أثر الزكاة في تقوية الروابط
الاجتماعية
إدريس حمادي
عند
التأمل في هذا العنوان نجد أنه يطرح قضيتين: قضية تتمثل في أن هناك روابط اجتماعية
موجودة مذ وجد الإنسان، وقضية أخرى تتمثل أيضا في أن الزكاة إنما شرعت -من جملة ما
شرع- لتقوية هذه الروابط ورفع الخلاف بين البشر.
1
- بالنسبة للقضية الأولى لن يحتاج الباحث إلى كبير جهد لإثبات أن الإنسان اجتماعي
بطبعه وأن كل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك لأنه كما يقول الإمام محمد عبده وهو
يفسر قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين
وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه…"(1)
الآية: مذ خلق الله الإنسان "خلقه أمة واحدة أي مرتبطا بعضه ببعض في المعاش
لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله لهم
إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض، فكل واحد منهم
يعيش ويحيا بشيء من عمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفية جميع ما يحتاج
إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته فيستعين بهم في بعض شأنه كما
يستعينون به في بعض شأنهم، وهذا الذي يعبرون عنه بقولهم: الإنسان مدني بالطبع،
يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته، بل قدر له أن
تكون منزلة أفراده من الجماعة منزلة العضو من البدن، لا يقوم البدن إلا بعمل
الأعضاء، كما لا تؤدي الأعضاء وظائفها إلا بسلامة البدن"(2).
غير
أن الإنسان الاجتماعي بطبعه بحكم خاصية الاستخدام التي ركبت في طبعه لتحقيق كماله
الإنساني، حيث نراه يستخدم المادة ويعمل منها الآلات، ويستخدم أنواع النباتات
بالتصرف فيها غذاء ولباسا وسكنى، ويستخدم الحيوانات فينتفع من لحمها ولبنها وجلدها
ونتاجها، بل هو "يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين… كل استخدام ممكن ويتصرف
في وجودها وأفعالها بما يتيسر له من التصرف"(3)، وبحكم أن في
أفراده الأقوياء وأولو السلطة وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم، بحكم ذلك ينشب بين
أفراده خلاف يؤدي إلى التغلب والتغالب مثلما يؤدي إلى أن "يستفيد القوي من
الضعيف أكثر مما يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه، ويقابله الضعيف
المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة فإذا قوي وغلب قابل ظالمه
بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج وداعيا إلى هلاك
الإنسانية وفناء الفطرة وبطلان العادة"(4).
وهكذا
يكون هذا الإنسان من جهة مفطورا على الاجتماعي، ومن جهة أخرى يكون مفطورا على
الخلاف بحكم قريحة الاستخدام التي هي مركوزة في طبعه "فلا الإنسان انصرف في
حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى
بحياة فردية، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع… بفطرته
وعقله الذي يعده عقلا سليما"(5). ولما كان الأمر كذلك كان من لطف
الله ورحمته بعباده أن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين "وينزل معهم الكتاب
ليبين لهم طريق السعادة ويحفظ لهم الوحدة ويرفع الاختلاف والتزاحم بينهم، ويسهل
لهم الاستفادة من مزايا الحياة"(6) فكان لهم ذلك النظام الذي
عجزوا عن الاتفاق على تحديده رغم احتياجهم إليه.. "شرع لكم من الدين ما وصى
به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا
تفرقوا فيه"(7).
2
- هذا ولما كانت الزكاة من جملة ما شرع من القوانين لحفظ الوحدة ورفع الخلاف فإنه
يمكن أن نطرح سؤالا وهو: كيف تحقق الزكاة هذه الوحدة؟ أو كيف تساهم في رفع الخلاف
بين بني الإنسان؟
قبل
الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نشير بإيجاز إلى أن الإسلام عموما "قد وضع
قانونه على أساس التوحيد ثم في المرتبة التالية، على أساس الأخلاق الفاضلة، ثم
تعرض لكل يسير وخطير من الأعمال الفردية والاجتماعية كائنة ما كانت، فلا شيء مما
يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الإنسان إلا وللشرع الإسلامي فيه قدم أو أثر قدم، فلا
مجال ولا مظهر للحرية"(8) الخادمة للغرائز والعائدة إلى حضيرة
الاختلاف، بالإضافة إلى ذلك هناك الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة
وحدودها، وهناك العلماء ورثة الأنبياء، وأولو الأمر القائمون بفريضة الدعوة إلى الخير
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بعد
هذه الإشارة العابرة نعود للإجابة عن السؤال الذي طرحناه من قبل وهو كيف تساهم
الزكاة في رفع الخلاف بين بني الإنسان فتغذي الوحدة التي كانوا عليها في فجر
حياتهم؟
عند
التأمل في الآيات المتعلقة بالزكاة المتمثلة في قوله تعالى: "والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار
جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم
تكنزون"(9) وقوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل
فريضة من الله والله عليهم حكيم"(10) وقوله سبحانه: "خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم،
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب
الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون وستردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون"(11) يجد أن هذه الآيات قد
اعتمدت ثلاثة مسالك أو ركائز في تحقيق هذا الغرض، غرض رفع الخلاف وتعزيز أواصر
الوحدة: مسلكا اقتصاديا يتم عن طريقه سد حاجات الإنسان المادية من مأكل ومشرب
وملبس ومسكن وزواج.. ومسلكا تربويا يتم عن طريقه إشباع الحاجات المعنوية ليرتفع
الإنسان من مستوى الحيوان الأعجم إلى مستوى الإنسان بكل ما تحمله معنى الإنسانية
من تعقل وقيم أخلاقية… ومسكلا عمليا إنجازيا يتحقق عن طريقه ذلك الإشباع المادي
والمعنوي.
