ص1      الفهرس    المحور 

 

الأسلوب السردي في (موزار في الكنيسة) و(بيوت من قلق)

للمهدي الودغيري

 

 

سعيد بوكرامي

يعتبر الكاتب والصحفي المهدي الودغيري من المثقفين النشيطين صحفيا وإبداعيا، فهو لا يركن إلى روتين كتابة بذاتها بل يعدد من اهتماماته: الصحفية، الشعرية، والقصصية. وهو تنوع خصب أبرز أعمالا عدة يغلب عليها القص بشكل ملفت. فمنذ مجموعته الأولى ثلاثية الملأ.. والألوان 1984، لم يتوقف عن إصدار مجموعاته القصصية.

وسنتوقف في هذه الدراسة عند مجموعتيه الأخيرتين (موزار في الكنيسة) و(بيوت من قلق) لنرصد داخلهما مجموعة من الخصائص الأسلوبية السردية.

1 - المركب العنواني:

أسهبت السيميوطيقا في الحديث عن النص الموازي واعتبرته معادلا للنص ومولجا له. وكما سنرى فهناك علاقة وطيدة بين عناوين قصص الودغيري ونصوصه فهي مكملة ومولدة للدلالات, فعلاقتهما جدلية. فالعنوان الأصلي والعناوين الفرعية: (موزار في الكنيسة) والعناوين الفرعية (سجال-شخص-مقعد) هناك تنافر لأن العنوان الأصلي هو جزء فرعي من المجموعة ككل ومن الجزء المعنون (مقعد). لهذا فالاختيار للعنوان الأساسي هو اختيار مرجعي لأنها عادة المجموعات القصصية، فالعرف غلب القاص. ولاحظ معي لو ركبنا العناوين الجزئية (نسبة للأجزاء الثلاث المكونة منهم المجموعة): سجال شخص مقعد. وكنت أود لو كان هذا هو عنوان المجموعة. عوض (موازار في الكنسية).

نعود الآن إلى هذا المناص الذي يتفرع إلى عناوين فرعية مرتبطة بالقصص عينها. لنجد أن هذه العناوين كلها توحي بمضمون القصص المرتبط في الأساس بالحياة اليومية والفئات الشعبية. وهي ميزة قصص الودغيري برمتها حتى مجموعته الجديدة (بيوت من قلق). العنوان هنا تركيبي أيضا. كما أن العناوين الأخرى موزعة على قلق الكبار -وقلق الصغار. فماذا يقلق هؤلاء الشخوص (النقال-الكسال-الحارس-الخادمة-الفوال…). ومن خلال قراءتنا للمجموعة يتضح أن الهموم اليومية للفئات الشعبية من حرمان وفقر ورعب وقهر هي السبب الرئيسي في انتشار موضوعة القلق في جل القصص.

وواضح هنا أن للعنوان طبيعة الإحالة والمرجعية فخلف العنوان هناك منظومة من المرجعيات تعلن عن مقصدية ونوايا القاص ومراميه الإيديولوجية. وانحيازه إلى فئة من الفئات. كما أن العنوان كنص موازي يساهم في تشكيل الدلالة وتفكيك الدوال الرمزية وإيضاح الخارج قصد إضاءة الداخل.

وما دمنا نناقش مقام النص الموازي فلا بد من التوقف عند الغلاف، فهو يعتبر أحد المحطات الأساسية للدلالة على جنس معين أو الإيحاء بدلالات معينة… وإذا عدنا إلى (موزار في الكنيسة) نجدها تحافظ على المرجعية والمقصدية فاللون الأصفر يدل على الذبول والخفوت والحرمان، أما اللوحة الهرمية فهي تبرز وجها مشوها بخلفية صاخبة ودموية. أما اللون الأزرق فهو منحصر في الهامش أي أن أفق الحرية منعدم. كما أن الإطار المثلث فهو منقلب إلى التمرد. فالقاعدة صعدت إلى الأعلى. أما رأس الهرم فانهار إلى الأسفل. وهذا يؤشر إلى رغبة في قلب الأشياء المعتادة والمحنطة. ونعود إلى الوجه المشوه فهو يحيل على أول قصة:(السيدة موكا).

