق الثقافية.

وهناك مدخل الأنساق الثقافية الحضارية الكبرى وهو مدخل العلاقة بين "التقليدية" و"الحداثة" وحالات المد والجزر بينها. وربما ينبغي ألا نغفل، خاصة في حالة لبنان، ثقافة المهجر المكتوبة بالعربية أو باللغات الأجنبية. وقد سبق وتناولنا في ندوة في شهر مايو الماضي قضية الانفصام لدى المثقف العربي من خلال تحليل رواية "المستغرب" للأستاذ هاني حمود والتي صدرت بالفرنسية عن دار النهار.

إن تنوع الميادين والاتجاهات لدى المفكرين العرب المشاركين في ندوتنا هذه، والطابع المفتوح لهذا النوع من حوارات المائدة المستديرة. يبشرنا بزخم من التحليلات التي ستلمس مختلف هذه المداخل والكلمة للمحاضر.

الأستاذ حسن داوود:

في الحقيقة، ما يستطيع أن يجمعه المهتم بشؤون الثقافة في لبنان عن موضوع التحولات الثقافية بعد الحرب الأهلية، هو مجموعة من الانتباهات والملاحظات التي لا تحكمها نظرية واحدة ومدخل واحد.

وأنا ممن يعتقدون أن الحرب الأهلية قد قضت على كل احتمال لقيام نظرية يمكن قياس الأحداث في لبنان والعالم على هديها.

هناك شعور عام لدى المثقفين بأن لبنان كان وكأنه مملوء بحربه وعقائدياته ونضالياته، ثم خرج وكأنه قد فرغ من كل ما فيه. فتبدو الثقافة في قطيعة مع المرحلة السابقة، ويبدو كل ما ينتج من فكر وأدب وكأنه لا ينتسب لمدرسة ولا يرجع لعقيدة.

لقد عاشت الثقافة في سنوات الحرب والسنوات التي سبقتها في كنف العمل السياسي وعلى أطراف الاهتمامات الحزبية. اليوم يبدو أن هناك غياب كامل لهذا النوع من الثقافة بمعنى أن الأحزاب التي مازالت فاعلة في لبنان لم تعد قادرة على أن تنتج نصوصا ثقافية ذات مصداقية عقيدية وقدرة على إقناع المثقفين واحتوائهم. لكن في المقابل هناك حركة ثقافية غزيرة الإنتاج بالمقارنة مع السنوات السابقة في لبنان.

لكن الملمح العام للإبداع الأدبي اليوم هو غياب الانتساب الجماعي وظهور النزعة الفردية. إذ بات المبدع وكأنه يكتب بمفرده ويكتب لنفسه، دون مشاركة في العمل الجماعي والهموم العامة.

يميل البعض إلى تسمية هذه الظاهرة بإفلاس العقائد والنظريات السياسية بلبنان. وأنا شخصيا كنت أثناء الحرب من بين أولئك الذين يتنبأون أننا سوف نصل إلى هذه المرحلة. فمن عاش تجربة الحرب وعاين ما آلت إليه العقائد والإيديولوجيات من تطبيقات وتنازلات تتناقض مع إعلاناتها النظرية. كان من الطبيعي أن ينتهي إلى القول بحتمية اندثار الأحزاب السياسية.

ليس هذا من جانبي موقفا نظريا بقدر ما هو موقف انفعالي شخصي. فقد تحولت الأحزاب في لبنان أثناء الحرب إلى جماعات ميليشيا مسلحة فكان من الطبيعي أن يكون مطلب المثقفين هو إعلاء قيمة "الفردية" لنشاهد اليوم ازدهار هذه النزعة، ونشاهد تحول المثقفين من مجموعات حزبية إلى أفراد فرادى يجهلون ماذا ينبغي للفرد أن يفعل ليصبح فردا حقيقيا. فهم لا يعرفون ما هي الخطوة المقبلة.

باختصار التحول الأساسي بلبنان هو الانتقال من حالة الملاء السياسي إلى حالة افتقاد القيم وضياع الأفق. من حالة الانتماء الطائفي والحزبي إلى حالة اللاانتماء الفردي.

