ملاحظات حول بعض آليات تأويل النص السردي 

ص1       الفهرس      11-20

 

 

ملاحظات حول بعض آليات تأويل النص السردي

 

 

عبد اللطيف محفوظ

 

تقديم عن حدود التأويل:

إذا كان من الممكن الحديث عن الفعالية الذهنية التي ندعوها "تأويلا" انطلاقا من مجال محدد من مجالات تفعيلها، فإنه من الصعب الحديث عنها مجردة، وذلك نظرا لعدة اعتبارات من بينها:

ـ أن التأويل، بوصفه طاقة ذهنية مجردة، هو فعالية إنسانية ملازمة لكل نشاطات الإنسان.

ـ أنه المسؤول عن كل الأدلة المؤولة لكل الأدلة الحاضرة وفق صفة ما في كل أشكال الوعي. (كما يستنبط ذلك من فلسفة بورس الذريعية).

ـ أنه يشكل التجسيد الشكلي لمضمون الفهم في كل عملية تواصل..

ومن الواضح أن الاكتفاء بهذه الخصائص وحدها، يبرهن على صعوبة جعل التأويل (مجردا) موضوعا لبحث أو دراسة. ومن أبسط الأدلة على ذلك، أنه بوصفه موضوعا مجردا يفرض استحضار الفكر الفلسفي برمته. بل إنه حتى لو افترض وجود ذهن مثالي يستطيع تحيين ذلك، فلن يكون كافيا، لأن الفكر الفلسفي نفسه ليس إلا نتاج تأويل. وإذن فإن ذلك الذهن -المستحيل- لن يستطيع بدوره، إلا أن يستنتج معنى التأويل أو آلياته انطلاقا من تأويل هو بدوره مؤسس على آليات تأويلية، هي بدورها مؤسسة على آليات تأويلية، وهكذا.. ومعنى ذلك بكلمات أكثر وضوحا، أنه يفرض في مرتبة أولى دراسة جدلية للعلاقات الجدلية بين اللغة والفكر والعالم؛ وفي مرتبة ثانية علاقات الفكر بالسنن، والسنن الفرعية على اختلاف أنواعها (العلمية والدينية والأخلاقية…).

ومن الواضح أيضا أن الحقيقة الثانوية المتصلة بالسنن، تستطيع وحدها تأكيد صعوبة الموضوع، فالسنن هنا ذات وضع اعتباري ووظيفي مماثل لما حدده (كاسيرير) تحت اسم الأشكال الرمزية. إنها (السنن والسنن الفرعية) منذ أن أنتجها الفكر الإنساني، لكي تكون آليات لتنظيم نشاطاته المختلفة، صارت سياجا يقف دونه ودون الواقعية أو الحقيقة، التي يبدو أن التأويل قد شكل الوسيلة الوحيدة من أجل محاولة إعادة اكتشافها! ثم أضحت، مع تطور الإنسان وتطور معارفه، حاجزا دون تواصله حتى مع واقعيته الخاصة، إذ لم تعد هناك من واقعية ممكنة سوى واقعيات السنن نفسها!..(*)

بناء على كل ذلك، تم تفضيل الاقتصار على وصف بعض آليات التأويل المقترحة من قبل اثنين من رواد سيميائيات السرد، ويتعلق الأمر بـ"غريماس وراستيي اللذين أثرا بشكل كبير على النقد الأكاديمي المغربي في العقدين الأخيرين.. غير أن هذا المقال لن يكون عرضا لتصوريهما، بل سيحاول فقط تقديم وصف نقدي لشكل تأويلهما للنص من أجل اختزاله في البنيات الكبرى التي تبدو في نفس الوقت نتائج للتأويل ووسائل لإنتاجه. ومن البديهي أن مثل هذه المعالجة ستفرض، بشكل أو بآخر، ملامسة مفهوم النص، غير أن هذا لن يكون موضوع المقال..

