التمثيل
والظواهر والمسرح
أحمد بلخيري
إذا
نحن نظرنا من زاوية تاريخية، وتحديدا منذ عهد الحماية إلى الآن، إلى الثقافة المسرحية
المغربية، بحثا ونقدا وترجمة وإعدادا، جاز لنا القول بأنها تعرف الآن تحولا نوعيا،
يقطع مع ما عرفته الثقافة المسرحية المغربية خلال مرحلة الحماية وإلى حدود نهاية
السبعينات. يشهد على هذا التحول النوعي عدد من الكتب المتخصصة المتصلة بالمسرح،
الصادرة في السنين الأخيرة، علاوة على عدد الباحثين المتخصصين أنفسهم.
ومن
الممكن المقارنة -مثلا- بين مقالات نشرت في بعض المجلات المغربية في السبعينات
وأوائل الثمانينات، وبين ما ينشر حاليا من قبل باحثين متخصصين، على اعتبار أن ما
كان ينشر في تلك المجلات يشكل نموذجا أو نماذج يومئذ تدل على مرحلة بكاملها تم
تجاوزها الآن. هذا رغم أننا نؤمن بأنه لا قياس مع وجود الفارق. وهذا الفارق نفسه
دليل على هذا التحول، وهو أمر طبيعي.
ليس
هذا فحسب، بل يمكن توسيع أفق المقارنة إبرازا لهذا التحول، لتشمل الثقافة المسرحية
المغربية المتخصصة الآن من جهة، وبين نظيراتها في عدد من البلدان العربية من جهة
أخرى الآن أيضا.
لكن
كلا المقارنتين ليستا همنا الرئيسي هنا؛ ولكن همنا منصرف إلى تحليل كتاب جامعي،
كان قد قدم في الأصل لنيل دكتوراه الدولة. هذا الكتاب هو: "المسرح
وفضاءاته"(1) للدكتور محمد الكغاط، الصادر سنة 1996.
كان
عنوان البحث في الأصل: "القالب المسرحي العربي بين النص والعرض، محاولة البحث
عن منهج تجريبي لمقاربة النص المسرحي". ثم تغير العنوان حين نشر الكتاب فصار
"المسرح وفضاءاته". ما هي العلاقة بين العنوان الأول والعنوان الثاني؟
لا نريد الوقوف عند هذه النقطة، ولكن يمكن أن نشير إلى أن العنوان الأصلي -أي
الأول- محصور في النطاق العربي. أما العنوان الثاني فلا تحده حدود جغرافية أو
لغوية أو زمانية، ما عدا الحد النوعي: المسرح. يترتب عن هذا الاختلاف السؤال
التالي وهو: هل سننظر إلى مطابقة أقسام الكتاب أو عدم مطابقتها للعنوان، خاصة
القسم الأول، انطلاقا من العنوان الأول أم من العنوان الثاني؟ علما بأن عنوان
القسم الأول هو: "الظاهرة المسرحية بين النص والعرض". وهو عنوان مطلق
الدلالة من حيث الزمان والمكان والثقافة التي تنتمي إليها الظاهرة المسرحية، وكذلك
النص والعرض. أما عنوان القسم الثاني فهو غير مطلق الدلالة لأنه محصور في الإطار
العربي، إذ كان عنوان هذا القسم: "القالب المسرحي العربي بين النص
والعرض".
على
كل حال، نحن لدينا الآن كتاب عنوانه: "المسرح وفضاءاته"، وهو موضوع
الدراسة والتحليل.
يتكون
الكتاب من ثلاثة أقسام. وقد سبقت الإشارة إلى عنواني القسم الأول والقسم الثاني.
وكان عنوان القسم الثالث هو: "نحو البحث عن منهج تجريبي لمقاربة النص
المسرحي". وهذا القسم الثالث مكون بدوره من جزأين، الجزء الأول عنوانه:
"المسرحية بين الكتابة الدرامية والكتابة السينوغرافية". وعنوان الجزء
الثاني: "مقاربة تجريبية لمسرحية "سهرة مع أبي خليل القباني" لسعد
الله ونوس. وقد بلغ عدد صفحات الكتاب 244صفحة من القطع الكبير.
