ص1      الفهرس    المحور 

استطيقا الشعر

في الأسس الفلسفية لعلم جمال الشعر

عبد العزيز بومسهولي

"الشعر هو الفن المطلق للعقل، الذي أصبح حرا في طبيعته، والذي لا يكون مقيدا في أن يجد تحققه في المادة الحسية الخارجية، ولكنه يتغرب بشكل تام في المكان الباطني، والزمان الباطني للأفكار والمشاعر". (هيجل)

"إن الصور الجمالية… لا علاقة لها إطلاقا بالبلاغة، فتلك هي إحساسات: مؤثرات إدراكية وانفعالية، مشاهد ووجوه، ورؤى وصيرورات… ولعل خاصية الفن هي المرور عبر المتناهي، لاستعادة اللامتناهي وإعطائه ثانية" (دولوز)

1 ـ تقديم:

هناك واقعة تحمل أكثر من دلالة، وهي أن ظهور علم الجمال، تزامن مع موت البلاغة الكلاسيكية. وهي واقعة مؤشرة على القطيعة الإبستمولوجية التي ميزت عصر الحداثة، بما هو انفتاح الكينونة على الفردانية، وما يعنيه هذا الانفتاح من إطلاق سراح "الأنا-موجود" من سجن التطابق، والميتافيزيقا هذه التي تحيل كل شيء إلى أصل ظاهر للوجود، كما أنها تخضع الكائن للطبيعة.

وموت البلاغة من جهة أخرى، تعبير عن انهيار العقلانية الدوغمائية التي تقوم نظرية المعرفة فيها على فكرة التماهي بين الذات والموضوع، والتماثل بين نسق الأفكار ونسق الأشياء. وهذا التماهي كان له وجهان: "فهو يستتبع في ذاته غائية، كما أنه يشترط مبدأ لاهوتيا كمصدر وضمانة لهذا الانسجام، ولهذه الغائية"(1).

أما ولادة علم الجمال، فهي تعبير جوهري عن تحولات أساسية ناتجة عما كان يسميه "كانط" بالثورة الكوبرنيكية، التي خلخلت النظام الدوغمائي، والقائمة على مبدأ مغاير يتمثل في خضوع وانقياد ضروري من الموضوع للذات، عوض مبدأ تطابق الذات والموضوع. ومن ثم فإن أهم إنجاز لهذه الثورة-القطيعة هو اكتشافها أن الكائن العاقل لديه قوى جديدة حية وفاعلة، وأن الكائن الإنساني هو الذي يقود ويأمر. فهو مشرع الطبيعة حسب "كانت"، وينتج عن هذا أن المعرفة تستتبع الوعي، كما تستتبع علاقة ضرورية بموضوع، فتصورات الكائن هي ملكه بما هي مربوطة في وحدة وعيه، حيث يصاحبها "الأنا أفكر" وهذا يعني أن الصيغة الأصلية للكوجيطو في رأي كانت هي: "أفكر في نفسي، وإذ أفعل ذلك، أفكر في الموضوع، أيا يكن الذي أربط به تنوعا متصورا(2). ومن تم أيضا فالظاهرات تخضع بالضرورة للمقولات التي بواسطتها يضحى الكائن الإنساني مشرعا للطبيعة، وهذا الخضوع يستلزم وسيطا يربط الظاهرات بملكة فعالة قادرة على أن تكون مشرعة، هذه الوسيط هو المخيلة التي تضع التخطيطات لكنها لا تفعل ذلك إلا حين يكون للإدراك سلطة التشريع، و"في الحقيقة فإن المخيلة تفعل شيئا غير وضع التخطيطات إنها تبدي حريتها الأشد عمقا عبر عكس شكل الموضوع، تتلاعب تقريبا في تأمل الصورة، تصبح مخيلة منتجة وعفوية كسبب لأشكال تعسفية لحدوس ممكنة"(3). وهنا يظهر أصل حس الجمال الذي يخلق الحدس بطبيعة غير معطاة لنا سلفا، طبيعة أخرى تكون أحداثها روحية.

إن ما نستنتجه من هذا التقديم أن الاستطيقا تعبير أساسي عن الحداثة بما هي مشروع ثوري يقوم على مبدأ تجاوز البلاغة الرديف الأساسي للميتافيزيقا. وفي هذه المجاوزة استراتيجية أساسية تتمثل في إخراج المعرفة عن اليقين، والمعنى عن التمثل والمثول والحضور(4) وهذه المسألة بالذات سنثيرها عند العلاقة بين الرؤيا والشعر كتمظهر لتصور جمالي يتجاوز البلاغة الكلاسيكية، ليؤسس لمبادئ جديدة تحرر الذات من ضوابط المكان، ومواضعات الأقيسة والتصورات المعطاة سلفا، خاصة وأن المفهوم الجمالي الأصيل للشعر يتمثل في كونه الفن المجاوز باستمرار، بوصفه فنا مفتوحا لا مكتملا، جماليته لا حدود لآلياتها الخالقة للإبداع.

2 - ولادة الاستطيقا - مجاوزة البلاغة:

أ ـ اقترن ظهور الاستطيقا بالبحث عن فنية جمالية للشعر، والواقعة الفكرية التي تؤكد ذلك تتمثل في كون البحث الذي أنجزه بومجارتن عام 1753 والذي عنونه بـ "تأملات في الشعر وفنيته" وهو أول بحث يوظف من خلاله الباحث لفظة "استطيقا" للدلالة على الحساسية، أي على علم الجمال. فهذه الحساسية تهيمن عليها أفكار بسيطة لا هي غامضة ولا هي واضحة، وإنما يحس بها في مضمونها ونتائجها. إذ أنها تقدم معارف حسية انفعالية، منسقة، تنسيقا، أي بهيجة وجميلة(5).

إن علم الاستطيقا حسب "بومجارتن Baumgarten" هو علم المعرفة الحسية، ونظرية الفنون الجميلة، وعلم المعرفة البسيطة، وفن التفكير على نحو جميل، وفن التفكير الاستدلالي"(6).

والذي يمكن أن نستخلصه من البحث عن علم جديد يبحث في فنية الشعر، وفي أسس فلسفية لهذا الفن، هو التحرر من النزعة المنطقية الصورية التي كانت تعتمدها البلاغة الكلاسيكية، وهذا البحث يشكل الدعامة الأساسية لما يمكن تسميته بالقطيعة المعرفية بين نظامين معرفيين نظام البلاغة ونظام الاستطيقا. فإذا كانت الأولى تقوم على مبادئ صورية وقواعد شكلية يقيم على أساسها العمل الفني باعتباره محاكاة للطبيعة، فإن النظام المعرفي الجديد لا يقوم إلا على مبدأ الإحساس بالجمال، وهو المفتاح الأول لتذوق الفن باعتباره تحريرا للمخيلة من قيود العقل الصوري.

إن علم الاستطيقا يأتي نتيجة لأزمة معرفية عرفها الأدب والشعر خاصة على مستوى المفاهيم النقدية، ذلك أن هذه المفاهيم والتصورات عجزت عن إدراك تحولات الكينونة الإبداعية التي خرقت أبعاد العالم القديم، وحاولت تجاوز حدود نظامه البلاغي لأنه بقدر ما يقوم على يقوم على مبادئ المنطق الصوري، ومن ثم نحا "بومجارتن" عن هذه الرؤيا، وأقام حدا فاصلا بين المعرفة الحسية الغامضة أو الاستطيقا، والمعرفة العقلية الواضحة (المنطق) فالحقيقة المنطقية تختلف عن الاستطيقا، في أن الحقيقة الميتافيزيقية أو الموضوعية، تتمثل حينا في العقل، عندما تكون حقيقة منطقية بالمعنى الضيق، وحينا فيما يشبه العقل، وملكات الإدراك البسيطة عندما تكون استطيقا(7).