ومن الواضح أن هذا الاختيار قد راعى شكلين مختلفين من حيث البعد الإبيستيمولوجي، فإذا كان من الجلي أن نموذج غريماس يميل أكثر إلى الهيرمينوطيقا الدينامية المحايثة، فإن نموذج راستيي يميل أكثر إلى دلائلية لسانية وصفية:

 

1 - بنيات إنتاج وتأويل النص عند غريماس:

تكمن أهمية أطروحة غريماس، كما أشار (كورديدا)(1) في تنقيلها لموضوع علم النص من المستويات السطحية، إلى المستويات المحايثة. فقد حاول، انطلاقا من تصور تلك المستويات، ضبط شكل معنى النص، فافترض وجود بنيات محايثة أساسية، أوجزها في بنيتين ذاتي بعد جشتالي، وقد أخذتا تسميتين متضادتين، وهما البنية العميقة والبنية السطحية. وقد تصورهما بمقابل بنية ملموسة ومادية هي البنية التمظهرية(2).

وتعتبر البنية العميقة عنده عالما من المحتويات المقلصة. وتتشكل من بنية مؤلفة من علاقات وعمليات ذات بعد منطقي؛ ولكنها -تبعا لتعريفه النظري لها- ذات علاقة بالشكل الفعلي لوجود الفرد أو الجماعة، أي أنها متصلة بالإيديولوجيا. أما البنية السطحية فهي مجموع الآليات، المتصورة انطلاقا من مقولات نحو ما وراء تمظهري موسوم بالتلاؤم مع قواعد الجنس، والتي توظف لتحيين تلك العلاقات من أجل جعلها دينامية. ومهمة هذه البنية -التي هي بالمقارنة مع البنية التمظهرية، بنية ما وراء تمظهرية- تكمن في إعداد المحتويات والقيم وأشكالهما قبل أن يتجسدا في التمظهر المادي للنص.

لكن إذا كانت رؤية هذه البنيات، في مستوى نظري مجرد، تجعلها تبدو منتجة؛ فإن رؤيتها بوصفها معيارا لإنتاج أو تلقي النص فعليا، يجعلها غير مقنعة. والدليل على ذلك أنها لحد الآن لم تستطع إثبات كفاءتها بوصفها سيرورة منهجية دقيقة للإنتاج أو التلقي. ولعل هذا الفشل يعود إلى التفكير في قضايا إنتاجية انطلاقا من تصور تلقياتي. ذلك أن خطاطة غريماس -وهي تتمظهر متمفصلة في النحوين المعالقين للبنيتين الماوراء لغويتين- تحاول كما يقول غريماس كشف كيفية بناء المعنى وحسب(3).

إن كيفية بناء المعنى تختلف بالضرورة عن كيفية بناء النص. فبناء المعنى، هو قبل كل شيء، قضية ذريعية تداولية، ترتبط بالمعرفة الخلفية، وبالوضعيات الشارطة لفعل الإدراك.. ومن السمات المميزة لهذه السيرورة الذهنية المتضامنة كونها غير محصورة عند ما هو مكتوب ومستحق لاسم النص.. بينما يكون بناء النص، قبل كل شيء، قضية أجناسية، ترتبط أساسا بحدود الجنس والخطاب.. من هنا يمكن أن نلاحظ أن خطاطته، وهي تزعم أنها تقدم وصفا لشكل المعنى، لا تقدم، في الواقع، إلا وصفا صوريا لبناء ما لنص سردي ما. ولذلك فإن الحدود المنطقية التي اقترحها غريماس، حالما تملأ بالمحتويات المستنتجة من النص بواسطة آليات الاختزال المفترضة من قبله، تفقد منطقيتها. ومن ثمة، يبدو القالب المنطقي كله، كما لو كان ذريعة لإعطاء الحدوس والفرضيات صبغة علموية.