وكأن لبنان قد فرغ مما كان يعتمل به، وبات خاليا ينتظر أن يعبأ بشيء بديل لم يتأت منه شيء بعد.

من جهة أخرى هناك أجيال المثقفين الذين عينتهم المؤسسات التي أنبتتها الأحزاب والذين مازالوا إلى الآن أوصياء على الحركة الثقافية في لبنان. وهناك في مواجهتهم جيل من الكتاب الجدد فاقدي الحيلة، يفتقرون لنوع من التكتل حتى يتسنى لهم إزاحة من أرستهم مؤسسات الأحزاب قديما. هذا فضلا عن أن طبيعة الأحزاب وآليات عمل مؤسساتها الثقافية كانت تقضي بالتعظيم من شأن بعض الأقلام والكتابات على حساب البعض الآخر. وهو ما كان يعني أن العمل الإبداعي قلما يظهر إلى النور ويعيش وينتشر وفقا لمستواه كإبداع فكري وأدبي بل تبعا لاختيارات المؤسسات الحزبية المشتغلة به، وهو ما أدى إلى تغييب قطاعات كاملة من الثقافة والمثقفين وافتقاد التكتل والوحدة الثقافية.

برأيي أن الجيل الجديد يواجه بالنزعة الفردية هذا التقليص السياسي لخريطة الفكر والأدب. فالفردية لدى جيل المبدعين الشباب هي مواجهة الشخص الأعزل للمؤسسات والنظم، للأحزاب والجماعات. والمطلوب مني كمثقف اليوم إنني بفرديتي أواجه كل أشكال الفكر الجمعي.

الأستاذ فيصل جلول:

عندما نطرح السؤال عن التحولات الثقافية بلبنان بعد الحرب ربما يكون من المفيد الحديث عن ثقافة الحرب. فالحرب الأهلية كانت لها تعبيراتها الثقافية وكانت هذه التعبيرات تختلف باختلاف الجهات: كان هناك شعراء الجنوب الذين ظهروا بعد الاحتلال الإسرائيلي. وكان هناك بالمناطق المسيحية تركيز على العامية في التعبير الشعري والنثري. وكانت المنطقة الغربية في بيروت ملتقى للمثقفين من العراق وسوريا وفلسطين ومصر وغيرهم. وكان إنتاجهم الثقافي يتمحور حول القضية الفلسطينية، وصدرت بهذا الخصوص أعمال أدبية حربية تحض على القتال وأصبح لكل حزب شعراؤه وكتابه، وظهر مطربون يدينون بشهرتهم للشعر الحربي وانتشرت هذه الأشكال التعبيرية التي ظهرت في مختلف الطوائف، من شعر وأدب وسينما وموسيقى ومسرح تمثل حالة ثقافية عشناها علينا أن نتذكرها ولا ننساها حتى نواجه ما تبقى منها ونمنعها من الظهور من جديد.

أما من زاوية القيمة الفنية، فقد كانت لهذه الأشكال التعبيرية قيمة تعبوية تفوق قيمتها الأدبية والفنية باستثناء بعض الأمثلة من أدب المقاومة الفلسطينية والتي تتجاوز الحالة اللبنانية.

لقد انتقلنا اليوم من حالة الحرب الأهلية إلى حالة من السلام الباهت: الناس لا تتقاتل لكن لا توجد صيغة لإطار عام يجمع المثقفين اللبنانيين ويبني شيئا يمكن أن نسميه بثقافة السلام اللبناني الوطني.

نعم نحن نبني بلدنا ولدينا رئيس يحب أن يستخدم ثروته في السياسة وتعمير لبنان. لكن بلدنا اليوم ينبني على أساس شروط العولمة ولا نلمح فيها أي معالم من هوية عمرانية وثقافية خاصة بلبنان.

إن مثل هذه الشروط لا تتيح ظهور أشكال تعبيرية جديدة ذات هوية محددة على عكس ما حدث بالعراق ومصر من تكرار لظهور حركات ثقافية أو التكيف مع الأوضاع الجديدة بعد القطيعة مع النظام الملكي في العراق وبعد الثورة الناصرية ثم بعد النكسة في مصر.