أ
- في المسلك الاقتصادي نجد أول خطوة يبدأ بها في هذا المسلك هي: تحديد مصدر أموال
الزكاة ومواضع الإنفاق فقال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة" وقال سبحانه:
"إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها.." الآية. ولما كانت
الآيتان دالتين على أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء كان المنطق يفرض
أن يحدد مفهوم الغني، مفهوم الفقير ومن يلحق به، وهنا نجد العلماء كعادتهم في
تحديد المفاهيم أو تحقيق المناط ينهجون نهجا خاصا يتمثل في تحديد طرفي القضية
المتضادين الواضحين اللذين لا يحتاجان إلى نظر واجتهاد، ثم بعدهما ينظرون في
الوسائط التي تقع بين الطرفين والتي هي موضع الاجتهاد ليتم إلحاقها بهذا الطرف أو
بذاك بمعنى، أن اجتهاد علماء الشريعة في تحديد مفهوم الغني من المنظور الإسلامي
يأخذ ثلاث مستويات:
ـ
مستوى أدنى وهو الذي لا يملك شيئا، روي عن النبي (ص) في تحديد الحد الأدنى من
الغنى أنه "نهى عن السؤال مع الغني فسئل عن غناه فقال صلى الله عليه وسلم:
غذاؤه وعشاؤه"(12) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من
سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه فقيل يا رسول
الله: وما الغنى؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب"(13) وروى
عطاء بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم قال: من سأل وله أوقية فقد ألحف في
السؤال"(14) "والأوقية عند أهل الحجاز أربعون درهما"(15).
وبذلك
يتضح أن الحد الأدنى من الغنى هو أن يملك الإنسان غذاءه وعشاءه أو يملك أربعين أو
خمسين درهما، أو بعبارة أخرى يملك ما يغنيه عن المسألة، لأن "المسألة إنما
تكون مع الضرورة ولا ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة"(16)
وهذا المستوى من العيش وإن كان لا يخول لصاحبه المسألة، وكان صاحبه ينعت بالغنى، فإنه
ليس مصدرا للزكاة بالقطع بل هو موضع إنفاقها بالقطع.
ـ
ومستوى أعلى وهو الذي يملك صاحبه فوق ما تحصل به الكفاية أو بتعبير آخر: قال
الإمام الخطابي: "وقال مالك والشافعي لا حد للغنى معلوم"(17)
وهذا دون شك مصدر للزكاة قطعا إذ هو المعني بقوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة"
وبقوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا معاذا رضي الله عنه: "فأخبرهم أن الله قد
فرض عليهم صدقة تؤخذ من إغنيائهم فترد على فقرائهم.."(18).
ـ
ومستوى بين هذا وذاك وهو الذي يملك صاحبه نصاب الزكاة ولكن النصاب لا يسد حاجاته
الأصلية، أو يملك قليلا من المال مع كسب متجدد يجعله في غنى، فإن أمثال هؤلاء هم
محط اجتهاد الفقهاء. خلاصة: أن من يملك نصابا معينا وهو محتاج إليه لطعامه أو
كسوته أو سكناه أو علاجه أو لحاجة أهله وولده لا يعد غنيا وإن كان يملك نصابا، إذ
كثير من "المحققين اعتبروا المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم"(19)
في حين رأى كثير منهم أن من يملك قليلا من المال وهو في كسب متجدد يفوق حاجاته
الأصلية يكون في حكم الغني تؤخذ منه الزكاة، ولعل هذين الصنفين هما المشار إليهما
بقول الإمام الشافعي: "قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسب، ولا يغنيه الألف
مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله"(20) ذلك لأن معيار وجوب الزكاة هو
الغنى والنعمة.
هذا
عن الغني أما عن الفقير فقد قالوا تبعا للمنهج المتبع في تحقيق المناط أعني تحديد
الأطراف التي لا تحتاج إلى نظر ثم النظر في الوسائط: "إن من الناس من لا شيء
له، فيتحقق فيه اسم الفقر... ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا،
وبينهما وسائط كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له فينظر فيه: هل الغالب عليه حكم
الفقر أو حكم الغنى؟"(21) بمعنى أن الشخص إذا كان لا يملك شيئا أو
كان يملك دون النصاب أو يملك أكثر من النصاب ولكنه في حكم الفقير لكثرة عياله مثلا
فإنه يكون من جملة المواضيع التي تنفق فيها الزكاة.
ولما
كان موضع إنفاق الزكاة ليس بقاصر على صنفي الفقراء والمساكين بينت الآية جميع
الأصناف المستحقة للزكاة بقوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها.." الآية، مرتبة في الاستحقاق ترتيب الأهم فالمهم بالرغم من
أن هذا الترتيب ليس المقصود منه "أن كل صنف يحجب من دونه حجب حرمان أو نقصان،
كترتيب الوارثين وإنما يظهر اعتباره في حال قلة المال. فالمتجه حينئذ أنه يقدم فيه
الأهم وهم الفقراء والمساكين"(22).