وهكذا تفرض هذه الحقيقة وضع تساؤلات عميقة حول سيرورة الاختزال، وحول مدى ملاءمة آليات البنيتين لخصوصيات الخطاب السردي:

ترتبط المرحلة الأولى لشكل بناء المعنى عند غريماس، ببنية أولية للدلالة. وهذه الأخيرة هي عبارة عن مناط (Sémème ) ذي حدين متضادين. وتشكل هذه البنية، في مستوى التلقي، نهاية لسيرورة الاختزال الموجهة عموديا، انطلاقا من البنية التمظهرية. الشيء الذي ينجم عنه كونها بنية فرضية محضة ناتجة عن فعل تذاوتي لقارئ ما. ومهما كانت قدرات هذا القارئ فإنه يستلب بالضرورة من قبل البروتوكول المنهجي الذي يقوده من التمظهر إلى البنية الأولية للدلالة. ويتمثل هذا الاستلاب في ضرورة تخلصه من البعد الإيديولوجي(*) [ذلك أن كل البنى الأولية، تأخذ في الغالب، شكل زوج ضدي شبه كوني] الشيء الذي يتناقض مع طرحه النظري الذي ينحو نحو ربط البنى العميقة بالإيديولوجيا(4)، بل إن نفس الشيء يلاحظ حتى إذا ما اعتبرت خطاطته خطاطة نظرية للإنتاج، وذلك لأن الآليات المعطاة من قبل النحوين الموسطين للمرور من الفكرة الذهنية إلى النص (البنية التمظهرية)، لا تسمح بذلك إطلاقا، لأن المعنى الإيديولوجي المؤسس -والذي ليست البنية الأولية للدلالة سوى عماد مادي له- يتطلب من أجل وصف سيرورته الإنتاجية، ليس نحوين مستندين على مقولات منطقية وأجناسية، ولكن على مقولات مطورة انطلاقا من بلاغة ذريعية.

أما بتجاوز كل ذلك، إلى الاكتفاء بالتساؤل عن إمكانية استجابة العلاقات والعمليات المشكلة للمربع السيميائي الضابط لمنطق تمفصل البنية العميقة المؤسسة للنصوص السردية الموجودة وجودا فعليا: هل توجد الملاءمة بشكل مطلق، أم توجد فقط تحت إرغامات البروتوكول المنهجي؟

ولكي تكون الإجابة ملموسة لا بد من افتراض وجود المحلل أمام نص سرد. وليكن "مدار حديثه" النصي، على سبيل المثال، ماثلا في دليل "الغيرة" مع افتراض كون محتواه المقلوب(**) يصف حياة هادئة ومطمئنة، بينما يصف محتواه المطروح حياة مزقت الغيرة هدوءها.. فإن المناط المستنتج المناسب لهذا النص سيكون هو "الغيرة". وهنا سيطرح على المحلل مشكل كيفية مفصلته إلى مقومين متضادين ينسجمان فعلا مع محتويي النص. ومن ثمة، يطرح مشكل كيفية إسقاط العلاقات على حدود المربع المجردة، خاصة وأن المحتوى المقلوب لا ينسجم إلا مع المقوم "لا غيرة"؟:

 

ا س؟                   الغيرة

 


الغيرة                    س

ومن الواضح أن مثل هذا النص، يحرج ادعاء كونية مقولات النحو العميق، مثلما يحرج المحلل المنحاز إليها، ولذلك لا يكون أمام ذلك المحلل سوى التخلي عن المناط الدلالي الذي استنتجه من تفاعله مع دلالة النص التقنية، لصالح مناط آخر يتناسب مع العلاقات التي تقتضيها حدود المربع!! كأن يستبدله بمناط يتصل بـ"زمنية البطل النفسية" نظرا لقبوله التمفصل إلى مقومين متضادين مثل [ السعادة (م.خ) التعاسة]..

وهكذا يتضح أن البنية الأولية لدلالة نص ما، ليست فقط فرضية خاصة بكل قارئ أو بعزم أي محلل -كما لاحظ بوتيي ذلك(6)- بل إنها قد تكون مفروضة من قبل البروتوكول المنهجي، أكثر من كونها مفروضة من قبل التفاعل بينهما.. الشيء الذي يدعو إلى إعادة التأمل النقدي في كل الأعمال النقدية التي استلهمت هذا النموذج التأويلي.