وإذن فإن بومجارتن يفصل بشكل "أساسي" بين التفكير الصرف بوصفه مصدرا للمنطق، وبين الإدراك الحسي المبهم باعتباره أساسا للاستطيقا. وهذا في رأينا يعد إعلانا ضمنيا لنهاية البلاغة التي يتماهى في نظامها المنطقي بالجمالي-الفني. وهو تماه يهيمن من خلاله القياس الصوري على فكرة الجمال، ويجعلها خاضعة لحكمه.

ولعل الدكتور عز الدين إسماعيل لم يدرك مغزى هذا التعارض فهو يقول: "ومن هذا نكشف عن الحاجة إلى الاستطيقا، بجانب علم المنطق، ولكنه من الخطأ محاولة التمييز بين العلمين في أثناء الحديث عن تعبير ينسب إلى واحد منهما فقط"(8).

في حين أن المقصود بهذا التعارض هو تحرير الفن من سلطة البلاغة الكلاسيكية ذات المبنى المنطقي، وتأسيس علم جديد يبحث في جوهرية الفن، وفي أسسه الجمالية، علم يتخلص من الرؤية الكلاسيكية التي تفهم التعبير بوصفه منطقيا واستطيقيا في نفس الوقت.

لذا فقد كان بومجارتن يؤسس لفهم جديد يخرق مبدأ التطابق، وهو ما يعني حسب دولوز: أن الأشياء في الفن تصبح منذ البداية مستقلة عن النموذج. وسينظر إلى الأثر الفني بوصفه كينونة الحساسية ولا شيء غير هذا لأنه موجود في ذاته(9).

ودولوز من جهة أخرى يؤكد هذه القطيعة بين البلاغة ذات الأسر المنطقي، وبين الأستطيقا التي أساسها هو الفن ذاته، ومن ذلك قوله: إن الصور الاستطيقية (وكذلك الأسلوب الذي أبدعها) لا علاقة لها بتاتا بالبلاغة "Rhétorique"، إنها أحاسيس. مدركات وعواطف، إنها رؤى وصيرورات(10).

ومع ذلك فقد تعرض ظهور الاستطيقا إلى سوء فهم، فحتى كروتشه يعتبر هذا العلم امتدادا للبلاغة واستمرارا لها، وهذا ما حدا به إلى القول بأن " بومجارتن يشير إلى أرسطو وشيشرون في الأساس الأول من أسس علمه، وبعبارة أخرى يصل الاستطيقا بالبلاغة القديمة، مقتبسا الحقيقة التي قررها بوضوح زينو الرواقي القائلة: إن هناك أصلين للتفكير، التفكير الدائم الواسع وهو البلاغة، والتفكير الموجز المحدد وهو الجدل dialect وهو يوحد بين الأول والميدان الاستطيقي، كما يوحد بين الثاني والميدان المنطقي… فالاسم الجديد خال من أية مادة جديدة"(11).

إن أهم ما في تحديد بومجارتن من دلالة هو تخليص الاستطيقا من الميتافيزيقا، وبالتالي من الرؤية البلاغية التابعة لها، وليس الأمر عكس ذلك كما فهم عز الدين إسماعيل اعتمادا على رأي كروتشه، ويتضح هذا في كون الاستطيقا (عند بومجارتن) مقتصرة فقط على لون من ألوان المعرفة يكتسب بالإدراك الحسي، ويتناول كمال المعرفة الحسية مجردة عن أية فكرة، وهذا اللون هو الجمال. وهكذا فالجمال ذاته أصبح ميدانا للاستطيقا كما يستخلص كروتشه ذاته(12).

وإن أهم ما في تعريف بومجارتن هو حضور الذات بوصفها مستقبلا لمادة الجمال وعنصرا تقويما لا غنى عنه، وهنا أيضا تجاوز للميتافيزيقا التي تعتبر الجمال مبدأ علويا فعالا بجانب الحق والخير، وهو ما يعني خضوع الذات وانقيادها لهذا المبدأ العلوي. في حين فإن مفهوم الجمال في النظرة الاستطيقية خاضع لتقييم الذات، وهنا فبومجارتن يعتمد على رأي "فلف" الذي يعرف الجمال من حيث هو ملائم لامتناعنا، أو من حيث هو كمال واضح، والجمال الحق هو ما نتج عن الكمال، والجمال الظاهري هو ما نتج عن الكمال الظاهري. وليس السبب في استمتاعنا بالشيء ذي الجمال الظاهري هو نفس الشيء، وإنما هو رأينا الخاطئ في جماله(13).

إذن فإن الذات المستقبلة للموضوع، لها دور أساسي في التقويم الجمالي، وهنا يقول بومجارتن: "إن ظهور الكمال، أو الكمال الواضح للذوق بمعناه الضيق هو الجمال، والنقص المقابل هو القبح. ومن ثم فإن الجمال بهذه المثابة يمتع الناظر، والقبح - بهذا الشكل - يبعث الضيق"(14).

وهنا تتضح معالم الاستطيقا باعتبارها "علم المعرفة الحسية، غايتها هي كمال المعرفة الحسية، وهذا هو الجمال. ونقص المعرفة الحسية هو القبح. والأشياء بهذا المعنى يمكن التفكير فيها بطريقة جميلة، وأيضا فإن الأشياء الجميلة، يمكن التفكير فيها بصورة قبيحة(15).

ويمكننا هنا أن نصل إلى الأساس الفلسفي لهذا التصور الذي يعد قاعدة للاستطيقا، هذا الأساس الذي يحيل إلى الأنا المفكرة بوصفها كينونة من أجل الذات، منفصلة عن الموضوع، بواسطة الوعي الذي حررها من التطابق التام مع الأشياء، أي من حالة الكينونة في الذات Etre en-soi وقاعدة هذا الأساس تتمثل في الكوجيطو الديكارتي "الأنا أفكر" والذي استخلص منه "كانط" مبدأ أساسيا لفلسفة الجمال ومفاده "أن الجمال منفصلا عن وعينا لا يعد شيئا".

ب ـ إن ولادة الاستطيقا تعتبر من خلال هذا المنظور مرتبطة بفلسفة الذات، التي انطلقت مع ديكارت بتأسيس مفهوم الذاتية، وهو ما يعني أن هذه الذات ستصبح سيدة اللعبة، وهي وحدها المسؤولة عن إصلاح نفسها واتخاذ القرار في ألا تقبل من الأفكار "إلا ما كان واضحا" وهنا تبتدئ الحداثة في هذه اللحظة التي تحرر فيها الإنسان ليعود إلى ذاته من حيث هو ذلك الكائن الذي يتمثل نفسه برده كل الأشياء نحو ذاته كحكم أعلى على حد تعبير هيدغر(16)، الذي يمضي في قراءته ليستخلص مدلول الذات فيقول: "إن اسم" الذات" اتخذ معنى جديدا ليغدو اسم العلم الذي يطلق على الإنسان، ومعنى ذلك أن كل ما ليس إنسانا فسيغدو موضوعا يوضع أمام الذات"(17).

ومن هنا فإن علاقة الاستطيقا بالذاتية متينة، وأن مفهوم الجمال الذي حدده علماء الجمال وفلسفة الفن نابع من الذات، فهي شرط وجوده المتعين أي يخضع للشروط الذاتية لممارسة الملكات، فالجميل من وجهة نظر كانط هو ما يروقنا فقط، وحتى حين نقول بأن "هذا جميل" فإننا نتطلع إلى نوع من الموضوعية والضرورة والشمولية. لكن التصور الخالص عند كانط للموضوع الجميل هو تصور مخصوص، وإن موضوعية الحكم الجمالي هي إذن من دون مفهوم، أو إن ضروريته وشموليته ذاتيتان (فالأمر سيان). وهذا يعني أنه في الوقت الذي يتدخل فيه مفهوم محدد (أشكال هندسية، أنواع بيولوجية، أفكار عقلانية) يكف الحكم الجمالي عن أن يكون خالصا، كما يكف الجمال عن أن يغدو حرا، ومن ثم فما هو مطروح كشامل وضروري في الحكم الجمالي هو اللذة فقط التي هي قابلة للإيصال وصالحة للجميع(18).