نحن إذن نفتقد ذلك الإطار الجامع الذي يتيح الانتقال من مرحلة إلى مرحلة والتكيف معها والتعبير عنها. لذلك أنا لا أتفق مع مقولة حسن داوود بأننا نحتاج إلى "الفردية" في مواجهة الجماعة. فالفردية ليست هي الضامنة للإبداع كما أن الإجابة الفردية إجابة جزئية بينما يحتاج لبنان إلى إطار جامع يضمن التركيب والدمج بين أفراد الوطن إجابة جزئية بينما يحتاج لبنان إلى إطار جامع يضمن التركيب والدمج بين أفراد الوطن وجماعاته. وبدون هذا الإطار تبدو الثقافة اللبنانية بعد الحرب الأهلية فاقدة الاتجاه وبلا معالم.

د.محمد حافظ يعقوب:

هناك ظاهرة في العالم العربي كله، هي ظاهرة فك الارتباط السياسي. لا يعاني منها لبنان وحده.

أما موضوع الفرد والفردية فهو موضوع هام لأن لبنان، لأسباب تتعلق بميثاق 1943 وبتاريخه، ليس مجتمعا واحدا أو مندمجا وإنما هو امتداد أو مساحة تتجاور فيها الجماعات.

لذلك يبدو أن الفردية هي الطريق لإعادة تشكيل المجتمع اللبناني بالخروج على الجماعات وتكوين المواطن الحر الذي لا يدين لغير الدولة.

حسن داوود:

إن معضلة المعضلات فعلا في ظل التكوين الفئاتي الطائفي، أن تجد شيئا جامعا بينما في الفكر والأدب. نحن خلال الحرب كنا موزعين على المناطق ومتباعدين طائفة عن طائفة والآن فإن محاولات الدمج لا تتم بسهولة حتى أن طلاب المدارس التي تجمع المسيحيين والمسلمين من جديد، يديرون ظهورهم بعضهم لبعض. ما زال التركيب العشائري والطائفي هو الأساس حتى أن الأحزاب السياسية نفسها سرعان ما وجدت نفسها مضطرة لأن تندرج في كتلة من الكتل الطائفية السيطرة الكبرى.

لذلك أنا لا أعتقد أن البحث عن الفرد في لبنان من الأمور السهلة. قد يعتقد البعض أن الفردية خطوة انتقالية قد تحدث ببساطة لسلخ البشر عن نزعات كتلهم أو جماعاتهم التي كثيرا ما تتخذ أشكالا عدوانية تجاه الجماعات الأخرى. لكنني أحسب أن التحول نحو الفردية عمل نضالي حقيقي. وانطلاقا من هذه الفردية يمكن للأفراد أن يتفقوا على شكل من أشكال التكتل السياسي الاختياري. لكننا مازلنا اليوم في مرحلة التكتل ما قبل الاختياري.

وقد أثبتت التجارب أن أولئك اللذين كانوا قد انفصلوا عن جماعتهم قبل الحرب سرعان ما عادوا إلى جماعاتهم عندما اندلعت هذه الأخيرة. ففي غمار المعركة لا صوت يعلو على صوت الطائفة.

صبحي توما:

عادة، بالحروب التقليدية، عندما يحدث عدوان خارجي يقوي الشعور الوطني لدى الشعوب وينعكس ذلك في الحركة الأدبية. أما في حالة الحرب الأهلية في لبنان كانت الجماعات تحارب الجماعات ولا يشغلها العدو الخارجي. بالتالي السؤال: كيف يمكن الحديث عن مشروع ثقافي جماعي لبناني وطني بعد الحرب الأهلية وآثار هذه الحرب لم تزل تعمل في اتجاه الانقسام؟

أما المسألة "الفردية" والتي تبدو وكأنها مفتاح الحل بالنسبة للبنان فهي في الحقيقة ظاهرة عامة. فالفكر العالمي السائد يعمل باتجاه الفردية أكثر من الجماعية. وإذا كانت هناك خصوصية لبنانية فمصدرها أن الحرب الأهلية كانت بمعنى من المعاني حربا ضد الثقافة التي هي بالتعريف مجموع القيم التي توحد المجتمع وتعمل على تنشيطه. والنتيجة الظاهرة للحرب هي تدميرها للإطار الثقافي المشترك. فلا أعجب من ظهور الاتجاه الفردي في المرحلة الحالية.