هذا
عن الهيكل العام للكتاب. أما عن محتواه فيمكن أن نشير إلى أن عنوان هاته
المقالة/الدراسة: "التمثيل والظواهر والمسرح" يختزله بشكل دقيق. وحتى
ترتيب هاته المفاهيم الثلاثة ليس عفويا ولكنه مقصود. ذلك أن هناك خلفية زمنية
وفنية وتصورية تؤطر هذا العنوان الثلاثي الأبعاد. هاته الخلفية هي العمود الفقري
للكتاب، إذن هي أطروحته. إن التمثيل يقود إلى الظواهر، والظواهر تؤدي إلى المسرح.
إن فعلي "يقود" و"تؤدي" يعنيان هنا وجود سيرورة زمنية طويلة
جدا. ابتدأت بالتمثيل وانتهت بالمسرح، مرورا بمرحلة وسطى هي مرحلة الظواهر. لكن
كيف حصل هذا التدرج والتطور؟ وأي من المفاهيم الثلاثة السابقة الذكر يحي على نزعة
فطرية كامنة في النوع الإنساني، ولذلك فهي ملك مشاع بين سائر البشر؟ وأي منها
يقترن بخصوصيات فنية مكتسبة، ذات قواعد وأصول محددة، تميز هاته الخصوصيات طائفة من
الناس دون الآخرين، أو شعبا من الشعوب؟
هذه
الأسئلة سنعثر على أجوبة لها لاحقا. ولكي تكون تلك الأجوبة واضحة نقترح تقسيم
الموضوع إلى ثلاثة عناصر، هي المكونة للعنوان نفسه: التمثيل والظواهر والمسرح.
لكن،
قبل القيام بذلك لنلاحظ جيدا أننا استعملنا في الأسئلة السابقة مباشرة عبارات هي:
نزعة فطرية كامنة في النوع الإنساني، وسائر البشر، وشعب من الشعوب، وملك مشاع. وهي
عبارات ترتبط بالإنسان عموما دون زيادة أية صفة أخرى، ما عدا ما يمكن أن يستنبط من
عبارة: "شعب من الشعوب". وهذا يعني أن أفق أطروحة الباحث، خاصة في القسم
الأول، أفق مفتوح، لا تحده حدود باستثناء الحد المسرحي، الذي تعود أصوله وجذوره
إلى حركة الإنسان وفعله وإشارته أولا وكلامه ثانيا. وعليه، فإن أصل التعبير عند
الإنسان الحركة وليس الكلمة. والأمر لا يتعلق هنا، في هذا السياق، بالتعبير
المسرحي، وإنما بالتعبير عن الذات من قبل الإنسان. وقد عزز الباحث افتراضه هذا
بأول تعبير عفوي يصدر عن الطفل بمجرد خروجه من فضاء الرحم إلى فضاء الحياة. هذا
التعبير يتجلى في الحركة والصراخ وليس الكلمة.
وتبعا
لذلك، فإن أصل المسرح الحركة وليس الكلمة، أي العرض وليس النص، قياسا على أول ما
يصدر عن الطفل وهو الحركة التي تعقبها تدريجيا الكلمة. ونظرا لارتباط الحركة
بالعرض والكلمة بالنص فقد أدت عملية المقايسة هاته إلى اعتبار العرض سابقا في
الوجود على النص. ما هي الحجج المقدمة لتأكيد هذا الرأي؟
1
- التمثيل:
يلاحظ
محمد الكغاط "أن جل الدراسات والأبحاث الجامعية العربية التي اتخذت المسرح
محورا لها" قد تعاملت "مع هذا الفن باعتباره جنسا أدبيا"(2).
وكان ذلك سببا في استئثار النص "فترة طويلة بالأسئلة حيث كان السؤال السائد
هو: ما هي المسرحية؟ أما الآن فقد أصبح العرض هو المحور الذي تدور حوله أهم
القضايا التي يعرفها المسرح"(3).