إن الحكم هو الذي يشرع في ملكة الإحساس بشكلها الأعلى، إنه لا يشرع على مواضيع بل على ذاته، فهو ذو طبيعة ذاتية، وإن كان ينزع نحو الشمولية وهو حين يشرع لتخطيطات مرتبطة بالحياة وبلذائذها، تصطدم بغائية موضوعية متميزة عنها لكنها تمتد بحريتها إلى ما وراء المحسوس وهنا يظهر دور المخيلة بوصفها جزءا من الحس المشترك فتمارس أفعالها لتحقيق ما فوق المحسوس، وتعينه في المحسوس وتأثيره فيه.

إن أساس هذا المنظور متجذر في فلسفة الذات التي تضحى عند كانط ترنسندنتالية، من حيث إنها لا يمكن أن تكون قط موضوعا، بل هي ما يقابل الموضوع. وهنا يفرغ كانط الذات الديكارتية من كل محتوى وجوهرية ولن تعود موضوع معرفة لن تعود موضوعا(19).

ج - وهنا -وكما يرى هيجل بحثا عن أسس فلسفة الجمال- تتمثل ولادة الفن الجمالي كتعبير أساسي عن الإنسان بوصفه الوعي المفكر، فهو كائن لذاته، يقبض على ذاته بالحدس، بالفكر، وهو ليس روحا إلا بهذه الكينونة الفاعلة لذاتها، ومن ثم فهيجل يرى عظمة الفن متمثلة في كونه روحا يتحرر من أشكال ومحتوى الانتهائية، وفي كونه يمثل حضورا للمطلق في الحسي، وانتشارا للحقيقة التي لا تستنفذ كتاريخ طبيعي، بل تنكشف في التاريخ الكلي الذي هو صورته الأجمل(20).

وحسب هذا المنظور يغدو الجميل لا منتهيا وحرا، كما يغدو مفهوما لا يعارض موضوعيته، بل يتوحد بها، لأن غاية ونفس الموضوع الجميل، وكذلك طابعه الخارجي، وتنوعه يجب أن تظهر كمكونات جمالية خالصة، وليست مكونات لشيء آخر. فالموضوع الجميل لا يضحى ذا حقيقة إلا بصفته وحدة محايثة، وتطابقا لمفهومه ووجوده المرئي. وشرطا للحرية واللاتناهي التي يحملها مفهوم الجميل، يجعلان من الفن الجميل انكشافا للروح، وبذلك فهو ينتزع من نسبية العلاقات المنتهية، ويرفع إلى المملكة المطلقة، أي إلى ملكوت الفكرة وحقيقتها(21).

إن أهم ما في وسم هيجل للفن هو تأكيده على خاصيته في التحرر من التناهي، بفعل الانكشاف والتجلي الشمولي للروح. على أن مأزق الرؤية الهيجيلية إنما يتمثل في العودة بالفن إلى فكرة المطلق، وهو ما يحيل إلى ميتافيزيقا الحضور والتطابق والمثول التي انتقدها نيتشه معتبرا أن الوجود الهيجلي -بوصفه تعبيرا عن فكرة المطلق- ليس سوى العدم لا أقل ولا أكثر، والصيرورة التي يشكلها هذا الوجود مع العدم، أي مع نفسه هي صيرورة عدمية تماما. ومن تم فهو يؤكد على أن الوجود -بعيدا عن المسلمات- ذو بعد حيوي، فليس العالم واقعيا أو حقيقيا بل هو حي، والعالم الحي هو إرادة القوة، إرادة الزائف التي تتمر في ظل مقدرات معينة متنوعة تحقيقا للتقويم الدائم، فالحياة هي التقويم ذاته، وهنا يتمثل نيتشه الفن، ليس كتجليا للفكرة المطلقة كما هو الشأن عند هيجل، وإنما بوصفه حفازا لإرادة القوة. إن المعنى النقدي لهذا المبدأ كما يلاحظ دولوز يتمثل في فضحه كل تصور ارتكاسي للفن، وهنا فنيتشه يطالب بعلم جمال للإبداع. علم جمال بيجماليون. وانسجاما مع هذا الطرح يضحى الفن أعلى قوة للزائف، إنه يعظم العالم بوصفه خطأ.. فيقدس الكذب ويجعل من إرادة الخداع مثلا أعلى راقيا.ولتتم هذه القوة يجب أن تنتقى وتضاعف وتكرر. وترفع إلى قوة عليا، وتنقل إلى حدود إرادة خداع، وهي إرادة فنانة قادرة وحدها على التنافس مع المثل الأعلى الزهدي للحياة ومعارضته بنجاح، وهذا يعني أن الفن يخترع بالضبط الأكاذيب التي ترفع الزائـف إلى تلك القوة الاثباثية العليا ويجعل من إرادة الخداع شيئا يثبت نفسه في قوة الزائف(22).

إن جوهر الاستطيقا حسب هذا الطرح يكمن في ربطها بين الفن وبين عنصر المفاضلة الحيوي الذي ينجذب إلى الأخذ بالتفسيرات الباهرة للحياة. وبذلك تمكننا الرؤيا النيتشية من الانفتاح على استطيقا تعددية ينبني عليها تصور جدري للفن تتزاوج داخله الضرورة واللعب، التنازع والانسجام، ومن شأن هذا إطلاق قوى هائلة تعبر عن الكينونة كإحساس بالعودة الدائمة بوصفها سمة جوهرية للوجود الحي. حيث كل شيء متناه يغدو كائنا إحساسيا لا يكف عن الاستمرار، وهو ما يحقق الانفتاح والاختراق، وهذه هي خاصية للفن باعتباره هذا الاختراق الذي يجتاز المتناهي ليستعيد اللامتناهي. ويعطيه ثانية، على حد تعبير دولوز-كاتاري(23). وهذا التصور في نظرنا يجرد الفكرة الهيجلية من مطلقيتها، فيما يبقي على عنصري الحرية واللاتناهي، ولكن في شكل يعيد للاستطيقا بعدها النسابي التفاضلي والتعددي الذي يفضي إلى شكل استطيقي مفتوح مجاوز باستمرار لنظمة النزعة الوثوقية، وهذا هو ما منح الاستطيقا طابعا مستقلا عن البلاغة الكلاسيكية التي تعبر في عمقها عن جوهر التصور الميتافيزيقي للعالم. تصور قائم على مبدأ المقايسة والصورنة والانسجام الضروري للكائن الشبيه المطابق للكون الغائي.

3 ـ استطيقا الشعر:

أ ـ تهدف الاستطيقا خلافا للبلاغة، إلى فهم الشعر انطلاقا من بعده التركيبي الذي يصير الشعر فنا صيروريا، وليس بوصفه محاكاة للعالم كما هو شأن البلاغة التي انتهت ببحثها عن التقنيات الصورية التي يحملها الشعر في تراكيبه البلاغية للبرهنة على مسلمة التطابق بين الإنسان والعالم من خلال المحاكاة. مما أحال هذه التقنيات التي أضحت بلاغوية-وليست بلاغية فحسب- إلى قوانين ناظمة مرسومة مسبقا للعمل الشعري الذي غدا وفق الاصطلاح البلاغي رتيبا، لا يكاد يجتاز الحدود المرسومة في المخطط الصوري، مخطط المشابهة، وإعادة تكرار الصور النمطية. وهنا يبتعد الشعر عن عمل الإحساس الذي ينتج التركيب الجمالي.

وهنا تغدو الحاجة إلى الاستطيقا لإعادة بناء رؤية جديدة-حداثية يضحى من خلالها الشعر تعبيرا عن هويته الفنية، تتجسد من خلاله كينونة الإحساس، وعندئذ يضحى الشعر أثرا فنيا أو كائنا إحساسيا موجودا بذاته وكائنات الإحساس هي مفردات متنوعات، حسب دولوز - غاتاري(24).