حسن داوود:

تعليقا على ملاحظات الأستاذ صبحي توما أود أن أقول أنه للأسف يبدو أن العدوان الإسرائيلي المستمر على جنوب لبنان غير موحد للبنانيين، فهناك جماعات تنظر لإسرائيل على أنها قوة صديقة. وهذا يطرح مشكلة الجماعات بلبنان والبحث بعمق في مسألة الحس والشعور المشترك والإطار الثقافي العام. وأن لا نكتفي بالتلفيق القائل مثلا بأنه لا يمكن في لبنان أن يكون هناك أحد يحب إسرائيل.

هاشم صالح:

أود أن أعبر عن تقديري لتحليلات حسن داوود التي تتميز بالواقعية والصراحة وتتجنب التلفيقية والإيديولوجية. وربما كان ذلك مظهر من مظاهر التحولات الثقافية ليس في لبنان وحده ولكن في المشرق العربي بأكمله. فاللغة الإيديولوجية التلفيقية بدأت في التراجع وإن كانت ما زالت موجودة.

سؤالي هو هل ظهر في لبنان كتاب غاضب يعمل على تفكيك الإيديولوجيات الطائفية سواء المسيحية أم الإسلامية؟ إن مأساة الثقافة في المجتمعات العربية هي أنها مهددة ومحاصرة ليس فقط من الخارج ولكن من الداخل. بالتأكيد للخارج دوره في إذكاء نار الفتنة والحروب الداخلية لكن ما هي مسؤولية الداخل؟ لماذا نشعر نحن المثقفون بأننا عاجزون في هذه اللحظة عن تشخيص واقعنا بصراحة ولو كان ثمن ذلك القسوة على الذات؟

حسن داوود:

بينما كانت الحرب قائمة في لبنان كنا نتلقى اللوم من كتاب عرب يقولون لنا: أين أدب الحرب. والحرب جارية عندكم؟ كانوا في الحقيقة يستعجلون صدور هذا الأدب شأنهم شأن بعض دور النشر اللبنانية التي كانت تستعجل الاستفادة من الحرب وتطلب من بعض الروائيين أن يكتبوا رواية عن معركة المتحف أو غيرها من المعارك. ومع ذلك فمن زاوية أخرى، ما أشعر به هو أن أدب السلام كتب فعليا أثناء الحرب. فالرغبة في السلام كتبت في الحرب وهناك العديد من الاستشهادات على ذلك.

ومن جهة أخرى هناك العديد من الكتاب حاولوا تقديم بعض الجهود النظرية حول الحرب الأهلية ولا أملك إلا أن أرفع يدي تحية لأولئك الذين تصدوا للكتابة في مسائل حيوية كانت محفوفة بالأخطار ودفع بعضهم حياته ثمنا لذلك مثل مهدي عامل وحسين مروة ومصطفى جحا وغيرهم.

إن دور المثقفين في الحرب دور أساسي ونحن حين نتحدث عن بلد فيه هذا القدر من التناقضات أحسب أنه من الصعب أن نجد له إطارا فكريا ثقافيا كليا. ونحن بالتالي حين نقول مثلا إن الحالة الثقافية في لبنان قد انقلبت من كذا إلى كذا. ينبغي أن نعلم أننا لا نتكلم عن كيان كلي واحد ولكن عن جزء أو جزئية من هذا الكيان. فجنبا إلى جنب مع تعزيز الثقافة المقاتلة كانت هناك ثقافة أخرى باحثة عن السلام.

