ص1      الفهرس    المحور 

 

المجتمع المدني والنخبة السياسية

عبد النبي مخوخ

تشكل هذه الورقة مجرد محاولة لتقديم كتاب الدكتور حسن قرنفل المعنون بـ المجتمع المدني والنخبة السياسية. إقصاء أم تكامل؟ الذي طبع في شهر أكتوبر الماضي بمطابع إفريقيا الشرق. ومن ثمة، فإن العرض المقترح يهدف إلى تقديم فكرة عن الكتاب للذين لم يتمكنوا بعد من الإطلاع عليه.

يتكون الكتاب من 231 صفحة ويشتمل، بالإضافة إلى مقدمة ولائحة للمراجع، على أربعة فصول إختار لها المؤلف العناوين التالية:

1 - تحولات المجتمع المغربي،

2 - المجتمع المدني،

3 - الحركة الإسلامية في المغرب،

4 - آليات إنتاج النخبة السياسية.

I - تحولات المجتمع المغربي:

يتناول المؤلف، في هذا الفصل، التحولات التي عرفها المجتمع المغربي على المستوى الاقتصادي والمستوى الديمغرافي والحضري والمستوى الاجتماعي.

يستهل الحديث عن المستوى الأول بطرح السؤال التالي: هل عرف المغرب تحولات مهمة على المستوى الاقتصادي أم لا؟. فيجيب بالإيجاب والنفي في نفس الوقت: فمن جهة، يجيب بالنفي لأن المغرب ظل متشبثا بالتوجه الاقتصادي الذي اختاره منذ فجر الاستقلال كما أن البنيات الإنتاجية القائمة والقطاعات الاقتصادية المعتمدة لم تعرف تغيرا ملموسا، ومن جهة أخرى يجيب بالإيجاب لأن الاقتصاد المغربي عرف بعض التحولات، خصوصا مع بداية الثمانينات، تتجلى أساسا في الانفتاح الكلي على اقتصاد السوق والرساميل الأجنبية وتراجع القطاع الإنتاجي الدولي Etatique. ويعرض المؤلف، بعد ذلك، لأهم توجهات الاقتصاد المغربي منذ بداية الاستقلال والتي يحددها في ترسيخ الاختيار الليبرالي وتدخل صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية في تحديد السياسة الاقتصادية للبلاد واضطراب الموارد المالية الخارجية وأخيرا الدور الهام لاقتصاد الظل.

في مناقشته للمستوى الثاني، ينطلق المؤلف من أطروحة إميل دوركايم التي تعتبر أن النمو الديمغرافي يؤدي إلى نمو اقتصادي واجتماعي. غير أن المؤلف يرفض هذه الأطروحة بدليل وجود دول ذات كثافة سكانية مرتفعة لكن متخلفة اقتصاديا واجتماعيا، بل يذهب إلى حد القول أن النمو الديمغرافي شكل عائقا أمام التنمية بالنسبة لعدد من الدول الشيء الذي أدى بالبعض منها كالصين مثلا إلى سن سياسة ديمغرافية جد صارمة. وعلى إثر ذلك، ركز المؤلف اهتمامه على المشكل الديمغرافي بالمغرب فتناوله من مختلف جوانبه مركزا على تطوره والآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عنه، مستنتجا أن النموالديمغرافي بالمغرب أصبح يتناسب عكسا مع مستوى التعليم. وفي هذا السياق توقف المؤلف عند الهجرة القروية باعتبارها خللا ديمغرافيا عرفه المغرب في السنين الأخيرة، فأرجع هذه الظاهرة إلى جملة من الأسباب أهمها المشاكل المتعلقة ببنية الملكية الفلاحية وقساوة ظروف العيش بالبادية وغياب البنيات التحتية وإهمال الخدمات الاجتماعية بالعالم القروي إلخ… واختتم المؤلف هذا القسم بالحديث عن الظروف القاسية التي يعيشها المهاجرون القرويون بالمراكز الحضرية.