ورغبة
منه في الخروج عن هذا المألوف فقد أخذ على عاتقه النظر "إلى المسرح العربي من
زاوية جديدة"(4)، تنطلق من مكوني هذا المسرح الرئيسيين وهما النص
والعرض. وذلك بهدف البحث عن "صيغة مسرحية متميزة"(5).
إذا
نحن تمسكنا بمدلولات الألفاظ والسياقات التي وردت فيها، فإن الأمر يتعلق بالبحث في
العرض المسرحي العربي وليس في الصورة التي يمكن تكوينها عنه أو الدعوة إليها،
وكذلك البحث في النص المسرحي العربي. وصفة "متميزة" تعني هنا ما يشكل
خصوصية مسرحية عربية. هل كان الأمر كذلك بالنسبة لسائر أقسام الكتاب؟ وهل فعلا كان
هناك تحليل لعرض مسرحي حقيقي؟
قبل
الجواب عن هذين السؤالين، ينبغي أن نشير إلى أن بداية تاريخ المسرح عند الباحث لا
تتحدد باليونان قديما، ولكن بما هو أقدم من الحضارة اليونانية. إن بداية تاريخ
المسرح تتزامن مع ظهور الإنسان المفرد، وبعبارة أخرى، مع ظهور "الإنسان
الأول". وإذا كان تاريخ المسرح يتكون من مراحل ثلاث، هي مرحلة التمثيل ثم
مرحلة الظواهر فمرحلة تالمسرح، فإن المرحلة الأولى تقترن بهذا الإنسان المفرد أي
"الأول" على وجه البسيطة أو الكرة الأرضية. كيف جاء هذا الإنسان إلى
هاته الأرض؟ الجواب عن هذا السؤال ليس من اختصاص الكتاب، ولكن كيفية تعبيره الأولى
المفترضة هي التي أولاها الباحث عناية خاصة. وكانت بداية التعبير عند هذا الإنسان
هي الحركة والنطق، اعتمادا على الصوت. ولما كان هذا الإنسان مجبرا على التفاعل مع
محيطه الطبيعي فإن هذا التفاعل الضروري للبقاء قاده إلى التمثيل، حينما كان
"يطارد فريسته ويحتال عليها للإيقاع بها"(6). وهو محتاج إلى
التمثيل ايضا "عندما يقف في الليل أمام مدخل كهفه أو بداخله وهو يحاول
استرجاع ما مر به طيلة يومه، وربما طيلة أيام عديدة"(7).
يفترض
الباحث، انطلاقا من هذا الإنسان المفرد، أن أصل التعبير عند الإنسان دراميٌّ.
وعليه، فإن الدراما، التي تعني الفعل والحركة، قديمة قدم الإنسان نفسه. وعلى هذا
الأساس اعتبر مصطلح "الدراما" قريبا من مصطلح "التمثيل". بل ذهب
إلى حد "اعتباره مرادفا له"(8). اعتمادا على رأي لباحث آخر
هو حسين رامز محمد رضا في كتابه "الدراما بين النظرية والتطبيق".
هكذا
يبدو جليا أن التمثيل تعود بدايته إلى هذا الإنسان المفرد. وبناء على هذا الرأي،
أشار الباحث إلى اعتبار التمثيل نزعة فطرية لدى الإنسان حسب بعض الدارسين، وغريزة
من غرائزه حسب دارسين آخرين.
في
هذه المرحلة، التي لم يولها بعضهم "إلا اهتماما ضئيلا"(9)،
حضرت الحركة والصوت والرقص والتمثيل، ولكن غاب الحوار الذي لم يظهر إلا في المرحلة
الثانية مرحلة الظواهر. ومن أجل تأكيد أحد معاني مصطلح الدراما، الذي يعني هنا
الحركة، لجأ إلى باتريس بافيس Patrice Pavis الذي كشف عن تعدد معانيه. وهي بالتتابع الحركة، ثم النص المسرحي،
فنوع خاص من الكتابة المسرحية هي الدراما الرومانسية في القرن الثامن عشر،
"وتطلق اليوم على النوع المسرحي الذي يمزج بين الأنواع وفروعها"(10)،
والدراما الغنائية المرادفة للأوبراكوميك Opéra comique أي المسرح المغَنَّى، متعجبا من كون مفهوم الدراما انتقل من
"الدلالة على الحركة إلى الدلالة على السكون!"(11).