أما فيما يتعلق بثقافة السلام بعد الحرب الأهلية فهناك ملاحظة ذات معنى وهي أن اللبنانيين لم يتوصلوا بعد لتأليف كتاب عن تاريخ لبنان. والأستاذ فيصل جلول يعلم كيف أن هذا الموضوع هو أحد المواضيع الخلافية الأساسية بلبنان. نعم ربما جرى الاتفاق على تسوية سياسية تتعلق بالبرلمان والحكومة في اتفاق الطائف. لكن كي نستدل على مرحلية هذا الاتفاق وراهنيته أقول بأن التاريخ الذي هو مرجعية الماضي لم يجر الاتفاق عليه أبدا فكيف يتم الاتفاق على المستقبل؟

نائلة ناصر:

فيما يتعلق بمسألة "الفردية" أحسب أنها تتطلب أن يكون الروائي أو المثقف بشكل عام حرا. وكيف يكون الفرد حرا إذا وقف وحده وترك جماعته ولم يجد دولة وقانون يحميانه؟ نعم هناك العديد من الكتاب الذين خرجوا على جماعاتهم فحوربوا لأنهم عروا أنفسهم وعروا جماعاتهم لكنهم كانوا عزلا لا تحميهم دولة ولا قانون. من جهة أخرى ينبغي أن لا ننسى أن الجماعات في لبنان كانت مصدر غنى في الماضي ويمكنها أن تكون كذلك في المستقبل بما تحمله من خصوصية تغني وتميز في آن معا كتابات أفرادها.

أسامة خليل:

استكمالا لملاحظات الأستاذة نائلة ناصر أود أن أشير إلى ندوتنا السابقة حول رواية "المستغرب" للكاتب اللبناني هاني حمود والتي صدرت بالفرنسية هذا العام عن دار النهار. فقد حدثتنا أثناءها الروائية اللبنانية هدى بركات عن هذه النزعة الفردية في الأدب وكان واضحا لديها، وهو ما يبدو أيضا أنه موقف الأستاذ حسن داوود، أن مستقبل الأدب والثقافة متعلق بهذه النزعة الفردية.

وأنا أعتقد أنه بالإضافة لعنصر التأثر بالتقليعات الأوروبية في مجال الإبداع الفني، فإن مصدر هذه النزعة الفردية هو التمرد على الانتماءات الجماعية. بيد أنني ألاحظ أن هذا التمرد يجمع بين الجماعات الطائفية والأحزاب السياسية، ربما للتداخل بينها بتأثير أحداث الحرب الأهلية. لكن ينبغي أن يكون واضحا أن الجماعات الطائفية تنتمي للنسق التقليدي بينما تنتمي الأحزاب السياسية لنسق الدولة الحديثة وثقافة الفرد والمواطنة.

فالفردية ضد الطائفية ينبغي أن ترفع لواء المواطنة التي تضمن حرية الفرد بالنظام والقانون. وحين تشتد سطوة الدولة الحديثة إما بسبب الغلو في المركزية والتوتاليتارية وإما بسبب تفريغ الدولة من دورها الاجتماعي الراعي بحيث لا يبقى لها إلا السطوة والقهر، فإن الفرد سرعان ما يبحث عن مرجعية الطائفة والعشيرة ملاذا وبحثا عن قيمته النوعية وكرامته الإنسانية.

لذلك ليست لانتماءات الجماعية بشقيها السياسي والطائفي سلبية في كل الأحوال. وكثيرا ما يكون التعدد الطائفي مصدرا للثراء إذا ما استقر المجتمع على توازن ما.

سعد زغلول فؤاد:

تلقي المقاومة اللبنانية للعدو الإسرائيلي بالشريط الجنوبي المحتل إعجابا وتقديرا من الأخوة العرب. ولها تأثير كبير داخل إسرائيل حيث ظهرت أقلام تطالب بالانسحاب من لبنان, وأنا أتساءل عن تأثير هذه المقاومة في الأعمال الأدبية والثقافية اللبنانية بشكل عام. هل تبدو هذه المقاومة كمقاومة جماعة محددة أم تبدو كمقاومة المواطنيين اللبنانيين بشكل عام؟

جواد بشارة:

هل ثقافة ما قبل الحرب الأهلية تغلب فيها الجوانب الإيجابية على السلبية كما يبدو من هذا النقاش؟ وهل ثقافة الحرب كما قدمها الأستاذ حسن داوود سلبية تماما؟ وبالتالي تكون ثقافة ما بعد الحرب نوعا من الترميم لما سبق تدميره أو إعادة البناء لثقافة جديدة أفضل؟