 

2 - آليات تأويل النص عند راستيي:

إن تتبع تطور كتابات راستيي(7) يفيد صعوبة القول بإمكانية استنتاج مفهوم ما للنص. ويرجع ذلك بالأساس إلى طبيعة الموضوع، الذي ما فتئ يطوره، وهو الدلالة التأويلية للنص. وقد أدت طبيعة هذا الموضوع إلى جعل تفكيره مرتبطا بقضايا القراءة والتأويل. ولذلك فإن كل الآليات التي نحثها بعد تأمل إبيستيمولوجي عميق، أو التي ابتدعها، لا تخرج عن إطار ذلك التفكير. ومن ثمة لا يمكن الحديث عن آليات التأويل أو عن مفهوم النص عنده، إلا انطلاقا من استنباطهما من مفهوم القراءة عنده. بيد أن مفهوم القراءة عنده، لا يمكن أن يتضح إلا إذا أدركت خلفياته الإبيستيمولوجية وآلياته، ثم أشكال إجراءاته:

1.2-الخلفية الإبيستيمولوجية:

لقد ارتبط تفكيره في التلقي منذ كتابه الدلائلية التأويلية بالدلائلية المجهرية أو التأليفية(*)، التي حاول منذئذ أن يطورها من أجل الوصول إلى دلائلية لسانية ذريعية، عن طريق إثرائها بآليات تنتمي إلى عدة أطر نظرية دلائلية، سواء كانت ذات خلفية نفسية مثل (الجشطالتية)، أو منطقية مثل الدلائلية الصورية ونظريات الذكاء الاصطناعي، أو كانت لسانية بنيوية.. غير أن كل الإضافات التي أغنى بها نسقه، كانت مشروطة الورود بمناقشات مدققة لخلفياتها الإبيستيمولوجية، ولذلك نجد كتاباته غنية  بالتناصات المعرفية، التي تساعد القارئ في التعرف على خلفيات النظريات الدلائلية وحدود آلياتها..

أما بالنسبة للخلفية التي شكلت نظريته للقراءة (والتأويل)، والتي هي دلائلية لسانية ذريعية -تحاول خلق التجانس بين كل تلك الآليات المستعارة- فيمكن إيجازها في كونها خلفية سيميائية فيلولوجية، تمتاز بإعطائها الشكل لذريعية مخصوصة. وقد شكلت هذه الخلفية معلما محددا لاستعارة مختلف الآليات من مختلف النظريات الدلائلية..

وتتضح خلفيته على المستوى النظري، بشكل جلي من خلال نقده للنظريات العامة الكبرى، التي فكرت في /وأطرت/ مناهج الدلائليات النصية، وهي البنيوية والهيرمينوطيقا، ثم نزعة المعنى المتعدد (التفكيكية). فالبنيوية تبعا له، قد فشلت (بوصفها نظرية) نتيجة تهميشها للمحيط اللغوي الذريعي، ونتيجة تقديمها قارئا مجهولا (أي غير متعين) سلح بمنهجية صارمة.. أما الهيرمينوطيقا، فقد عرفت نفس المآل، نتيجة بحثها عن المعنى المحايث، وخاصة منها الهيرمينوطيقا الدينامية، التي تتأسس على مفهوم "الكشف"، مضمرة الاعتقاد بأن المعنى قد ضمن مسبقا من قبل إله أو بشر. (أي أنها تقوم على فرضية أن المعنى معطى، وليس مبنيا). أما النزعة ذات المعنى المتعدد، والتي يمكن أن تعتبر التفكيكية [وفق تحديد إيكو لنسقها(8)] منضوية تحتها، قد عرفت الفشل نتيجة جعلها المعنى خاضعا للاوعي الذي يتمظهر مبنينا بوصفه لغة ذات بعد رغبوي يتصل، في الغالب، بالرموز الجنسية.. وذلك ما يفضي إلى نتيجة مشابهة للاتجاهات الهيرمينوطيقية المحايثة، حيث يكون المعنى متعاليا عن النص(9).

ومن بين تمظهرات هذه الخلفية، إدماجه للمحيط، الذي أضحى لديه مقولة أساسية منظمة ومتحكمة في خطاطته التأويلية. ثم إدماجه لمقولة السياق، الذي لا يعني عنده السياق اللغوي وحسب، بل يشمل أيضا السياق خارج اللغوي: أي السياق المعرفي المجسد من خلال /وعبر/ اللغة.