أما التقديم فهو للكاتب أحمد المديني الذي يصرح في تقديمه أنه لم يسبق له أن قدم كتابة في أي عمل رغم أنه نوه ودفع بعدد من الأعمال إلى النشر. وهذا الاستثناء يؤكد أهمية هذه المجموعة وجدتها التي جنسها في ما أسماه: القصة-الأمثولة. وهو جنس أنجبه المهدي الودغيري…

وننتقل الآن إلى غلاف المجموعة الأخيرة. (بيوت من قلق). الذي يؤكد لي ملاحظة سبق أن أبديتها حول أغلفة هذه الإصدارات فهي لا تهتم بالغلاف وهندسته ودلالاته. ربما لعدم وعي بالأهمية الجمالية والتجارية للإصدارات وسط عالم الطباعة المتطور بشكل مذهل، وهذا النقص في جمالية الكتب المغربية يزيد من أزمة ركوض سوق الكتاب. فلا بد من إعطاء نقطة أهمية لجمالية الأغلفة لأن القارئ لم يعد يقصد المعرفي أولا بل الجمالي الذي يشد البصر ويستولي على صاحبه، وهذا يرجع بالأساس إلى متغيرات كثيرة لا داعي للخوض فيها.

2 - الأسلوب السردي:

يغلب على مجموعة (موزار في الكنيسة) في أسلوبها السردي. السارد العالم بكل شيء باستثناء: صقور وطيور - المخزن - موزار في الكنيسة - عطلة الآخرين - العباسان التي وردت بصيغة المتكلم أي السارد المصاحب، أما ما تبقى أي أربعة عشر قصة فكلها بصيغة الغائب. وهو أسلوب سردي للسيطرة على زمام السرود والشخوص. وعلى نفس الوتيرة نجد سرد (بيوت من قلق). فهو أيضا يتحكم فيه سارد عام بكل شيء، باستثناء: قصة حمار العتبة ووكالة مختار والحارس. وكلها بضمير المتكلم لكن رغم هذا الاختيار الأسلوبي فإن السارد المصاحب عالم بكل شيء أيضا في كلتا المجموعتين. فهو يصف الآخرين أكثر من نفسه، يتحدث عنهم، فالذات ليست سوى ذريعة للحكي عن الآخرين.

وهذا يعزز إمكانية السارد العالم بكل شيء في الحذف والاختصار والتوقف، والأهم السرعة في الانتقال داخل الزمان والمكان. بين الأحداث والشخوص. وإن كان هذا الأسلوب تقليديا فإن المهدي الودغيري يحرص عليه ويتفوق في استخدامه، خاصة جانب الاختصار والحذف، ففي كثير من قصصه نجده يذكر حادثة في زمن ثم ينتقل إلى زمن آخر أبعد منه تاركا للقارئ ملء الثغرات بحكيه الخاص عبر تساؤل مشروع ومتعدد الاحتمالات: ماذا حدث بين هذا الحدث وذاك الحدث؟ وهذا يذكرني بالقصاصين الصينيين الذي يكتبون بنفس الأسلوب السردي خاصة منهم الذين ينتمون إلى فترة المينغ (القرن التاسع ق.م) أو القصاص المعاصر: (جين جيانغ 1915). وباختصار ما يسمى بقصص الحكمة.

3 - تبئير السخرية:

يصطدم القارئ لقصص المهدي الودغيري بأسلوب المفارقة، أي قصصه تقول شيئا وتقصد شيئا آخر. وهنا تحضر السخرية السوداء فمن خلال عناوين القصص يتضح لنا أن القاص ينحاز إلى أسلوب تهكمي فاضح لروح الادعاء والأقنعة والممارسات اللاإنسانية. وهو أسلوب توفق فيه خصوصا في مجموعته الأخيرة (بيوت من قلق). فهي تجمع بين قانون الأخبار وقانون الشمولية وقانون الشعرية السردية، وكلها تحيل على نوع المرجعية، فإذا توقفنا مرة أخرى عند العناوين نجدها ساخرة تتجاوز فيه القانون اللغوي لأنه يصبح رمز السلطة ثانوية، ولأن القانون لا يمكن تجاوزه، فالسارد يقلب، ويخترق، ويمسخ، ويمحي السلطة الرمزية. لهذا نجد في الثقافة الشعبية الكثير من الصيغ الحكائية (الفكاهات والنكات) تخلق رموزا مضادة، وشخوصا نموذجية، وحكايات مختزلة، مكثفة، وفاضحة تخدش بالضحك الحياء (القانون).

لهذا وجدنا قصص الودغيري تقف عند هذه الصفة الساخرة، فهي فعلا تخرق القانون الرمزي المتحكم في زمام الأمور، ومعه القانون الأسلوبي والدلالي: فالسيدة مليكة تصبح موكا (البومة) - والأحزاب تتحول بألوانها إلى توابل في السوق- ورجل السلطة يصبح جزارا - والمثقف يصبح فقيها - والقانون يصبح آلة موسيقية - وشهرزاد صاحبة ألف ليلة وليلة أي أم الحكايات والقصص يصبح كلامها اليوم شخيرا - ويصبح الناس في هذا الزمن أمواتا - ويتحول الإنسان خنزيرا. وعلى نفس المنوال يسير أسلوب (بيوت من قلق) فمن خلال عناوينها نتلمس بؤرة السخرية السائدة في المجموعة: حمار العتبة-في ستين داهية-كسال كسول-وعاد الزوفري إلى أصله-حكاية نوال مع صغار يكترون المال… وكلها توحي بفضاء ساخر.