وهو ما يعني -كما سبق- أن الصور الجمالية لا علاقة لها إطلاقا بالبلاغة، فهي إحساسات: مؤثرات إدراكية وانفعالية، مشاهد ووجوه، رؤى وصيرورات(25).

وإذن الأشكال الجمالية لا تغدو من خلال هذا الطرح سوى إمكانيات لمؤثرات انفعالية، ومؤثرات إدراكية، تعمل فوق -ما يسميه دولوز- مسطح تركيبي كصورة للعالم (الظاهرة) فتنتج الصور العظيمة الجمالية للشعر والرواية وكذلك الرسم والنحت والموسيقى مؤثرات تتجاوز المؤثرات الانفعالية وكذلك المؤثرات الإدراكية العادية بقدر ما تتجاوز المفاهيم الآراء الجارية. ومن ثم فلا علاقة للأشكال بالمشابهة ولا بالبلاغة، ولكنها هي الشرط الذي تنتج الفنون بواسطته مؤثرات انفعالية، وذلك فوق مسطح تركيبي من الكون. ومن ذلك فالفن كما هو شأن الفلسفة يتابع الاستقطاع في السديم ويواجهه(26).

ب - إننا إذن بصدد رؤيا جمالية جديدة، تؤسس لاستطيقا مجاوزة تخلخل المصادرات التي تعيد إنتاج الصور لا باعتبارها إحساسات، أو كائنات جمالية، وإنما بوصفها نمط نسق ميتافيزيقي جاهز.

هذه الرؤية الجديدة ستسعفنا أيضا في رسم ملامح استطيقا الشعر، وتكوين صورة واضحة عن الأسس الفلسفية لعلم جمال الشعر التي مهد لها نيتشه في مطالبته بعلم جمال للإبداع يعلي من إرادة الإبداع بوصفها أعلى قوة للزائف، وهو ما سنحاول أن نستخلص منه جمالية للشعر، سنسميها بجمالية السيمولاكر.

وأهمية هذا المنظور تتمثل أيضا في تجاوز نزعة الحضور، تلك التي ترجع التاريخ إلى حاضر دائم، بينما ينظر إليه هنا كتركيب أصلي من البقايا وآثار الاحتفاظ، كما أنه ليس تقدما لعقل كوني، وإنما لعبة الانتقال من قوة إلى أخرى.

وهنا أيضا فمفهوم الجمال هو ناتج هذه اللعبة، التي تتمظهر عبرها تجاذبات القوى وتوتراتها الحيوية.

وهكذا يتقوض الاساس المتا-ستاطيقي الذي ينبني عليه مفهوم الشعر عند هيجل الذي يعتبر هذا الفن تجليا للمطلق والروح الكلي بمعنى آخر تجليا للحضور الدائم للعقل الكوني، حتى وإن كان هيجل أكر مرونة في ربطه بين الشعر والحرية والاغتراب في الزمان والمكان الباطنيين يقول:

"الشعر هو الفن المطلق للعقل، الذي أصبح حرا في طبيعته، والذي لا يكون مقيدا في أن يجد تحققه في المادة الحسية الخارجية. ولكنه يتغرب بشكل تام في المكان الباطني، والزمان الباطني للأفكار والمشاعر(27).

وهنا كما يظهر تتجلى ثنائية ميتافيزيقية تفصل العمق عن السطح والباطن عن الخارج، وهنا يسمح التأويل الأركيولوجي لنفسه بإثبات ما يسميه فوكو بالعمق الخارجي وذلك عوض التأويلات التي توزع عناصر الكون إلى ثنائية الباطن والخارج لتجعل من السطح مطية لبلوغ أصل عميق خفي "وهكذا فالأركيولوجيا تطلعنا على خطاب لا يملك من الوجود إلا بعد الخارجية. حيث لا عمق له ولا صوت خطاب تقوضت معه الأزواج الميتافيزيقية ليصبح سطحا بلا أحشاء، فقط يهتم بالأشياء التي قيلت والجمل، التي تم التلفظ بها أو كتابتها فعلا والعناصر الدالة المكتوبة أو المنطوقة(28).

إن استطيقا الشعر المجاوزة تتوخى الانفلات من رقابة اللوغوس، أو من الخضوع لقانون العقل التي ينطلق من مصادرة ميتافيزيقية مفادها أنه لا لغة كائنة إلا لغة العقل. وأن الشعر بدوره كلغة هو تجل للوغوس-العقل الكلي، وما تحققه إلا من أجل بلوغ عمق باطني وأصل خفي.

ج - في الاستطيقا البعدية تصبح المفاهيم المؤسسة لعلم جمال الشعر خاضعة للمراجعة وإعادة البناء، وهنا يقترح دولوز-غاتاري أن نتوقف عن افتراض الكوجيطو كمحايثة تحيل إلى ذاتها، بل ينبغي طرح هذا الكوجيتو نفسه فوق مسطح محايثه ينتمي إليه ويقوده إلى عرض البحر، على اعتبار أن هذا المسطح يعيد الاقتطاع من التنوعية السديمية، ويعطيها تكثفا معينا.

وهذا يقودنا إلى منعطف يتحول عبره الكوجيطو من الإنسان إلى الدماغ، ويغدو هذا الأخير ذاتا مفكرة وليس الإنسان الذي هو مجرد تبلور دماغي: "الإنسان غائب، ولكنه حاضر كليا في الدماغ"(29).

يترتب عن هذا أيضا أن الفلسفة والفن والعلم ليست موضوعات ذهنية لدماغ مموضع، وإنما هي الأوجه الثلاثة التي يصبح الدماغ بواسطتها ذاتا -فكرا- دماغا وهي المسطحات الثلاثة والتي منها يقفر ويغطس في السديم ويواجهه(30).

طبعا فأسس هذه الرؤية الممهدة لاستطيقا بعدية لا تمثل في الكوجيطو الذاتي الديكارتي فقط وإنما أيضا في الكوجيطو الشعري-الغيري الرامبوي الذي أعاد تأويل معنى الأنا أفكر ويفصح كتاب ما هي الفلسفة؟ عن هذه الإحالة فيما يلي:

"إن الدماغ هو الذي يقول أنا، ولكن أنا هو آخر… وهذا الأنا ليس فقط "الأنا أدرك" للدماغ فحسب، بل هو أيضا "أنا أشعر" للدماغ كفن. والإحساس ليس أقل دماغا من المفهوم"(31).

حسب هذا الطرح لا يضحى الشعر نتاجا للعقل، وتطابقا للإدراك وإنما يغدو إحساسا، والإحساس هو الإثارة ذاتها التي تدعم اهتزازات المثير في مساحة عصبية أو في حجم دماغي، حيث أن السابق لا يكاد يختفي حتى يظهر اللاحق، وهذه هي طريقة الاستجابة للسديم. وفي محاولة لتجاوز التطابق بين الإحساس والإدراك أو بين الشعر والعقل يستنتج دولوز-غاتاري أن "الإحساس إنما يوجد فوق مسطح آخر غير مسطح الأوليات الميكانية، والديناميات والغائيات: إنه مسطح التركيب، حيث يتكون الإحساس مدغما ما يركبه، ومركبا مع إحساسات أخرى يدغمها بدوره. والإحساس تأمل خالص، لأنه بالتأمل نجمع وندغم، متأملين ذاتنا، بقدرما نتأمل العناصر التي نستخدمها. والتأمل هو الخلق، وسر الإبداع المنفعل، هو الإحساس الذي يملأ مسطح التركيب ويمتلئ من ذاته عندما يمتلئ مما يتأمل ويحدث الانتشاء، لأنه هو ذاته ذات داخلية(32).