هذا
التعجب وهذا الربط بين الدراما والحركة ينسجمان تماما مع تصور الباحث العام وسعيه
نحو إعطاء الصدارة والمنزلة الأولى للعرض على حساب النص. فهل الأمر يتعلق هنا
بباحث مخرج أم بباحث مؤلف؟ إن الجواب واضح، وهو يتعلق بباحث مخرج في المقام الأول.
كم
دامت مرحلة التمثيل من سنة ولو على وجه التقريب والاحتمال؟ ما هي المدة الزمنية
التي قضاها هذا الإنسان المفرد مفردا؟ علما بأن نهاية هذا الإنسان المفرد هي نهاية
المرحلة الأولى أيضا مرحلة التمثيل. ما هي الوسائل التي من شأنها أن تحول هذا
التصور النظري إلى يقين علمي؟ بدل العلم حضر الافتراض، وحضرت "طفولة
الإنسانية"(12). لكن رغم ذلك، فإن هذا التصور النظري منسجم مع خطة
البحث والأهداف المرسومة له. وقد قدمه الباحث بشكل واضح لا يكتنفه أي غموض. كما أن
هذا التصور النظري فتح أفقا للتفكير.
سبقت
الإشارة إلى أن مرحلة التمثيل تتميز بوجود الحركة والصوت والرقص والغناء لدى
الإنسان المفرد المفترض. أما الحوار فمنعدم في هاته المرحلة الأولى حسب وجهة نظر
الباحث. وهو -أي الحوار- لم يوجد إلا في المرحلة الثانية مرحلة الظواهر.
2
- الظواهر:
تتميز
مرحلة التمثيل عن مرحلة الظواهر في كون الأولى محصورة في إطار الإنسان المفرد،
بينما تتعلق المرحلة الثانية بالجماعة. والجماعة تقتضي بالضرورة الحوار أي الكلام.
من هنا كان الربط بين الحوار والجماعة. وهاته الأخيرة تبدأ من اثنين فما فوق. لذلك
كان الحرص على صفة "المفرد" بالنسبة للإنسان في المرحلة الأولى مرحلة
التمثيل.
وهاته
الظواهر الموصوفة بالمسرحية هي التي أدت إلى المسرح لاحقا. لكن هذا المسرح يختلف عن
الظواهر المسرحية في أمر أساسي. ذلك أن المسرح، بمعناه الخاص، بدأ مع المسرح
اليوناني ذي القواعد المحددة. أما الظواهر المسرحية فهي موجودة عند كافة الشعوب،
لأنها "ممارسة فطرية عامة"(13). هنا يتساوى العرب مع غيرهم
من الشعوب لأن لهم ظواهرهم المسرحية الخاصة بهم، وعبارة "الخاصة بهم"
تعني أنها ذات خصوصيات محلية ومنبثقة من الداخل. ورغم ذلك، فقد أدرجها الباحث في
إطار "مسرح عند العرب"(14) وليس في إطار مسرح عربي. مثلها في
ذلك تماما -عنده- مثل المسرح الغربي الموجود في المسرح العربي. هذا المسرح الغربي
أفقدالمسرح العربي هويته وأصالته. وتم التعبير عن هاته الوضعية بـ:"مسرح عند
العرب" وليس بـ"مسرح عربي". لكن إدراج تلك الظواهر المسرحية
العربية في إطار "مسرح عند العرب" يفيد أن هاته الظواهر الأخيرة ليست
عربية الأصل. إن الفرق بين "مسرح عند العرب" و"مسرح عربي" لا
يتعلق بالجانب المسرحي وإنما بالجانب العربي، ثم إن مفهوم المسرح ذاته عند الباحث
"دال شاسع جدا من جهة، وإن تاريخه قديم إلى درجة يصعب معها تحديد
بداياته"(15).