وأخيرا، تناول المؤلف في القسم الثالث التحولات الاجتماعية المهمة التي عرفها المغرب والمتجلية أساساً في تفاحش الفوارق الطبقية في الوسطين القروي والحضري على السواء، كما توقف عند أهم التحولات التي عرفها النظام التعليمي بالمغرب منذ فترة ما قبل الحماية إلى يومنا هذا.

II - المجتمع المدني:

يستهل المؤلف هذا الفصل بالتأكيد على أن ظهور المجتمع المدني يعتبر "أحد أهم التحولات السياسية التي عرفها المجتمع المغربي في السنين الأخيرة"(53). ومن المؤشرات الدالة على هذا الظهور يذكر التطور الذي عرفه مفهوم دولة الحق والقانون، التداول الواسع لمفهوم المجتمع المدني وظهور مجموعة من التنظيمات الحقوقية والجمعيات الجهوية. وبالرغم من ذلك، فقد أثار مفهوم المجتمع المدني نقاشات حادة بالمغرب أدت ليس فقط إلى ظهور خلافات حول تحديد دلالته ولكن أيضا إلى ظهور موقف يرفض الحديث عن وجود مجتمع مدني بالمغرب. غير أن المؤلف يعارض هذا الموقف معتبرا أن ظهور المجتمع المدني نتيجة حتمية للتحولات الاقتصادية التي عرفها المغرب ذلك أن نقص الموارد المالية للدولة نتيجة عملية الخوصصة يؤدي إلى "ظهور المجتمع المدني بشكل بارز"(55) دون أن يعني ذلك أن المغرب التحق بركب الدول الليبرالية إذ أن المجتمع المدني بالمغرب "مازالت تعترضه بعض العوائق التي تحول دون اشتغاله بشكل عادي"(56).

ينتقل المؤلف، بعد ذلك، إلى محاولة تحديد مكونات المجتمع المدني. فبعد أن ميز في المجتمع بين ثلاثة مستويات: مستوى السلطة السياسية التي تتمتع بصلاحيات تنفيذية وتشريعية، ومستوى المجتمع السياسي المكون من القوى السياسية التي تبدي الرأي السياسي دون امتلاك القدرة على تنفيذه، ومستوى المجتمع المدني الذي يهتم بقضايا اجتماعية وإنسانية لا ترتبط مباشرة بالفعل السياسي، أخرج الأحزاب السياسية من دائرة المجتمع المدني لأن هدفها الأساسي هو الوصول إلى السلطة وحصر مكونات المجتمع المدني في النقابات المهنية والحركة النسائية وجمعيات حقوق الإنسان والجمعيات الجهوية وخص كل مكون من هاته المكونات بمقال خاص. ويتضح جليا أن عنوان الكتاب المجتمع المدني والنخبة السياسية مستمد من هذا التمييز.

III - الحركة الإسلامية:

يخصص المؤلف فصلا مستقلا للحركة الإسلامية بالمغرب مستندا في ذلك على اعتبارين أساسيين اثنين: التنامي الملحوظ لهذه الحركة وعدم إمكانية إدماجها ضمن المجتمع المدني باعتبارها حركة سياسية تروم الوصول إلى السلطة. وبعد هذا التوضيح الأولي، يتساءل المؤلف عن الأسس التي قامت عليها الحركة الإسلامية بالمغرب فيحصرها في ثلاثة نماذج: حركة الإخوان المسلمين بمصر التي أثرت في الحركة على المستوى التنظيمي، وأعمال المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي التي أطرت الحركة نظريا من خلال مفهوم الحاكمية على وجه الخصوص الذي جردته الحركة من أبعاده التاريخية والسياسية، وأخيرا نموذج الثورة الإيرانية الذي اعتبر بمثابة نموذج فعلي للدولة الإسلامية.