ـ
والخطوة الثانية التي تأتي بعد تحديد الفئة الغنية الفئة الفقيرة هي تحديد العلاقة
التي يجب أن تنتظم الفئتين داخل المجتمع الإسلامي، إن العلاقة بين الفئتين إذا
كانت قائمة عبر التاريخ على التضاد والتصادم والقهر والإذلال وانتقام المقهور
بمختلف وسائل الانتقام، بمعنى أن "الباحث -على حد تعبير العلامة محمد فريد وجدي-
في أية أمة من الأمم أجال نظره وجد طبقتين من الناس لا ثالث لهما: الطبقة الموسرة،
والطبقة المعسرة، ووجد بإزاء هذا أمرا جديرا بالملاحظة وهو أن الطبقة الموسرة
تتضخم إلى غير حد، والطبقة المعسرة لا تفتأ تهزل حتى تلتصق بأديم الأرض معيية
رازحة فيتداعى البناء الاجتماعي، لوهن أساسه، وقد لا يدري المترفون من أي النواحي
خر عليهم السقف"(23) فإن مثل هذه العلاقة المؤسسة على الأنانية
وحب الذات وعلى الجمع والكنز للمال وحرمان الآخر من تداوله، مرفوضة رفضا قاطعا
عبرت عنه الآية بقوله تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في
سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم
وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"(24) إذ
مدلول الكنز في قوله تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة" هو ما يفسر
بقوله تعالى لاحقا: "ولا ينفقونها في سبيل الله" وبمقابله أيضا في قوله
تعالى: "وهذا ما كنزتم لأنفسكم"، وبذلك تكون الآية من جهة قد دلت
"على أن الذي يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكف عن انفقاه في سبيل الله إذا
كان هناك سبيل.
وسبيل
الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقف عليه قيام دين الله على ساقه وأن
يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد وجميع مصالح الدين الواجب حفظها، وشؤون مجتمع
المسلم التي ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت، والحقوق المالية الواجبة التي أقام بها
صلب المجتمع الديني، فمن كنز ذهبا أو فضة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة فقد كنز
الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله فليبشر بعذاب أليم".
ودلت
أيضا من جهة أخرى على أنه سبحانه وتعالى إنما وجه العتاب إليهم "لكونهم خصوه
بأنفسهم وآثروها به فيما خانوا حاجتها إليه على سبيل الله الذي به حياة المجتمع
الإنساني في الدنيا والآخرة" بمعنى أن الآية "إنما تنهى عن الكنز لهذه
الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام
الحاجة إليه".
وبذلك
تكون الآية بمجملها "ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الإنفاق في
الحقوق المالية الواجبة، لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها وغيرها من كل
ما يقوم عليه ضرورة المجتمع الديني من الجهاد وحفظ النفوس من الهلكة ونحو
ذلك"(25).
إن
الإسلام يرفض مثل هذه العلاقة التصادمية المفضية إلى التباغض والتحاسد وتفكك أركان
المجتمع وكيانه، ويؤسس علاقة اجتماعية قائمة على التواد والتراحم والتعاون أو
بعبارة أخرى قائمة على التكافل الاجتماعي الذي عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم
في جوامع كلمة بهذه العبارة البليغة "المومن كالبنيان يشد بعضه بعضا"(26)
وبقوله أيضا صلى الله عليه وسلم: "مثل المومنين في توادهم وتراحمهم كمثل
الجسد إذ اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(27)
أو بقول بعضهم: إن ما "يقصد بالتكافل الاجتماعي في معناه اللفظي أن يكون آحاد
الشعب في كفالة جماعتهم، وأن يكون كل قادر أو ذي سلطان كفيلا في مجتمعه يمده
بالخير، وأن تكون كل القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية في المحافظة على مصالح
الآحاد، ودفع الأضرار، ثم في المحافظة على دفع الأضرار عن البناء الاجتماعي،
وإقامته على أسس سليمة"(28).
ـ
الخطوة الثالثة أن هذه العلاقة يجب أن تجسد في واجبات تفرض على الأغنياء في
أموالهم لترد على الفقراء، وتتمثل هذه الواجبات فيما أطلق عليه الإسلام فريضة
الزكاة التي هي عبارة عن حق معلوم للفقير في مال الغني، بمعنى أن "المال الذي
تجب فيه الزكاة يكون شركة بين الفقراء يمثلهم ولي الأمر وبين أصحاب الأموال… ولهذا
قرر الفقهاء أن المال إذا وجبت فيه الزكاة لا يجوز بيعه، وإذا باعه صاحبه يكون
بيعه باطلا لأنه بوجوب الزكاة صار غير مالك للمال كله، فإذا باعه فقد باع ما يملك
مع لا يملك، والبيع على هذا الوجه يكون باطلا عند هؤلاء، وقد قرر ذلك الشافعي
وأحمد بن حنبل، وقرر جمهور الفقهاء أنه إذا مات الشخص ولم يؤد الزكاة كانت الزكاة دينا
متعلقا بالمال يقدم سداده من هذا المال على سائر الديون، وذلك إذا كان المال الذي
وجبت فيه الزكاة ما زال قائما فإن استهلك في غيره أو تصرف فيه كان دين الزكاة يثبت
في التركة كلها، وهذا رأي الشافعي وأحمد ومالك.