ووجود
هاته الظواهر المسرحية عند كافة الشعوب سابق، بالقياس إلى المسرح بمعناه الخاص،
ولاحق بالنسبة لمرحلة التمثيل. وإذا كانت هذه الأخيرة تتميز بالحركة والصوت
والإشارة والرقص، فإن مرحلة الظواهر تتميز بالحوار والأداء، الأداء الجماعي. هذا
الأداء الجماعي، الذي يبدأ من إنسانين فما فوق، اقتضى استعمال مصطلحات هي: اللاعب
والممثل والسامع والمشاهد والإخراج والمسرح. لكن هاته المصطلحات كلها وضعت بين
مزدوجتين من قبل الباحث، تمييزا لها عن مدلولاتها في المرحلة اللاحقة مرحلة
المسرح.
وعليه،
فإن "المسرح" في مرحلتي التمثيل والظواهر يتميز بانعدام القواعد وانعدام
الفن وانعدام التقاليد(16). كما تتميز مرحلة الظواهر -وكذلك مرحلة
التمثيل- بعدم وجود النص المسرحي. إذن حضر في مرحلة الظواهر الأداء وغاب النص
المسرحي. وعليه، فإن الأداء سابق في الزمن بالمقارنة مع النص المسرحي. وبناء على
ذلك، "فإن الأداء هو الذي أوجد النص وليس العكس"(17). وهذا
ينسجم تماما مع أطروحة الباحث.
تنتهي
مرحلة الظواهر ببداية المسرح اليوناني عند الغربيين، ولكنها تمتد عند العرب إلى
منتصف القرن التاسع عشر. إن المسرح بمعناه الخاص يبدأ باليونانيين، الذين وضعوا
القواعد له وحددوا مرتكزاته الفنية، وفق قالب مسرحي معين، فدشنوا بها المرحلة
الثالثة والأخيرة: مرحلة المسرح.
3
- المسرح:
رغم
محاولة الباحث الرامية إلى توسيع مدلول كلمة مسرح، فإن المسرح، بمعناه الدقيق،
تزامن ظهوره مع الحضارة الإغريقية. وهو يقر بهذا. آية ذلك الإقرار اعتبارا النص
المسرحي "الضارعات" لا سخيلوس أول نص مسرحي ظهر في تاريخ المسرح. هذا
فضلا عن اعتبار المسرح الإغريقي يتميز بوجود القواعد والفن والتقاليد، ونفي وجود
هاته العناصر الثلاثة عن المرحلة السابقة مرحلة الظواهر.
وإذا
تأملنا مجمل أقسام الكتاب للاحظنا أن هناك رغبة دفينة في القضاء على المركزية
الغربية. تتجلى هاته الرغبة في عدة مظاهر، من بينها توسيع مدلول كلمة مسرح. ذلك
أنه من خلال هذا التوسيع يتسع نطاق تاريخ المسرح، الموغل في القدم، ولا يعود
محصورا في الحيز اليوناني. لكن الرغبة شيء والواقع شيء آخر. ذلك أن الباحث نفسه
حينما يضع كلمة "مسرح" بين مزدوجتين، كلما تعلق الأمر بمرحلة الظواهر،
فإن هذا يعني الانطلاق من المركزية الأوروبية نفسها. أضف إلى ذلك الإقرار بأن
المسرح العربي لم يبدأ إلا بتأثير من المسرح الغربي في منتصف القرن التاسع عشر،
رغم وجود ظواهر مسرحية عربية. وأكثر من هذا، فحتى محاولة البحث عن صيغة مسرحية
عربية دفعته إلى "الاعتقاد بأن الصيغة المسرحية العربية المنشودة ما تزال تتأرجح
بين أرسطو من جهة، والتيارات المسرحية الغربية المعاصرة من جهة ثانية"(18).