وبالإشارة إلى ما ذكره الأستاذ أسامة خليل، أضيف: هل الإبداع الفردي خارج الأطر الحزبية والطائفية إيجابي بالفعل أم أنه مجرد تقليعة من إفرازات العولمة التي تعمل على السيطرة على المجتمعات بتفتيت الأطر الجماعية وتحويلها إلى مجرد أفراد يسهل توجيههم والتحكم في مقاديرهم؟

أنا أقول أن النزعة الفردية لا تنتج بالضرورة إبداعات رائعة. كما أن هناك الكثير من الإبداعات الرائعة الصادرة عن كتاب بوحي من انتماءاتهم الطائفية والحزبية. فالإبداع ليس بالضرورة رهن الانتماء أو اللاانتماء أو الولاء وانعدام الولاء.

حسن داوود:

نعم نحن نعيش في عصر رواج النزعة الفردية. نعم أجدنا متأثرين بما يقوله ميلان كونديرا عن الرواية بوصفها عملا فرديا.

وبالإشارة إلى أدب الجماعات قبل وأثناء وبعد الحرب: كان هناك كتاب الستينيات وأوائل السبعينات وكان هناك من يسمون بشعراء المقاومة الفلسطينية في لبنان وكان هناك فصيل من الشعراء يسمون بشعراء الجنوب والأديبة عالية ممدوح عاشت ذلك وتعرفه تماما وإن كان المدعوون كذلك رفضوا هذه التسمية.

أما إذا نظرنا الآن إلى ما تنتجه الجماعات اللبنانية فأنا ألاحظ أن أدب الموازنة عن أنفسهم يبدو إنجازا مارونيا وكذلك أدب السنة والشيعة.

وهذا يعيدنا من جديد إلى مسألة الإطار الثقافي والهوية والتاريخ.

لقد كتب المؤرخ اللبناني أحمد بيضون كتابا عن الخلاف حول تاريخ لبنان وهو دال شديد الدلالة على وجود قراءات متعددة بتعدد الطوائف لتاريخ هذا البلد. ليأتي واحدنا ليقول أين أنا كلبناني وسط هذا التنازع اللبناني اللبناني؟

لقد شاهدت بالأمس معرض لبنان بمعهد العالم العربي. وأعترف أنني شاهدت لأول مرة كل هذه العلامات من تاريخ لبنان مجتمعة من أيام الفينيقيين واليونان والرومان والعرب وصولا للمماليك. بالطبع هذا التاريخ يمكن صهره في بوتقة توحيد لكنه كما يبدو حاليا مجال تنازع وانقسام. ففي مصر على سبيل المثال، هناك هذه الاستمرارية وهذا التأليف بين العصور واكتشاف إثري فرعوني جديد لا يثير ما يثيره اكتشاف أثر فينيقي في لبنان. إذ تجد هناك من يقول نحن فينيقيون ليقوم البعض ضد النزعة الفينيقية باعتبار أنها معادية للعروبة والإسلام.

لكن بالرغم من هذه التناقضات هناك الآن في لبنان مجموعة كبيرة من الكتاب الأفراد المستقلين الذين يعملون بمختلف فروع الثقافة والذين يرتفعون فوق انتماءاتهم الطائفية ويتفقون حول ما أسميه بالشعور الوطني اللبناني. منهم إلياس خوري ورشيد الضعيف ومنهم هدى بركات في الرواية وعباس بيضون في الشعر. وإذا كنت قد قلت من قبل إننا نفتقد إلى صيغة للبنان يجدها الراغب في الانتساب إلى وطنه. فأنا أحسب أن هذه الكتابات هي حقل البحث عن هذه الصيغة وهذا ما يجعلني غير متشائم كلية.

عالية ممدوح:

أتفق معك على القول بأن هذا العرض للوضعية الراهنة للثقافة في لبنان هو دليل على ديناميكية الحالية اللبنانية.

لذلك يمكننا أن نتفاءل ليس فقط بما سوف يترتب على حالة السلام الأهلي الضعيفة الراهنة، ولكن أيضا بنتائج التنازع أيضا. فبالرغم من بشاعة الحرب وتدميرها فهي كثيرا ما تكون مصدر الإبداع في الموسيقى والفنون التشكيلية والآداب.