والشافعي
وأحمد قد قالا إنه يكون متعلقا بالتركة ولو لم يوص الميت بأدائه، وقال مالك: يؤخذ
من التركة إن أوصى به، ولكن عند أخذ الدين لا يعتبر وصية ولذلك يؤخذ الدين من كل
المال لا من ثلث التركة"(29).
هذا
عن كونه حقا أما عن كونه معلوما فنجد السنة النبوية قد قدرته بربع العشر في
النقدين وعروض التجارة، وبالعشر أو نصف العشر في الغلات، وبمقادير مختلفة في
الأنعام معروفة في كتب الحديث والفقه.
والمتأمل
في هذا الحق يجده -من جهة- قد روعيت فيه عدة اعتبارات يجملها الإمام الدهلوي في
حجته البالغة بقوله: "مست الحاجة إلى تعيين مقادير الزكاة، إذ لولا التقدير
لفرط المفرط، ولاعتدى المعتدي، ويجب أن تكون غير يسيرة ولا يجدون بها بالا ولا
تنجع من بخلهم، ولا ثقيلة يعسر عليهم أداؤها، وإلى تعيين المدة التي تجبى فيها
الزكاة، ويجب ألا تكون قصيرة يسرع دورانها فتعسر إقامتها فيها، وألا تكون طويلة لا
تنجع من بخلهم، ولا تدر على المحتاجين والحفظة إلا بعد انتظار شديد، ولا أوفق
بالمصلحة من أن يجعل القانون في الجباية ما اعتاده الناس في جباية الملوك العادلة
من رعاياهم، لأن التكليف بما اعتاده العرب والعجم، وصار كالضروري الذي لا يجدون في
صدورهم حرجا منه، والمسلم الذي أذهبت الألفة عنه الكلفة أقرب من إجابة القوم وأوفق
للرحمة بهم"(30) ثم من جهة أخرى يجده كافيا لبناء مجد الإسلام،
يقول العلامة محمد رشيد رضا: "قدر الثروة القومية في النقد والتجارة للشعب
المصري، وانظر مقدار ربع عشرها الواجب دفعه في كل عام لفقرائها ومصالحها، وارجع
البصر إلى سائر أنواع الزكاة ومقاديرها، تعرف قدر سعادته إذا وضعها في مواضعها،
وتعلم صدق ما قلناه في تفسير آية مصاريف الصدقات، من أن أداء الزكاة وحده كاف
لإعادة مجد الإسلام الذي اضاعه المسلمون"(31).
ب
- هذا عن المسلك الاقتصادي أما عن المسلك التربوي الذي تحققه الزكاة فيمكن رصده من
جهتين: جهة الفئة الغنية وجهة الفئة الفقيرة.
ـ
بالنسبة للفئة يلاحظ أن المتأمل في قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم، والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو
يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى
الله عملكم ورسوله والمومنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم
تعملون"(32) يدرك أن التزكية المرجوة التي هي النماء الكثير
والتسابق في الخيرات والارتقاء عن طريقها إلى أعلى الدرجات لا تحصل إلا بمعطيين:
معطى أخلاقي ومعطى عقائدي.
ـ
أما المعطى الأخلاقي فهو المعبر عنه بالتطهير والتزكية في الآية، إذ "التطهير
إزالة الأوساخ والقذارات من الشيء ليصفى وجوده ويستعد للنشوء والنماء وظهور آثاره
وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات، كالشجرة
تقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموها وجودة ثمرها، فالجمع بين التطهير
والتزكية في الآية من لطيف التعبير"(33) أو بعبارة أخرى إن في
قوله تعالى: "تطهرهم" إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات وقوله:
"تزكيهم" إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات، ولا جرم أن التخلية
مقدمة على التحلية، فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب
العظيم"(34).
والفقهاء
يذكرون في هذا المقام مقام التطهير والتزكية: أن الزكاة تطهر من رجس الشح والبخل
فتجعل صاحبها من جهة "يستعلي على نوازع الآثرة والأنانية في نفسه وينتصر على
نزعة الشح ببواعث الإيمان"(35) والشح من المهلكات، قال الرسول
(ص): "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه"(36)
ومن جهة أخرى يتحرر من ذل التعلق بالمال والخضوع له "فإن الإسلام يحرص على أن
يكون المسلم عبدا لله وحده، متحررا من الخضوع لاي شيء سواه، سيدا لكل ما في هذا
الكون من عناصر وأشياء"(37).