هاته
التيارات المسرحية الغربية المعاصرة حينما أرادت التجديدات لجأت وعادت إلى مرحلة
الظواهر وإلى الجذور. والبحث عن الصيغة المسرحية العربية يعني الارتباط بالظواهر
وبالجذور. لكن الغرب هو الذي كان سباقا إلى ذلك، دعوة وتطبيقا. وفي هذا السياق
نفسه، لاحظ الباحث أن "الذي يثير الانتباه هو أن ترتبط مرحلة التجديد عند
العرب بكاتب مسرحي غربي كذلك، لكنه من ألمانيا هذه المرة، هو برتولود بريشت!"(19)
وكانت ملاحظته مصحوبة بتعجب دال. إن منطلق التجديد عند العرب هو الغرب. يمكن القول
بأن الصيغة المسرحية هي القالب المسرحي. وهذا القالب لا يوجد في المرحلتين الأولى
والثانية. ولكن وجوده مقترن بالمرحلة الثالثة مرحلة المسرح. وأول قالب مسرحي غربي
يعود إلى اليونان. وكلمة أول هنا تفيد الترتيب التاريخي. ثم إن هذا الترتيب يعني
وجود عدة قوالب مسرحية عند الغرب. أما العرب فإن البحث عن قالبهم المسرحي لم ينطلق
إلا في الخمسينات من القرن العشرين. وقد ربط الباحث صلته بالمسرح بهذه الحقبة
الزمنية بالذات أي الخمسينات. كما أكد على أن "بداية التلاقح بين التراث
المغربي والتقنية المسرحية الغربية"(20) كانت مع مسرحية
"الشطاب" التي أنتجها "معمل التأليف". هذا المعمل الذي كان
يوجه متدربيه الفرنسي أندري فوازان André Voisin .
في
إطار البحث عن هذا القالب المسرحي العربي المنشود، عاد الباحث إلى مارون النقاش
وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف العاني وعز الدين المدني والطيب الصديقي. وتجدر
الإشارة إلى أن القالب المسرحي لا يتعلق بالمضمون وإنما بالشكل المسرحي. وعلى هذا
الأساس، حكم على قالب النقاش بأنه مزيج من القوالب العالمية القديمة والحديثة. كما
أنه يتضمن ظواهر مسرحية وتراثا شعبيا عربيين. ولذلك نعته بكونه "مولدا"(21).
ومع
أن هناك اختلافات جزئية بين هؤلاء، فإنهم يتفقون في العودة إلى أصول ثقافية عربية
شعبية وغير شعبية أي "عالمة". دافعهم إلى تلك العودة "الوعي القومي
والحس الفني"(22). من خلال هاته العودة الثقافية تم توظيف شخصيات
تراثية ونصوص عربية قديمة وتمت مسرحتها.
وليس
البحث عن قالب مسرحي عربي خاصا بأولئك الذين وردت أسماؤهم سابقا فقط. ولكن، هناك
آخرون حركهم هاجس البحث عن هذا القالب المسرحي العربي في مختلف الأقطار العربية،
لكن هناك "بعض المحاولات التي لا ترقى إلى مستوى الدرس والمناقشة"(23)
حسب رأيه.
وتستحسن
الإشارة إلى أن مفهوم القالب المسرحي غير ثابت بل مرن جدا. لأن في هاته المرونة
فتحا لباب الاجتهاد والإبداع والابتكار ومواصلة البحث. وقد فطن إلى ذلك حينما أشار
إلى هناك "قوالب متعددة تسعى إلى نفس الهدف"(24)، رغم اختلاف
المصطلح. وأكد على هاته المرونة في استعمال مفهوم القالب، الذي سبق لتوفيق الحكيم
أن استعمله في كتابه "قالبنا المسرحي"، حينما أشار -أي الباحث- إلى
"أن تمديد مفهوم القالب المسرحي نفسه لا يعدو أن يكون عملا إجرائـيا، ما دام
يجب أن يكون لكل كاتب أسلوبه الخاص به، ولكل مسرحية صيغتها التي تنفرد بها، ولكل
عرض قالبه الذي يميزه عن غيره"(25).