وبعد أن فصل القول في كل نموذج على حدة، ينتقل المؤلف إلى الحديث عن نشأة وتطور هذه الحركة فيلاحظ أن احتضان السلطة السياسية والأحزاب السياسية للدين لم يمنع من ظهور حركة إسلامية بالمغرب توقف المؤلف عند أهم مراحل تطورها بدءا من سنة 1969 حيث ظهر تنظيم "الشبيبة الإسلامية" ومرورا بتنظيم "الجماعة الإسلامية" التي غيرت اسمها ليصبح "جماعة الإصلاح والتجديد" ووصولا إلى تجربة الشيخ عبد السلام ياسين التي توجت بتأسيس تنظيم "أسرة الجماعة" الذي يحمل إسم "العدل والإحسان" فيما بعد. وبالإضافة إلى هذا العرض التاريخي والتطبيقي أيضا تطرق المؤلف لموقف السلطة الحاكمة من الحركة الإسلامية، مشيرا إلى مجموع الإجراءات التي اتخذتها للحد من انتشارها وتأثيرها كتقنين عملية بناء المساجد وتوقيف عدد من الخطباء وتحرير وتوحيد خطبة الجمعة إلخ…

يختتم المؤلف هذا الفصل بمقال عنونه بـ"من أجل فهم الحركة الإسلامية" يعالج فيه العوامل الكامنة وراء ظهور الحركة الإسلامية بالمغرب. فيلاحظ أن الدراسات التي عالجت الموضوع تعاني من عيب أساسي يكمن في كونها حاولت تفسير الظاهرة بالإستناد إلى عامل واحد فكانت، بذلك، مقاربات أحادية الجانب. وفي مقابل ذلك، يدعو المؤلف إلى ضرورة تبني موقف متكامل يأخذ بعين الإعتبار مجموع العوامل التي أدت إلى ظهور الحركة الإسلامية والتي يحصرها في خمسة عوامل: عوامل تاريخية، عوامل سياسية، اقتصادية واجتماعية، عوامل إيديولوجية وعوامل سيكولوجية.

IV - آليات إنتاج النخبة السياسية:

يقسم المؤلف هذا الفصل إلى قسمين غير متكافئين: قسم نظري صرف قصير جدا يعالج نظرية النخبة، وقسم آخر، مفصل نسبيا، يتناول موضوع النخبة السياسية بالمغرب.

ففي القسم الأول، يناقش المؤلف نظرية النخبة من خلال دراسة أورس ياجي Urs Jaeggi للنخب التي صنفت نظريات النخبة إلى ثلاثة مجموعات: نظريات تعتمد معيار السلطة وتشتمل على كل النظريات التي ترد النخبة السياسية إلىالفئة الحاكمة، ونظريات تعتمد معياراً أخلاقياً وتشتمل على كل النظريات التي تجعل من النخبة الفئة المتسمة بجملة من القيم تؤهلها لممارسة الحكم، وأخيرا نظريات تعتمد أسسا وظيفية وتشتمل على كل النظريات التي تحدد النخبة السياسية من خلال وظيفتها في المجتمع. وبالرغم من الخلافات القائمة على مستوى طبيعة النخبة فإن كل الدراسات تتفق على القول بأن النخبة ظاهرة ملازمة لكل المجتمعات بل أصبحت ضرورة مؤكدة بالنسبة للمجتمعات الحديثة التي تحتاج بالضرورة لنخبة تسيرها.

ينتقل المؤلف، بعد ذلك للحديث عن النخبة السياسية بالمغرب فيلاحظ أن هذه الأخيرة كانت تتشكل، لفترة طويلة، من المخزن والخاصة. ويقصد بالمخزن هنا السلطان مع عدد من المقربين اختلفت أصولهم من مرحلة تاريخية لأخرى ويقصد بالخاصة "نخبة حضرية في معظمها تتكون أساسا من الشرفاء والعلماء وشيوخ الزوايا والمحتسبين ورؤساء الحرف"(157). أما في عهد الحماية فقد تراجع دور النخبة حيث همشت بشقيها المخزن والخاصة لتظهر، بعد ذلك، نخبة جديدة، تلقت تكوينا عصريا بالمدارس الفرنسية الحديثة أو بمدارس المشرق العربي فانخرطت في العمل السياسي في مواجهة المستعمر الفرنسي. وأخيرا، عرفت النخبة السياسية بالمغرب تغييرات جذرية بعد استقلال البلاد وقد شملت هذه التغييرات أصول النخبة ومستوياتها الثقافية وهيكلتها وطرق اختيارها.