ثم
في الوقت نفسه هي تزكية للمعطي بتدريبه على خلق البذل والإنفاق فإن "المسلم
الذي يتعود الإنفاق وإخراج زكاة زرعه كلما حصد، وزكاة دخله كلما ورد، وزكاة ماشيته
ونقوده وقيم أعيانه التجارية كلما حل عليها الحول، ويخرج زكاة فطره كل عيد من
أعياد الفطر.. هذا المسلم يصبح الإعطاء والإنفاق صفة أصيلة من صفاته، وخلقا عريقا
من أخلاقه"(38) والمسلم "الذي يعتاد الإنفاق مما بيده لغيره،
والبذل من ملكه مواساة لإخوانه ومساهمة في مصالح أمته، يبعد أشد البعد أن يعتدي
على مال غيره ناهبا أو سارقا، فإنه ليصعب على من يعطي من ماله ابتغاء رضا الله، أن
يأخذ ما ليس له، ليجلب على نفسه سخط الله"(39).
ـ
أما المعطى العقائدي فالذي يفصح عنه من الآية ذاتها هو قوله تعالى: "وصل
عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم، ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن
عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم
ورسوله والمومنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون"،
إذ المتأمل في الآية يجد أن المعطى العقائدي يتجلى بأبعاده الثلاثة: الألوهية
-والنبوة- والمعاد.
فالألوهية
تتجلى في هيمنة الله سبحانه وتعالى على الدعوات بالرغم من صدورها عن الرسول(ص)
"وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم"، وهيمنته على أخذ
الصدقات وقبوله التوبة عن عباده بالرغم من إعطائهم إياه للرسول وطلبهم التوبة منه،
ثم إن رؤية أعمالهم وإن كانت مشاهدتها تتم عن طريق الرسول والمومنين فإن الله من
ورائهم محيط يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. أما النبوة فتتجلى في حضور الرسول
صلى الله عليه وسلم ووسطيته بين الله وبين خلقه فهو الذي يتولى الصلوات عليهم
لتسكن نفوسهم وتطمئن، وهو الذي يراقب أعمالهم -ومعه المومنون- "فكأنه قيل: إن
كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق
وهو الرسول والمومنون"(40) مثلما تتجلى في إضافة أخذ الزكاة إليه
صلى الله عليه وسلم "إذ المقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث أن
أخذ الصدقة جار مجرى أن يأخذها الله، ونظيره قوله تعالى: "إن الذين يبايعونك
إنما يبايعون الله" وقوله: "إن الذين يوذون الله" والمراد منه
إيذاء النبي عليه السلام"(41).
وأما
البعد المعادي فيتجلى في قوله تعالى: "وستردون إلى عالم الغيب والشهادة
فينبئكم بما كنتم تعملون" إذ معنى الآية "يعرفكم أحوال أعمالكم ثم
يجازيكم عليها، لأن المجازاة من الله لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف، ليعرف كل
أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم، فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر،
وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر"(42).
وهكذا
يتجلى أن كل عمل مرهون بأخلاقيته، وأخلاقيته مرهونة بالعقيدة، إذ بدون الأخلاق
والعقيدة يفقد العمل مدلوله الاجتماعي.
ـ
هذا عن الفئة الغنية أما عن الفئة الفقيرة فيلاحظ أن هذه الفئة وإن كانت مهيأة
للحقد والحسد والعداوة بفقرها وبالتباعد الحاصل بينها وبين الفئة الغنية في
المعيشة على كافة المستويات فإن الإسلام مع ذلك قد فتح أعينها على حقيقة ثابتة في
الوجود وهي أن الناس مذ كونوا مجتمعاتهم كانوا مختلفين فقرا وغنى فلا مطمح لمحو
الفقر. "لا يمكن أن يزول الفقر من الوجود إلا إذا اتحدت القوى واتحدت أسباب
الرزق، واتحدت الأجواء المادية والفكرية التي تظل المنتجين وأن الناس في ذلك متفاوتون
في قواهم تفاوتا كبيرا، ولذلك ورد عن النبي (ص) أنه قال: "الناس كإبل، مائة
لا تجد فيها راحلة" فالممتازون امتيازا مطلقا في تفكيرهم وقواهم بشكل عام،
نادرون وهم أعلى القمة، ومن دونها أوسع منها قليلا، ثم يتسع المقدار كلما قاربنا
السفح وسطح الأرض"(43).
لكن
بالرغم من أن "الفقر والغنى حقيقتان ثابتتان في الوجود الإنساني"(44)
وبالرغم من أن الإسلام يعترف بهما فقد قال سبحانه وتعالى: "نحن قسمنا بينهم
معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا
ورحمة ربك خير مما يجمعون"(45) حيث ترتب عن هذه القسمة الفقر
والغنى فإنه مع ذلك ما كان ليفسح المجال أمام الطبقية لتنمو وتترعرع، فتتضخم طبقة
على حساب طبقة أخرى يكون لها نظام وللأخرى نظام، لعلمه أن الطبقية "تقطع
الجماعة وتلقي بالحقد في نفس الفقير، ووراء الحقد التمرد على النظام بالسرقات والاختلاس
والاعتصاب وقطع الطرق، وقد يمتد الأمر إلى قلب النظام الاجتماعي راسا على
عقب"(46) ومن ثم فهو يشرع أحكاما في النظام الاقتصادي كالأحكام
المتعلقة بالفيء والغنيمة والإرث والنفقات والزكاة… تصب كلها في اتجاه واحد هو
توزيع الثروة على مختلف الشرائح الاجتماعية كيلا يكون المال دولة بين الأغنياء
فقط، عن طريقها يحد من تضخم الفئة الغنية ومن هزال الفئة الفقيرة، ويخفف من
الفوارق الاجتماعية، ويمد الجسور بين الأغنياء والفقراء، ليحقق نوعا من التوازن
والتزاوج بين الفقر والغنى، به يرسي قواعد العدالة الاجتماعية التي طالما تطلعت إليها
النفوس عبر تاريخها الطويل، باعتبار أن "العدالة الاجتماعية ليست موجبة إلغاء
الفقر في هذا الوجود بل هي توجب تخفيف ويلاته النفسية والمادية، فلا يحقد الفقير
فيكون الخراب ولا يحرم من القوت والكساء والإيواء فتضيع قوى عاملة كان يمكن أن
تعمل وتدر على الجماعة بعملها خيرا وتدفع عنها وعن نفسها ضرا"(47).