تتضح،
من خلال جل أقسام الكتاب، الأهمية التي أولاها الباحث للعرض المسرحي على المستوى
النظري. وهذا الاهتمام به جديد حتى بالنسبة للبحث المسرحي لدى الغربيين. لقد اعتبر
العرض في السابق جزءا خارجيا وثانويا بالمقارنة مع النص. وأعطي امتياز فني للكلام،
وذهب هيجل إلى اعتبار الكلام الشعري هو المحدد والمهيمن، وجعل كل الوسائل المشهدية
مستقلة عن الكلام الشعري. وقد لاحظ محمد الكغاط أيضا بأن العناية بالعرض المسرحي
عند العرب قليلة جدا إذا ما قورنت بالعناية التي يحظى بها النص. لكن رغم هاته
الملاحظة والتأكيد عليها من قبله، فإن القسم الثالث، والجزء الثاني منه بصفة خاصة،
تضمن تحليلا "دراماتورجيا" لنص مسرحي وليس لعرض مسرحي. هذا النص هو:
"سهرة مع أبي خليل القباني" لسعد الله ونوس، وهو تحليل حاول فيه صاحبه
دراسة "العلاقة بين الكتابة الدرامية والإخراج وطريقة الانتقال من القول إلى
الفعل"(26). إن القول هنا يفيد النص الدرامي، أما الفعل فهو العرض
المسرحي. وعليه، فإن التحليل هنا قائم على دراسة "طريقة الانتقال" من
هذا إلى ذاك، وطريقة الانتقال هاته نصية في المقام الأول. لذلك، فإن التحليل انصب
على الجانب اللفظي الموضوع من قبل المؤلف الكاتب الدرامي، أي على
"الكلمة" وليس على "الحركة". أما تحليل عرض مسرحي في الكتاب
فهذا غير موجود. ومما يزيد في تأكيد هذا المؤكد هو عنوان القسم الثالث، حيث كان
عنوانه: "نحو البحث عن منهج تجريبي لمقاربة النص المسرحي". هذا علاوة
على استعمال مصطلح "السينوغرافيا" بين مزدوجتين من قبل الباحث، لأنها
هنا سينوغرافية نصية أو متخيلة اعتمادا على النص وملفوظاته، وليست سينوغرافية
حقيقية أو مجسدة في عرض مسرحي ملموس. وهذا جواب عن سؤال طرحناه سابقا.
والملاحظ
من خلال عنوان هاته المقاربة هو استعمال كلمة "تجريبي" التي نعت بها
المنهج المقترح لها. إن هاته الكلمة تدل على رغبة حقيقية في عدم النظر إلى المنهج،
بصفة عامة، نظرة آلية ومتحجرة، تنعدم معها ذاتية الباحث. إن نظرة آلية مثل هاته
تقتل روح المبادرة والاجتهاد الشخصي، حينها يصير الباحث المتمسك بها مجرد مطبق.
وقد يكون هذا التطبيق بطريقة يمكن أن تنعت بكونها متعسفة. وهذا التعسف قد يكون
مزدوجا تجاه المنهج نفسه وتجاه النص أيضا. لذلك حرص على استعمال كلمة
"تجريبي". وقد سجل هذا حين قال: "وهكذا قمنا بهذه المحاولة دون أن
نجري لاهتين وراء النظرية الغربية من أجل إخضاع النص لها رغما عن أنفه إذ أن هدفنا
الأول هو التجريب، ولا شك أن أفضل الأدوات المنهجية ما يساعد على التجريب البناء
والمثمر"(27).