وبعد وقفة مطولة عند المستويات التي طالها التغيير انتقل للحديث عن الأحزاب السياسية وإنتاج النخبة مستنتجا أن الأحزاب شكلت "أكبر مدرسة لتكوين النخبة". وفي هذا السياق، تعرض للظاهرة الحزبية محاولا تسليط الضوء على ظهور وتطور الأحزاب السياسية عامة ليتأدى للحديث عن الأحزاب السياسية المغربية وطرق اشتغالها.

يختتم المؤلف كتابه هذا بخاتمة عامة ذكر فيها بالخلاصات الأساسية التي توصل إليها والتي يمكن إجمالها في ما يلي:

1 - خلافا للمواقف الرافضة لمقولة المجتمع المدني، يؤكد المؤلف على مجتمع مدني بالمغرب أفرزته مجموع التحولات التي عرفها المغرب خلال العقود الأخيرة وعلى رأسها التحولات الاقتصادية.

2 - إذا كان ظهور وتنامي المجتمع المدني يترك الانطباع بأنه سيؤدي إلى تراجع بل واختفاء الأحزاب السياسية فإن قراءة متأنية للوضع العام تسمح باستنتاج أن المجتمع المدني غير مؤهل للإضطلاع بأدوار سياسية ولا يمكنه بالتالي تعويض الأحزاب السياسية.

3 - بما أن وجود النخبة السياسية باتت ضرورة مؤكدة واعتبارا لتراجع العمل السياسي بالمغرب، فإن الأحزاب السياسية مطالبة بـ"أن تسارع إلى ترميم بيوتها وإصلاح هياكلها وإعادة النظر في طريقة اشتغالها.."(226).

وبدوري أختتم هذه الورقة بتسجيل انطباعات أولية في شكل ملاحظات عامة:

1 - على المستوى المنهجي: لا يثير المؤلف نهائيا مسألة المنهج في هذا الكتاب كما لا يفصح عن الآليات المنهجية التي اعتمدها. غير أن قراءة الكتاب تسمح باستنتاج أن المؤلف لم يلتزم بمنهج محدد طوال بحثه هذا في حين اعتمد على جملة من الآليات أهمها آلية التحليل وآلية النقد.

تحضر الآلية الأولى بقوة طوال البحث وتتخذ أبعادا مختلفة. فتارة تتخذ شكل تحليل إحصائي يستهدف معالجة معطيات إحصائية، وأخرى تتخذ شكل تحليل قياسي (أو مقارن) ذلك أن المؤلف غالبا ما يعمد لمقارنة الظواهر في سياق التحليل كما تتخذ أيضا شكل تحليل مادي إذ لا يتردد المؤلف في العودة للشروط المادية لتفسير موقف أو ظاهرة معينة، بل إن افتتاح الكتاب بالحديث عن التحولات الاقتصادية وتأسيس بعض المواقف الأساسية على اعتبارات اقتصادية يسمح بالحديث عن هيمنة البعد المادي على هذه الآلية، وأخيرا تتخذ آلية التحليل هاته بعدا تاريخيا واضح المعالم ذلك أن التأطير التاريخي للمواضيع المثارة شكل هاجسا لازم الباحث طوال بحثه هذا.

أما آلية النقد أو الجدل فتكمن في كون المؤلف بلور أهم مواقفه في جدلية مع مواقف أخرى أو من خلال نقدها بل غالبا ما ينطلق من مواقف نقدية كأرضية للتحليل.

2 - على مستوى المجال: يندرج هذا الكتاب ضمن مجال علم الاجتماع السياسي، غير أن ذلك لا يعني أنه موجه للمتخصصين في هذا المجال، لقد أضفي عليه المؤلف طابعا من البساطة والوضوح يجعل منه بحثا في متناول كل قارئ مهتم بالشأن العام.