إضافة
إلى ذلك فإنه لم يختصر حقيقة الحياة في الفقر والغنى فيجعل منها معيار الارتقاء
والنزول فيعرج الناس أو ينزلون على ضوئها الدرجات والمنازل، وإنما الفقر والغنى
عاملان فقط من العوامل التي قد تصعد بالإنسان أو تنزل به، بمعنى أن الناس وإن
تفاوتوا في ميعشتهم الدنيوية، واختلفت درجاتهم فيها، فكان منهم الغني والفقير فإن
هذا التفاوت لن يكون هو المرتكز الوحيد لاختلاف الدرجات في المجتمعات، بل إلى
جانبه توجد مرتكزات أخرى، لعلها أكثر أهمية من مرتكز المال من حيث كانت تفضي إلى رفع
الدرجات دنيا وأخرى كما ترشد إلى ذلك الآية، كالإيمان مثلا "ومن ياته مومنا
قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا"(48) والعلم النافع
"يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"(49)
والعمل الصالح "الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المومنون
حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"(50) "وفضل الله
المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا
رحيما"(51) وبذلك تكون الآية وغيرها قد دلت الفقراء مثلما دلت
الأغنياء على طرق أخرى غير طريق المال لرفع الدرجات، كما دلتهم على أن الاختلاف
عموما بين أفراد الناس في معيشتهم فقرا وغنى، صحة وسقما، فطنة وغباوة، علما وجهلا،
جبنا وشجاعة.. إنما كان من أجل تحقيق غاية محددة في هذه الحياة، هي التعايش عن
طريق نوع من الاختصاص الذي من شأنه أن يكفل لكل فرد من النوع البشري، أن يأخذ ويعطي،
إذ لو "سوى بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا، ولم يصر أحد منهم
مسخرا لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدنيا"(52)
مثلما يفضي إليه لو وقع التباعد البين بينهم.
وهكذا
ينطلق المجتمع بجميع فئاته يحقق الغايات التي كان من أجلها الاستخلاف، واضعا نصب
عينيه قوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله
عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا"(53)
فلا قهر ولا إذلال ولا عداوة ولا شعور بالفرقة والتنازع وإنما هو التآلف والتساكن
والأخوة في مجتمع يستظل بتعاليم الإسلام وأحكامه، يرى فيه المسلم الغني من جملة ما
يرى أن إسلامه لا يصح، وأن إيمانه لا يتم، إلا بإخراج الزكاة عن طيب نفس يقصد بها
مرضاة الله، مثلما يرى فيه المسلم المحتاج وقد أخذ الزكاة أنها حق له في مال الله
الذي استخلف فيه بعض عباده، فلا منة ولا أذى ولا مسكنة ولا هوان.
ج
- أما عن المسلك الثالث الذي هو المسلك الإنجازي أو التطبيقي فيلاحظ أن الزكاة وإن
كان موضوعها هو الفئة الغنية والفئة الفقيرة باعتبار أن الأولى مصدر الزكاة
والثانية موضع الإنفاق فإن الخطاب في الآيات لم يسق إليهما بالاصالة بل سيق
بالأصالة إلى فئة ثالثة هم ولاة الأمر الممثلون للمجتمع بجميع فئاته، وكأن الآيات
بذلك تشير إلى أن الذي يملك مفاتيح الارتقاء والانحدار بالمجتمع الإنساني في
جانبيه الاقتصادي والتربوي هو من يملك السلطة والنفوذ ولذلك وجدنا هذه الفئة هي
المخاطبة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة: "خذ من
أموالهم صدقة" حيث يذهب المفسرون إلى أن هذا النص حكمه عام، وإن كان سببه
خاصا، عام في الآخذ يشمل خلفاء الرسول من بعده، ومن بعدهم من أئمة المسلمين"(54)
وهي المكلفة بتوزيعها على الفقراء وغيرهم" وهي أيضا المخاطبة في شخصية الرسول
في الجانب التربوي بقوله تعالى: "تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن
لهم والله سميع عليم" لأن قوله: "تطهرهم وتزكيهم بها" "خطاب
للنبي (ص) وليس وصفا لحال الصدقة والدليل عليه ضمير "بها" الراجع إلى
الصدقة أي خذها يا محمد من أصناف أموالهم صدقة تطهرهم أنت وتزكيهم بتلك
الصدقة"(55) فالمطهر هنا الرسول والمطهر به الصدقة، ثم أيضا أن
هذا التطهير والتزكية والصلاة عليهم ليست بقاصرة على النبي صلى الله عليه وسلم.