إن
النفور من النظرية الغربية على صعيد المنهج لا يعني هنا -أي عند الباحث- معاداة
الغرب. فلهذا الأخير حضور قوي في الكتاب، سواء من خلال الصفحات الطويلة المكرسة
لثقافته، ومنها قوالبه المسرحية وتياراته المسرحية ومسرحيوه، أو من خلال مثقفيه
ومن بينهم شلدون تشين وخاصة كتابه: "تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة (عرض
لتاريخ الدراما والتمثيل والفنون المسرحية"، الذي أصدره سنة 1929، وترجمه
ونشره دريني خشبة سنة 1963. لقد بلغ مجموع الإحالات على هذا الكتاب في القسم الأول
من "المسرح وفضاءاته" عشرين مرة. والغرب حاضر أيضا من خلال أرسطو وكتابه
"فن الشعر". هذا الكتاب الذي ترجمه وشرحه ولخصه بعض العرب القدماء
واستوعبوا مصطلحاته استيعابا نظريا، لأنهم فلاسفة وليسوا مبدعين. وقد ميزوا بين
المديح، هذا الغرض الشعري العربي القديم، وبين صناعة المديح أو الطراغوذيا أي
التراجيديا؛ كما ميزوا بين الهجاء، هذا الغرض الشعري العربي القديم، وبين صناعة
الهجاء أو القوموذيا أي الكوميديا. وعليه، فإنهم لم يعتبروا "التراجيديا مديحا
والكوميديا هجاءا"(28) كما جاء في الكتاب، بالمعنيين المألوفين
لكلمتي مديح وهجاء. وقد سبق أن بينا هذا بتفصيل في رسالة جامعية عنوانها:
"المصطلح المسرحي عند العرب"، والتي كان أستاذنا الجليل الدكتور محمد
الكغاط عضوا في اللجنة العلمية التي ناقشتها.
أخيرا،
لقد لاحظ الباحث بأن الغرب يتميز بوجود النظريات المسرحية، والمقاربات النقدية
التجريبية. وفي المقابل، نجد "كلاما كثيرا في العالم العربي عن أزمة النص
والإخراج والقاعات والجمهور وما إلى ذلك، ويأخذ شكل الأزمة حجما أكبر عندما يتعلق
الأمر بالنقد المسرحي أو بالمنهج النقدي الذي ينبغي أن نستعين به ونحن نسعى إلى
مقاربة المسرح"(29).
انطلاقا
من ملاحظته تلك، يمكن القول بأن كتاب "المسرح وفضاءاته" إضافة نوعية إلى
النقد المسرحي العربي، ومساهمة أساسية تساعد في التغلب على الأزمة المشار إليها من
قبل الباحث نفسه. إن الكتاب كما قال أستاذنا الدكتور حسن المنيعي: "سفرة فنية
ممتعة في عالم المسرح تخول للقارئ التشبع بجمالياته ومعانقة ثوابته ومتحركاته،
وذلك عبر كتابة واعية ومسؤولة تقوم على منهج واضح يبسط القضايا والظواهر، ويطرح
التساؤلات انطلاقا من قناعة فنان عشق المسرح والغرس في أرضيته كما تشهد على ذلك
"مرتجلاته" وكتاباته النقدية" (من التقديم الذي خص به الكتاب،
ص.15).
هوامش:
1 - محمد
الكغاط، المسرح وفضاءاته، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، القنيطرة، ط/1، 1996.
2-3-4-5 ـ
نفسه، ص.19
6 - 7 -
نفسه، ص.23
8 - نفسه،
ص.27
9 - نفسه،
ص.23
10 - نفسه،
ص.27
11 - نفسه،
ص.23
12 - نفسه،
ص.24
13 - نفسه،
ص.71
14 - نفسه،
ص.142
15 -16-
نفسه، ص.33
17 - نفسه،
ص.76
18 - نفسه،
ص.100
19 - نفسه،
ص.98
20 - نفسه،
ص.19
21 - نفسه،
ص.111
22 - 23 -
نفسه، ص.158
24 - نفسه،
ص.157
25 - نفسه،
ص.159
26 - 27 -
نفسه، ص.20
28 - نفسه،
ص.169
29 - نفسه،
ص.20.