فيصل جلول:

إن الكاتب حين ينتج عملا إبداعيا لا يكون مقطوع الصلة بما حوله والمبدعون في تاريخ ما قبل الثورة الفرنسية لم يكونوا في نظري منقطعين الصلة عن محيطهم الاجتماعي. ولا أعتقد أنهم لذلك كانوا أقل أو أكثر حرية من حسن داوود وهدى بركات وعباس بيضون. فالفردية لا تستحق هذا الإعلاء المطلق خاصة وأنه تحت تأثير الفكر الغربي هناك فكرة غير محددة المعالم عن الفردية رائجة في أوساط المثقفين العرب مفادها أن العمل الإبداعي يتطلب قطع الصلات والتحرر من المحيط الثقافي والاجتماعي. المشكلة ليست في وجود 18 طائفة لبنانية ولكنها في عدم اندماج هذه الطوائف في لبنان. المهم هو البحث عن النظام الذي يسمح بدمج هذه الجماعات. كيف؟ يبقى السؤال مفتوح لكل منا أن يساهم في البحث عن إجابة له.

حسن داوود:

لا يختلف أحد في ضرورة توفير الحرية للأفراد لكي يختاروا، لكن الجماعات برأيي تجدد الحرب الأهلية كل فترة لتمنع الأفراد من هذا الاختيار. إن العنف الذي مارسته الجماعات على أبنائها لا يقل عن العنف الذي مارسته على الآخرين. الشاعر عباس بيضون يقول عن أحد الذين قتلتهم جماعته: "إن جماعته استردته حين قتلته". لذلك فأنا أرى أنه لا سبيل للمقارنة في مسألة الفردية بين ما يحدث في لبنان وما حدث في تاريخ المجتمعات الغربية.

فيما يتعلق بالإطار الثقافي العام: هناك محاولات على هذا الطريق مثل محاولة ميشيل شيحة لجمع المبعثر في لبنان. حيث يعرف لبنان بأنه "وطن الأقليات المضطهدة التي جاءته عبر التاريخ لائذة لتقيم فيه" هذه نظرية موحدة لا تجعل جماعة تستأثر بالحق دون جماعة أخرى. هناك أيضا جورج نقاش الذي قال "إن لبنان كيان تعاقدي قائم بين متعاقدين على نفيين". المسلمون يؤجلون حكم العرب والمسلمين، والمسيحيون يؤجلون حكم أوربا، فكانت النتيجة أن قام الكيان اللبناني. هذا التعريف التعاقدي هو صميم مفهومنا عن بلدنا. وهو في تضارب تام مع رغبة الجماعات الطائفية في الاستئثار. كما يتعارض في الثقافات التحتية الفرعية التي أينعت وازدهرت بفعل الحرب والتي تبين للأسف أنها أكثر عضوية وأشد التحاما بجماعاتها من الإطار الثقافي الحديث العام الذي نبحث عن صياغته.

أسامة خليل:

يبدو لي أن الفردية في الأدب اللبناني الراهن هي تمرد الفرد ضد الجماعة. وهو تمرد أميل إلى تسميته باللهجة المصرية بالـ"فردانية" ولا أعتقد أن هذه النزعة تتطابق تماما مع مفهوم الفردية الحديث الذي يعطي الفرد قيمة اجتماعية ويربطه بالدولة والثورة الصناعية والبورجوازية. فالفردية غير المبتورة تواجه الانتماءات القبلية والعشائرية والطائفية داخل إطار واضح ومحدد من الولاء لنظام ولمؤسسة الدولة التي تحل لدى الأفراد المواطنين في مقام "الأمة" بدلا من الطائفة والعشيرة.

وطالما ظلت الشروط التاريخية والجغرافية تحافظ على تكوين لبنان من جماعات متجاورة غير مندمجة، وطالما ظل المفهوم التعاقدي للبنان في دور الحلم والتمني. تبقى النزعات الفردية نزعات مبتورة أشبه بتمرد الشباب على الأسرة بحثا عن الهواء الطلق.