"قال الشافعي: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك الله
فيما أعطيت وبارك فيما أبقيت"(56) "ولذلك قيل: إن الأمر في
الآية للوجوب.. قال بعض الظاهرية بوجوب الدعاء على آخذي الزكاة من الأئمة أيضا،
والجمهور على أنه مستحب لهم، وقد بوب البخاري للحديث بقوله: باب صلاة الإمام
ودعائه لصاحب الصدقة"(57) على أنه يمكن القول إن الدعاء وإن كان
مستحبا بالجزء فهو واجب بالكل فيما يرمز إليه من بعد تربوي مثل غيره من المستحبات.
والحكمة
من إسناد هذه المهمة بشقيها التربوي والاقتصادي للدولة هي: ما يحدث من التلكؤ
كثيرا في تنفيذ القوانين والحقوق الواجبة، فلا بد من طرف ثالث له من السلطة ما
يكفي لتنفيذ هذه الحقوق، بالإضافة إلى ذلك فإن صرف الزكاة ليس بقاصر على الفقراء
والأفراد الذين ألحقوا بهم، بل هناك مصالح اجتماعية أخرى يقدرها ولاة الأمر في
الجماعة المسلمة. ثم من جهة الجانب التربوي فإن إسناد هذه المهمة لفئة ثالثة من
شأنه أن يصون كرامة الفقير ويحمي وجهه من السؤال مثلما يحمي الغني من إبطال صدقته
بالمن والأذي والإعجاب بالنفس(58).
وبذلك
يتبين أن وظيفة الدولة ليست بقاصرة على "بسط الأمن وكف الأذى بالمنع من إيذاء
بعض الناس بعضا، ثم الناس أحرار فيما فعلوا غير ممنوعين عما اشتهوا من عمل، أفرطوا
أو فرطوا، أصلحوا أو أفسدوا، واهتدوا أو ضلوا وتاهوا، والمتقلد لحكومتهم حر فيما
عمل ولا يسأل عما يفعل.
وإنما
هي حكومة اجتماعية دينية لا ترضى عن الناس بمجرد كف الأذى، بل تسوق الناس في جميع
شؤون معاشهم إلى ما يصلح ويهيئ لكل من طبقات المجتمع من أميرهم ومأمورهم، ورئيسهم
ومرؤوسهم، ومخدومهم وخادمهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم -مايسع له من سعادة
حياتهم فترفع حاجة الغني بإمداد الفقير، وحاجة الفقير بمال الغني، وتحفظ مكانة
القوي باحترام الضعيف. وحياة الضعيف برأفة القوي ومراقبته، ومصدرية العالي بطاعة
الداني، وطاعة الداني بنصفة العالي وعدله، ولا يتم ذلك إلا بنشر المبرات وفتح باب
الخيرات والعمل بالواجبات على ما يليق بها والمندوبات على ما يليق بها.. وإلا فهو
السير الحثيث إلى نظام مختل وهرج ومرج وفساد عريق لا يصلحه شيء.. إلا تفعلوه تكن
فتنة في الأرض وفساد كبير"(59).
ـ
وهكذا يمكن الخروج بالخلاصة التالية: إن المجتمع لا يكون مجتمعا إلا بتقوية روابطه
الاجتماعية التي من أهمها الرابطة الاقتصادية والرابطة التربوية إذ عن طريق
الرابطة الاقتصادية تسد الحاجات المادية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وزواج.. لأن من
يحرم من مستلزمات الحياة الضرورية وسد احتياجاته الأساسية لا يمكن أن يكون مخلصا
لنفسه بله أن يكون مخلصا لأمته ومجتمعه ودينه "كاد الفقر أن يكون كفرا"،
وعن طريق الرابطة التربوية تشبع الحاجات المعنوية إذ "هي التي تصوغ آراء
الناس وعقائدهم في مجال معرفة الوجود وتعلمهم قيمة المعرفة الصحيحة وتربيتهم حسب
القيم الخلقية والحقوقية المطلوبة، وبهذه الطريقة توسع وتعمق عبادة الله والتكامل
المعنوي عند الناس"(60) فترتفع الحياة البشرية على مستوى
الحيوانية "وترتبط مباشرة بعقل الإنسان وإدراكاته" التي تمنحه النضج
الفكري والتقدم الثقافي.
وبذلك
يتبين أن الهدف الأسمى للحياة الاجتماعية لا يكمل إلا بسد الاحتياجات البدنية
والمادية للناس وتأمين مصالحهم الدنيوية من جهة والتطلع من جهة أخرى إلى
"الاستزادة من التكامل الروحي والمعنوي لكل واحد من أفراد البشر" ولذلك
نجد هذه الآيات وإن كان موضوعها موضوعا اقتصاديا يتعلق بمعالجة الفقر والمسكنة
والرق والديون المرهقة، والمصالح العامة الضرورية، فإنها لم تغفل الجانب التربوي،
وبذلك تكون الآيات قد أفصحت لنا عن سر معانقة الزكاة للصلاة في كثير من المواضيع
التي عرض لها القرآن الكريم.