إنه نوع من الباروديا المفتقدة اليوم في النصوص القصصية التي أصبحت جدية أكثر من اللازم، مع أن تمظهرات الواقع مضرجة بالمواقف الساخرة والكوميدية.

4 - سلطة المكان:

المكان ليس هو الفضاء. لأن المكان مكون جزئي للفضاء. بينما هذا الأخير شبكة من المكونات الأسلوبية والدلالية، رموز ومدلولات، علامات ومرجعيات… وعند المهدي الودغيري فهو مكون من وحدات حكائية مرتبطة بزمن الحكاية ومكانها. فلا يمكن الفصل في قصصه بين المكان والزمان لارتباطهما الوثيق بفضاء النصوص ودلالاتها فهو المتحكم في متخيل القص أيضا. ولاستجلاء عناصر هذا المكون نعود إلى العناوين وبداية القصص. لنجد أن (موزار في الكنيسة) و(بيوت من قلق) ذات بعد أيقوني، تحمل في تركيبها بعدا بصريا يحتاج إلى تأويل، وهذه الخصيصة الأيقونية نادرا ما نجدها في عناوين الأعمال الأدبية، التي تحمل دلالات بصرية كما في (موزار في الكنيسة). أما الدلالات البصرية والإيحائية فنجدها في (بيوت من قلق).

الاختلاف بينهما واضح فالعنوان الأول يحيل مباشرة على كنيسة يوجد بها موزار الذي يحيل أيضا على زمن معين. أما العنوان الثاني فيحيل على صفة ذهنية للبشر يتم تحويلها للجماد (البيوت). هذا الارتياح يتقاطع فيه الواقع مع المتخيل. أما على المستوى التركيبي فهناك تماثل بين الاسم والحرف والاسم. وهذا التوافق يحيل على رغبة وحب الكاتب لمثل هذه العنواين.

نعود الآن إلى بدايات القصص لنلاحظ سيطرة المكان والزمان في المجموعة: (لفترة غير محدودة) (في جلسة مغلقة). (أحلام كثيرة كانت تزوره في الليل). (كل مساء). (… بعد انقراض سنوات). (يتقدم البحر إلى الأمام). (اقتحم خنزير بيت الشيخ). (تقدم الكلام إلى مكتب التشغيل). (انتقل جسمان غريبان إلى عين المكان). هذه بعض بدايات مجموعة (موزار في الكنيسة). أما في مجموعة (بيوت من قلق) فنجد نفس الإيحاءات إلى مكان بعينه أو زمان قد يرتبط بتعريف مباشرة أو يعوضه فعله: (استيقظت ذلك الصباح الرمادي). قال باش مهندس لمرافقيه: تلك المدينة التي لم ترها عيني منذ مدة). (خرج الزوفري من بيت والديه غاضبا). (كان يوم جمعة). (…رغم السنوات). (لأول مرة منذ اكترائي المسكن الجديد). (حينما انزوى حميد إلى ركن في غرفته). (ذاع صيت حديقة الحيوان بالمدينة). (لهذا المطبخ الذي يحتوي فولا مسلوقا).

رغم هذه السيطرة الزمكانية إلا أن لوازمها تغيب فالمكان يتأثت بالوصف المتنوع (البطيء-السريع-المتنقل…) وأيضا بالتكرار والاستطراد وبالأفعال البصرية، بالاسترجاع، بالأبعاد…وإذا غابت هذه الشروك نصبح أمام سرد تليغرافي يعتمد الاختزال، الحذف، التعميم، التلخيص. وهذا ما يدفعني إلى القول بأننا أمام أقصوصات تضرب عرض الحائط كل القواعد والشروط والقيود لتجترح بخلفياتها-التي تقترب من الواقع الخاص بالأحداث المنفلتة عن الحكي العالم لأنها حكايات شفهية شعبية تملأ البيوت، المقاهي، الحافلات، المكاتب، حكايات صحفية تسرد بعد انسدال ستارة مسرح الحياة بلحظات، طازجة ، قريبة من اللغة العامية والمخيلة الشعبية الخصبة، ونحن لا ينبغي أن ننسى أن العامية حاضرة بقوة ولعل السخرية المنتشرة على مساحة السرد القصصي قد استمدها من هذه المرجعية الشعبيةn

 

هامش:

المهدي الودغيري: موزار في الكنيسة، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1995.

المهدي الودغيري: بيوت من قلق، دار البوكيلي، القنيطرة، 1997.