د - هذه إذن فلسفة جديدة للنقد والاستطيقا كما يستخلص "مطاع صفدي اعتمادا على رأي فوكو في معرض حديثه عن دولوز فيلسوف المستقبل، لأن هذه الفلسفة الجمالية الجديدة تتجاوز كل ركائز اللسانيات النصية السائدة طيلة مرحلته التاريخية، إذ أن النص لا يكفي بذاته إلا بالقدر الذي يخط فيه مواده بالنسبة لما لم تتكون مادته منه بعد(33).

إن هذه الاستطيقا تستحضر اللامتناهي عبر المتناهي، عبر إحساس يفجر الرؤيا التي يظهر نورها من خلال الشق، وهنا يستحضر مؤلفا: ما هي الفلسفة؟ نصا للورنس يكشف بوضوح عن أسس استطيقا مجاوزة، يتحدث فيه عما يقوم به الشعر فيقول:

"الناس لا ينفكون عن صنع مظلة تحميهم، يرسمون تحتها قبة سماوية ويكتبون مصطلحاتهم وآراءهم، ولكن الشاعر بل الفنان، يحدث شقا في المظلة، حتى أنه قد يمزق السماء، ليمرر قليلا من السديم الحر والمنطلق، ويؤطر ضمن نور فجائي الرؤيا vision (في الترجمة العربية الرؤية) التي تظهر من خلال الشق، شأن زهرة الربيع عند ورد زورث Wordsworth، أو التفاحة عند سيزانو، أو شبح مكبث أو أشاب Achab. بعد ذلك يتبع هؤلاء جمهور المقلدين الذين يرممون المظلة ويرقعهونها بقطعة تماثل رؤيتهم تقريبا. ثم يـأتي دور الشارحين الذين يملأون الشق بالآراء: فيحدثون التواصل. وإلا فنحن محتاجون دائما إلى فنانين آخرين لإحداث خروق أخرى، وإجراء التدميرات الضرورية، التي قد تتعاظم تدريجيا، وبهذا يضفون على سابقيهم تلك الجدة التي كانت متعذرة الإيصال. إذ أننا لم نكن ندري أبدا كيف نراها. هذا يعني أن الفنان يصارع السديم (الذي يستدعيه بكل إرادته بشكل أو بآخر) أقل مما يصارع "كليشيهات" الرأي "(34).

ولعل أفضل من عبر من هذه الرؤيا الأستطيقية في نظرنا هو رامبو الذي يفصح عن دوره كشاعر في خرق قبة السماء، ومن ثم فإن رؤيته للشعر كفن استطيقي تصب في اتجاه بلورة تصور جمالي جذري يتميز بتمفصلاته، وروحه النازعة نحو الخرق ومصارعة السديم، وإحداث التدمير الضروري للقاعدة النمطية (أو لسقف) الأشياء. "لأن الأمر هنا يتعلق بالوصول إلى المجهول -كما يقول رامبو- وذلك عبر خلخلة قواعد كل الأحاسيس"(35).

وهنا تتأسس استطيقا الشعر على إرادة إبداع، وهي إرادة تزيح الحجب عن كل الأسرار: "الأسرار الدينية، أو الطبيعية، أسرار الموت والولادة، المستقبل، الماضي، الكون السماوي، العدم"(36). إنها إرادة خرق تتميز بإبداعها الحادق في العرض الجمالي العجيب. وهذا الاستطيقا بما هي استطيقا إرادة الشعر تمضي بعيدا إلى حدود استحضار اللامتناهي، وإحداث الاهتزاز المدعم الذي يوجد فوق مسطح التركيب الجمالي بلوغا لأعلى درجات القوة في الخلق والخرق وانفلاتا من قبضة العقل المتناهي، بل صراعا ضد الرأي، وإبرازا لإحساس فريد في تميزه. يقول رامبو، في مقطع شعري يتقاطع إبداعيا مع توصيف لورنس السابق لعمل الشعر:

"عقلنا الشاحب يخفي اللامتناهي

نريد أن نرى: -الشك يعاقبنا!

الشك هذا الطائر الرهيب يضربنا بجناحيه…

والأفق يهرب هروبا أبديا

……………………………………………………

السماء الكبرى فتحت! الأسرار ماتت

أما الإنسان المنتصب وهو يلف ساعديه القويين

في الفضاء الساحر للطبيعة الغنية!

إنه يغني… والغابة تغني، وخرير الوادي

يردد أغنية مفعمة بالسعادة التي تتصاعد نحو النهار!

إنه الخلاص! إنه الحب! إنه الحب!

……………………………………………………………………(37)

وتمشيا مع التحليل الدولوزي فإننا يمكن أن نستخلص بأن الشاعر هنا وهو يشق السماء، ويصارع السديم، فإنه يتناول من هذا الأخير قطعة، ليشكل سديما مركبا يصبح محسوسا أو يستخرج منه إحساسا سديمانيا باعتباره تنويعا مبدعا. إنه يحقق خلاصه الحميمي المتماهي بالحب، في أقصى درجات استدعائه للفرح الحيوي بحيث يغدو كل شيء كينونة إحساس، إحساس يغني الحياة، ويجعل منها أغرودة فرح كينوني يشكل بعدا من أبعاد انتشاء الكائن بالوجود، والوجود بالكائن، تحقيقا متواصلا لإرادة إبداع تفضي إلى تأسيس استطيقا مسكن الوجود بما هو لغة الجمال الناطق، فوجود الكائن مشروط بوجود العالم، وجود يصحبه التأمل، حيث يضحى كل شيء في الرؤيا، وداخل الصيرورة.

هـ - وهنا تتأسس أيضا رؤية مختلفة لاتسطيقا الشعر بوصفها استطيقا رؤيوية، تدمج الرؤيا في صلب الجمال، بحيث تتوخى تفعيل الكينونة الجمالية بما هي صيرورة للكائن الذي يصير، يصير كونا حجرا، نباتا، لكنها صيرورة حسية غدت جزءا من مركب إحساسات، هذا بالطبع يحيلنا إلى فكرة سيزان عن الرؤيا بما هي نزعة جمالية، حيث تغدو "المناظر الكبرى كلها لها طابع رؤيوي فالرؤيا هي أن يصبح اللامرئي قابلا للرؤية (مرئيا) فالمنظر هو غير مرئي لأننا كلما غزوناه ضعنا فيه. للوصول إلى المنظر علينا أن نضحي قدر الإمكان بكل تحديد زمني، فضائي وموضوعي؛ ولكن هذا التخلي لا يصل فقط إلى الهدف. فهو يؤثر فينا بالذات في القياس نفسه. في المنظر نكف عن كوننا كائنات تاريخية، أي كائنات هي نفسها قابلة للموضعة. فنحن لا نملك ذاكرة للمنظر، كما لا نملك ذاكرة لنا في المنظر. نحلم وسط النهار وأعيننا مفتوحة ننفلت من العالم الموضوعي وكذلك من أنفسنا"(38).