صبحي توما:

أعتقد أن النزعات الطائفية لا تظهر وتشغل الساحة إلا عند فشل المشروع السياسي، ونظرة لتاريخ الفكر العربي لحديث تبين أنه قد شغلته ثلاث إيديولوجيات لا تعطي قيمة للوطن والوطنية: الماركسية والقومية والإسلامية. فالإيديولوجيا القومية لا تعترف بالدول العربية كأوطان. والإيديولوجيا الماركسية الوطن لديها ثانوي بالقياس إلى الأممية، والإيديولوجيا الإسلامية تغلب الأمة على الأوطان. لذلك كانت النتيجة هي ضعف الشعور بالهوية. وبالتالي أنا لا أستغرب من عدم اتفاق اللبنانيين على كتابة تاريخ لبنان، فحتى الجانب المعنوي والرمزي للوطن يظل موضوع تساؤل.

حسن داوود:

أود أن أجيب على بعض ملاحظات سابقة، منها ما يتعلق بالجماعات الطائفية والأحزاب السياسية، أنا جمعت بينها بسبب تاريخي فقط وهو ما ارتكبته الأحزاب السياسية من خطأ فادح وما تورطت فيه من انتماءات طائفية. لكنني أتفق مع الأستاذ أسامة خليل في التمييز بين الطوائف التقليدية والأحزاب الحديثة فالانتماء إلى الأحزاب انتماء فردي اختياري بينما لا خيار لي إن ولدت ضمن عشيرة أو طائفة معينة.

ولعل استخدام توصيفات التقليدية والحداثة يقودنا إلى مسألة تاريخ الأدب أو الثقافة العربية إذا جاز هذا التعبير.

أحسب أن تاريخ الثقافة العربية لا يتقدم في مسار متراكم ولكنه نثار من الطفرات التي سرعان ما يصيبها الزوال. أين بدر شاكر السياب من حالة الشعر العربي ومن ذاكرة الشعراء الشباب؟ إن نجيب محفوظ ينتمي اليوم إلى تراث تاريخي انتهى وهو ما يزال على قيد الحياة. لذلك ربما لا يجوز الحديث عن تاريخ الثقافة العربية الحديثة فالحداثة العربية ليس لها تاريخ وهي تبدو كحلم ولى أو كبارقة لاحت ثم راحت في الزوال.

لعل ذلك يدعونا إلى النظر في الجماعات وظاهرة العجز عن تشكيل نظام اجتماعي مشترك يشكل قاعدة لتكوين واستمرار نسق ثقافي حداثي.

محمد حافظ يعقوب:

لم تستمر الحداثة لأنها كانت سياسية المصدر ولم تكن لها قواعد اجتماعية راسخة.

أسامة خليل:

أنا أتفق مع محمد حافظ يعقوب.

وربما كان من المفيد في نهاية هذه الندوة أن نربط بين الأبعاد الاجتماعية للنسقين التقليدي والحداثي وبين رواية "بناية ماتيلد" التي ترجمت للغة الفرنسية والتي أعتبر أن حسن داوود يقدم فيها التعبير الرمزي عن التحولات الثقافية ليس فقط في العاصمة اللبنانية ولكن في العالم العربي بأسره. فبناية ماتيلد هي صرح الحداثة الثقافية المدينية المختلطة العناصر والفئات والمنفتحة على الآخر. راحت تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد تفريغها من ساكنيها المدينيين المختلطي الأصول. لتحل محلهم فئات أهلية تقليدية تسكنها سكنا عشوائيا، وتقتل بالرمز ما تبقى من فلول مجتمع المدينة كما قتلت بالفعل ماتيلد ومثلت بجسدها.

ـــــــــ

 هوامش:

1 - Heidegger (M), Questions IV. nrf Gallimard, 1976, p.118

2 - Derrida (J), marges de la philosophie, ed. de Minuit, 1972, p.17.

3 - Freud (S), nouvelles conférences sur la psychanalyse, idées - Gallimard, 1936, p.101-105.

4 - Ibid, le rêve et son interprétation, idées - Gallimard, 1925, p.53.

5 - Heidegger (M), Sérenité, in QIII, nrf, Gallimard, 1966, p.190.

6 - ibid, p.209.

7 - Questions IV, ed. Gallimard, 1976, p.127.

8 - Questions IV, ed. Gallimard, 1976, p.127.