أيضا
لما كانت هذه الروابط لا تتعزز إلا عن طريق حكومة تستلم أزمة المجتمع لتدبير شؤونه
وتحافظ على كيانه من التحديات الداخلية والخارجية وجدنا هذه الآيات لا تغفل هذا
الجانب، لأنها من البداية إلى النهاية إما خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أو
إخبار له بما أعده للكانزين لأنفسهم من عذاب أليم، مثلما لم تغفل جانب
"الأحكام والقوانين التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع وتبين مدى حقوق
وواجبات واختيارات ووظائف أي فرد أو فئة"(61) فهي قد حددت واجبات
الفئة الغنية وحقوق الفئة الفقيرة إجمالا، والفئة التي تسهر على تنفيذ هذه الحقوق
وتضمن العمل بها.
وهكذا
تكون آيات الزكاة قد رسمت لنا الطريق الأمثل والأسلم لتصحيح الوضع الاجتماعي
بتقوية روابطه ليكون المجتمع كالجسم إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى، ويكون في مستوى ما عبرت عنه الآية: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله"(62) ●
المصادر
والمراجع:
ـ
القرآن الكريم برواية ورش
ـ
تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، بدون
تاريخ.
ـ
التكافل الاجتماعي للشيخ محمد أبي زهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة
1964.
ـ
تنظيم الإسلام للمجتمع للشيخ محمد أبي زهرة.
ـ
حجة الله البالغة للشيخ الدهلوي -دار إحياء العلوم- بيروت ط1990.
ـ
العبادات في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، ط24 - 1993.
ـ
فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، ط24 - 1997.
ـ
معالم السنن للإمام الخطابي، دار الكتب العلمية، بيروت ط1 - 1991.
ـ
مفاتيح الغيب للإمام الفخر الرازي، دار الكتب العلمية، طهران، ط2.
ـ
مواهب الرحمن في تفسير القرآن، سماحة السيد عبد الأعلى السبزواري، مؤسسة أهل
البيت، بيروت، ط2-1990.
ـ
الميزان في تفسير القرآن للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي
للمطبوعات، بيروت ط1 المحققة 1997.
ـ
النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي، منشورات دار
الروضة بيروت ط1-1996.
هوامش:
1 - سورة
البقرة: 213.
2 - تفسير
المنار: 2/282.
3 - الميزان
في تفسير القرآن: 2/118.
4 - الميزان
في تفسير القرآن: 2/119.
5 - نفسه
2/134.
6 - مواهب
الرحمن 3/261.
7 - سورة
الشورى 13.
8 - الميزان
في تفسير القرآن 4/119.
9 - سورة
التوبة: 34-35.
10 - سورة
التوبة: 60.
11 - سورة
التوبة: 103-104-105.
12 - الحديث
انظره في معالم السنن 2/48.
13 - انظر
معالم السنن 2/48.
14 - نفسه.
15 - نفسه.
16 - نفسه.
17 - نفسه.
18 - انظر
فتح الباري ج3/ 229 وما بعدها.
19 - فقه
الزكاة 1/152.
20 - مصالح
السنن: 2/48 وانظر أيضا فقه الزكاة 487.
21 -
الموافقات 5/14.
22 - تفسير
الخسارة 10/507.
23 - نقلا
عن كتاب فقه الزكاة 1/46.
24 - سورة
التوبة: 34-35.
25 -
الميزان في تفسير القرآن 9/260.
26 - الحديث
متفق عليه.
27 - الحديث
متفق عليه.
28 -
التكافل الاجتماعي، محمد أبو زهرة ص7.
29 - تنظيم
الإسلام للمجتمع محمد أبو زهرة ص149-150.
30 - حجة
الله البالغة 2/102.
31 - تفسير
المنار 11/31.
32 - سورة
التوبة: 103-104-105.
33 -
الميزان في تفسير القرآن 9/390.
34 - تفسير
التحرير والتنوير 11/23.
35 - فقه
الزكاة 2/258.
36 - الحديث
رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر بإسناد ضعيف، كما في التيسير ج1 ص570.
37 - فقه
الزكاة: 2/258.
38 - فقه
الزكاة 2/259.
39 - نفسه
2/861.
40 - مفاتيح
الغيب 16/189.
41 - مفاتيح
الغيب 16/186.
42 - نفسه
16/190.
43 - تنظيم
الإسلام للمجتمع ص35.
44 - نفسه.
45 - سورة
الزخرف 32.
46 - تنظيم
الإسلام للمجتمع ص38.
47 - نفسه
ص35.
48 - سورة
طه 75.
49 - سورة
المحادثة 11.
50 - سورة
الأنفال 448/ سورة طه 75.
51 - سورة
النساء 96.
52 - مفاتيح
الغيب 27/209.
53 - سورة
آل عمران 103.
54 - تفسير
المنار 11/23.
55 -
الميزان في تفسير القرآن 3/390.
56 - تفسير
المنار 11/26.
57 - نفسه.
58 - انظر
العبادات في الإسلام يوسف القرضاوي.
59 - الميزان
في تفسير القرآن 9/273 بتصرف بسيط.
60 - النظرة
القرآنية للمجتمع والتاريخ ص370.
61 - النظرة
القرآنية للمجتمع والتاريخ 368.
62 - سورة آل
عمران 110.