وهنا لا نستطيع أن نتناسى الأصول الهرمسية لمفهوم الرؤيا الشعرية الحديثة، مع فارق أساسي وهو كون الرؤيا الهرمسية تنزع نحو بعد عقدي - ميتافيزيقي صرف، بينما الرؤيا في المفهوم الحداثي ذات بعد استطيقي، وإذا كانت الأولى تهدف إلى الإحساس المتيقن من ذاته، فإن الثانية تنزع نحو الإحساس كتجربة جمالية من أجل الذات، كتجربة مولدة للوعي بالجمال الذي استدعي من عالم اللاتحجب. وهي تجربة صيرورية تحول اللامرئي مرئيا، وتخلق تجاذبا تأثيريا بين الرائي والمرئي، وعلى سبيل الإيضاح نرجع هنا إلى رؤيا هرمس ليتضح لنا التداخل والمفارقة معا بين الرؤيا الجمالية المعاصرة، وبين الرؤيا الهرمسية القديمة، يقول هرمس:

"ذات يوم، بينما أنا مستغرق في تأمل الموجودات بفكر يحلق في الأعالي، وحواسي معطلة كما يحدث لأولئك الذين يهجم عليهم نوم عميق… بينما أنا كذلك إذا بي وكأن كائنا عظيم القامة يفوق كل تقدير وقياس يناديني باسمي ويقول لي: "ماذا تريد أن تسمع وترى،؟ وبفكرك أن تتعلم وتسمع؟ فقلت: لكن من أنت؟ قال: أنا بواماندريس، الرب مالك الملك، أعلم ما تريد وأنا معك أينما كنت. فقلت: أريد أن أعرف عن الموجودات، أن أفهم طبيعتها وأن أعرف الله… آه كم أنا متشوق للاستماع! فرد علي بدوره قائلا: استحضر في عقلك كل ما تريد أن تعرفه. وأنا سأعلمك. وما أن أنهى كلامه حتى غير مظهره، فانكشف أمامي… فرأيت مشهدا لا حدود له، لقد تحول كل شيء نورا ناصعا بهيجا. أخذ بلبي بمجرد ما أبصرته"(39).

فما يوظفه الشعر من هذه الرؤيا الموغلة في استبصار المطلق، هو إرادة الرؤيا، واستدعاء الجمال من عالم التخفي، وإحداث الانكشاف، الذي يصير الخفي ظاهرا، يؤطره في المنظر العام للرؤيا، لكنه منظر مجرد عن الذاكرة، عن التزمين، مجرد أيضا عن قيود الحدود، وهنا يتحمل الشعر إمكانات تفجير بوثقة العالم، وفتح بوابة الوجود الجمالية، إن الأمر يتعلق هنا بتحرير الحياة حيثما هي أسيرة، لرؤية النور الذي يستجلي عظمة الكينونة الجمالية، بما هي كينونة خلق وصيرورة، كينونة تعي وجود الكائن بوصفه كائنا من أجل الجمال، لأنه لا يتوخى الإرادة إلا باعتبارها إرادة الجمال، إرادة تحول الوجود مسكنا شعريا، وهي إرادة قوة لأجل شعرية العالم يقول رامبو:

"أريد أن أكون شاعرا، وأعمل لأصير رائيا، فالأمر يتعلق بالوصول إلى المجهول، عبر خلخلة قواعد كل الأحاسيس، فحتى وإن كانت الآلام ضخمة، فإنه يجب أن أكون قويا، وأن أولد شاعرا، وهذا ليس خطئي إن اعترف بي شاعرا. فلا يصح القول: أنا أفكر، بل وجب القول: يفكر في -عفوا على اللعب بالكلمات- أنا هو أحد آخر"(40). إن الاستطيقا تضحى انكشافا لقوة الكائن الرائي من خلال الشعر بوصفه عملا فنيا، بل انكشافا للشاعر وهو ينبثق كقوة إرادة في الوجود، تخترق العالم لا بحثا عن الاعتراف فحسب بل أيضا كتجل لذات مفكر فيها، ذات يضحى داخلها الكوجيطو آخرية تتولد عبرها الفوارق، وتستعاد فيها لحظات الوجود الفرحة بشكل أبدي، إن إرادة الكائن الشعري هي إرادة جمال أبدي، وكما يستنتج كونديرا في إحدى أعماله الروائية الشهيرة: "فما بين الإرادة والأبد، ليس شيئا آخر سوى الخلود". ولن يتحقق الخلود إلا بفعل الولادة، (أولد شاعرا: رامبو)، وهي ولادة الانفتاح، أليس الانفتاح كما يرى هيدغر: هو الذي يمهد السبيل لوجود الموجودات، والشعراء لا يعدون مجازفين ومغامرين لا لكونهم يعملون على تفتح الوجود، ومن ثم تصير قصائدهم الكينونة انفتاحا، وهنا يضحى الشعر كفن إمكانية لتحقق التاريخ، فهو أساس التاريخ يرشد الإنسان ويلهمه بكلماته، وإن كتابة الشعر لا تعني إلا المساهمة في عملية الاكتشاف وانفتاح الوجود يقول هيدغر: "إن كتابة الشعر ليس أساسا علة لفرح الشاعر، بل بالأحرى إن كتابة الشعر هي نفسها فرح، ابتهاج، لأنه في الكتابة تتولد العودة الرئيسية إلى الوطن أو البيت"(41).

وهنا أيضا يصير الشعر غناء، نشيدا جوهرانيا للسعادة وهذا هو ما أفصح عنه رامبو في إصراره على إرادة الرؤيا كمبعث لأغنية الوجود، فالشاعر هو هذا الكائن الذي يكشف، وفيما هو يقوم بذلك فإنه يعثر على الوجود وهو يتأسس كأغنية تتردد كإحساس بكينونة الفرح الدائم:

"إنه يغني… والغابة تغني، وخرير الوادي

يرد أغنية مفعمة بالسعادة التي تتصاعد نحو النهار

إنه الخلاص! إنه الحب! إنه الحب!" (رامبو)

إنه خلاص متولد عن الشعر، حب إنبثق كتسجيد لجمال العالم، كانتزاع للحقيقة الخفية في الطبيعة، والفن كما يقول "دورر" يكمن خفيا في الطبيعة، والذي يستطيع أن ينتزعه منها يتملكها(42).

ومعنى ذلك أن الشاعر يستدعي الحقيقة من طوايا الأرض لكي ينشرها على الناس في صورة قصيدة هي بمثابة عالم إنساني قائم بذاته على حد تعبير هيدغر(42)، ومعنى هذا أيضا أن القصيدة بما هي "أثر فني تغدو كائنا" إحساسيا، ولا شيء غير ذلك، فهي موجودة بذاتها"(43).

إذن فإن استطيقا الشعر تؤسس لفهم مغاير، لا يتأول العملية الشعرية إلا بوصفها مولدة لكينونة إحساس مستقلة بذاتها، مؤسسة لوجودها الجمالي بتحريرها للإحساسات التي يحويها العالم الأرضي، وبذلك فهي عملية انفتاح واختراق يعادل اللامتناهي، لأنها ترسم مسطح تركيب، يحمل بدوره نصبا وإحساسات مركبة بفعل صور جمالية(44).

هذا الفهم المغاير قطع نهائيا صلته مع البلاغة، باعتبارها منتجا تقويميا كلاسيكيا استنفد ممكناته الفنية، أو أضحى عملية سكولائية لا روح فيها. بينما الفهم الاستطيقي لا يفتأ باحثا عن رؤيا التجاوز والتجدد، وهما السمتان الأكثر أهمية لكل عمل جمالي شعري.

استطيقا القصيدة/استطيقا الجسد:

أ ـ من الممكن البحث عن الأسس الفلسفية الحديثة لعلم جمال القصيدة، في ظهور مفهوم جديد للجسد، يرتبط بصعود الفردية كبنية اجتماعية، وبانبثاق فكر عقلاني ووضعي حول الطبيعة، هذا المفهوم يدرك الجسد بوصفه عامل تفرد، كمكان وزمان للتمييز، إنه ما يبقى عندما نفقد الأشياء الأخرى، إنه الأثر الملموس أكثر من غيره للشخص بأعضاء جماعته. وإذن فإن النزعة الفردية تكتشف الجسد في نفس الوقت الذي تكتشف فيه الفرد.