ومن بين تمظهراتها أيضا استفادته الحذرة من مصطلحات الذكاء الاصطناعي وعلم النفس المعرفي، حيث عمل على نقد خلفيتها ذات الطابع الوضعي الآلي قبل تعديلها لكي تصبح ملائمة لحدود الدلائلية اللسانية المنفتحة على السياق.. ومن بين الأدلة على ذلك، انتقاده لمفهوم المقولة الذي يبدو متعالقا مع البعد النفساني الما وراء لغوي، بفعل كونه لا يحدد قسما معجميا، بل يوصف قسما من التصورات، الشيء الذي يجعله منتميا لنظام الفكر الخالص. وذلك على خلاف مفهوم الحقل الدلالي، الذي يرتبط أكثر بالخطاب الذي هو نمط محدد لممارسة اجتماعية لغوية، قبل أن يكون ممارسة ذهنية أو نفسية خالصة. ولعل هذا الوعي النقدي هو الذي جعله، وهو يخضع آليات الذكاء الاصطناعي مثل المقولة، والشبكة، والغراف، والفسحة..(10) لآليات الدلائلية اللسانية، ينتقد بصرامة خلفيات الذكاء الاصطناعي، ونتائجه الممارسية، بشكل لا يختلف كثيرا عن نقد سورل لتلك الخلفيات(*) .

2.2-آليات دلائليته اللسانية الذريعية:

إذا كان من الصعب تحديد كل الآليات التي شغلها راستيي، فليس من الصعب تحديد الخلفية التي تؤسسها.

غير أنه سيتم الاكتفاء، من أجل إبرازها، بكشف خلفيات الآليات الأكثر حضورا في معالجاته الإجرائية، وخاصة تلك التي، وهي تطبق، تنحو نحو وصف شكل بناء النص، مثلما تنحو، بشكل ضمني، نحو تشكيل مفهوم النص نفسه؛ ومنها المناط والحقول الدلالية والتناظرات، والتي تعبر إجرائيا -في مستوى الإنتاج- عن تطور ممكن من النواة الدلالية (الموضوعية أو التيمة)، إلى شكلها الإظهاري؛ مثلما تعبر، في مستوى التأويل عن سيرورة الاختزال المتجهة من التمظهر إلى نواة دلالية ما. وقد أخذت هذه الآليات، التي استعارها من أطر نظرية مختلفة بعدا ذريعيا يتناسب وخلفيته النظرية المشار إليها سابقا:

فالمناط الذي هو بمثابة نواة دلالية للنص، يتألف ليس من المقومات القاموسية التي تشكله -والتي سبق لغريماس أن سماها بالمقومات النووية(11)- ومن المقومات التي يمنحها إياه السياق النصي؛ بل يتألف بالنسبة له من مقومات لازمة، وهي التي تترادف مع المقومات النووية عند غريماس أو القاموسية عند إيكو؛ ومن المقومات التابعة، التي تتجاوز المقومات السياقية النصية عند غريماس إلى المقومات التي يؤشر عليها السياق الخارجي، أي إلى المقومات الموسوعية (وفق مصطلح إيكو) والتي تتصل بكل أنواع التسنينات الاجتماعية والثقافية)(*) وقد وصف شكل تحول المناط إلى سياقات مؤثتة انطلاقا من نمطي المقومات، بفضل مقولات الحقل الدلالي، التي حددها في المناط الجامع(*) ، والمجال، ثم البعد(12). وهي كما هو واضح عبارة عن مؤولات ذهنية تعريفية، تولد السياقات المتراتبة للموضوع الدينامي المناط الجامع: ويشكل القسم الاستبدالي الأصغر للمناطات، والتي يمكن أن تتحدد، داخله، ذاتيا وحسب.(13) مثل المناط الجامع /التبغ/ مثلا، الذي يشمل المناطات الفرعية من نوع: السيجارة. السيجار. الغليون.. ويتميز المناط الجامع بكونه، حين يدخل في تكوين نص ما، يشكل عالما دلاليا مصغرا..

