ص1      الفهرس    المحور 

البدعة

                                           للإمام الشاطبي

"وأصل مادة "بدع"  للاختراع على غير مثال سبق، ومنه قول الله تعالى "بديع السماوات والأرض" أي مخترعها من غير مثال سابق متقدم[…]. ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق[…] ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة[…]

فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

ولابد من بيان ألفاظ هذا الحد (=التعريف):

 فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد،  وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم[…]

وقوله في الحد تضاهي الشرعية يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة: منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد، ضاحيا لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة. ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا وما أشبه ذلك.

ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام الصيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.

وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة لأنها تصير من باب الأفعال العادية. وأيضا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة حتى يكون ملبسا بها على الغير، أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة، إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع، لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعا ولا يدفع به ضررا ولا يجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير.

وقوله: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة، إذ هو المقصود بتشريعها. وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك، لأن الله تعالى يقول "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف، فرأى من نفسه أنه لابد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدع[…]

وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات: فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية، كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة. وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل فإنها لا تسمى بدعا على إحدى الطريقتين.

وأما الحد على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية. ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته. لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات. فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها. فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول، وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة، التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب. ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات، فيعد المبتدع هذا من ذاك. وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله.

وفي الحد أيضا معنى آخر مما ينظر فيه، وهو أن البدعة من حيث قيل فيها إنها طريقة في الدين مخترعة، إلى آخره، يدخل في عموم لفظها البدعة التَّرْكِية، كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريما للمتروك أو غير تحريم، فإن الفعل مثلا قد يكون حلالا بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصدا[…]

فإذن: كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج  عن سنة النبي (ص) والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه[…]

فإذن قوله في الحد: طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية كما يشمل غيرها لأن الطريقة الشرعية أيضا تنقسم إلى ترك وغيره".

أبو إسحق الشاطبي: كتاب الاعتصام  ج1.  نشر محمد رشيد رضا.  المكتبة التجارية الكبرى. القاهرة.د.ت ص36-45 (أنظر التعريف بالشاطبي في العدد الماضي: نص من التراث).