ومنذ نهاية الستينات، انطلق مخيال جديد للجسد -كما يقول دافيد لوبروتون- واكتسح ميادين للممارسات والخطب كانت غير معروفة حتى ذلك الحين، وبعد فترة من القمع والتكتم يفرض الجسد اليوم كموضوع لتفضيل الخطاب الاجتماعي، ومكان هندسي لإعادة غزو الذات الأرض التي ينبغي ارتيادها، المرصاد اللانهائي للأحاسيس التي لا تحصى داخلها. إنه المكان المميز للرفاهية (الشكل)، ولحسن المظهر وجماليته، إن الجسد -في نهاية هذا التصور- هو موطن الإنسان(45) ومن ثم فقد تعدلت بعمق علاقة وعي الشخص لجسده، لأن المخيال المعاصر يخضع الجسد للإرادة، ويجعل من الجسد مادة مميزة لبيئة الإرادة، وهكذا فكلما تمركز الشخص حول جسده كلما أخذ جسده مزيدا من الأهمية المثيرة للإعجاب بالجسد حد التوهج. وهنا يضحى الجسد قرينا، أنا آخر Alter-ego فهو ذاته والمرآة في آن معا. إن الفرد يصبح إذن نسخته الثانية (سيمولاكر) وصورته الخالدة(46).

هذا التصور يعتبر أساسا فلسفيا لعلم جمال القصيدة المعاصر، فالقصيدة تدرك ككينونة فردية، مستقلة بذاتها، فهي مكان نمو الإحساس الجمالي، وهي بمعنى هيدغري موطن الكينونة.

وإذا كانت القصيدة جسدا ماديا تتكون جزئياته من اللغة، فإنها تعبر عن الأنا الشعري، في نفس الوقت الذي تتأمل فيه ذاتها كآخر. إنها كينونة الرؤيا المولدة للإحساس كقوة إظهار الفوراق بما هي انكشاف للجمال الذي يجعل من اللاتشابه تلك الخاصية المميزة للسيمولاكر. سيمولاكر القصيدة-الجسد.

ب ـ القصيدة امتداد للشعر، كما هو الجسد امتداد للإنسان، وإذا كان الجسد يجسد الفردانية الصميمية لكينونة الإنسان، فالقصيدة تجسيد آخر لفردانية تعبر عن الكينونة الشعرية، بوصفها تعينا لصيرورة الوجود الدائم.

إن القصيدة من منظور "نيتشوي" هي حس استطيقي-جسداني. لا ينقطع عن العودة الدائمة، واستطيقيتها تتجلى في ظهورها كشبه يتكرر أبدا، شبه يعود، كما الجسد ما يفتأ يتلاشى ليعود من جديد، وهنا يتأسس الإحساس الجمالي للقصيدة، كظهور فرداني-جسداني للقصيدة بوصفها عودة الشعر الدائمة، عودة يظهر من خلالها تقويم الكينونة وإبداع قيمها. إن القصيدة كما يرى نيتشه "هي التقويم وفن التقويم، إنها تقول القيم، لكن بالضبط، قيمة المفاهيم المعقدة جدا. ومعناها، بحيث ينبغي تقويم القصيدة بحد ذاتها، وتفسير الكلمة الجامعة"، إن القصيدة والكلمة الجامعة هما بدورهما موضوع تفسير وتقويم. وهناك بعدان للتفسير أو التقويم حيث يكون البعد الثاني عودة للأول عودة الكلمة الجامعة أو دورة القصيدة، وإذن ينبغي أن تقرأ كل قصيدة أو كلمة جامعة مرتين، مع رمية النرد، يبدأ تفسير العودة الدائمة، لكنه يبدأ لا أكثر، وينبغي تفسير رميه النرد بحد ذاتها في الوقت الذي ترجع فيه(47).

إن القصيدة من هذه الوجهة هي التعبير عن فعل كوجيطو شعري الأنا - أشعر، بحثا عن الوجود بما هو استيطان وإقامة دائمة، وهي فعل قصدي يحمل وعيا بشعرنة الوجود، وإحداث منطقة جمالية.يفصح من خلالها الكائن عن الإحساس بكائنات العالم. فالقصيدة تحمل الشعري إلى اكتشاف نسيان الكينونة، وهي بذلك تنقد الكائن وتخلصه من التماهي والتطابق والتشيؤ. وتقوده إلى التكون والانبناء، أي "إلى حالة استعادة الاستيطان في الجسد كأسلوب وحيد لانبناء الكائن في العالم"(48).

إن القصيدة بمعنى أدق تقصد الوجود، إلا أنها قصدية استطيقية تتوخى القبض على اللامتناهي، وإعادته ثانية في شكل المتناهي، وهنا تكمن شعريتها بل جماليتها، لأنها وهي تظهر كشبه جمالي لا يفتأ يعود دوما، فإنها تتحرر من المطابقة والتماهي بمعنى أن شبهيتها جسدانية فقط، ولكنها في الآن ذاته مفارقة للأصل، للمألوف، لأنها تقويم اختلافي، والقصيدة التي لا يتحقق فيها هذا الشرط تنتفي عنها استطيقيتها، وتبقى حبيسة منطق بلاغي مطابق، منطق ميتافيزيقي صوري، يدرك الشبه في كونه التطابق التامر والتماهي.

إن جمالية القصيدة من هذه الوجهة كجمالية الجسد، فإذا كان الجسد ككينونة فردانية تتميز باختلافها، حيث لكل كينونة بصماتها وسماتها المميزة، فأيضا تكون القصيدة من الشعر بمثابة الجسد الذي يظهر بعلامات الجمالية المولدة للفوارق، وهنا تكتسب القصيدة جماليتها براهنيتها. فهناك قصائد لا تعد ولاتحصى، ولكن التاريخ الشعري يحتفظ فقط بالقصائد التي نسميها هنا القصائد الراهنية، أي تلك التي يتجسد فيها وعي جمالي يزاوج بين إرادة الإبداع، واختراق الأبد، هذه المزاوجة المنتجة للخلود الذي يعطي للإحساس القدرة على الوجود وحفظ ذاته في الأزل بانتصابه، والقصيدة نصب ترتسم هيئته بانتزاع الإحساس من الزمن الحاضر، وتخليصه من التلاشي، وجعله محفوظا ومستقلا عن المبدع أيضا استقلالا تاما للتعبيرانية تستجمع الذات وشبيهها، استجماعا مولد لجمالية الفوارق والاختلاف.

ج ـ إذا كان الجسد هو الذي يعطي ويحدد هوية الإنسان، فإن القصيدة بما هي جسد الشعر، فهي التي تتحدد هويته الشعرية، لكنها بقدر ما تنزاح عن التطابق والائتلاف، بقدر ما تحقق شرطها الجمالي، وكينونتها الاستطيقية. والشعر باعتباره عملا للمضاعفة هو الذي ما يفتأ يظهر كينونته في القصيدة المجاوزة باستمرار، إنها انفلات من قبضة النموذج، قبضة الأصل الميتافيزيقي، فهي لا تنبني متطابقة، وهي لا تلبث متباعدة عن نفسها. إنها لا تحضر لأن زمانها ليس زمان الحضور والميتافيزيقا وإنما زمان العود الأبدي. ومعنى هذا أ القصيدة هي الذات-الآخر، "فهي إذ تكون، فإنها تتضمن كائن السلب الذي ينخرها من الداخل، بوصفه الحركة اللامتناهية التي تبعدها عن نفسها"(49).

والقصيدة "إذ تتباعد عن ذاتها فإنها تمارس التخييل، وتقع هي ذاتها في المنطقة الاختبارية للخيال الحركي الذي ينفض غبار التطابق الحاجب للآخرية(50).

إن ما يولد الهوية الاستطيقية للقصيدة هو الاختلاف، بما يكسبها وقع التبئير المتوتر الذي يكشف عن حيوية تتوغل في الكينونة لإنتاج الصيرورة. وخاصية السيمولاكر الشعري هي اللاتشابه. لأنه يميل نحو الحمق واللا تحديد، وخرق المعقول ويسعى إلى أن يصبح آخر، وهو كما يرى دولوز "صورة شيطانية فقدت التشابه الذي يجمعها بالشبيه، أو بالأحرى فإنه على عكس الأيقونة، طردت التشابه وأبقت على الاختلاف(51).