ـ المجال: وهو قسم أكثر عمومية، يتجاوز حدود المناط الجامع، ليضم عددا من المناطات المشروطة بارتباطها بعلاقات خارجية تؤطرها ضمن وحدة ما.. وذلك لأنه غالبا ما يبنين التمثيل اللغوي لممارسة اجتماعية. وقد تكون هذه الممارسة الاجتماعية مرتبطة حتى "بتجربة الطبقة" كما لاحظ بوتيي(16). فالمناط الجامع /التبغ/ يمكنه أن يترابط ذهنيا (ونصيا أيضا) مع العديد من المناطات الجامعة، بفضل تحوله إلى مناط فرعي لمناط خارجي شامل يعادل المجال، مثل مجال التلوث الذي يجعل المناط الجامع /التبغ/ مثلا في علاقة مع المناط الجامع /الصناعة الكيماوية/ أو /نفايات السيارات/..الخ. وأهم ما يميز المجال هو تمثيله لعالم موسط..

ـ البعد: ويشكل قسم العموميات الكبرى، ويتماثل مع مفهوم المقومات الجامعة كما هي عند غريماس. ويمتاز البعد بانبنائه على التمفصلات الاختلافية الكبرى، مثل /مجرد (م.خ) ملموس/، /حياة (م.خ) موت/، /نشيط (م.خ) خامد/..الخ. ويسمح له ذلك بأن يكون قادرا على استقطاب ما لا نهاية من المناطات الجامعة، ومن المجالات، ضمن وحدة متعالية. الشيء الذي يسمح لمناطات جامعة مختلفة بأن تتداخل في الخطاب بشكل منسجم.. إذ يمكن بناء عليه، أن يتجانس المناط الجامع /التبغ/ مع المناط الجامع /أسلاك الكهرباء/ مثلا، نظرا لارتباطهما معا، على الأقل، بالبعد /ملموس/..

إن الحقول الدلالية، بوصفها مؤولات تعرفية تحيينية متراتبة لانتشار المناطات، هي في الواقع لبنات لبناء الانسجام اللازم توفره في كل نص. ذلك الانسجام الذي يسميه راستيي بـالتناظر. وقد أخذ التناظر بدوره أبعادا تتجاوز حدوده عند ناحته الأول (غريماس)، إذ أصبح من جهة ذريعيا، وذلك واضح من خلال كونه في نفس الوقت يعود إلى دلالة التناظر الأولية، ثم يتجاوزها إلى معنى التناظر السياقي الذي يماثل مفهوم "مدار الحديث" كما هو عند إيكو؛ ومن جهة ثانية، أصبح متمفصلا بشكل يتناسب مع تراتبية الحقول الدلالية: إذ هناك التناظر الأصغر، ويتناسب بشكل أو بآخر مع المناط الجامع؛ والتناظر البيني، ويتناسب مع المجال؛ ثم هناك التناظر الأكبر، ويتناسب مع البعد(17).

وقد ميز راستيي بين تناظر النص وتناظر القراءة، وذلك على الرغم من تأكيده على أن المعنى ليس محايثا للرسالة، بل محايث للوضعية التواصلية، التي تضم إلى جانب مكونات الرسالة عاملي المرسل والمتلقي، اللذين يفرضان إدماج الشروط الذريعية، والتي من بينها، استنتاج الحقول الدلالية بوصفها تشكيلا للانطباعات المرجعية المعطاة من قبل النص نفسه، سواء كانت خصوصيات تميزه عن غيره من النصوص، أو كانت علاقات تربطه بجنسه [ مثل علاقة رواية الدون كيشوط، بالرواية الفروسية..].