ومعنى هذا أن كينونة القصيدة تعيد اكتشاف جسدانيتها التي أضمرتها شعرية التطابق والتماثل ومحاكاة الأصل، أو التماهي مع المطلق كما هو الشأن عند هيجل، ويبقى اكتشاف القصيدة وليد الصدفة المدمرة لآلية التوافق العقلي، لأنها إنما تتوخى إعادة اللامتناهي. "هذا الجنون المفيد". على حد تعبير مالارميه(52). إنه جنون ينقل حركة الكون بما هي لعب يجمع بين الضرورة والحرية. يخنق الإرادة، ويجعلها مجرد تابع لا ينتج إلا وفق مخطط النموذج. وهنا تكون ولادة القصيدة بمثابة رجة في كينونة الشعر. "وما أن يأتي القصيد بشعريته المتميزة حتى يجعل كل الذي سبقه قابلا للاستنفاذ أو لإعادة النظر أو تأويل مختلف، وكما قال -براك- فإن الفن خالق الاضطراب، وأول ما يعاني من فعاليته الاضطرابية تلك هي ذاته "على حد تعبير مطاع صفدي"(53).

حسب هذا المفهوم تغدو القصيدة كائنا جسديا، يبعث الإحساس في عمق كينونة الشعر، الشعر بما هو ماهية القصيدة، لكن شرط جمالية القصيدة يبقى مرتبطا بمدى قدرتها على خرق التطابق، بمدى إثباتها للاختلاف وللظواهر كتعدد، وكعودة دائمة إن القصيدة بمعنى أكثر تجدرا تلتقط هذا اللامتناهي لتعيد إنتاجه في جسد يتشكل من لغة وكلمات لا تعترف بحدود التواصل المعرفي المتناهي، لأنها تكسر قاعدة الأذاتية لتنفذ إلى السديم فتحدث ثقبا تنكشف عبره أسرار المجهول، ومن ثم تغدو كل قصيدة مغامرة كينونة، ومشروعا لا مكتملا أبدا، ولا اكتمالية القصيدة، هي المعبر الرئيسي للعودة الدائمة للوجود الصائر.

5 ـ خلاصة:

إن الأسس الفلسفية لعلم جمال الشعر، التي حاولنا مقاربتها في هذا البحث، ليست رهينة الميتافيزيقا، تلك التي تقيم تصورا أنطولوجيا للوجود والمعرفة نابعا من البحث عن أصل دائم مفارق، أصل يستدعي الموجود نحو التطابق حد التماهي بالأصل في مطلقيته كما هو الشأن عند هيجل.

بل إن الأسس الفلسفية التي بحثنا هنا تجليها في استطيقا الشعر نابعة من فلسفة جديدة مجاوزة للميتافيزيقا، فلسفة تعيد الاعتبار للذاتية لا لحضور وتماثل، وإنما كاختلاف يؤسس لمرحلة ميلاد الكينونة، التي تعطي الأمل لحمل ندائية الوجود وتحقيق وجود الكائن في العالم، بما هو كائن من أجل الجمال.

ثم إن هذه الأسس تقطع مع التصور الميتافيزيقي الذي يعلي من شأن الدوغمائية واليقين، لأن الأمر يتعلق هنا بمساءلة كل يقين يدعي الوثوقية والشمولية والهيمنة على النسق الفلسفي للمعرفة. في حين نجدها تصورا فلسفيا مغايرا للاستطيقا الشعرية، يدرك الشعر بوصفه نداء للوقوف عند الوجود، بما هو انكشاف لجمال الوجود. هذا الجمال الناتج عن اختلاف الكينونة بما هي ذاتية توليد الفوارق. وبما هي إحساس كينوني بالتوتر الحيوي الذي يعلي من شأن الانزياحات المكسرة للمألوف الجاهز بوصفها ناتج إرادة قوة مجازفة خليقة بنشدان الوجود في أقصى درجات تداعي بنائه الحاجب، هذا البناء الذي يتلاشى مفسحا المجال للجمال ليكشف ظهور الشعري كرؤيا كينونية، متولدة في وعبر القصيدة، هذا الجسد الجمالي الذي ما يفتأ يعود دوما(54).

 

هوامش

1 - دولوز: فلسفة كانط النقدية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت 1997، ص 24.

2 - نفس المرجع، ص 28

3 - نفسه، ص 82.

4 - عبد السلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفي المعاصر - مجاوزة الميتافيزيقا دار توبقال، 1988، ص 118.

5 - عدنان بن ذريل: جماليات كانط وهيجل مجلة المعرفة السورية، ع 193-194، ص 164.

6 - عز الدين إسماعيل: الأسس الجمالية في النقد الأدبي دار الفكر العربي، ط3، ص 1974، ص 16.

7 - نفسه، ص 18

8 - نفسه، ص 18.

9 - Deleuze et GuattariQu’est ce que la philosophie? Cérès editions-Tunis 1993, p. 183.

10 - Ibid, p. 199.

11 - عز الدين إسماعيل: نفس المرجع، ص 20

12 - نفسه، ص 22

13 - نفسه، ص 53

14 - نفسه، ص 54

15 - نفسه، ص 54

16 - بنعبد العالي، ص 108

17 - نفسه، ص 108

18 - دولوز: المرجع السابق، ص 80

19 - بنعبد العالي، ص 108

20 - هيجل: مختارات ج 2 ترجمة إلياس مرقص دار الطليعة، ص 135

21 - هيجل: نفس المرجع، ص 141.

22 - دولوز: نيتشه والفلسفة ترجمة أسامة الحاج المؤسسة الجامعية بيروت 19 ،ص 131.

23 - دولوز غاتاري: ما هي الفلسفة؟ ترجمة مطاع صفدي، معهد الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي 1996، ص 204 (اعتمدنا هنا أيضا الترجمة العربية لوضوحها ودقتها).

24 - نفس المرجع، ص 184

25 - نفسه، ص 185

26 - نفسه، ص 81.

27 - عدنان بن ذريل: نفس المقال، ص 179

28 - عبد السلام بنعبد العالي: نفس المرجع، ص 70

29 - دولوز وغاتاري: نفس المرجع، ص 215

30 - نفس المرجع، ص 215

31 - نفسه، ص 216

32 - نفسه، ص 217

33 - مطاع صفدي: مقدمة كتاب ما هي الفلسفة؟ ص 23

34 - دولوز غاتاري، ص 208

35 - Rimbo, Poésies, Grand textes classique, ed. U-Eur 1995, p. 190-193

36 - Ibid, p. 25

37 - Ibid, p. 25

38 - دولوز غاتاري، ص 117

39 - د.محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي،المركز الثقافي العربي، ط1، ص 268.

40 - Rimbo: Poéses, p. 190.

41 - مجاهد عبد المنعم مجاهد: جماليات هيدغر نفس العدد من مجلة المعرفة، ص 156.

42 - د.زكريا إبراهيم: فلسفة الفن في الفكر المعاصر-دار مصر القاهرة 1966، ص 271

43 - دولوز غاتاري: نفس المرجع، ص 172

44 - نفسه، ص 205

45 - دافيد لو برتون: انتربولوجيا الجسد والحداثة ترجمة محمد عرب حاصيلا المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر 1993، ص 151.

46 - نفس المرجع، ص 157

47 - دولوز: نيتشه والفلسفة، ص 44

48 - مطاع صفدي: الشعري - الكينوني: الفكر العربي المعاصر، ع 58-59، ص 1988، ص 16.

49 - عبد السلام بنعبد العالي: نفس المرجع، ص 97

50 - عبد العزيز بومسهولي: شعرية السيمولاكر: الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي، ع 526، ص 4.

51 - بنعبد العالي، ص 101.

52 - مطاع صفدي: الشعري/الكينوني. الفكر العربي المعاصر، ع 58/59، ص 14.

53 - المرجع السابق، ص 4.

54 - انظر بحثنا - المنشور في مجلة "فكر ونقد" العدد السادس، وفيه أثرنا مسائل تتعلق بالشعر والوجود.