3.2-إجرائـية الآليات:

تبدو الآليات التي اقترحها راستيي وشغلها، رغم عمقها وإنتاجيتها، مؤشرة على التضخم المؤشر على حيرة أمام سبل ضبط المعنى.. ويعود هذا القول إلى ملاحظة كون عدد من الآليات تتنافس -ضمن نسقه- حول تحديد نفس الظاهرة النصية. ويمنع هذا الترادف استنباط نسق متماسك يؤدي بالتأويل إلى سيرورة اختزالية قارة ومضبوطة. ويتأكد ذلك من خلال عدم تجاوزه في تشغيل تلك الآليات حدود الجمل والمقاطع والفقرات المقلصة، الشيء الذي يعبر عن كونها، حتى في إجرائيتها، ليست إلا بناءات نظرية تتغيا "علمنة" التلقي، كما لو كانت الإجراءات التطبيقية وسيلة للبرهنة على جدارة الوجود النظري وحسب(*) ..

هوامش:

1 - J.Petitot, La morphogenèse du sens 1 ed. PUF, Paris, pp.48-52.

2 - A.J.Greimas, Du sens, ed. Seuil, Paris 1970, pp.135-136.

3 - Ibid, du p7 à 17.

4 - Ibid, Les jeux des contraintes sémiotiques, en collaboration avec F.Rastier.

5 - Greimas, Du sens, op.cit., p.198.

6 - F.Rastier, Sémantique interprétative, ed. PUF, Paris 1987, p.32.

7 - F.Rastier, Essais de sémiotique discursive, ed. Mame 1973.

   -Sémantique interprétaive

   -Sens et textualité.

   -Sémantique et recherches cognitives.

8 - U.Eco, Derrida à propos de Peirce, in Les limites de l’interprétation, Traduit par M.Bouzaher, ed. Grasset, Paris 1992.

9 - F.Rastier, Sens et textualité, pp.14-15.

10 - F.Rastier, Sémantique et recherches cognitives.

11 - A.H.Greimas & J.Courtés, Sémiotique, Dictionnaire raisonné, Tome1, ed. Hachette, Paris 1979, p.334.

12 - F.Rastier, Sémantique interprétative, pp.49-50-51.

13 - A.J.Greimas & J.courtés, Sémiotique, Dictionnaire raisonné.. Tome2, ed.Hachette, Paris 1986, p.233.

14 - انظر الإحالة رقم 10.

15 - Searle, Du cerveau au savoir, col Savoir, Hermand Paris 1985, pp.62-65.

16 - F.Rastier, Sémantique interprétative, p.50.

17 - Ibid, p.112.

 

 

(*)  وبديهي أن السنن قبل أن تكون آليات للتأويل والتنظيم هي نتائج التأويل!! فليست فكرة كون الشمس مركزا للكون إلا تأويلا للوضع الأنسب لما يبدو عليه الكون كما وضح(إيكو).

(*)  من مميزات استناد الاختزال على البروتوكول المنهجي لغريماس، كونه يسحب المعنى الإيديولوجي ليس فقط عن النص، بل عن الذاتين المنتجة والمتلقية.

(**)  المحتوى المقلوب عند غريماس هو المحتوى القضوي، الذي يسبق التعرف المؤدي عادة إلى التحول. أما المحتوى المطروح، فهو الذي ينتهي النص منفتحا  عليه.. انظر(5).

(*)  أي: Componentielle

(*)  هناك التقاء نسبي بين انتقادات راستيي وانتقادات سورل وذلك رغم اختلاف استراتيجية كل واحد منهما.. انظر بالنسبة لراستيي(14). وبالنسبة لسورل(15).

(*) ومن الواضح أن تحديده للمناط، يبدو أكثر قربا من مفهوم الموضوع الدينامي عند بورس.

(*) لقد تم اقتراح ترجمة مصطلح (Taxème) بمصطلح المناط الجامع، وذلك بناء على معناه التقني.

(*)  يلاحظ حول الآليات العديدة المقدمة من قبله، أنها لا تنتظم كلها في نسق موحد، بل إن بعضها فقط يقبل التماسك النسقي مثل (المناط الأصلي- المناط النصي- الشبكة- التناظر..)، ولذلك يلاحظ بيسر، أن كل خطاطة نسقية مقلصة، تقبل أن تكون كافية لأن تستلهم بوصفها آليات لتحليل نص ما. والواقع أنه، هو نفسه، يكرس ذلك في تحليلاته الجزئية المتمحورة أساسا حول بنينة القوة النظرية لكل آلية على حدة..